مقدِّمة المؤلِّف

كان لكتابات الفلاسفة تأثيرٌ كبير في التطوُّر التاريخي للموسيقى في الحضارة الغربية. وسوف يتضح لنا في الصفحات القادمة من هذا الكتاب أن الفلاسفة، وإن كانوا في عمومهم كُتابًا نظريين ليس لديهم من الخبرة الفنية ما يُتيح لهم تقويم التركيب الفعلي للموسيقى، كانت لديهم مع ذلك آراءٌ كثيرة في الموسيقى، وفي تأثير الفن الموسيقي في سلوك الإنسان. والواقع أن الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية للإنسان الغربي تشهد بوضوح بمدى تأثير نظريات الفلاسفة في مجرى الموسيقى في الحضارة الغربية.

ولقد كان الفيلسوف القديم يرى في الموسيقى أكثر من مجرد تعبير عن المشاعر، فلم يكن يقنَع بالنظر إليها على أنها وسيلةٌ من وسائل الاتصال الفني ينقل بها الموسيقار الشاعر في العالم القديم أفكاره وأحواله الانفعالية إلى الآخرين. وإنما حاول الفيلسوف اليوناني أن يعرف إن كان أصل الموسيقى يرجع إلى «مصدر علوي» معيَّن يعلو على أفهام البشر. وكان يؤمن بأنه توصَّل إلى معانٍ أخلاقية في الألحان، وإلى دلالاتٍ أخلاقية في الإيقاعات. وعندما لاحظ تأثير الموسيقى في سلوك الإنسان، وصل إلى أن الموسيقى قد تهذِّب الطبع، وقد تزيده انحطاطًا. ولما لم يكن لديه من العتاد الذهني ما يتيح له فهم الموسيقى الفعلية ذاتها، فقد نسَب إلى أصل الموسيقى وقُواها خصائصَ صوفية. ونظرًا إلى انعدام ثقته في الانفعالات، وإلى تمجيده للعقل، فقد كان يخشى من تلك الآثار التي يمكن أن تجلبها الإيقاعات المتوثِّبة والأنغام المُفرِطة في حسِّيتها على الجسم والذهن. وقد استنتج أن الإيقاع واللحن إنما هما محاكاةٌ لحركات الأجرام السماوية التي تصدُر عنها خلال حركتها في السموات موسيقى إلهية لا تُدرِكها آذان البشر. وعلى أساس هذا الافتراض، انتهى إلى أن فن الموسيقى مقلِّد لقوانين الطبيعة، ولما كان النظام الأخلاقي ساريًا على الكون، فإن للموسيقى قيمةً أخلاقية.

ولقد عَمِل المسيحيون في كتاباتهم على تجميل وتزويق تلك الصورة الخيالية الجامحة، وتلك المضمونات الأخلاقية التي نسَبَها الفلاسفة القدماء إلى الموسيقى. واستعاض آباء الكنيسة، ومن بعدهم قادة حركة الإصلاح الديني، عن تلك النظرية الشيِّقة القائلة إن انسجام الأفلاك هو الأصل الإلهي للموسيقى، بالاعتقاد القائل إن الموسيقى قد وُهبَت للإنسان بفضل موجودٍ خيِّر، من أجل إعلاء كلمة الله. أما في أيامنا هذه، فقد عُدِّلَت أقوال الفلاسفة القدماء، وطُبِّقَت تطبيقًا عمليًّا أوسع نطاقًا، وأُجريَت تحليلاتٌ أيديولوجية للنظرية الأخلاقية اليونانية، كما تحوَّل استخدام الأثينيِّين للموسيقى وسيلةً للتعليم إلى نوع من الإرشاد السياسي.

