بتهوفن

اليوم — ٢٦ مارس سنة ١٩٢٧ — يحتفل العالم بمرور مائة عام على وفاة بتهوفن، إجلالًا لتلك الألحان القدسية التي أورثها إياه هذا النابغة الشقي، والتي ما تزال برغم ما أحدث كبار رجال الموسيقى آيات خالدة في عالم النغم، فما يزال لحن الريف وألحان بتهوفن التسعة الأخرى وسائر أناشيده الغنائية تموج في جو الوجود فتزيده بالحياة نعمة، وتشدو في أغوار نفوس عارفيها والمعجبين بها كلما أعوزهم اللحن العذب ليرفع من هممهم وليقوي عزائمهم، وما يزال اسم بتهوفن ولن يزال مقترنًا بكل لحن من هذه الألحان، بل بكل نغمة من نغماتها، وذكر العالم اليوم له لمرور مائة عام على وفاته ليس إلا أداء لدين الشكر الواجب على العالم لكل من زاد حياته جمالًا وفضلًا وقوة.

يذكر العالم كله اليوم بتهوفن فيذكر ذلك الألماني المولد، الفلمنكي الأصل، المتقارب أجزاء الجسم في قصر يكاد يجعله قزمًا، الحاد النظرة، العبوس، المتجهم للحياة بعدما تجهمت الحياة له، فأورثته المرض وانتهت به إلى الصمم، الجاعل مع ذلك من الألم سبيل المسرة، المفني نفسه في سبيل فنه، المؤمن برسالته وبقوته، يذكر العالم هذا الرجل الذي لم يجد في غير العمل سبيلًا للسعادة، أو بالأحرى لحسن احتمال الشقاء، والذي توافر على عمله في الموسيقى توافرًا جعله ينتج هذه الثروة الفنية، والذي لم يعرف غير الموسيقى ولم يؤمن بشيء إيمانه بها أن كانت أعصابه أوتارًا تهتز بالنغم لكل ما في الحياة.

فقد كان كل ما في الحياة عنده نغمًا، كان الجمال نغمًا والعواطف نغمًا والأفكار نغمًا والنور والظلمة والحزن والمسرة والزهر والشجر والسحاب والجبل وكل ما في الطبيعة وما في الحياة أنغامًا تشدو بها أوتار هذه النفس العصبية الحساسة الشديدة التأثر بكل ما يلامسها.

بهذه الأنغام وبما تعبر عنه من جليل المعاني وبذكرى واضعها يحتفل العالم إذًا اليوم.

وعجيب أن كانت حياة واضع هذه الأنغام السماوية نشازًا كُلُّها؛ فلم ينشأ بتهوفن نشأة غيره ولم تتسق حياته مع نبوغه، ولم يذق من الهناء ما يذوقه أمثاله، بل كان — وهو على حد قوله: «باكوس الذي يستصفي للإنسانية الرحيق العذب ويجلي على الناس أقدس ما في الروح من جلال» — معذبًا في نشأته، معذبًا جل حياته، معذبًا كذلك في موته، ولعل ما متعت به ذكراه بعدما استراح من عناء الحياة ونشازها الدائم معه قد أفاء على روحه من الطمأنينة ما لم يسترح إليه يومًا طوال عيشه.

•••

ولد لدفج فان بتهوفن بمدينة بون على مقربة من كولونيا في ١٦ ديسمبر سنة ١٧٧٠، وكان أبوه مغنيًا سكيرًا، وكانت أمه خادمًا وابنة طباخ وأرمل فراش، وهذه بداية في الحياة لا تبشر بخير ولا بنعمة، بل هي نذير صراع للوجود قاسٍ قَتَّال، ولم يمهله أبوه إلى أكثر من الرابعة من عمره حتى تبين منه ميلًا للموسيقى، فأراد أن يستغله بعرضه على الناس وحبسه ومعه كمنجا صغيرة، وأرهقه بالعمل حتى كاد يُكِّره إليه فنًّا خُلق له، لكن كسب الأب كان تافهًا، فكان لا بد للطفل أن يجني من عمله عيشه، فما بلغ الحادية عشرة حتى كان عازفًا في أوركسترا أحد المسارح، وفقد أمه وهو في السابعة عشرة من عمره فحزن لفقدها أشد الحزن أن ألقى ذلك عليه أعباء العناية بأمر أسرته وتربية أخويه بسبب ما انحط من قوى أبيه.

وفي نوفمبر سنة ١٧٩٢ ارتحل الموسيقي إلى فيينا عاصمة ألمانيا الموسيقية على أثر موت أبيه، وكان يومئذٍ كما كان طوال حياته ميالًا للعزلة محبًّا للعمل حبًّا جمًّا، وكان لذلك قد جعل من البيانة١ خير أصدقائه، فإليها كان يبث شجنه حين اضطر لهجرة دار أهله وقد جعلتها عربدة أبيه جحيمًا، وإياها كان يستودع الأفكار الطريفة التي يفيض بها قلبه، وعليها كان يرتجل هذه الأفكار ارتجالًا، ومعها كان يتناجى بما يجول في نفسه من خلجات وما يجيش به صدره من عواطف، وبها كان يعبِّر للنساء اللواتي أحب عما يغمر قلبه من هيام وما يحز فيه من غيرة، بل لقد كان يتحدث بها إلى أصدقائه، ولم يكن أكثر منها بلاغة للتعبير عما في نفسه، فقدت سيدة من معارفه ولدها وجزعت لفقده أي جزع، فلما ذهب بتهوفن يواسيها أمسك بيدها ووضعها على قلبه وقال لها: «إن ما أشعر به هنا لا سبيل إلى بيانه، لكن البيانة ستقوله عني.» ثم جلس إلى الآلة الموسيقية وارتجل قطعة يحكي في صدرها ألمه، ثم كانت للسيدة نعم العزاء، وكذلك كانت البيانة صديقته كما كانت موضع قوته في الموسيقى وسلطانه في الارتجال، بلغ من السلطان عليها حتى قال عنه موزار — الذي ملأت ألحانه آذان ذلك العصر وما تزال إلى اليوم من مفاخر الموسيقى — وقد سمعه وهو في السابعة عشرة من عمره يرتجل وحده في غرفة مجاورة للغرفة التي كان فيها موزار وجماعة من أصدقائه: «تنبهوا إلى هذا الشاب فسيكون موضع حديث الناس يومًا من الأيام.»

