عبد الخالق ثروت باشا

ما أحسب فجيعة من الفجائع التي مُنيت بها الأمم كانت أشد وقعًا على النفوس من فجيعة مصر في المغفور له عبد الخالق ثروت باشا، وما أحسب رجلًا وجل خصومه كما وجل أصدقاؤه لفقده، كما اشترك أصدقاء هذا الفقيد العظيم وخصومه في وجلهم لرحلته رحلة الأبد، ثم ما أحسب العقل والعاطفة والحواس جميعًا اهتزت بالحسرة وبالأسى اهتزازها لهذا الحادث الذي رجَّ نفوس الناس رجًّا بل دكها دكًّا، ولن أنسى ما حييت تلك اللحظة الأسيفة التي عرفت فيها الخبر إثر الوفاة بسويعات حين دخلت إلى صالون السيدة المحترمة هدى هانم شعراوي بباريس، فألفيتها وألفيت الأستاذ الكبير هلباوي بك وألفيت زائريهما وكلهم باكو العين والفؤاد، وكلهم في شبه ذهول لما أصاب مصر في مصرع هذا الرجل الذي كانت تعتبره مصر كلها ملاذها إذا حزب الخطب وضلت بساسة مصر وساسة إنجلترا السبل، ثم لن أنسى ما حييت إسراع المصريين وأصدقاء مصر الأجانب إلى سكنه في باريس بشارع أناتل دلافرج Anatole de la Forge وليس منهم من يقف فزعه لوفاة رجل كان له بعد في الحياة سعة، بل كلهم أشد فزعًا لمصر وما أصابها بفقد هذا الربان الذي اختاره القدر ليسير بدفة سفينتها حين الزعازع الهوجاء فينقذها من أدق المواقف، لن أنسى هذا، ولن أنسى صاحب الدولة عدلي باشا يكن في منزل الفقيد وفي مشهد جنازته بباريس وهو يتساءل عن الوفاة وكيف كانت في جزع دونه جزع الأخ لفقد أعز أخ له عليه، وهو يحاول حبس عبرته فتخونه كما تخون جميع الذين شهدوا صندوق جثمان الفقيد ينقل من عربة الجنازة إلى عربة السكة الحديدية، وكيف ينسى إنسان هذا وما أحاط بالفاجعة ولكل إنسان من هذه الفاجعة الأليمة نصيب لأنها فاجعة مصر وفاجعة السلام؟!

ويأبى القدر إلا أن يحيط هذه الفاجعة بما يزيدها هولًا، إذ يختطف الرجل في بلاد نائية عن وطنه ويختطفه على عجل، كأن للقدر عند مصر ثأرًا لا تهدأ ثائرته إلا إذا أشعرها ألمًا موجعًا ينقض الضلوع بعضها على بعض؛ فلقد كان ثروت في صحته حين جاء إلى باريس من سان مورتز يوم الاثنين السابع عشر من شهر سبتمبر سنة ١٩٢٨، أي قبل وفاته بخمسة أيام، فلما كان يوم الجمعة الحادي والعشرين من سبتمبر خرج في الصباح كعادته وعاد بعد الظهر بقليل يشكو ألمًا في الكتف وفي الظهر، واستدعى طبيب الحي ففحص الحالة ورأى أنها بسيطة لا تزيد على روماتزم يزول في زمن قصير، لكن الآلام تزايدت في أثناء الليل، فلما جاء محمد علي دولار بك في الصباح ليعود صديقه رأى معه ضرورة استدعاء أستاذ أخصائي أجابهم أنه سيكون هناك في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر؛ لأنه لا يستطيع ترك المستشفى الذي يعمل فيه قبل هذا الموعد، وحضر الأستاذ الطبيب في الموعد، فلما فحص المريض في سريره وخرج إلى قاعة الاستقبال خرج دولار بك في أثره يسأله رأيه، وكان رأيًا مروعًا، فالباشا اعترته ذبحة صدرية إن استطاع احتمالها ساعتين كان في نجاة حياته شيء من الأمل، لكن الطبيب في شك من استطاعة احتماله إياها وهو ما كاد يغادر غرفة الاستقبال إلى سلم الدار حتى إذا ثروت باشا قد شعر بالتنفس يضيق ثم يضيق ثم يضيق، فيؤلمه ذلك ويوجعه، ولكي تخفف من هذا الألم رفعت السيدة المحترمة زوجته إياه إلى صدرها، ثم لم تك إلا لحظة حتى شعر الباشا بشيء أنطقه في دهشة وعجب بلفظ «الله» وكانت هي آخر كلمة قالها، فإن شريانًا متصلًا بالقلب انفجر في هذه اللحظة أشعره الخطر حين لم يك إلى دفع الخطر سبيل ولا إلى اتقاء الكارثة التي تفجر لها فؤاد مصر وسيلة، ونودي بالطبيب فعاد فإذا به أمام جلال الموت وكان من برهة أمام رجل ألبسته الحياة وألبسها كل حلل الجلال.

وكأنما أراد القدر إذ كتب لوح أجل ثروت في باريس بعيدًا عن بلاده وكتب على زوجه أن تكون في هذه الساعة العصيبة إلى جانبه، أن يحيط الفجيعة المفزعة بما يخفف من هول وقعها، فجمع بباريس في هذه الفترة جماعة من أخصاء ثروت وأصدقائه ومحبيه وعارفي فضله في خدمة بلاده، جمعهم ليكونوا إلى جانب جثمانه وليحاولوا عزاء زوجته وولده مصطفى المقيمين معه، وقام المصريون المقيمون في باريس وطائفة كبيرة من الفرنسيين وغير الفرنسيين في اليومين اللذين انقضيا بين الوفاة وتشييع الرفات في سفرها لتستقر في ثرى الوطن بكل ما يجب لثروت من إكرام وإجلال.

وفي هذين اليومين اللذين انقضيا بين الوفاة والتشييع إلى ثرى الوطن كنت تسمع من المصريين جميعًا عبارة ملكت عليهم ألبابهم: من ذا يحل عقد المشاكل إذا انعقدت بعد ثروت؟! كنت تسمع هذه العبارة تصدر منهم جميعًا على اختلاف نِحَلهم وأحزابهم، أولم يكن هو دائمًا الموئل الذي يلجأ إليه المصريون مهما علت أقدارهم، والذي يلجأ إليه الإنجليز حين يحزب الأمر ولا يكاد إنسان من الناس يرى له من طريق السلام فرجًا ولا حلًّا؟! لذلك كان الكل ينظرون إليه كأنه الربان الذي ينقذ السفينة كلما ارتطمت على الصخر وخيف عليها أن تتحطم، فطبيعي أن يتساءل الكل عمن يحل عقد المشاكل إذا تعقدت بعد موته.

ولعل أحدًا لم يذكر في وفاة ثروت مصاب زوجه وأبنائه فيه؛ لأن الناس نسوا في هذه الوفاة كل مصاب غير مصاب الوطن، مع هذا فمصاب بني ثروت ومصاب أصدقائه فيه كأب وكصديق فادح فاجع كمصاب الوطن سواء بسواء؛ فلقد كان أبر أب بأبنائه وأوفى صديق لأصدقائه، بل إن الذين عرفوه أبًا ليذكرون كم كان بره عظيمًا وكم كان حنانه أعظم من بره، وكم كان صديقًا لأبنائه بمقدار ما كان أبًا لهم، وكم كان يجد في صداقتهم له ما يزيد في عواطف الأبوة والبنوة سموًّا ورقة، وإن الذين عرفوه صديقًا ليعرفون له من الوفاء لهم ما قل أن يكون له في صديق مثال، ثم هو إلى جانب ذلك كان حصافة الرأي ونبل الشمائل والشهامة والذكاء صورت كلها رجلًا.