على أن هذا الكتاب لا يزعُم لنفسه أنه تاريخ للموسيقى، أو أنه عرضٌ عام للفلسفة، وهو قبل هذا كله لا يدعي على الإطلاق أنه دراسةٌ فنية لعلم الموسيقى. وإنما الغرض من هذا الكتاب هو تقديم عرضٍ تاريخي لأصول التفكير الجمالي في الموسيقى، وتطوُّره في الحضارة الغربية. ومن رأي المؤلف أن جذور التفكير الجمالي في الموسيقى الغربية ترجع إلى أفلاطون، وأن كتاباتِ هذا الفيلسوف اليوناني ما زال لها تأثيرها الواضح في الموسيقى حتى يومنا هذا.

وربما قيل ردًّا على ذلك، أنه لا جدوى من إيضاح أوجه الشبه بين المفاهيم الموسيقية لدى القدماء والمحدَثين لسببٍ بسيطٍ هو أن موسيقى القدماء لها صدًى انفعالي يختلف عن الموسيقى الشديدة التعقيد عند المحدَثين، ولكن الواقع أنه ليس أبعد عن الصواب من الاعتقاد بأن الموسيقى البسيطة التي كان الشاعر اليوناني يُجمِّل بها شعره بالغناء، لم يكن لها في نفوس سامعيه نفس التأثير الانفعالي الذي تُحدِثه فينا موسيقانا الحديثة الشديدة التعقيد.

إن المبادئ الجمالية التي نقدِّر على أساسها موسيقانا مبنية على كتابات الفلاسفة اليونانيين. ومهما قيل عن هؤلاء الفلاسفة القدماء من أنهم أعاقوا تطوُّر الموسيقى بتأملاتهم الجامحة، فإنهم مع ذلك قدَّموا إلينا معاييرًا للقيم نستطيع بها أن نصوغ حُكمًا عن الموسيقى، والأهم من ذلك أن الفيلسوف اليوناني كان مهتمًّا بمشكلاتٍ تتعلق بموسيقى عصره، تُماثل تمامًا تلك المشكلاتِ التي نهتم بها في حضارتنا الحالية. وهكذا فإن تشابُه المفاهيم الموسيقية في التفكير الجمالي القديم والوسيط والحديث إنما يرجع إلى أنها كلها تنويعاتٌ للحن الأصلي الذي اتخذه أفلاطون شرطًا ضروريًّا لإيجاد مجتمع مثالي، ولخلق الإنسان المثالي.

ولقد ظل الفيلسوف حتى القرن الثامن عشر يقوِّم الموسيقى من خلال المعاني الميتافيزيقية والأخلاقية والرياضية، وكان في كل مناسبة يكتب القدرة الخلاقة للموسيقى بدفاعه عن القيم التقليدية، وحرصه على إبقاء الأمور على ما هي عليه. وكان الفيلسوف يسارع إلى التشكيك في أي تغيُّر يطرأ على الموسيقى، ويأخذ على عاتقه تقويم الموسيقى الجديدة التي قد تهدِّد استقرار الطقوس السائدة أو الوضع السياسي القائم. أما الأصوات الفلسفية القليلة التي ارتفعَت بالاحتجاج على مثل هذه الآراء الجمالية السائدة عن الموسيقى، فكانت تؤكِّد أن الموسيقى لا تعني شيئًا عدا ذاتها، وأنها ليست موضوعًا للميتافيزيقا، ولا مسألةً أخلاقية، ولا وسيلةً لتنظيم التعليم، ولا أداةً سياسية.

ولقد وقف الموسيقي صامدًا في وجه السلطة على مَرِّ عصور التاريخ، وإن اضطُر في الماضي — وما زال مُضطرًّا في الحاضر — إلى الرجوع عن موقفه الجمالي إلى حدٍّ ما، حتى يضمن سلامته إزاء الأوامر الغاشمة لسلطةٍ دينية، أو نزوات سيدٍ يرعاه، أو قرارات لجنةٍ سياسية. وهكذا كان الموسيقار عبدًا للأخلاق والدين، وصنيعةً لسيدٍ غني، وأداةً لنشر أيديولوجيةٍ سياسية، ولكنه خلال هذا كله لم يكن في أي وقتٍ أداةً طيِّعة تمامًا في يد أي واحدٍ من هؤلاء، وإنما كانت طبيعتُه ذاتها تجعله منصرفًا تمامًا إلى إشباع حاجته الشديدة إلى التعبير عن ذاته، ومستغرقًا كل الاستغراق في الرغبة في إطلاق مشاعره من عقالها. ولقد ظل هذا الصراع بين الفكر والشعور، بين العقل والحُكم الجمالي، بين الفيلسوف والموسيقار، صراعًا دائمًا طَوال التاريخ.