ذهب إلى فيينا على أثر وفاة أبيه بدعوة من أعضاده وفي مقدمتهم الكونت دوالشتين، وكان أكبر همه من ذهابه إليها أن يدرس على هايدن أكبر المؤلفين الموسيقيين الألمان يومئذٍ، لكن هايدن كان مشغولًا بتواليفه جد الاشتغال، فلم يجد الشاب من وقته ما يفيده، فتركه بل قاطعه وعمد ليدرس على البرختبرجيه، وكانت أخلاق هذا الأستاذ على علمه يشوبها كثير من الغرور والجفوة بما لا يتفق وأخلاق بتهوفن الحرة الثائرة، وعلى ذلك أكمل دراساته الموسيقية وحده فظل فيها من آثار النبو عن متعارف القواعد ما لم يعبأ به نبوغه الخالق وقوته الخارقة للعادة وسلطانه الذي حلق في السماء فخضعت له كل القواعد.

وعضده يومئذٍ البرنس لخنفسكي وآواه في داره وفرض له ستمائة فلورين سنويًّا، وأُلِّفت بينهما صداقة متينة لم تكن تخلو من أسباب لسوء التفاهم قضت دائمًا عليها الأميرة لخنفسكي التي كانت موسيقية تقدر فضل النابغة الذي يقيم معهم حق قدره.

ويومئذٍ كانت الثورة الفرنسية تغزو العالم كله بمبادئها، وكان بتهوفن خصمًا لها أول أمره، لكن مداومته قراءة هوميروس وأفلاطون وفرجيل وتاسيت وتبينه المبادئ الجمهورية التي قامت عليها الثورة؛ جعل منه نصيرًا من أكبر أنصارها، ولذلك لم يتردد حين جاء إليه الجنرال الفرنسي برنادوت يطلب إليه أن يضع لحنًا symphonie لمجد قنصل الثورة بونابارت، وأتم بتهوفن اللحن وكان على أهبة إرساله إلى باريس إذ علم أن نابليون توج نفسه إمبراطورًا، فما لبث أن عاد إلى بيته ساخطًا ومزق لحنه وقال: «هذا رجل مطامع كغيره من الرجال.» ولم يُرِدْ أن يسمع بعد ذلك عنه خبرًا، ثم ألح عليه أصدقاؤه بعد سنوات من ذلك كي يعيد هذا اللحن إلى الحياة فغيَّر فيه القطعة الثانية وكانت نشيد النصر ووضع بدلها نشيد الأسى، كأنما ينعَى ما كان من انهيار آماله، وسمى اللحن لحن البطولة، وأضاف إلى عنوانه هذه العبارة: «إحياء لذكرى رجل عظيم».

ومن يومئذٍ بدأت تواليفه ومصنفاته تفيض فيضًا، فكتب عدة ألحان من خير ألحانه كما كتب أوبرا فدليو، ويومئذٍ أحس بسلطانه وآمن بقوته وفاض عنه الرضا بالحياة والسكينة لها، وتدل الصور التي صورته في ذلك العصر على مبلغ طمأنينته وعظيم أمله في المستقبل، ففي سنة ١٧٩٦ كتب في مذكراته الخاصة يقول: «إقدامًا! وبرغم أسباب ضعف الجسد فالنصر لعبقريتي ها أنذا بلغت الخامسة والعشرين، فيجب في هذا العام أن يظهر الرجل كاملًا.» وذلك على أنه كان ما يزال في بداية حياته العامة، فأول حفلة عامة له كبياني وقعت في ٣٠ مارس سنة ١٧٩٥، لكنه لم يبق لديه ريب في قوته ولم يخف ذلك على أحد من أصحابه، بل كان يباهي به على صورة قد لا يرضاها من لم يكن له مثل مولده، كتب إلى الدكتور وجلر — صديق صباه في مسقط رأسه — يخبره بنجاحه العظيم، فكانت الفكرة الأولى عنده ظاهرة في قوله: «أرى مثلًا صديقًا محتاجًا فإذا لم يسمح لي جيبي بالإسراع إلى معونته لم يكن عليَّ إلا أن أجلس إلى منضدة العمل فإذا بي في وقت قصير قد سددت حاجته، ألست ترى هذا غاية في الجمال … ويجب أن أقف فني على معونة الفقراء.»

لكن يا لقسوة القدر! فما كاد هذا النابغة القوي يتربع على دست عظمته حتى بدأت مقدمات الهم واليأس تسلك إليه مساربها، بدأت هذه الآفة التي نغصت عليه عيشه بقية أيامه منذ سنة ١٧٩٦، فلمَّا تمض على هذه السكينة للقوة العظيمة شهور حتى بدأ وجه الحياة يتجهم وبدأت نذر الشقاء تتقدم، وبدأت مقدمات الصمم بطنين الآذان ليل نهار طنينًا مزعجًا، وقد ظل سنوات يخفي مرضه حتى على أعز أصدقائه، وكيف تريد موسيقيًّا على أن يقول للناس إنه أصم؟! لكن ذلك لم يقعد به عن مداومة العمل، ولئن ظهرت بعض آثار الحزن الناشئة عن آلامه في عدد من الألحان التي وضعها في ذلك الحين فقد بقي أكثرها بسامًا طروبًا، غير أنه لم يطق كتمان علته بعد أن احتملها خمس سنوات تباعًا، فكتب في سنة ١٨٠١ يشكو هذه العلة إلى كثير من أصدقائه ومن بينهم صديقه أمندا إذ كتب يقول له:

عزيزي الطيب الرفيق أمندا

كم كنت أرجوك بجانبي، فصديقك بتهوفن بائس غاية البؤس، ذلك أن سمعي وهو أكرم أجزاء نفسي عليَّ، قد ضعف كثيرًا، وكنت أشعر منذ كنا معًا بأعراض المرض وكنت أخفيه، لكنه اطرد سوءُه من بعد، فهل أشفى؟ أرجو ذلك بالطبع، ولكن رجائي فيه قليل، فمثل هذا المرض أشد مما سواه استعصاء على البرء، وسأضطر لقضاء العيش في بؤس فأتجنب كل ما أحب وكل ما هو عزيز علي، وذلك بين عالم شقوة وأنانية، يا لشقاء الاستسلام الذي يجب أن ألجأ إليه، لا ريب أني فرضت على نفسي السمو فوق كل هذه الآلام، فهل ترى أستطيع تحقيق ما فرضت؟