•••

ولد محمد عبد الخالق ثروت سنة ١٨٧٣ وفي بيت جاه ونعمة، كان أبوه المغفور له إسماعيل عبد الخالق باشا ابن المرحوم عبد الخالق أفندي من أصل أناضولي، وكان من كبار الحكام في عهد محمد علي الكبير، وكانت أمه من بيت تركي هي الأخرى، وقد أرسل به أبوه إلى مدرسة عابدين وهو في الثامنة من عمره، ثم تابع دراسته في مدرسة النورمال حتى إذا نال شهادة الدراسة الثانوية التحق بمدرسة الحقوق ثم كان أول الناجحين في إجازة الليسانس سنة ١٨٩٣.

وكان ثروت الطالب — على ما ذكر الأستاذ لطفي بك السيد زميله في مدرسة الحقوق — شابًّا حسن الطلعة، تعلوه سيما الجد في غير عبوس، مترفعًا في غير كبر، سهل الأخلاق دون فناء في الأغيار، وكان في ألمه وفرحه معتدلًا محتفظًا في كل حال بكرامته، نافذ الرأي في بيئته، ودودًا من غير إلحاح، ومتحفظًا من غير انقباض، محبب العشرة في رقته، وكان في جاذبيته وحلاوة حديثه متفوقًا كما كان في ذكائه واجتهاده، نعم، فقد كان ذكيًّا حاد الذكاء مواتي البديهة كثير الاشتغال — فوق درس الحقوق — بمناحي الثقافة يلتمسها في الآداب الفرنسية والعربية، وأكثر ميله في هذا الباب إلى التاريخ على العموم والتراجم على الخصوص، ميل كبر معه حتى صار في السنين الأخيرة من حياته نوعًا من الشغف، وكان لشغفه هذا مظهر عرفه عنه كل أصحابه وعرفه عنه باعة الكتب في مصر وفي باريس بنوع خاص، فقد كان كثير التردد عليهم والبحث في مخازنهم عن كتب قديمة نفدت طبعاتها، وكان لا يأبى أن ينفق في هذا البحث أيامًا متتالية حتى يقع على طلبته، فإذا وقع عليها أمعن فيها بحثًا وتقليبًا حتى يقف منها على غاية البحث الذي يدور بخاطره.

ولما نال إجازة الحقوق التحق موظفًا بوزارة الحقانية سكرتيرًا للمستشار القضائي بها، وكان المستشار القضائي يومئذٍ جون سكوت من أحسن من عرفت الحكومة المصرية مقدرة ونزاهة، وسرعان ما قدر مواهب ثروت حتى اختصه بكل ثقته وحتى وضع في يده كل نفوذه، ونفوذ المستشار الإنجليزي يومئذٍ كان أقوى من نفوذ الوزير المصري، بل كان نفوذ أي موظف إنجليزي أقوى من نفوذ أكبر كبير من ولاة الحكم في مصر؛ لذلك كان ما استولى عليه ثروت من نفوذ ومن ثقة بحيث طوع له أن يقوم في وزارة الحقانية مقام صاحب الأمر والنهي فيها وما يزال شابًّا لم يبلغ الخامسة والعشرين من سنه، وعاونت هذه الحرية في السلطة ما وهب من مقدرة وذكاء، فلم يلبث إلا قليلًا حتى تقدم في وظائف القضاء وحتى عين مستشارًا بمحكمة الاستئناف ثم نقل مديرًا لأسيوط ثم عاد إلى الحقانية نائبًا عامًّا واختير وزيرًا لها في سنة ١٩١٤.

على أنه لم يقصر نشاطه في هذه الفترة من حياته على المناصب التي تولاها والتي أسرع به الزمن فيها إلى حد لم يعرفه غيره، ثم كان بثقافته وذكائه واقتداره مثلًا عاليًا للموظف الكفء القدير، بل لقد أسلس من نشاطه على أعمال عامة لا اتصال لها بالحكومة، بل كانت الحكومة تنظر إليها في كثير من الأحيان بشيء من الريبة والحذر، انتخب عضوًا في إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية، وعضوًا في إدارة الجامعة المصرية، وكان يومئذٍ ما يزال يشغل منصب النائب العام، وكانت له في الجامعة وفي الجمعية سلطة نافذة وإرادة قوية، ثم كان لنفوذه بعد أن علا في العالم السياسي نجمه ما زاد الهيئتين قوة واقتدارًا على القيام بالأعمال الجليلة في البر وفي الثقافة مما أنشئتا من أجله.

وقد ظل اقتداره وظل نفوذه معروفًا في الدوائر الخاصة بالقضاء وعند المسئولين عن شئون مصر العامة، حتى عين في منصب النائب العام، وكان المسئولون وكانت دائرة القضاء تقدر فيه إلى جانب فضله حرصه على تنشئة من يتوسم فيهم الكفاية والمقدرة من الشبان وممن يطمع في أن يقوموا لبلادهم بمثل الدور الذي قام به هو لبلاده، فلما كان صاحب الدعوى العمومية أتاح له حادث خطير أن يتصل بالجمهور اتصالًا مباشرًا، فقد اعتدى إبراهيم ناصف الورداني على حياة المرحوم بطرس باشا غالي في سنة ١٩١٠ بأن أطلق عليه الرصاص ساعة خروجه مع ثروت باشا النائب العام من وزارة الحقانية وتولى ثروت بنفسه تحقيق هذا الاعتداء والمرافعة في الدعوى، هنالك اطلع الجمهور منه على اقتدار خاص، وهنالك بدأ الجانب السياسي من حياة الرجل تظهر نواته وتكاد تتحدد سياسته، فالعبارة التي ننقلها من تلك المرافعة تلخص إلى حد كبير ما جرى عليه ثروت كوزير وكرجل سياسي بقية حياته، قال:

نحن أول من يجل الاشتغال بالمسائل العامة ويرى أن السعي بالطرق المشروعة فيما ترقى به البلاد وأهلها من فروض العين على المصري، وأن كل مصري مطالب بتضحية شيء من وقته وماله وهمته في خدمة بلاده، نحن أول من يرحب بتنمية الوطنية ورياضة النفوس على احتمال أشق المشقات في إعلاء اسم مصر وزيادة شرفها ورفعتها، كذلك نرى أن من مرقيات الأمم الدارجة في رقيها النظر في أعمال القابضين على أزمة الأمور فيها ونقدها، ولكنا لا نسلم بحال من الأحوال أن يتطلع إلى مقام ناقد الحكام إلا رجل جمع إلى العلم الغزير والحكمة البالغة الاتزان في القول والفعل حتى يقدر الأعمال قدرها وينظر في الأمور بفكر صحيح، فلا يتعدى حد المشروعية وإلا انقلبت الخدمة وبالًا وإرادة الخير شرًّا.

