هبوليت أدولف تين

احتفلت فرنسا منذ أيام بمرور مائة عام على مولد الفيلسوف الكاتب الفرنسي الكبير هبوليت أدولف تين، فقد ولد بفوزييه في الحادي والعشرين من أبريل سنة ١٨٢٨ أي منذ مائة سنة مضت، وإذا لم يكن قد مضى على موته إلا خمس وثلاثون سنة — إذ مات بباريس في الخامس من مارس سنة ١٨٩٣ — فإن الآثار التاريخية والأدبية والفلسفية التي خلفها تجعله حقيقًا منذ اليوم بأن يسجل في ثبت الخالدين، وتجعل حقًّا له وواجبًا على وطنه فرنسا أن يشيد بذكره بين من يشيد بذكرهم من عظماء تلك البلاد، بل إن هذه الآثار لتجعله حقيقًا منذ اليوم بأن يذكره العالم كله بين الرجال الذين كانوا قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم، نقله ونقل تفكيره خطوة جديدة وفتح أمامه من أسباب البحث سبلًا إن يكن غيره قد ترسمها من قبل فإن أحدًا سواه لم يرسمها ولم يخططها بالقوة والدقة والمهارة التي رسمها وخططها بها تين، ويكفي ليقدر القارئ مدى هذا الأثر العميق الذي تركه تين في تفكير العالم أن يسمع من كثير، حتى من الذين تناولوا تين وتفكيره بالنقد، أنه كان أكبر أثرًا في نشر الفلسفة الواقعية (البوزتفزم) من صاحبها أوجست كومت نفسه، وإنه إلى جانب تثبيته قواعد هذه الفلسفة الوضعية في ذهن أهل عصره والعصور التي خلفته قد فتح لها ميادين جديدة في الفن وفي الأدب وفي الشعر وفي كل نشاط العقل الإنساني والنفس الإنسانية بما جعل للعلم الوضعي وللفلسفة الوضعية من متانة الأركان ما لا يزال حتى اليوم وطيدًا قويًّا غاية القوة برغم موجات الروحية والتيوزوفية وغيرها مما سبق الحرب وشجعته الحرب، ومما لا يستطيع أن يقاوم — حتى في ميادين الفلسفة البحتة — تيار العلم الجارف الذي يدل الناس كل يوم على أن العلم إذا أخطأ في تقرير نتائج معينة لأن الاستقراء أو الملاحظة أو التجارب لم تكن كاملة حين تقرير هذه النتائج، فالعلم وحده هو القدير على إصلاح هذا الخطأ من طريق الاستقراء والملاحظة والتجارب وما يترتب على هذه من تبويب ينتهي إلى استنباط القوانين العلمية الصحيحة التي يمكن أن تكون أساسًا لارتكاز الفلسفة الواقعية الصحيحة.

رجل هذا أثره في التفكير الإنساني لا يمكن لوطنه إلا أن يعترف له بالمجد وأن يذكره لكل مناسبة، ولا يمكن للعالم أن ينسى له فضله على التفكير الإنساني وتوجيهه فلسفته في فترة خاصة من حياة هذا التفكير.