هل من سبيل إلى عزاء لبتهوفن عن هذا الألم؟ هل من وسيلة لتخفيف مضضه ومرارته؟ الوسيلة الممكنة هي المرأة والسبيل هو الحب، فلو أن بتهوفن وجد يومئذٍ من يتعلق بها قلبه ويؤمن به وبعظمته قلبها؛ لكان له من ذلك ما يهوِّن عليه بعض همه، ولقد كان منذ نشأته طيب القلب عطوفًا، لكن حبه كان قاسيًا كالفضيلة التي امتلأ بها قلبه، وكان لذلك يرى عارًا أن تتدلى الموسيقى للتعبير عن حب تشويه الشهوة؛ ولذلك عاب على موزار قطعته «دون جوان»، على أن فضيلته القاسية هذه هي التي كانت سبب فشل علائقه الغرامية جميعًا، ففي سنة ١٨٠١ تعلق بجوليتا جوكشياردي وأهداها لحنه المعروف «ضوء القمر»، وكتب إلى صديقه وجلر يقول له: «الآن أعيش أكثر سكينة وأختلط بالناس أكثر من ذي قبل، ولقد أبدع هذا التطور في حياتي سحر فتاة عزيزة تحبني وأحبها، وهذه هي اللحظات السعيدة الأولى التي تذوقت منذ عامين.» لكن هذا الحب زاده شعورًا بمرضه كما أن جوليتا كانت لعوبًا شديدة الأنانية لا تعبأ بآلام بتهوفن، ولم تعِفَّ في سنة ١٨٠٢ — أي بعد سنة واحدة من حبها — عن أن تتزوج من الكونت جالنبرج، وكان حب بتهوفن إياها طاهرًا مخلصًا، فكانت خيانتها طعنة قاسية أصابت بها شغاف قلبه، على أنها لم تكتفِ بما فعلت بل جعلت تستغله لفائدة زوجها وجعل بتهوفن يذعن باسم الطيبة ويقول: «إنه عدوي، وذلك هو السبب في إسدائي إياه كل خير أستطيع إسداءه.»

وأدى به الصمم والمرض والانقطاع عن الناس وخيانة جوليتا إلى اليأس من الحياة وإلى اليقين باقتراب ختامها، وزاد به اليأس حين ذهب إلى «هيلجنستات» إحدى ضاحيات فيينا مستشفيًا، ومكث بها ستة أشهر لم يفد لسمعه خلالها شيئًا، هنالك كتب وصيته التي نثبتها هنا، وإن كان قد عاش بعدها خمسًا وعشرين سنة، لأنها تدل على عظيم ألم هذا الرجل العظيم كما تدل على عظيم نبوغه وعظيم إيمانه بفنه وعلى طهارة نفسه وطيبة قلبه وحبه الناس، وتدل على أن هذه العواطف كانت في هياجة ثائرة كهذه الموسيقى القوية الثائرة التي نسمعها له في كثير من ألحانه وحتى في ألحانه الرقيقة اللحمة والسدا، قال:

يا أيها الذين ينظرون إليَّ أو يحسبونني حقودًا أو برمًا بالناس أو متطيرًا بالحياة، لشد ما تظلمونني، إنكم لا تعرفون السبب الخفي الذي يظهرني بهذا المظهر، فقد كان عقلي وقلبي متجهين منذ طفولتي إلى عاطفة رقيقة هي الطيبة، وكنت دائمًا مستعدًّا لأقوم حتى بعظائم الأعمال، لكن صوروا لأنفسكم بؤس حالي منذ ست سنين، هذه الحال التي زادها الأطباء الأغرار سوءًا والتي ما أزال أخدع في أمرها عامًا بعد عام آملًا في تحسنها، ثم أضطر آخر الأمر لأحسبها حالًا مزمنة يقتضي البرء منها — إن كان فيه أمل — سنين عدة، وقد يكون هذا البراء محالًا.

لقد ولدت ذا مزاج حاد نشيط مستعد لذوق مسرات الاجتماع ثم اضطررت وما أزال في أول عمري إلى عيش العزلة، وحاولت التغلب على ذلك فصدمتني التجربة الأليمة القاسية غير مرة وجددت عندي الإحساس بمرضي، ثم إني كنت مستطيعًا أن أقول للناس: ارفعوا الصوت وصيحوا فإني أصم، وكيف أستطيع أن أذيع ضعف حاسة كان يجب أن تكون عندي أدنى إلى الكمال منها عند الآخرين، حاسة كانت في الماضي بالغة من الكمال حدًّا لم يُتَحْ لقليل من أبناء فني أن يبلغوه، كلا! لا أستطيع، فاعذروني إذًا إن رأيتموني أعيش عيش العزلة بينما أريد أن أكون معكم وفي صحبتكم وشقائي مضاعف له ألمي أن كان سببًا للحكم عليَّ حكمًا قاسيًا، ولقد منعت من أن أجد الراحة والطمأنينة في الاجتماع بالناس وفي المحادثات الظريفة وفي العطف المتبادل، فأنا وحيد منقطع، لا أستطيع أن أجازف بنفسي في الجماعة، وما لم تكرهني على ذلك حاجة فيجب أن أعيش منفيًّا، فإِذا اقتربت من جماعة مَلَكَ على الاضطراب مجموع حواسي من خشية أن أتعرض لوقوف الناس على بيِّنة أمري.

ومن ثم أمضيت هذه الستة الأشهر في الريف، وقد طلب إليَّ طبيبي الفاضل أن يُعنَى بسمعي جهد الطاقة، وبلغ من ذلك أكثر مما كنت أرجو، ولقد شعرت غير مرة بالميل للاجتماع بالناس وتركت نفسي تنال مناها، ولكن أي مذلة أن أرى رجلًا على مقربة مني يسمع قيثارة من بعيد ولا أسمع أنا شيئًا، أو يسمع غناء الراعي ولا أسمع أنا شيئًا؟! ولقد قربت هذه التجارب بيني وبين اليأس حتى كدت أقضي بيدي على حياتي، لكنه الفن — نعم هو الفن وحده الذي استبقاني — أواه! لقد بدا لي أن من المحال أن أترك هذا العالم قبل أن أتم كل ما أحسست أني مطالب بأدائه، وكذلك أطلت في هذه الحياة البائسة، والبائسة حقًّا، لجسد سريع التهيج حتى لينقله أقل تغيير من خير الحالات إلى أسوئها … صبرًا، كذلك يقولون! وهو الصبر الذي يجب أن أختاره الآن مرشدًا وقد اخترته، وإني لأرجو أن تظل عزيمتي على المقاومة ثابتة حتى ترضى الآلهة بالقضاء على بقية حياتي، وإن يصلح الحال أو يسوء فإني لصابر، ألا ليس يسيرًا أن يُكرَه الإنسان — وما يزال في الثامنة والعشرين من العمر — على أن يكون فيلسوفًا، وذلك أشد قسوة برجل الفن منه بأي رجل آخر.