هذه العبارة من مرافعة ثروت تنم من حياته السياسية المستقبلة عن جانبين: الأول تقديره السعي لتقدم البلاد واستقلالها على أنه فرض من فروض العين على كل مصري، والثاني أن يكون ذلك السعي بالطرق المشروعة لا بالفوضى ولا بالاعتداء، ولئن كان هذا التعبير — بالطرق المشروعة — هو الذي اتخذته مصر من بعد شعارًا لها في المطالبة بحقوق كان ثروت بطل تحقيق النصيب الأوفى منها؛ فإن هذا التعبير بالذات قد جعل ثروت كنائب عام يقف من كثرة شباب مصر يومئذٍ موقف الريبة، فالشاب — وإن قدر بعقله ما للحق في ذاته من قوة تتغلب على كل قوة سواها — متعجل يريد أن يرى الحق في قبضة يده أو هو يصفق وإن في أطواء قلبه لمن يعتدي على من يحسبه الحائل دون هذا الحق؛ لذلك كان الورداني موضع عطف الكثيرين من الشباب وإن لم يكن موضع عطف الذين يقدرون الأشياء بنتائجها من المسئولين، ولذلك كان ثروت بمرافعته موضع إعجاب المسئولين وتقديرهم وموضع حنق الشباب عليه مع إعجابهم بمقدرته كالمسئولين سواء بسواء.

ولم يحرك حنق الجمهور ولا متابعته الشباب في غضبة أي عصب من أعصاب ثروت؛ ذلك بأن جانبًا ثالثًا من جوانب حياته السياسية كان الاعتداد برأيه هو وبعقيدته لا برأي الجمهور وعقيدته فيه، فهو ما اطمأن ضميره ورضيت نفسه مقدم على عمله غير عابئ برأي الناس في إقدامه، وهو مقدم في جرأة عجيبة لا يسهل تصديقها إلا على الذين عرفوا قدر دماثة الخلق ووداعة الطبع وحب الخير والميل العظيم إلى البر والرحمة.

وحرك الحكم بالإعدام على قاتل بطرس غالي النفوس بشيء من مثل ما تحركت له على أثر الحكم في قضية دنشواي، وكان بطرس رئيسًا لمحكمتها المخصوصة، تحركت النفوس ذاكرةً دنشواي واتفاقية السودان، ملتهبةً غيرة بما سمعت في الدعوى من مرافعات الدفاع عن الورداني مرافعات حارة تفيض تقديرًا لوطنيته التي دفعته إلى جريمة ارتكبها مدفوعًا بعوامل لا قبل له بمقاومتها، والحق أن هذا الحادث الذي عقب حكم دنشواي في سنة ١٩٠٦ ثم صدور العفو عن المحكوم عليهم من الدنشوائيين في سنة ١٩٠٨ ثم وفاة مصطفى كامل، الذي جاهد حتى استصدر العفو، بعد صدوره بشهر واحد — نقول إن هذا الحادث حرك النفوس في مصر إلى المزيد من السعي في المطالبة بحرية كان الشعور ما يفتأ متزايدًا بأن الاحتلال الإنجليزي القابض على أزمة الأمور في مصر يحاول القضاء عليها قضاء أخيرًا، وكان من أثر هذا الشعور الذي ازداد التهابًا حين أحس بتخلي أوربا عنه بالاتفاق الودي الذي عقد بين فرنسا وإنجلترا في سنة ١٩٠٤ وبعجز الباب العالي الذي انهزم أمام إنجلترا في حادث طابه في سنة ١٩٠٦، أن بدأت في البلاد حركة اعتماد على النفس وتقدير لما يجب من جهود المصريين لوطنهم بما جعل الحكومة المصرية التي تقوم لتستر الحكومة الفعلية — حكومة المستشارين الإنجليز — تحس بغضاضة على نفسها وحرج في مركزها، وكان ذلك شأن حكومة محمد سعيد باشا التي تولت مناصبها بعد وفاة بطرس، على أنها حرصت على أن تظهر في مظهر الحكومة الوطنية فيما كان يقع من مناقشات في مجلس الشورى، ثم ظهرت كذلك في مظهر الحكومة الوطنية حين استصدرت — بموافقة إنجلترا وعميدها في مصر لورد كتشنر الذي خلف سيرالدون غورست بعد وفاته — قانونًا جديدًا لنظام الحكومة المصرية، هو قانون الجمعية التشريعية.

وتمت الانتخابات لهذه الجمعية في أواخر سنة ١٩١٣، وبدأت عقد جلساتها منذ أوائل سنة ١٩١٤ بعدما انتخب فيها من أقوياء الحجة في مصر وذوي المكانة منها ما جعل الحكومة لا تستطيع متابعة طول مناقشة الجمعية إياها، فاستقالت وإن لم يكن من ثم نص في القانون النظامي بمسئوليتها أمام هذه الهيئة النيابية، وشكل حسين رشدي باشا الوزارة الجديدة واختار ثروت باشا وزيرًا للحقانية فيها.

على أن الحرب العظمى لم تلبث أن أُعلنت في أغسطس سنة ١٩١٤ فلم يكن بد من إرجاء عقد جلسات الجمعية التشريعية حتى انتهائها، ويذكر الذين عاشوا هذا الظرف الدقيق من حياة مصر والحكومة المصرية كم كان مركز مصر حرجًا، وكم كان مركز الحكومة المصرية أشد حرجًا، فمصر كانت ولاية عثمانية ممتازة تدين بالولاء لتركيا، وخديو مصر عباس حلمي الثاني كان غائبًا عن مصر مقيمًا بالأستانة متهمًا في نظر الإنجليز بالتآمر مع تركيا ومع ألمانيا على إنجلترا وعلى الحلفاء، ورشدي باشا رئيس الحكومة والقائم مقام الخديو مدين هو وحكومته لتركيا وللخديو بالإخلاص والولاء، وإنجلترا صاحبة اليد العليا في مصر والجيوش الجرارة على أرضها تملك بكلمة أن تضمها إلى أملاكها من غير أن يستطيع الخديو أو تستطيع تركيا دفاعًا عنها، وهيهات إذا ضمت مصر إلى أملاك إنجلترا أول الحرب أن يكون أمل في أن تخرج من هذا المركز بعد الحرب إذا انتهت هذه الحرب بانتصار إنجلترا وحلفائها، أو أن يكون أمل حتى في مركزها كولاية عثمانية ممتازة إذا انتهت الحرب بانكسار إنجلترا وانتصار الألمان عليها، فما عسى تصنع حكومة حسين رشدي في هذا المركز الدقيق؟!

وزاد مركز تلك الحكومة دقة وحرجًا أن الشعور العام في مصر كان ميالًا إلى جانب ألمانيا آملًا في فوزها طامعًا في أن تحرر من نير إنجلترا، وكأنما تجددت يومئذٍ في نفوس المصريين الذين كانوا يعتمدون من قبل على فرنسا لتجلي لهم جنود إنجلترا عن أرضهم — آمال في الاعتماد على ألمانيا لتحقق لهم هذه الغاية، وكان هؤلاء المصريون الموالون لألمانيا بعواطفهم يدورون في الأندية والأماكن العامة وفي قطارات السكة الحديد وبيدهم خرائط الحرب مؤشرًا عليها بمواقع القتال وبما كسب الألمان واندحر الحلفاء، ودعاية كهذه من شأنها أن تعد البلاد للثورة إذا لم تكن حكومتها مستعدة لقمع كل حركة من الحركات الطائشة فيها، لكن هذا الاستعداد من جانب حكومة رشدي باشا لم يكن له تأويل إلا الدفع بمصر إلى أحضان إنجلترا والخروج بذلك على ما كان معروفًا يومئذٍ من ميول تركيا ميولًا انتهت بخوضها غمار الحرب إلى جانب ألمانيا، فوقفت تلك الحكومة محاولة أن تصل إلى خير الوعود من إنجلترا بالنسبة لمصر يوم تنتهي الحرب لمصلحة الحلفاء، عاملة على أن يصيب مصر أقل ضير ممكن من جراء الحرب، نافضة يدها بعد ذلك من شئون الدفاع عن مصر بعدما أعلنت إنجلترا الأحكام العرفية فيها وأخذت هذه المهمة على عاتقها، منتظرة تطور الحوادث وما يمكن أن يجيء القدر به.