على أن لتين إلى جانب هذا الفضل العلمي العظيم فضلًا آخر لا يقل عنه، بل يريد بعضهم أن يذهب إلى أنه يفوقه، ذلك هو فضله ككاتب، فهذا الرجل الذي حاول ونجح في محاولته هدم الفلسفة الكلامية التي كان الأستاذ فكتور كوزن عميدها في عصره، والذي حاول ونجح في أن يقر إلى جانب التفكير الواقعي Postive المذهب الجبري “determinisme” وأن يطلق هذا المذهب على الإنسان ويخضعه له بمقدار ما تخضع له الأفلاك والموجودات كلها، هذا الرجل كان صاحب أسلوب في الكتابة له من البهر ما يسحرك كما تسحرك قطعة من الموسيقى أو لحن من الغناء، حتى ليدعوك إلى أن تعود إلى قراءة الصفحة مرات، وحتى ليترك في ذاكرتك صحفًا معينة تود الوقت بعد الوقت أن تعود إلى قراءتها وترديدها بصوت عالٍ لتسمع إلى ألحانها كما تسمع إلى ألحان أوركسترا بتهوفن، وإني لأذكر الآن على ذكر اسم بتهوفن فصلًا له في كتابه (مذكرات عن باريس Notes Sur Paris)، فصلًا عنوانه (خلوة Une tete à tete) وصف فيه إيقاع ألحان بتهوفن وصفًا ما أزال ولن أزال ألذ لقراءته ولترديده لذتي سماع ألحان هذا الموسيقي في سمفونية الريف التي أحبها ولا أشبع من سماعها، وليس هذا الفصل الذي ذكرت إلا واحدًا من كثير من الفصول ومن الكتب ومن المطولات التي كتبها تين والتي لا تفتأ ترد إلى الخاطر وتتردد في خلايا الذاكرة كلما ذكر الإنسان النغم الحلو الساحر في تعبير الكتَّاب في أية لغة من اللغات.
ولعل أروع ما كتبه تين في هذه الناحية الأدبية هو ما كتبه في الوصف والسياحة، فكتابه الذي ذكرت لك عن باريس، وكتابه «مذكرات عن إنجلترا» وكتابه عن جبال البرانس، وكتابه عن رحلته في إيطاليا، هذه كلها كتب بلغت فيها براعة الوصف مبلغًا قل أن يجاريه فيه كاتب، ولقد ذكرت لك هذه القطعة عن موسيقى بتهوفن، وأنت تعلم أن الكاتب إذ يكتب مثل هذه القطعة إنما يعتمد على ذاكرته، وذاكرة السمع هي التي كانت تحرك قلم تين حين وصف الموسيقى، مع ذلك فلم تكن ذاكرة السمع أقوى ذاكرات تين، بل لقد ذكر لنا هو نفسه في كتابه De l’Intelligence أن أقوى ذاكراته ذاكرة الألوان، وأن المنظر الذي تقع عليه عينه تختزنه ذاكرته أكثر مما تختزن أية صورة تتصل بإحدى الحواس الأخرى، فإذا كان ما ذكرت لك عن سونات بتهوفن هو بعض ما وعت ذاكرة السمع عند تين، فلك أن تقدر بعد ذلك كيف كان وصفه لما وعته ذاكرة المرئيات وألوانها عنده، وكيف استطاع بأسلوبه المتموج الزاهي الشديد الحركة والحياة أن يثبت الألوان المختلفة التي اختزنتها ذاكرته في سياحاته الكثيرة.

وليس فضل تين مقصورًا على فلسفته وعلى أدبه، فهو إلى جانب ذلك مؤرخ من أكبر المؤرخين الفرنسيين، أقول المؤرخين الفرنسيين ولا أقول مؤرخي فرنسا؛ لأنه لم يقتصر على كتابة تاريخ بلاده، وإذا كان كتابه «أصول فرنسا الحديثة» الواقع في اثني عشر جزءًا هو من أمهات كتب التاريخ الفرنسي، وكان يتناول عصر ما قبل الثورة كما يتناول عصر الثورة والعصور التي بعدها، فإنه قد تناول إلى جانب هذا التاريخ بحوثًا أخرى في التاريخ القديم وفي التاريخ الحديث، وتناولها كما تناول كل مباحثه على طريقته الخاصة التي سنعرض فيما بعدها لها، وتناولها بدقة في البحث وبدقة في العبارة وقوة في الأسلوب جعلت له كل هذه المكانة التي كانت له في عصره، وكل هذا المجد الذي يشهد له به اليوم حتى ألد خصوم نظرياته، ويكفي أن يطلع الإنسان على كتابه «تاريخ الآداب الإنجليزية» ليقدِّر مدى ما لهذا الكاتب من سعة اطلاع ودقة بحث وعمق تفكير شهدت كلها له بأن قليلين من الإنجليز أنفسهم هم الذين تناولوا بحث آداب لغتهم بهذه السعة والدقة والعمق، فأما مباحثه التاريخية الأخرى، ومباحثه التي مزج فيها التاريخ بالأدب فتزيدك بهرًا ودهشة، اقرأ «تيت ليف» وعصره من عصور التاريخ الروماني، اقرأ «لافونتين وأقاصيصه»، اقرأ كتبه الثلاثة «رسائل في النقد وفي التاريخ»، ثم سائل نفسك كيف كان يصنع هذا الرجل ليحيط بكل هذه الأشياء خبرًا؟ وكيف كان يصنع ليمحصها كل هذا التمحيص؟ كان يصنع ليكتب، وكيف كان يصنع ليؤدي كل هذه الأعمال، وليؤديها بهذا الجمال وبهذه الدقة وبهذه القوة؟!