اللهم إنك لتستشف من سمائك حجب قلبي وتعرفه وتعلم أنه عامر بحب الناس والرغبة في عمل الخير، وأنتم أيها الناس إذا قرأتم يومًا هذا الذي أكتب فاذكروا كم كنتم ظالمين إياي، وإن الشقي ليتعزى إذا رأى شقيًّا مثله قام برغم كل ما ألقت الطبيعة في سبيله من عقبات بكل ما في جهده أن يقوم به كي يكون في صف رجال الفن والصفوة المختارين.

هيلجنستات في ١٠ أكتوبر سنه ١٨٠٢ — والآن وداعًا، وداعًا أسيفًا — إن الأمل العزيز الذي جئت به إلى هنا، هذا الأمل في أن أشفى ولو إلى حد يجب أن أيأس منه كل اليأس، وكما تتناثر أوراق الخريف وتذوي، كذلك هذا الأمل جف في نفسي وذوى، كما جئت إلى هنا أعود وقد فقدت حتى الهمة التي كثيرًا ما استندت إليها أيام الصيف الجميلة، أواه أيها القدر! هب لي أن أرى مرة واحدة يوم مسرة صفو، فما أطول الزمن الذي حبس عني فيه رنين المسرة الصادقة العميق! أواه متى يا رب؟ متى أستطيع أن أحس بها في معبد الطبيعة والناس … أبدًا، كلا، فذلك يكون أبلغ القسوة.

هيلجنستات في ٦ أكتوبر سنة ١٨٠٢
لدفج فان بتهوفن

لم تنشر هذه الوصية إلا بعد وفاة بتهوفن، لكنها تدل على مبلغ ما كانت تضطرب به نفسه حين كتبها من الآلام، وعلى شديد إيمانه مع ذلك بالفن، هذا الإيمان الذي جعله يستأخر الموت وإن كان في الموت راحة من شقوته وأوصابه، ويستأخره ليتم رسالته وإن عانى في سبيل إتمامها من الآلام ما لا قِبَل لغيره باحتماله، وكذلك ترى النوابغ حقًّا يستهينون في سبيل إبراز مواهبهم بكل ما يحرص الناس عليه وبكل ما يجزعون منه ويفرون، فبينا كان بتهوفن يكتم هذه الصيحات الفاجعة مكتفيًا بترجيعها في صدره بينه وبين نفسه، وبإثباتها على القرطاس لتكون سبيلًا إلى سلامه بعد موته، كان أخواه يستغلان ألحانه استغلالًا ماديًّا ما كان بتهوفن ليعنى به لولا حبه لأخويه حبًّا يتفق مع عظمة الفضيلة التي تفيض بها نفسه أناشيد وألحانًا قدسية سامية، وكثيرًا ما خاطبه أصحابه فيما يجني عليه أخواه من مساءات، فكان جوابه وهو يبكي: «لكنهما أخواي»، وما لأخويه وبكائه؟ إنه لهما مزرعة تستغل ومورد رزق فياض، كتب أحد أخويه لناشر طلب بعض قطع أصلية من ألحان بتهوفن وأناشيده: «ليس لدينا من ذلك الآن إلا لحن وعزيف كبير للبيانة وثمن كلٍّ ثلاثمائة فلورين، أفتريد ثلاث سونات للبيانة؟ نحن لا نستطيع أن نقبل فيها أقل من تسعمائة فلورين، على أن تسلم بعد خمسة أسابيع أو ستة؛ لأن أخي أصبح لا يُعنَى الآن بأمثال هذه التفاهات ولدينا …» وذكر بقية «البضائع»، وبتهوفن لا يفيد من ذلك المال كله إلا ما يقيم حياته المليئة بالآلام، فأما هذه الحياة التي يحتفظ هو بها للفن فليست في ملكه، لأنها هبة القدر للوجود كله في حاضره ومستقبله، هي قيثارة قدسية بعثتها يد العناية إلى هذا العالم لتنشد الناس كل ما أبدعت العناية في الخلق من نغمات، وإلى أن تُتِمَّ هذه الرسالة الواجبة عليها يجب أن يبقى صاحبها معذبًا شقيًّا، ويجب أن يستريح لعذابه ولشقوته، أو على الأقل يجب أن ينسيه إيمانه برسالته وانصرافه بكل وجوده لإبلاغها هذا الشقاء وهذا العذاب.

لكن المرأة هي البلسم والشفاء لعذابه أو لتسكينه، وقد عبثت جوليتا ببتهوفن عبثًا قاسيًا برغم ما كان من شديد تعلقه بها، فهل جفاه الحب بعدما جفته هذه اللعوب الأثرة المُحِبَّة لترف الحياة التافه أكثر من حبها لمجد العظمة الخالد؟ كلا! فما تزال لبتهوفن ساعات سعادة في الحياة ينعم بها برغم همه، وملاك هذه الساعات المخلص الطاهر هي تريز برنسويك.