وأعلنت تركيا الحرب منضمة إلى ألمانيا، فألفت إنجلترا الفرصة سانحة لتغيير موقف مصر السياسي، وقد دار بخاطر أولي الأمر في لندن — على ما ذكر لورد جراي وزير الخارجية الإنجليزية في ذلك الحين — أن يعلنوا ضم مصر إلى أملاك التاج، لكن اعتراضات قامت في هذا الصدد: أولها وأقواها أن الحلفاء الذين تحارب إنجلترا وإياهم كتفًا لكتف يؤولون هذا التصرف من جانبها بأنها أرادت أن تقرر لنفسها غنائم الحرب قبل أن تضع الحرب أوزارها وقبل أن تتفق وإياهم على شيء في هذا الصدد، ثم إن إعلان الضم ربما كان من شأنه أن يهيج الشعور في مصر إلى حد ربما كانت عواقبه غير مأمونة، على ذلك فكرت حكومة لندن في إعلان الحماية على مصر، وانتهت — بعد شيء من التردد — إلى اختيار السلطان حسين كامل سلطانًا في القاهرة بدل ابن أخيه عباس الذي قررت إنجلترا أنه انضم انضمامًا ظاهرًا إلى أعدائها، فلا يمكن أن يعتلي عرشًا تحت حمايتها، ودارت محادثات طويلة في هذا الشأن بين الوكالة البريطانية والحكومة المصرية انتهت إلى قبول رشدي باشا وزملائه الأمر الواقع والبقاء في مناصبهم كوزراء تحت نظام الحماية آملين متى انتهت الحرب أن تجد إنجلترا في تصرفهم ما يجعلهم منها بمكان يستطيعون معه الوصول إلى خير نظام سياسي لبلاد ألقت المقادير على عواتقهم أعباء مصيرها في ظرف دقيق لم يكونوا يتوقعونه، وظلت حكومة رشدي باشا — وفيها ثروت باشا وزيرًا للحقانية — حتى وضعت الحرب أوزارها وأعلنت الهدنة في ١١ نوفمبر سنة ١٩١٨، قائمة بكل ما أخذت به نفسها من ولاء للحلفاء وحرص على مصالح مصر ورجاء في ألا يسوء مركزها بسبب ظروف احتملوها ولم تكن لهم يد فيها.

ولما كانت الشروط الأربعة عشر التي وضعها الرئيس ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة معتبرًا إياها أسسًا للهدنة والصلح قد أعلنت قبل الهدنة بأشهر مشتملة على شرط يجعل للشعوب حق تقرير مصيرها، فقد انتهز جماعة من أعضاء حزب الأمة — نذكر من بينهم علي باشا شعراوي، ولطفي بك السيد، ومحمد باشا محمود، وعبد العزيز باشا فهمي — هذه الفرصة، ففكروا في تكوين هيئة تطالب لمصر بحقها في تقرير مصيرها، وأفضى هؤلاء بفكرتهم إلى حكومة رشدي باشا فوجدوا منها ارتياحًا لها، ففاتحوا سعد زغلول باشا على أن يكون رئيسًا لهيئتهم باعتباره وكيل الجمعية التشريعية المنتخب كما فاتحوا عبد اللطيف المكباتي بك ومحمد علي باشا من أعضاء الحزب الوطني، وعلى ذلك تألفت هيئة أطلقت على نفسها اسم الوفد المصري، ووضعت صيغة توكيل من الأمة لها بالسعي لاستقلال مصر أينما وجدت إليه سبيلًا، ووزعت هذه التوكيلات في طول مصر وعرضها بعلم حكومة رشدي باشا، وكان من رأي السير رجنالد ونجت مندوب إنجلترا السامي في مصر يومئذٍ أن يترك لهذا الوفد حرية السفر إلى إنجلترا أو إلى حيث شاء من ممالك أوربا، وأن يسافر حسين رشدي باشا وعدلي يكن باشا ليعبرا في لندن عن مطالب المصريين، ولو أن نصيحة السير ونجت نجحت يومئذٍ لتغيَّر على الأغلب وجه المسألة المصرية ولسارت في طريق غير التي سارت فيها بسبب رفض إنجلترا للوفد وللوزيرين المصريين بالسفر.

ورفضت حكومة لندن سفر أحد من الوزراء المصريين وسفر رجال الوفد إلى إنجلترا أو إلى مؤتمر السلام، ولم تنجح محاولات الحكومة المصرية والمندوب السامي البريطاني في تحويل الحكومة الإنجليزية عن رأيها، هنالك استقال رشدي باشا وعدلي باشا واستقالت وزارتهما في ٦ فبراير سنة ١٩١٩، ولقد خيل إلى المراجع العليا يومئذٍ أنهم واجدون في ثروت باشا — وله من الكفاية والمقدرة ما له — الرجل الذي يستطيع التغلب على الموقف بإقناع رجال الوفد كي يعدلوا عن خطتهم، كما خيل إليهم أن ثروت باشا لن يرفض رياسة الوزارة حين تعرض عليه، وما يزال يومئذٍ في الخامسة والأربعين من عمره، لكن تقديرهم أخطأ، فقد كان ثروت باشا مشتركًا بقلبه وبعقله مع الحركة الوطنية ومع زميليه عدلي ورشدي، ثم هو كان يقدر التبعة الكبرى التي احتملها مع زميليه بقبول البقاء في الوزارة بعد إعلان إنجلترا حمايتها على مصر، فإذا كانت المقادير قد أتاحت النصر لإنجلترا، وكانت مصر — والحكومة المصرية بنوع خاص — عاملًا من عوامل هذا النصر اعترف به الفيكونت مارشال اللنبي قائد جيوش الحلفاء في الشرق، فإن من خطل الرأي وسوء التدبير الذي لا يليق بسياسي حنكته تجارب الحرب ما حنكت ثروت باشا أن يرضى العاجلة من رياسة الوزارة بديلًا لما كان يرى حقًّا لأمته أن تبلغه من نظام يتفق مع مكانتها ويعادل بعض الجهود التي بذلتها أثناء الحرب الكبرى، وإذا كانت بعض دول أوربا التي خاضت غمار الحرب إلى جانب الحلفاء قد حصلت على وعود بالتوسع وضمان الاستقلال، وإذا كانت بلاد العرب قد اعتبر لها استقلالها، فلن يكون ثروت هو الذي يقبل وزارة يعتبر قبولها حيلولة دون مصر وما تطمع فيه من استقلال وعزة مكان بين دول العالم.

ورفض أن يشكل الوزارة في هذا الظرف الدقيق مقدرًا أن سيحسب عليه رفضه عند ذوي الكلمة والمراجع العليا في مصر، بل لقد أبلغ يومئذٍ أن رفضه هذا يحول بينه وبين الوزارة بقية حياته، فلم يعبأ بما أبلغ إليه وأصر على الوقوف إلى جانب أمته إصرارًا دعا الوفد — وعلى رأسه سعد زغلول باشا — كي يسعى بكامل هيئته إلى دار ثروت باشا مقدمًا إليه التهنئة على إبائه الوطني وآيات الشكر على تضامنه مع الوفد في حركته القومية، وكانت كلمات سعد باشا له أن تضامنه مع الحركة القومية العامة يكسب الوفد قوة والبلاد أملًا في النجاح، وترتب على هذه الزيارة لبيت ثروت باشا أن أنذرت السلطة العسكرية الوفد بأنهم بحركاتهم يعرقلون سير الحكومة، على أن هذا الإنذار لم يزد على أن ثبت ثروت باشا في إصراره على رفض تشكيل الوزارة وعلى وضع حجر الأساس برفضه هذا لنجاح القضية القومية.