ورسائله في النقد والتاريخ قد جعلت منه نقادة معترفًا بفضله وبسلطانه، وقد أقامت له مذهبًا في النقد يتسق مع مذهبه في الأدب وفي التاريخ وفي الفلسفة وفي كل ما تناول من مباحث، وعندي أن مذهبه في النقد أقرب إلى الدقة من كل مذهب سواه، فهو أشد المذاهب إمعانًا في «الموضوعية»، هو إذا عرض لكتاب أو لمؤلف لم يعرض له من جهة تقديره الشخصي للكتاب أو لصاحبه، ولكن بعد تحليل كل ما أحاط بالمؤلف ومؤلفه من ظروف، وبعد مقارنة هذا المؤلف بكل ما يستطيع مقارنته به ممن عاصره ورمى إلى مثل غرضه، ولست أدرى إذ أقول إن مذهبه أقرب إلى الدقة من كل مذهب سواه، أأنا متأثر بتقدير ذاتي أم بذكريات خاصة، فلقد قرأت كتبه في النقد والتاريخ منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة وتركت في نفسي من الأثر ما لم تتركه كتب أناتل فرانس «الحياة الأدبية» وما لم تتركه كتب أستاذ النقد الكبير سنت بيف نفسه، ولست أشك في أن كثيرين قد يتذوقون نقد جول لمتر أو فاجيه أو بورجيه أو بول سوداي أكثر من تذوقهم نقد تين، وربما كان حكمي أنا أيضًا يتغير لو أن الظروف التي أحاطت بقراءتي تغيرت، لكني ما أزال أسير حتى اليوم حين أعرض لقراءة كتاب وحين أفكر في نقده — ولو لنفسي ومن غير أي فكرة في الكتابة عنه — على الطريقة التي أحبتها نفسي منذ قراءة كتب تين.

لتين إلى جانب هذه الميادين الكثيرة ميدان آخر لم يقتصر على التأليف فيه، بل كان فيه — كما كان في بعض الميادين الأخرى — مدرسًا أيضًا، ذلك ميدان الفن الجميل، ولقد كان تين موسيقيًّا، فلا عجب إذا هو تحدث أو كتب عن الفن الجميل، لكنك إذ تقرأ كتابه «فلسفة الفن» تراه يحلل الفن وصوره وتماثيله بالطريقة عينها التي يحلل بها المسائل النفسية والمسائل المادية ويخضع الصور والأنغام لقواعد الجبرية التي يخضع لها كل ما في الوجود من سماوات وأفلاك وكائنات، أليست الفنون بعض ثمرات الإنسان، «والإنسان ثمرة وسطه» على ما يقرر تين غير مرة وفي غير موضع؟ والوسط الذي يعيش فيه الإنسان ليس خاضعًا له ولكنه خاضع لعوامل طبيعية وتاريخية لا قبل له بها ولا سلطان له عليها، إذًا فالفن ثمرة محتومة لهذه العوامل، ويمكنك أن تفسره وأن تفهمه بشرح هذه العوامل، كما يمكنك ببسطها أن تفسر وأن تفهم أي عمل من أعمال الإنسان.

ولكن ليس معنى أن «المرء ثمرة وسطه، أو بيئته إن شئت» أن الناس يتساوون فيما بينهم كما يتساوى ثمر الشجرة الواحدة، بل إن ثمر الشجرة الواحدة لا يتساوى، فمنه الكبير والصغير ومنه الصالح والفاسد، والناس كذلك منهم الصغير والكبير والصالح والفاسد، وأنت تستطيع أن تعرف الفرق بين ثمر الشجرة بأن تشقه وأن تصل إلى دخيلته، فكيف تستطيع أن تصل إلى دخيلة الرجل لترى مبلغ ما يختلف أولئك المتشابهون من ثمر الوسط الواحد تشابه ثمرات الشجرة الواحدة واختلافها؟ الأمر هين يدلك عليه تين في مختلف من مواضع كتبه، ويدلك عليه بنوع خاص في كتابه عن «الذكاء» ويفرد له مقدمة الطبعة الأخيرة من تاريخ الأدب الإنجليزي التي طبعت سنة ١٨٩١.

فكل مظاهر الرجل وكل أعماله وكل مطامعه ومشاعره هي المسالك إلى دخيلة نفسه، فإذا أنت أردت على هذه الطريقة نفسها أن تعرف تين حق المعرفة فيجب أن تعرف كل مظاهره وكل أعماله، وكم كنا نود لو استطعنا القيام بهذا البحث في هذه العجالة القصيرة عن حياة ذلك الرجل العظيم، لكنا مع ذلك نكتفي بالقليل الذي أتاحت لنا الظروف أن نعرف عنه عن الكثير الذي لا سبيل إلى معرفته غير الانقطاع لدراسة تين وحياته وكل كتبه دراسة ذاتية لا تتسنى إلا لأستاذ في الفلسفة أو في الأدب الفرنسي، ولعلنا في هذا الاكتفاء بالقليل الذي نعرف لا نغمط تين حقه، ثم لعلنا لا نعدو بعض مباحثه التاريخية في النقد، فأمامنا بعض الشيء عن حياته، وأمامنا مؤلفاته الكثيرة، وهي صورة نفسه وخلاصة حياته، وأمامنا إلى جانب هذا أسلوبه، والأسلوب — على ما قال تين — هو الإنسان.