وكان بتهوفن قد عرف تريز منذ أيامه الأولى في فيينا أن كان يعلمها البيانة، لكنه لم يتعلق بها يومئذٍ ولم يسر إلى قلبه خاطر الحب منها وإن اتصل بأخيها الكونت فرنسوا بصداقة متينة، فلما كانت سنة ١٨٠٦ وكانت جوليتا قد تزوجت منذ ثلاث سنين زار بتهوفن صديقه القديم في مارتنفاسار بالمجر، قالت تريز: «وبعد العشاء ذات مساء أحد جلس بتهوفن في ضوء القمر إلى البيانة ومر بيده على ملامسها، وكنت أعرف أنا وأخي ذلك منه، فكذلك كان يبدأ دائمًا، ولعب بعض تقاسيم على طبقات القرار، ثم انتقل من ذلك إلى لعب أغنية سباستيان باخ: إن شئت أن تهبيني قلبك فليكن ذلك أول الأمر في خفية حتى لا يستطيع أحد أن يحس مسارح أفكارنا المشتركة، ولعب هذا اللحن في وقار وهيبة، وكانت أمي وكان القسيس قد ناما، ونظر أخي إلى ما أمامه ذاهلًا، أما أنا فأخذتني نظرته وأخذني غناؤه وأحسست بالحياة كاملة، وفي صباح الغد تقابلنا في الحديقة فقال لي: أكتب الآن أوبرا أرى بطلتها في دخيلة نفسي وأراها أمامي حيثما ذهبت وأينما أقمت، وما أحسبني سموت يومًا هذا السمو، فكل ما أمامي ضياء وطهر ونور، وفي شهر مايو أصبحت مخطوبته بإقرار أخي فرنسوا وحده.» وظلت هذه الخطبة حتى سنة ١٨١٠ حين انفصمت عروتها وإن لم تنفصم عروة الحب بين الخطيبين اللذين عاشا به سعيدين حتى مات هو في سنة ١٨٢٧ وماتت هي وما تزال على عهده في سنة ١٨٦١.

وكان لهذا الحب في نفس بتهوفن وفي حياته الموسيقية أثر أي أثر، فاللحن الرابع الذي كتب في أول أعوام الخطبة زهرة تتضوع بشذا السكينة والخلود إلى صفو العيش مع الناس، وكذلك كانت الألحان التي كتبت في هذه السنوات أقل ثورة وأكثر ترنمًا بنعمة الحب والحياة، ومنها لحن الريف بأغاريد بلابله وأطياره وأغنيات شبانه وعذاراه، ولم يقف أثر الحب عند موسيقى بتهوفن بل تعدى إلى حياته فجعله محبًّا للتأنق في ملبسه ميالًا للاختلاط بالناس والتحدث إليهم حاضر النكتة ظريفًا، وبلغ من ذلك أن الناس نسوا صممه ولم يلاحظوا عليه إلا ضعف بصره الحاد النظرة، ومن ذلك العهد السعيد في حياة بتهوفن يحفظ التاريخ خطابًا يبث فيه لتريز ما يبعثه الحب المضطرم في النفس الثائرة من عواطف مضطربة متلاطمة، قال فيه:

يا ملاكي وكلي ونفسي، انظري في بدائع الطبيعة واطمئني إلى ما هو محتوم، فالحب يلح عدلًا في أن يكون له كل شيء، ذلك شأنه معي في أمرك، وهو شأنه معك في أمري، إن قلبي لمفعم بما أريد أن أبثك إياه، أينما كنت فأنت معي، إني لأبكي حين أذكر أنك لن تقفي على أول أخباري قبل يوم الأحد على الغالب، إني أحبك كما تحبينني بل أقوى وأشد، إلهى، أية حياة هذه من غيرك! فأنت قريبة بعيدة، وأفكاري تتدافع نحوك يا محبوبتي الخالدة وهي سعيدة طورًا حزينة تارة تسائل القدر هل هو سيرعانا؟

أنا لا أستطيع العيش إلا معك وإلا فلا عيش لي، ولن ينال غيرك قلبي أبدًا، أبدًا! لم يجب يا رب أن يبتعد متحابان كل عن صاحبه، على أن حياتي إنما هي الآن حياة أحزان، ولقد جعلني حبك في نفس الوقت أسعد الناس وأشقاهم، اطمئني، اطمئني، وأحبيني اليوم وبالأمس، ما أعظم تطلُّعي إليك! وما أكثر دموعي من أجلك أنت! أنت أنت يا حياتي، يا كلي وداعًا، وأقيمي على حبي ولا تنسي أبدًا قلب حبيبك بتهوفن، لك إلى الأبد، لي إلى الأبد، لنا إلى الأبد.

وهذا الخطاب كوصيته وجد في أوراقه بعد موته، ولعله كتبه في آخر سنوات خطبة تريز له، ففيه من اليأس أكثر مما فيه من الرجاء، وهذه العبارة التي يسائل فيها القدر هل هو سيرعاهما تنبئ عن بداية انحلال الخطبة، على أن قلبه وقلبها ظلا عامرين بهذا الحب إلى آخر حياتهما، فمن كلمات بتهوفن في سنة ١٨١٦: «يدق قلبي كلما ذكرتها بنفس القوة التي دق بها حين رأيتها لأول مرة.»

وفي هذه السنة عينها، سنة ١٨١٦، وضع الأنغام الأربع البديعة: «إلى العزيزة المحبوبة النائية» وكتب في مذكراته: «يفيض قلبي لمشهد هذه الطبيعة البديعة وهي مع ذلك ليست هنا إلى جانبي.» وكانت تريز قد أهدت إليه صورتها وكتبت عليها هذا الإهداء: «إلى النابغة الفذ والفنان العظيم والرجل الطيب.» وقد دخل صديق على بتهوفن في آخر سنة من سني حياته فألفاه يقبل الصورة ويبكي ويناجي نفسه بصوت رفيع: «لقد كنت جميلة، وكنت عظيمة، وكنت كالملائكة الأطهار.» وبلغ من شدة تأثره لفراق تريز أن كتب يومًا إلى أحد أصدقائه: «أيها المسكين بتهوفن — محدثًا عن نفسه — ليس لك في هذا العالم حظ من السعادة، إنما حظك منها في رحاب المثل الأعلى، فلك فيه أصدقاء.» وكتب في مذكراته «إسلامًا! وإسلامًا تامًّا لحظك، أنت لم تعد تستطيع أن تعيش لنفسك وإنما تعيش لغيرك، ولم يبق لك من نعيم في غير فنك، اللهم هبني قوة الانتصار على نفسي.» هذا ولم تفتأ تريز تذكر بتهوفن إلى آخر حياتها، فكيف انفصمت الخطبة ولم يجمع بينهما الزواج؟ ذلك ما لم يقف عليه أحد، ولعله كان لفقر بتهوفن واختلاف مكانته مع مكانة تريز الاجتماعية، ولعله كان لطبع بتهوفن الحاد القاسي السريع إلى التطير والذي لا تهون الحياة البيتية معه.