من ذلك التاريخ بدأ ثروت باشا نشاطه السياسي في السعي لاستقلال بلاده بالطرق المشروعة التي أشار إليها في مرافعته في قضية قاتل بطرس باشا غالي، ومن ذلك التاريخ أخلص لغايته كل نفسه وكل جهده وازدرى إلى جانبها كل ما يطمع فيه غيره، على أن ثقته المطلقة بنفسه كانت تدعوه إلى أن يتبع في سياسته خطة غير التي يتبعها كثيرون من الساسة غيره، فهو لم يكن يبدأ بأن يعلن للناس مطالبه مستعينًا في تحقيقها بالقوة أو بالواقعية أو بالمساومة، بل كان يحدد في نفسه غاياته ويعتمد قبل كل شيء على البحث المقترن بالحكمة والمنطق وحكم العقل، وقوته ومهارته وصبره كانت تكفل له النجاح دائمًا في بلوغ ما يريده، وكان يكفل له هذا النجاح كذلك ما تعوده من الاضطلاع بالتبعات وحمل المسئوليات منذ أول شبابه وحين كان سكرتيرًا لمستشار الحقانية الذي ألقى بين يديه بواسع سلطته، بهذه القوى عنده استعان حين جاءت لجنة ملنر سنة ١٩٢٠ لتنظر في وضع نظام لمصر تحت الحماية البريطانية فاشترك مع أصدقائه السياسيين — رشدي باشا وعدلي باشا وإسماعيل صدقي باشا — في إقناع اللجنة بضرورة التفاهم مع هيئة الوفد المصري في أمر القضية المصرية، وكان ثروت باشا من بين زملائه هو الذي ينقل آراء اللجنة ووجهات نظرها إلى رجال الوفد بباريس كي يمهد لهم الوقوف على آرائها وخططها، حتى إذا اتصلوا بها كان اتصالهم مثمرًا، فلما انتهت اللجنة من محادثاتها مع الوفد وأعلن مشروع ملنر في صيف ١٩٢٠ ثم قدمت اللجنة تقريرها وأعلنت الحكومة البريطانية اعترافها بأن الحماية علاقة غير مرضية بين مصر وإنجلترا وطلبت إلى عظمة سلطان مصر إيفاد هيئة تتفاوض مع الحكومة البريطانية في استبدالها بعلاقة أوجب للرضا، شكل عدلي باشا وزارته الأولى في مارس سنة ١٩٢٠ وكان ثروت باشا وزير الداخلية فيها.

وعاد سعد زغلول باشا من باريس في أوائل أبريل ودارت محادثات بينه وبين الوزارة انتهت إلى اختلافه وإياها في طريقة تشكيل الوفد الذي يقوم بالمفاوضة وإعلانه الحرب عليها في خطبة ألقاها في ٢٨ أبريل بحي شبرا، ثم سافر عدلي باشا على رأس الوفد الرسمي الذي تألف بأمر عظمة السلطان ليقوم بالمفاوضة، واستصحب معه من أعضاء وزارته حسين رشدي باشا وإسماعيل صدقي باشا ومحمد شفيق باشا، كما استصحب غيرهم مفاوضين ومستشارين، وقام ثروت باشا في مصر رئيسًا للوزارة بالنيابة، وكوزير للداخلية مسئول عن حفظ الأمن والنظام اللذين كانا مهددين بحركات أنصار سعد باشا زغلول لم يتردد في احتمال التبعات التي رآها واجبة في هذا الظرف، دالًّا بذلك على جرأة وحزم لا يعرفان ترددًا ولا هوادة، وبرغم الجهود التي بذلها عدلي باشا والوفد الذي كان معه في سبيل إقناع الإنجليز بوجهة نظر مصر، وبرغم تناولهم كل مسألة من المسائل الخلافية بين الدولتين ابتغاء الوصول إلى حلها حلًّا يقنعهما، فقد جنى الخلاف بين سعد باشا والحكومة على هذه المفاوضات فلم تؤتِ الثمرة التي كانت مرجوة منها؛ ولذلك قطع عدلي باشا المفاوضة بعد أن أعلن إليه لورد كرزون وزير الخارجية البريطانية مشروع حكومته، واستقال عدلي باشا على أثر وصوله، ونشرت السلطات البريطانية المشروع المذكور مرفقًا بمذكرة مهينة لمصر أشد الإهانة.

تحرج الموقف السياسي بين مصر وإنجلترا على أثر هذه الاستقالة، ثم زاده حرجًا أن قبضت السلطة العسكرية البريطانية على سعد زغلول باشا وخمسة من أنصاره وقررت نفيهم عن مصر، هنالك عادت البلاد كلها كلمة واحدة تنادي بعدم التعاون مع إنجلترا وتدعو كل مصري ألا يقبل تأليف وزارة تضطلع بمسئولية الأمر في مصر حتى تظل إنجلترا وأحكامها العرفية مسئولة مباشرة عن كل ما يقع فيها.

في هذا الظرف ظهرت مهارة ثروت باشا السياسية وظهر اقتداره، إن المشروع الذي أعلنته إنجلترا ولم تقبله مصر يقضي باعتراف إنجلترا باستقلال مصر استقلالًا مقيدًا في مسائل معينة، وهذه القيود هي التي لا ترضاها مصر، فإذا أرجأنا النظر في هذه القيود إلى ظرف مقبل أكثر ملاءمة من ظرف المفاوضات وما كان يشوبه من خلاف بين سعد باشا زغلول والحكومة المصرية وأعلنت إنجلترا من جانبها التخلي لمصر عما ارتضت أَن تتخلى عنه في أثناء مفاوضات عدلي باشا ووفده، كانت هذه خطوة جديدة من جانب إنجلترا تدل بها على حسن نيتها بإزاء مصر وتزيل الحرج الذي أدى إليه كتابها المرفق به المشروع، ثم لا تكون قد خسرت شيئًا لأنها إنما تتنزل عما كانت معتزمة من قبل التنزل عنه، على أنه حين بدأ محادثاته مع معتمد إنجلترا للوصول إلى هذه الغاية لم يبدأها بطلب إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر؛ لما كان يعلمه من أن هذا الطلب يلاقَى من جانب حكومة لندن بالرفض، بل تقدم بطلبات لا يبدو أول الأمر أن لها بوجود الحماية البريطانية لمصر أو برفعها اتصالًا، ولم يكن بد أمام العقل من قبول إنجلترا هذه الطلبات، وبعد قبولها وتحديد المسائل التي تُعلَّق لمفاوضات حرة مستقبلة بين مصر وإنجلترا؛ وصل ثروت باشا من بحثه إلى نقطة تبين معها لممثل إنجلترا نفسه أن بقاء الحماية الإنجليزية مفروضة على مصر لم يبق له أية فائدة لإنجلترا نفسها، وحكم العقل يقضي بأن التشبث بأمر لا فائدة من ورائه سخف لا يليق بذوي الفطنة السياسية، وقد بلغ من اقتناع لورد اللنبي معتمد إنجلترا واقتناع المستشارين الإنجليز في الوزارات المصرية برأي ثروت باشا أن هددوا جميعًا بالاستقالة إذا وقفت لندن فلم تجب مطالبهم، وعجبت حكومة لندن لهذا الموقف فاستدعت معتمدها ومستشاريه فذهبوا إليها، ولم يكن إلا أيام حتى أقنعت حجج ثروت الحكومة الإنجليزية أيضًا، وعاد لورد اللنبي في يوم ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢ فأعلن في مصر تصريحًا من جانب إنجلترا بأنها تعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وتنهي لذلك حمايتها عليها محتفظة لمفاوضات مستقبلة بمسائل أربع: الدفاع عن مصر، وحماية مواصلات الإمبراطورية، وحماية الأجانب والأقليات، ومسألة السودان، وعلى أثر ذلك أجاب ثروت باشا دعوة جلالة الملك فشكل وزارته الأول في أول مارس سنة ١٩٢٢.