وإنه لمن الممكن وضع نظام من القيم لفلسفةٍ جمالية للموسيقى، لا تكون مرتكزةً على تعاليم القدماء، وإنما على قيمٍ إنسانية النزعة. مثل هذا النظام أو النسَق من القيم الموسيقية يمكن تحقيقُه باستبعاد الأساطير البالية التي طغت على الخلق والتذوُّق الموسيقي، وبالاسترشاد بالمبدأ القائل إن الموسيقى هي في أساسها تعبيرٌ عن المشاعر في شكلٍ فني، قوام أسلوبه هو الإيقاع والنغم؛ فالموسيقى تنبعث من المشاعر، وتأثيرها إنما ينصَبُّ على المشاعر، وهي ناشئة من العاطفة لكي تحرِّك العواطف. وجذور الموسيقى متغلغلة في تربة الواقع الفعلي؛ فهي نتاجٌ للتجربة البشرية، حتى حين تعلو على التجربة؛ إذ تُبلوِر المشاعر في أنغامٍ حسية، وإيقاعاتٍ متحركة تنقلُنا إلى قممٍ شفافة من النشوة الوقتية. وللموسيقى القدرة على تخليصنا من القلق والهموم، وهي وسيلةٌ للاتصال تفوق في فعاليتها وقدرتها على الإثارة الانفعالية كلَّ صور التعبير الأخرى التي استحدَثها الإنسان لكي ينقل بها مشاعره وأفكاره إلى الآخرين. والموسيقى تجسِّد آمالنا وأحلامنا، وحزننا ويأسنا. وليس في وسعنا أن نستخلص من الموسيقى إلا ما أضفَيناه عليها بالحساسية والفهم. ومهما كان الفلاسفة قد كتبوا عن الموسيقى، فقد كان ما قالوه عنها أقلَّ مما قالوه عن أي فنٍّ من الفنون الأخرى؛ لسببٍ بسيطٍ هو أن الانفعال الذي تثيره الموسيقى فينا لا يخضع للمنطق بنفس السهولة التي تخضع بها له الفنون المرتكزة على مُدرَكاتٍ عقلية، كالشعر أو الدراما.

على أن الفيلسوف قد جعل للموسيقى درجةً منخفضة في سُلَّم الفنون لهذا السبب ذاته، وأعني به أن الموسيقى تتعلق قبل كل شيء بالمشاعر لا بالعقل، وبالانفعال لا بالفهم، وبالخيال لا بالتصورات الذهنية. ولقد دأب الفلاسفة طوال العصور — باستثناء القليل منهم — على الاعتقاد بأن الموسيقى بلا كلمات أقلُّ قيمةً من الموسيقى بالكلمات؛ فموسيقى الآلات الخالصة غامضة تفتقر إلى التحدُّد، وهي تجسيد للانفعال في نغمٍ وإيقاع يثير فينا مشاعرَ أحَسَّ بها الموسيقي إلى حدٍّ ما عندما ألَّف موسيقاه. غير أن الفيلسوف لا يُوقن بأن المشاعر يمكن أن تكون أهلًا للثقة، وإنما يؤكِّد أن الكلمات التي تُضاف إلى الموسيقى تُضفي على المشاعر طابعًا يمكن إدراكه ذهنيًّا، وتجعل اللامتحدد محدَّدًا واضحَ المعالم، وتنقلُ فن الموسيقى من المستوى الأدنى للانفعال إلى المستوى الرفيع للعقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