على أنه كان قد وصل في سنة ١٨١٠ إلى أوج قوته وجلس على عرش مجده، وكان يحس هذه القوة ولا يتواضع بسببها، رأته بتينا برنتانو المغرمة بمعرفة عظماء الألمان في سنة ١٨١٢ لأول مرة، ولم تكن في حاجة إلى أكثر من مرآه وسماع حديثه حتى سحرت به وقالت: «ليس في العالم ملك ولا إمبراطور له مثل هذا الشعور بقوته.» ثم كتبت إلى جيتي تقول: «لما رأيته لأول مرة انمحى الوجود كله من أمامي، ولقد أنساني بتهوفن العالم وأنساني إياك يا جيتي، وما أظنني مخطئة أن أؤكد أن هذا الرجل يسبق المدنية الحديثة بمراحل.» وأراد جيتي أن يعرف بتهوفن فتقابلا في حمامات بوهميا بتوبلتز في ذلك العام نفسه لكنهما لم يتفاهما، فخُلق بتهوفن العنيف الحر لا يتفق مع خلق جيتي الرقيق الوادع، ذكر بتهوفن نزهة لهما كان فيها قاسيًا كل القسوة مع دوق فيمار، قال في خطاب بعث به إلى بتينافون أرنم:

يستطيع الملوك والأمراء أن يخلقوا الأساتذة والمستشارين وأن يغرقوهم في الرتب والألقاب، لكنهم لا يستطيعون أن يخلقوا الرجال والأذهان التي تسمو على المجاميع، فإذا اجتمع رجلان مثلي أنا وجيتي وجب على هؤلاء السادة أن يحسوا بعظمتنا، ولقد تقابلنا أمس حين عودتنا في الطريق مع العائلة المالكة كلها، وكنا قد رأيناهم من بعيد فانتزع جيتي نفسه من ذراعي ليقف على حافة الطريق، وعبثًا قلت له كل ما أردت أن أقوله فلم يزحزحه ذلك خطوة واحدة عن موقفه، عند ذلك كبست قبعتي في رأسي وزررت ردنجوتي وسرت وذراعي وراء ظهري وسط الجموع الكثيفة، وأفسح الأمراء والحاشية لي طريقًا ورفع لي الدوق رودلف قبعته، وكانت الإمبراطورة أول من حياني، فالعظماء يعرفونني، أما جيتي فمر أمامه الجمع وهو في مكانه على حافة الطريق منحنٍ أشد الانحناء وقبعته في يده، وقد لمته أشد اللوم بعد ذلك، لم أغتفر له قط تصرفه.

ولم ينسَ جيتي له هذه المساءة وظل بينه وبينه ما كان بين فولتير وروسو في آخر حياتهما، قال جيتي لزلتر: «بتهوفن شخصية لا سبيل مع الأسف إلى تألفها، وقد لا يكون مخطئًا إذ يرى العالم كريهًا، لكن خلته في الحياة ليست هي الوسيلة التي تجعل العالم حلوًا له ولغيره، على أن من الواجب أن نعذره وأن نشفق عليه، فهو أصم.» على أن كراهية جيتي لم تمنعه من الإعجاب ببتهوفن ومن تقديسه وإن جاهد لإخفاء ذلك طاقته، ذكر مندلسن أن جيتي سمع أحد ألحان بتهوفن فحاول إخفاء إعجابه قائلًا: «هذا لا يمس القلب ولكنه يثير الدهشة.» ثم لم تمضِ لحظات حتى غلبه اللحن وجماله، فلم يتمالك أن قال: «هذا بديع وعظيم وفوق العقل، إني لأحس كأن البيت سينطبق عليَّ.» وبعد أن كان لا يريد أن يسمع اسم بتهوفن جعل يسأل عن أمره.

وكان الدوق رودلف الذي أشار إليه بتهوفن أحد التلاميذ القليلين ممن رضي هو أن يكون أستاذًا لهم، وبرغم إعفاء الدوق إياه من تكاليف البلاط ونظامه فقد كان يشكو مما بقي مضطرًّا له بداعي المجاملة من هذه التكاليف، ومن طريق الدوق رودلف عرف كثيرين من الأمراء وأعضاء البيت المالك الذين لم يكونوا يأبهون للعظماء، أمثال هايدن وموزار، وإن بقي لديهم شيء من العطف على البائس بتهوفن، وزادوا عليه عطفًا حين بدأ نجم نابليون يأفل، فإن بتهوفن لم ينسَ خيانة هذا الجمهوري الذي اتخذ الشعب سلمًا للإمبراطورية، فلما انتصر الإنجليز عليه في موقعة واترلو وضع بتهوفن لحنًا لانتصار ولنجتون مجَّده فيه كما مجد حروب الاستقلال التي أقامتها أمم أوربا ضد فرنسا، وفي أوائل سنة ١٨١٤ وضع لحنًا حربيًّا عن «بعث ألمانيا» فلما انعقد مؤتمر فيينا على أثر هزائم نابليون كان بتهوفن في ذروة عظمته وقوته، فشارك في أعياد المؤتمر على أنه عنوان من عناوين مجد أوربا، ورأس في ٢٩ نوفمبر سنة ١٨١٤ الأوركسترا التي لعبت أمام ملوك العصر نشيده عن «ساعة المجد» فلما سقطت باريس في سنة ١٨١٥ وضع نشيدًا جعل عنوانه «انتهى كل شيء»، وكذلك ظهرت قوته ومقدرته وظهر خلقه المثابر وبطشه وجبروته، هذا الجبروت الذي أباح له بعد موقعة يينا — إحدى مفاخر نابليون — أن يقول: «من سوء الحظ أني لا أعرف الحرب كما أعرف الموسيقى، إذًا لهزمته.»

وكان حظ بتهوفن مذبذبًا، فما تكاد آونة طمأنينته تطول به زمنًا حتى تعقبها آونة شقاء أطول منها وتعدل مرارتها أضعاف حلاوة تلك الآونة، فكما تخلى عنه الحب مرتين تخلت عنه فيينا بعد هذا المجد والسلطان لمجرد انتهاء أعياد النصر، وبلغ أن فكر في هجرتها برغم ما كان من اتفاق الدوق رودلف تلميذه والبرنس لوبكرفتز والبرنس كنسكي منذ سنة ١٨٠٩ إذ رتبوا له معاشًا أربعة آلاف فلورين على أن يظل في النمسا ليظل فخرًا لها، وبرغم ما كان من عدم وفائهم كل الوفاء فإنه سُرَّ بهذا الاعتراف بمجده، فلما مرت أعياد النصر عكف من جديد على العمل، لكن الصمم كان يزداد حتى كان تامًّا في سنة ١٨١٦، وبذلك أصبح بتهوفن لا يسمع موسيقى ولا يسمع لحنًا ولا نشيدًا إلا في دخيلة قلبه.