على أن هذا العمل العظيم الذي قام به ثروت باشا من حمل إنجلترا على الاعتراف باستقلال مصر كان سببًا لأن تدبر ضده في الخفاء مؤامرة لاغتيال حياته، وقد دبر هذا الاغتيال قبل إعلان التصريح بيومين، على أن إدارة الأمن العام علمت بالمؤامرة وأحبطتها بأن أبلغت ثروت باشا الخبر وتفاصيله، وأن المؤتمرين يكمنون له عند كوبري الأعمى حتى إذا مر في (أوتموبيله) ذاهبًا إلى نادي محمد علي فتكوا به، وقد طلب ذلك اليوم إلى مقابلة عظمة السلطان في عابدين في الوقت الذي كانت المؤامرة فيه تريد إتمام جريمتها، فدعا إليه صديقه وزميله في محادثات الإنجليز بشأن الاعتراف باستقلال مصر حضرة صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا وطلب إليه أن ينوب عنه في مقابلة جلالة الملك على أن يركب سيارة بالأجرة، وكذلك نجا ثروت وقبض على المتآمرين، ومن يدري ماذا كان يصيب مصر لو أن الجناية تمت على ما يشتهي المدبرون؟!

وإعلان إنجلترا اعترافها بمصر دولة ذات سيادة بفضل مجهودات ثروت باشا السلمية ومقدرته على الاستفادة من الظروف بتقديره قوة بلاده ومطالب إنجلترا — هذا الإعلان رفع مقامه فجعله سياسيًّا فذًّا في نظر العالم بأسره، وجعل أبناء أمته يتطلعون إليه معجبين به وبمهارته، على أنهم انقسموا مرة أخرى، لا في تقديرهم المجهود لذاته، ولكن في الخطة السياسية، أو بالأحرى في الخطة الحزبية التي يسلكونها بإزاء التصريح بالاستقلال وبإزاء الرجل الذي فاز به، أما الطوائف الحكيمة التي تقدر الأشياء بقيمتها الحقيقية فاعتبرت التصريح خطوة جدية في سبيل استكمال الاستقلال وعاهدت ثروت باشا على مؤازرته في خطته، ووقفت طوائف أخرى حريصة من ناحية على ألا يمس التصريح أذى، عاملة في نفس الوقت على مناوأة ثروت باشا وحكومته مناوأة دفعتهم للطعن على التصريح والانتقاص من قيمته، وقد كان من مظاهر هذا الموقف أن أمسك هؤلاء عن إبداء رأيهم في التصريح حين أعلن البرلمان الإنجليزي أنه يريد بحثه في جلسة حدد لها يوم ١٤ مارس سنة ١٩٢٢، وظلوا في وجل أي وجل ألا تنال حكومة لويد جورج ثقة البرلمان بسبب إعلانها إياه، فلما فازت هذه الحكومة البريطانية بالثقة وأعلن جلالة ملك مصر استقلالها في ١٥ مارس واطمأن هؤلاء المتحفزون إلى أنه أصبح حقًّا لمصر لا ينازعها فيه أحد؛ بدءوا حملتهم عليه حملة منظمة غايتها الحملة على حكومة ثروت باشا، على أن ثروت لم يتردد في هذا الظرف لحظة، بل ظهر بكل ما يجب من قوة وحزم وبدأ ينفذ ما ينطوي عليه التصريح من حقوق مصر بإنشاء وزارة الخارجية التي كانت ألغيت منذ أعلنت الحماية البريطانية على مصر في ١٨ ديسمبر سنة ١٩١٤، وبإقالة المستشارين البريطانيين من مختلف الوزارات عدا وزارتي الحقانية والمالية، وبتشكيل لجنة من خيرة رجال مصر لتضع للبلاد نظامًا دستوريًّا على أحدث المبادئ العصرية، وبالضرب على يد الفوضى في كل صورها ومظاهرها، وإظهار الحكومة المصرية الأهلية بمظهر الاحترام الواجب لها.

وليوطد في النفوس الإيمان بحق مصر دعا في ٢٦ مارس سنة ١٩٢٢ — لمناسبة عيد ميلاد جلالة الملك — إلى حفلة كبيرة بفندق الكونتننتال حيث ألقى خطابًا يبين فيه مزايا العمل الجليل الذي قام به ويرسم فيه الخطة الواجب اتباعها لاستكمال الاستقلال، وقد يبدو عجيبًا أن تكون الفكرة السائدة في هذا الخطاب هي بعينها الفكرة التي وردت في مرافعة عبد الخالق ثروت النائب العام في قضية الورداني، والتي أوردت نصها من قبل، فقد جاء في هذا الخطاب السياسي ما نصه:

لم يبقَ علينا إلا أن نقنع إنجلترا أن ليس بها حاجة إلى التمسك بالضمانات التي تريد الاحتفاظ بها فتخطو بريطانيا العظمى خطوة أخرى بالاكتفاء بما لا يتنافى منها مع استقلالنا الشرعي، وليس لدينا وسيلة لتأييد ما نذهب إليه أكثر من تعلقنا بأهداب السكينة والتزامنا الهدوء وأخذنا بأسباب النظام، فإن حجتهم الكبرى فيما يبدونه من رغبة في الضمانات هي شدة حذرهم على مصالحهم وخوفهم عليها وعدم اطمئنانهم إلى تركها لعهدتنا، فإذا قضينا على عوامل الفتنة والاضطراب وجعلنا التزام السكينة رائدنا فإننا نثلم هذا السلاح بأيديهم وندفع حججهم علينا، ولا مشاحة في أن كل من يعمل على تعكير السلام أو إثارة الاضطراب مجرم في حق وطنه عامل على هدم كيانه.

ثم جاء فيه أيضًا:

إنني لا أكره المعارضة، بل إذا انعدمت هذه المعارضة فإنني أعمل على خلقها لما لها من نفع وفائدة في الوصول إلى الحقيقة وتمحيص كل أمر على أكمل وجه، ولكني أريد المعارضة الشريفة التي تترفع عن الاعتبارات الشخصية ولا تنزل إلى اختلاق الأكاذيب، إنني أريد الخصومة الشريفة التي لا تنظر إلا لمصلحة الوطن وخير البلد وتدرس كل أمر لذاته مجردًا عن كل اعتبار شخصي.