وكم لاقى بسبب ذلك من عناءٍ وهمٍّ، فقد أراد أن يدير أوبرا فدليو في سنة ١٨٢٢، وكان جليًّا منذ الفصل الأول أنه عاجز عن هذه الإدارة كل العجز، فقد كانت عصاه بطيئة، فكانت الآلات الموسيقية بطيئة معها، لكن المغنين لم يكونوا يستطيعون اتباع هذه الموسيقى فكانوا يسرعون، وحصل اضطراب اضطر معه مدير الجوق العامل إلى إيقاف التمثيل، ثم عاد بتهوفن إلى الإدارة وعاد التمثيل إلى الاضطراب، قال صديقه الدكتور شندلر: «ولم يقوَ قلب أحد على أن يدفعه ليقول لبتهوفن: تنحَّ أيها البائس فأنت عاجز عن الإدارة، ووقف التمثيل للمرة الثانية فوقف بتهوفن ينظر في كل ناحية يريد أن يعرف سبب الاضطراب، ولما لم يفهم شيئًا ناداني إليه ومد إليَّ كراسته لأكتب له، فكتبت: أرجوك ألا تستمر وسأفسر لك في البيت سبب ذلك، فما هو إلا أن قفز صائحًا بي: فلنعجل بالخروج، وجرى إلى بيته بكل ما مكنته قواه وهناك ارتمى على مقعد وسند بيديه وجهه وجلس حتى ساعة الطعام لا ينطق بكلمة، وساعة الطعام ظل صامتًا وعلى وجهه أثر الألم الفاجع والانحلال الأليم، فلما كان بعد العشاء وأردت أن أتركه رجاني أن أصحبه إلى طبيب كان معروفًا بأنه من خير أطباء الآذان … وفي كل ما تلا ذلك من صلاتي ببتهوفن لم أر يومًا اليوم القاسي من أيام نوفمبر، وقد بقي هذا المشهد الأليم طعنة في قلبه حتى فاجأته منيته.»

وفي سنة ١٨٢٤ كان حاضرًا تمثيل رواية على موسيقاه، ولما انتهت الموسيقى صفق الناس أشد التصفيق فلم يسمع شيئًا ولم يعرف من أمر إجلال الناس لقطعته إلا بعد ما أمسكت مغنية بيده وأدارت وجهه إلى ناحية الجمهور ليرى الأيدي المصفقة والقبعات التي تهتز في الأيدي علامة الإعجاب والثناء.

وعاون بؤس الصمم وألم المرض ما وقع فيه من حاجة وإعواز، فهذا الذي كان يفرض أخوه أثمان ألحانه على الناشرين فرضًا وصل في أخريات أيامه ليكتب هذه العبارة لأحد تلاميذه: «أكتب هذه (السونات) في ظروف شاقة، فمن المحزن أن يضطر الإنسان للكتابة كي يحصل على الخبز، وهذا هو حالي اليوم.» وكتب في مذكراته الخاصة: «لقد صرت حتى أكاد أتكفف الناس.» وقال عنه أحد معاصريه وأصحابه إنه كان لا يستطيع الخروج من بيته في بعض الأحيان بسبب ثقوب حذائه.

وفي هذه الأيام الأخيرة كان لا يأنس إلى الناس ولا يعرف غير الطبيعة، فكان يُرَى هائمًا في الغابات والأحراش، وليس له هم إلا تدوين الأنغام والألحان لا يحول بينه وبين ذلك حر ولا قر ولا مطر ولا ثلج، قالت تريزدي برنسويك: «كانت الطبيعة صديقه الوحيد.» وكانت كل مذكراته تفيض هيامًا بهذا الوجود المطلق الحر تمام الحرية، والذي تتجلى فيه عظمة الخالق وقوته؛ ولذلك كانت موسيقاه تفيض بمعاني الطبيعة فيضًا حتى لكأنما بلغ من شدة هيامه بها أن صار قوة من قواها أو أنه «ملك روحها» على حد تعبير صديقه شندلر، كتب الموسيقى الكبير شومان يصف أثر أحد ألحان بتهوفن في نفسه: «مهما يتكرر سماع الإنسان لهذا اللحن فإنه مؤثر فينا بنفس القوة التي أثر بها من قبل، فهو كالظواهر الطبيعية التي تملؤنا دائمًا خوفًا ودهشة مهما تكرر حدوثها.»

ولعل بتهوفن كان محبًّا للطبيعة، لأنه من روحها لا لأنه ملك هذا الروح، ولذلك كانت حياته — ككل ما في الطبيعة — حياة نضال لا يعرف اليأس، وعمل لا يعرف الكلال، وتجدد لا يعرف الجمود، فما كان المرض ولا الصمم ولا خيبة الحب ولا الفقر الذي بلغ الإعواز بمانع له من أن يتم في عالم النغم رسالته، أوتدري ما هذه الرسالة التي كان يجاهد في سبيلها خلال ما أثقل حياته من كوارث وأحزان؟ كانت رسالته بعث المسرة على الأرض، فكأنما كان القيثارة العتيقة المحطم كثير من أجزائها والتي بالغ الصانع في إتقانها، فما تزال مبعث أحلى الأنغام وأبدعها، ولقد كان بتهوفن يؤمن برسالته هذه كل الإيمان، ومنذ ظهرت بوادر نبوغه في الموسيقى فكر في تبليغها للناس عن طريق الألحان ففكر فيها وما يزال في يونيو سنه ١٧٩٣، وكانت نهاية أمله أن يتوج أحد أعماله الموسيقية الكبرى بلحن المسرة، وكان ذلك دأبه وهو في أشد حالات العذاب والألم، لكنه كان يتردد دائمًا أن لم يكن شيء مما وضعه ليكفي مقنعًا لصورة المسرة عنده، وظل ذلك شأنه حتى السنوات الأخيرة من حياته حين وضع اللحن التاسع، حينئذٍ وفق لهذا النشيد الذي يرجوه، ولكن أي توفيق وأية عظمة!