وهذه الخطة التي رسمها ثروت باشا في خطاب يوم عيد ميلاد جلالة الملك هي التي كررها من بعد في خطب ألقاها في افتتاح لجنة الدستور ولوفود ذهبت إليه في شئون سياسية مختلفة، ولقد كان لهذه الخطة الحكيمة أن تؤتي ثمرها كاملًا بفضل مهارة ثروت وحنكته وقوة منطقه لو أن مناوأته لم تنتقل من الميدان الوطني الصحيح إلى ميادين أخرى، فبينا هو يعمل جادًّا في تطبيق مزايا الاستقلال التي حصلت عليه مصر مقيدًا بالتحفظات التي أشرنا إليها؛ وقعت على جماعة من البريطانيين — ضباطًا وجنودًا ومدنيين — سلسلة اعتداءات شنيعة أودت بحياة ثمانية عشر منهم على التعاقب، على أن هذه الاعتداءات وحدها ما كانت لتجني على خطته لو لم يقترن بها ما جعل مركز وزارته حرجًا غاية الحرج بعد زمن وجيز من بدء لجنة الدستور عملها، فقد عمدت هذه اللجنة إلى وضع مبادئ تتفق مع المبادئ العصرية التي كلفت بوضع الدستور المصري على أساسها، وشاركها ثروت باشا الرأي في مبادئها، وفي رأي البعض أن مصر بلاد شرقية يجب أن تسود فيها وسائل السياسة الشرقية وخططها؛ لذلك ألفى ثروت باشا نفسه في موقف لا يستطيع معه القيام بأعباء الحكم على الوجه الذي يرضاه ضميره. وبرغم المحاولات الكثيرة التي بذلها لتهدئة العواصف الكمينة في ثورتها حوله، فإنه شعر بدقة المركز فجعل يستعجل لجنة الدستور حتى وضعت مشروعه وتعجلت بعد ذلك في وضع مشروع لقانون الانتخاب، ورفعت اللجنة مشروعها إليه في جلسة تاريخية ألقى فيها كلمة ذكر في أثنائها أنه سيعمل على صدور الدستور كما وضع مشروعه، وكان ذلك في ١٨ أكتوبر سنة ١٩٢٢، ولما كان جماعة أصدقائه السياسيين يؤلفون في هذا الوقت حزب الأحرار الدستوريين؛ انتظر من معونتهم ما يكفل اقتداره على السير بسياسته خطوة أو خطوات أخرى، لكن الحزب ما كاد يتألف في ٣٠ أكتوبر ثم ما كاد يمضي أسبوعان على تأليفه حتى أطلق جماعة من الشبان الرصاص على باب داره دار جريدة «السياسة» فأصابوا حسن باشا عبد الرازق وإسماعيل بك زهدي من أعضاء مجلس إدارته، وأبدت الصحف المناوئة لهذا الحزب أن الرجلين ذهبا ضحية خطأ يؤسف عليه لأنهما لم يكونا مقصودين بالذات.

وكثرت الأقاويل حول المصادر الحقيقية التي تشجع هذه الجرائم، ورأت وزارة ثروت باشا بعد أن رفعت الدستور إلى جلالة الملك أنها خطت بالبلاد خطوات يمكن الوقوف عندها فترة ريثما تطمئن النفوس وتهدأ أسباب الجريمة، وعلى ذلك رفع ثروت باشا استقالته في يوم ٣٠ نوفمبر منوهًا فيها بما أتمت وزارته وبما مهدت له من صدور الدستور وغير الدستور مما نص في تصريح ٢٨ فبراير على وجوب صدوره.

واعتكف ثروت منتظرًا ظرفًا خيرًا من الظرف الذي كان فيه في الحكم ليعود إلى الميدان فيعمل لإتمام ما بدأه بتصريح الاستقلال، على أنه في اعتكافه لم يتوانَ يومًا عن بذل كل ما لديه من نفوذ كي يصدر الدستور، فلما صدر في ١٩ أبريل سنة ١٩٢٣ أيام قيام وزارة يحيى باشا إبراهيم وانتظرت البلاد الانتخابات؛ أخذ يتوقع في ظروفها ما يطوع له العود لتنفيذ سياسته، وسياسته — كما رأيت — تقوم على الإخلاص الصحيح والعزم الوطيد على إتمام اتفاق بين إنجلترا ومصر تحل به المسائل المعلقة في التصريح، وعسير الوصول إلى هذا وفي البلد من آثار الانقسام ما يخشى أن يجني على أية مفاوضات جديدة جناية الانقسام على المفاوضات التي تولاها عدلي باشا يكن سنة ١٩٢١.

فلما عاد سعد زغلول باشا من منفاه فكر ثروت في إمكان التفاهم معه اجتنابًا لكل انقسام مستقبل، لكن علاقات الرجلين كانت متوترة منذ سنة ١٩٢١ أشد التوتر، وقد ألقى المحيطون بسعد في رُوعه أن ثروت هو الذي نصح بنفيه، ثم إن سعدًا كان قد طعن على ثروت أشد المطاعن وأقساها، بل لقد ذهب في الطعن عليه إلى اتهامه في إخلاصه لوطنه، فكيف يستطيع ثروت أن ينسى هذا كله وأن يتقدم إلى ناحية سعد خطوة من الخطى؟! على أنه رأى كرامة الوطن فوق كرامة أي فرد من أبنائه، فبعث إلى سعد بخطاب يذكر له فيه أنه في حرصه على مصلحة الوطن يريد أن يحتكم وإياه في أسباب الخلاف بينهما إلى الأمراء وذوي الرأي والمكانة في البلاد.

وكان يرجو من احتكامه أن تزول أسباب الانقسام وأن تعود وحدة الأمة ليعود هو — معتمدًا على هذه الوحدة — إلى استكمال استقلال بلاده بإتمام الاتفاق بين مصر وإنجلترا، لكن مسعاه هذا لم ينجح أن رفض سعد باشا التحكيم، وبقي ثروت باشا بعد ذلك بين كتبه ومكتبته وفي عمله المتصل بالجمعية الخيرية الإسلامية وبالجامعة المصرية وبغيرهما من الهيئات التي كانت أبدًا في حاجة إلى ثاقب رأيه.

فلما كانت سنة ١٩٢٥ أدت الظروف السياسية إلى التفاهم والائتلاف بين سعد زغلول باشا وخصومه السياسيين، ذلك أن سعد باشا حصل حزبه على الأغلبية الكبرى في انتخابات سنة ١٩٢٤ فتولى الوزارة وظل فيها حتى اعتدت جماعة ينسب بعضهم إلى حزبه على حياة السيرلي ستاك باشا حاكم السودان العام، فأبلغت إنجلترا حكومته إنذارًا قاسيًا اضطرت بعده إلى التخلي عن المناصب، وخلفه أحمد زيور باشا في رياسة الحكومة، فاستعان بالأحرار الدستوريين بعد أن حل مجلس النواب وأجرى انتخابات أسفرت عن أغلبية لحزب سعد باشا كذلك، فحل المجلس الجديد أيضًا وأُجِّلت الانتخابات إلى أجل غير مسمى.

على أن الحل الأول وهذا التأجيل الثاني خلق في البلاد حزبًا جديدًا كان أعضاؤه كثيري التردد على القصر الملكي، وكانت رغبتهم عن الدستور والحياة النيابية أكثر من رغبتهم فيهما، وخيل لأعضاء هذا الحزب يومًا أنهم يستطيعون القيام وحدهم فأقيل رئيس حزب الأحرار الدستوريين من الوزارة واستقال زميلاه الوزيران اللذان كانا من أعضاء حزبه تضامنًا وإياه، وسنحت بذلك فرصة التفاهم والائتلاف مع حزب سعد زغلول باشا ضد الخصم المشترك والعمل معًا لعود الحياة النيابية، وكذلك قربت الظروف بين ثروت باشا وسعد باشا، وكان يخيل للكثيرين أنهما لن يلتقيا.