قال أحد الكتاب يصف هذا النشيد البديع الذي يختم اللحن التاسع: «ساعة تبدأ آية المسرة تبدو يقف الأوركسترا فجأة ويسود المسرح سكون تام يخلع على مطلع النشيد معنًى قدسيًّا رهيبًا، وذلك حق، فهذا النشيد إله وحده، ثم تهبط المسرة من السماء تحيط بها طمأنينة الخلد فتسكن الآلام بريحها الناعم تجري إلى القلب جريان البرء في فؤاد المريض، ثم تسمو بعد ذلك في صور من الجد المهيب رويدًا رويدًا حتى تملك المسرة النفس وتغزوها وتعلن فيها حربًا على الألم عوانًا، ثم إذا الألحان تحرك في النفس جنود السرور تحسها فوق هذه الصحف المرتعشة فكأنما ترى نبض بتهوفن القوي وشدة تنفسه وصيحاته الملهمة حين كان يجوب المزارع ويضع لحنه وكأنما ملكته قوة الشياطين، وتعقب مسرة الحرب مسرة الروح مسرة بالإيمان، ثم تجيش بالنفس مسرة مقدسة هي مسرة الحب، ثم ترى إنسانية مرتعشة تمد أذرعها للسماء صائحة صيحات قوية مندفعة إلى المسرة تضمها إلى قلبها.»

هذه القوة العجيبة التي تبدو في أكثر ألحان بتهوفن والتي بدت في لحن المسرة مضاعفة، جعلت كثيرين يذهبون إلى أن ملكه في الموسيقى يقف عند الضخم منها والأليم، قال هيبوليت تين ردًّا على هذا وتحليلًا لموسيقى بتهوفن عامة: «نعم إنه صاحب هذا الملك من أراضٍ جرداء تهب فيها الأعاصير وتعصف فيها العواصف بأصواتها الصاخبة القوية، وهذه المملكة لم يُتَحْ لغيره من الموسيقيين أن يدخلها، لكنه يعيش كذلك في ملك آخر، فأفخر ما في الريف الناضر وأكثره رواء وبهجة، وأعذب ما في الوديان الظليلة وأكثره ابتسامًا، وأشد ما في ضياء الفجر أول مطلعه رقة وبكورة — هذا كله كذلك في ملكه، لكنه لا ينال من ذلك كله ما يناله مطمئن النفس، بل تهز المسرة كل وجوده كما يهزه الألم! وشعوره باللذة بالغ غاية القوة، فهو ليس سعيدًا، ولكنه في بهر، فمثله مثل رجل قضى ليلة نابغية وخرج منها مضطربًا كليمًا متوقعًا يومًا شرًّا منها، فإذا به يرى فجأة مشهد صباح سعيد، إذ ذاك تضطرب يده ويتنفس الصعداء من أعماق صدره وتعود كل قواه الجسمية المنحلة فتسترد سلطانها، ويصبح في نهله من النعيم أشد اندفاعًا مما كان حين استسلامه لليأس.»

ولما اطمأن له نشيد المسرة واطمأن هو إلى نجاحه فيه، هانت عليه أحزانه وآلامه وهان عليه فقره وإن ظل يعاني من بأسائه شر ما يعانيه إنسان، ولعل لهذا الفقر صلة بتلك الثروة التي كان أخواه يقتضيانها من الناشرين، فقد مات أحدهما تاركًا من ورائه ولدًا أحبه بتهوفن بهذه القوة التي كان يندفع بها إلى كل شيء، وسار الفتى سيرة سيئة لم يصلح منها حب عمه إياه ولا مداومته نصيحته، وكان هذا الفتى كثير الاستدانة، فكان بتهوفن في فرط حبه له يعمل جهد طاقته لسداد ديونه، وسافر بتهوفن في خريف سنة ١٨٢٦ يبحث عن وسيلة يوطد بها مستقبل ابن أخيه هذا، فلما عاد في أواخر نوفمبر سنة ١٨٢٦ أصابه برد أمرضه، ولم يكن أحد من أصدقائه حاضرًا ليعنى به، فكلف الفتى أن يبحث له عن طبيب، فنسي مدى يومين ثم جاء الطبيب وعالج بتهوفن علاجًا سيئًا، وقد استطاع بقوة بنيته أن يقاوم المرض ثلاثة شهور تباعًا، لكنه ضعف بعدها ضعفًا أضاع الأمل في شفائه، ولولا كرم بعض الإنجليز من أصدقائه لقضى آخر أيامه في بؤس وشقوة ليس كمثلها بؤس ولا شقوة.

ثم جعل ينتظر في صبر وسكينة «ختام المهزلة» حتى يوم ٢٦ مارس سنة ١٨٢٧، إذ عصفت عاصفة وهطلت ثلوج وأرعدت السماء وهاجت من الطبيعة أصوات موسيقاها المهوبة المخيفة، وعلى موج هذه الأصوات طارت روح بتهوفن إلى عالم الخلد، وكان عمر بتهوفن يومئذٍ ستًا وخمسين سنة وثلاثة أشهر وتسعة أيام، فلما آن لجثمانه أن ينقل إلى مقره الأخير شيعه ثلاثون ألفًا ولبست فيينا عليه الحداد، ودفن في مقبرة وارنج، وما يزال قبره إلى اليوم فيها وعليه هذا الكلمة الوحيدة الخالدة: بتهوفن.

وكذلك قضى من كان يرى الموسيقى إلهامًا أسمى من الحكمة ومن الفلسفة ويتمثل أفكاره في عزف الآلات أكثر مما يتمثلها في ألفاظ الناس. وكذلك قضى «باكوس يستصفي للإنسانية الرحيق العذب ويجلي عليها أقدس ما في الروح من جلال»، قضى ونقل إلى قبره حيث خط اسمه، لكن روحه الماثل في ألحانه وأناشيده وعزفاته ما يزال باقيًا ولن يزال، وهل الروح الخالد إلا العمل يترك به صاحب في العالم أثرًا خالدًا؟! وهل أثر أخلد من موسيقى بتهوفن؟! أو هل أكثر منها سحرًا وقداسة؟!

واليوم يحتفل العالم بمرور مائة عام إجلالًا لألحانه القدسية السامية، فيؤدي بعض دين الشكر الواجب على العالم لكل من زاد حياته جمالًا وفضلًا وقوة.

(كتبت في ٢٦ مارس سنة ١٩٢٧ لمناسبة مرور مائة عام على وفاة بتهوفن).

هوامش

(١) البيانو على نحت الأستاذ مصطفى صادق الرافعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