وجرت الانتخابات وألف عدلي باشا يكن الوزارة الائتلافية الأولى وجلس سعد باشا في رياسة مجلس النواب، وفي أوائل أبريل سنة ١٩٢٧ استقال عدلي باشا فألف ثروت باشا وزارته الثانية، وبقي سعد باشا في منصبه رئيسًا للنواب، وكانت إنجلترا يومئذٍ قد أرادت — متأثرة بآراء مندوبها السامي اللورد جورج لويد — التحرش بالحكومة المصرية؛ فخلقت ما سمي أزمة الجيش، وبعثت بأساطيلها إلى الإسكندرية ولم يعرف أحد قط مطالبها على وجه التحديد، فاستطاع ثروت باشا بمهارته وكياسته أن يقضي على هذه الأزمة من غير أن تصل إنجلترا من مطالبها إلى أكثر من منح أحد الموظفين الإنجليز بوزارة الحربية المصرية رتبة الباشوية.

حدث بعد ذلك أن سافر جلالة الملك فؤاد إلى أوربا مدعوًّا إلى زيارات رسمية بإنجلترا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا، وبعد شيء من التردد استصحب جلالته رئيس وزارته ثروت باشا في رحلته، فانتهز ثروت فرصة وجوده بإنجلترا وفاتح وزير خارجيتها السير أوستن تشمبرلن في أمر أزمة الجيش وتحدث إليه فيما إذا كان مستطاعًا الوصول إلى حل المسائل المعلقة بين الدولتين اتقاء أزمات أخرى.

وقد انتهت هذه المحادثات إلى مشروع لم يقبل في مصر ولكنه مهد السبيل الصحيح إلى الاتفاق النهائي، وربما كان ممكنًا تعديله بما يمهد لقبوله لو أن سعد باشا زغلول بقي حيًّا إلى حين انتهاء ثروت من محادثاته، لكنه توفي في أثنائها في ٢٣ أغسطس سنة ١٩٢٧، ولم يخلفه مَن حنَّكته التجارب السياسية ما حنكت هذا الزعيم، وطلب إلى ثروت باشا أن يحل مجلس النواب وأن يجري انتخابات يعرض فيها المشروع الذي وصل إليه على البلاد، فأبى لأنه رأى أحزاب مصر كلها لا تقبل المشروع، ولأنه من ناحية أخرى خشي إذا حل المجلس ألا يعود، واستقال من الوزارة ونشر يوم استقالته كتابًا أخضر عن مفاوضاته.

ويدل هذا الكتاب والمذكرات التي اشتمل عليها على ضخامة المجهود الذي بذله ثروت في أثناء قيامه بالمفاوضات منفردًا ضخامة لم يعرف لها حتى اليوم في حياة سياسي مصري نظير، ويدل كذلك على مقدرة وذكاء وكفاية وتضلع بالسياسة العالمية قل أن يكون لها مثيل، ثم يدل على صحة ما رواه عنه السير أوستن تشمبرلن لأحد أصدقائه إذ قال: «أتاح لي اتصالي في جمعية الأمم بأكثر وزراء الخارجية في الدول المختلفة أن أقدرهم جميعًا، وما أحسب واحدًا منهم يفوق ثروت مهارةً وقوة حجة وحسن بيان.»

وفي الكتاب الأخضر المذكور — إلى جانب هذا كله — اتجاه جديد في سياسة ثروت يرمي إلى ربط الاتفاق بين مصر وإنجلترا بقضية السلام في العالم، ويجعل لذلك من الرجل سياسيًّا عالميًّا لا سياسيًّا قوميًّا وكفى، فقد أبدى وزير الخارجية البريطانية من التشدد في بعض الأمور ما رأى ثروت باشا معه أن المناقشة أصبحت غير مجدية، وأن مقامه في لندرة للوصول إلى الغاية التي ينشدها لم يبق له محل.

وكان أمامه إذ ذاك أن يعلن ذلك إلى قومه في عبارة قوية أخاذة، وأن يعود محاطًا بهالة من الجلال والإعجاب، لكن ذلك ليس يتفق مع طريقته في التفكير ولا هو يقرب الغاية التي ينشدها ولا يؤيد السلام الذي يسعى لتأييده؛ لذلك لجأ إلى الحكمة ينادي داعيها في نفس الوزير الإنجليزي، حتى إذا لم يجب هذا الداعي وأصر على تشدده كان مسئولًا أمام العالم كله وكان مخالفًا في خطته مع مصر كمفتاح بلاد الشرق الخطة التي اتبعتها الدول الأوربية فيما بينها لتأييد السلام، فبعث بخطاب فيه من البراعة السياسية، ومن الحرص على كرامته وكرامة بلاده، ومن تحميل مناظره تبعة عدم النجاح، ما يشهد به نصه إذ قال:

عزيزي صاحب السعادة

من أطيب الأشياء إلى نفسي أن أعرب لسعادتكم قبل مغادرتي لندرة عن عظيم شكري لما لقيته لديكم من حسن الاستقبال، وإن أنس لا أنس نزعة الود التي ما برحتم تصدرون عنها في محادثاتنا ولا ما أبديتموه على الدوام من صادق الرغبة في التماس أسباب التوفيق بين البلدين.

ولقد كان يسعدني أن أرى مساعيكم المجيدة في تثبيت أركان الصداقة بين القطرين تكلل بالنجاح، كما أنه يؤلمني أن يخفق كل ما بذل من الجهود في هذا السبيل، تلك الجهود التي لم تجعل — حتى اللحظة الأخيرة — مجالًا للشك في حسن ختام محادثاتنا في هذا الشأن.

ولا أزال أرجو — إذ أنادي منكم داعي الحكمة وألتجئ إلى صادق شعوركم وصحيح إنصافكم — أن تدركوا الغاية التي تعملون لها، وأن تضموا إلى إكليل «لوكارنو» إكليل الاتفاق بين إنجلترا ومصر.

ولم تضعف استقالته من الوزارة من إيمانه بإمكان الاتفاق بين مصر وإنجلترا، بل كان يرجو في ظروف سياسية جديدة ما يمكنه من العود لمعالجة المفاوضات من جديد مع عظيم الرجاء في نجاحها، لكن المجهود العظيم الذي أنفقه والمقابلة السيئة المنطوية على إنكار الجميل التي قوبل بها، ومحاولته نسيان ذلك بالإكباب على العمل في مجلس الشيوخ كعضو من أعضائه، كل ذلك هز أعصابه وأضعف قوته؛ فسافر مستشفيًا في صيف سنة ١٩٢٨ وذهب إلى سان مورتز ثم عاد منها إلى باريس في ١٨ سبتمبر، ولم يكن يدري أن أجله يتربص به فيها ليختم كتاب حياته في الساعة الثانية من بعد ظهر ٢٢ سبتمبر، أي بعد وصوله إليها بخمسة أيام.

وبكت مصر ثروت، وتقدمت دول العالم كلها تعزيها فيه، وتناولت الصحافة في مختلف الأمم أعماله فشادت بها ورفعتها إلى المكان الجديرة به، بكته مصر مُقدِّرة جميل صنيعه، وعظيم نزاهته، وعلو همته، آسفة على ما فرط منها أيام حياته في حقه، مؤمنة بأن سيبقى اسم ثروت علمًا في تاريخ مصر على الاقتدار السياسي المنقطع النظير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