•••

ولد هبوليت تين إذًا بفوزييه بمقاطعة الأردن في فرنسا في ٢١ أبريل سنة ١٨٢٨ من عائلة رقيقة الحال، وكان لأبيه جان باتيسيت تين اتصال بالقضاء؛ لذلك استطاع تين أن يتلقى عليه تعاليمه إلى جانب دراساته بمدرسة مسيو بيرسن الصغيرة حتى بلغ الحادية عشرة من عمره، وإذ ذاك مرض أبوه فأرسل به في سنة ١٨٣٩ إلى مدرسة دينية في (رتل) أقام بها ثمانية عشر شهرًا توفي أبوه خلالها تاركًا ثروة بسيطة لأرملته وابنه وابنتيه، وبعد وفاة أبيه سافر إلى باريس فالتحق بمعهد ماتيه، وكان تلاميذ هذا المعهد يدرسون بمدرسة بوربون College Borbon، وفيها ظهرت بوادر كفاياته النادرة كما اتصل فيها بأصدقاء كان لهم أبلغ الأثر في مستقبل أيامه من أمثال برفوبارادول، وبلانا، وكرنوليس، وفث وغيرهم.

ولقد امتاز تين لأول دخوله المدرسة بمقدرة على العمل مدهشة وبإكباب عليه لا يقل إثارة للدهشة، فلقد كان يكتفي لرياضة نفسه بعشرين دقيقة يقضيها لعبًا بعد العشاء وبساعة يلعب في أثنائها الموسيقى بعد الغذاء، أما فيما سوى هذا وفيما سوى أوقات الطعام والنوم فكان لا يصرفه عن العمل صارف، وكان لذلك كثير التحصيل كثير التعليق على ما يحصل كثير التفكير فيه مما جعل له على أصدقائه جميعًا نفوذًا معترفًا به منهم اعترافهم بفضله وبمقدرته في الكتابة نظمًا ونثرًا في اللغتين الفرنسية واللاتينية.

وبعد انتهاء دراساته الثانوية انتقل إلى مدرسة المعلمين L’Ecole Normale وفيها ازداد إكبابه على الدرس فقرأ أفلاطون وأرسطو وآباء الكنيسة كما استمر يدرس الإنجليزية التي أتقنها ليدرس آداب اللغة الإنجليزية، وإذا كان تين قد ظهر تفوقه في أثناء دراساته الثانوية وفي أثناء مقامه بمدرسة المعلمين حتى لقد كانت الجوائز الأولى كلها من نصيبه، فإن الروح العلمية المنطقية التي امتاز بها بعد ذلك والتي وضع على قواعدها مذهبه في البحث، قد تبينت في أثناء وجوده في مدرسة المعلمين بنوع خاص، فقد لاحظ عليه أساتذته جميعًا مبالغته في دقة الحرص على المنطق والسلوك به مسلكًا رياضيًّا والوصول به دائمًا إلى قاعدة على نحو ما يصل الرياضيون في مسائل الحساب والهندسة والجبر، أثبت أستاذه فاشرو في مذاكراته عن تين — وما يزال تين طالبًا بمدرسة المعلمين — ما يأتي: «أكثر تلميذ عرفت في المدرسة جدًّا ورقي نفس، علم مدهش بالنسبة لسنه، تحمس وشره للعرفان لم أر له مثالًا، ذهن يلفت النظر بسرعة التصور والدقة والمرونة وقوة التفكير، لكنه يدرك ويتصور ويحكم ويقرر بغاية السرعة، مولع بالقواعد والتعاريف حتى لَكثيرًا ما يضحي بالحقيقة من أجلها، ومع ذلك لا يظن أنه يضحي بالحقيقة لأنه كان مخلصًا لها أشد إخلاص، وسيكون تين أستاذًا ممتازًا، لكنه سيكون أكثر من ذلك وفوق ذلك عالمًا من الطراز الأول إذا أتاحت له صحته الاشتغال بالعلم زمنًا طويلًا، ومع ما له من دماثة في الخلق عظيمة ومن طباع غاية في الطيبة؛ فلذهنه قوة لا تلين حتى لن يستطيع أن يكون لأحد على تفكيره أي تأثير، وهو على كل حال ليس من أهله هذا العالم، فسيكون شعاره شعار سبنوزا (يعيش ليفكر) أما خلقه وأما طبيعته فيمتازان بمناعة لا يستهويه معهما إغراء.»

على أن هذا التفوق الذي كان للطالب تين لم يكن ليعترف الناس به من غير أن يجني على صاحبه جنايته، ومتى كان تفوق رجل من الناس تفوقًا عقليًّا ألا يجني عليه في نظر السلطان والذين يمسكون بيدهم مصير الجماعات؟! صحيح أن هذا التفوق يقدر عند المخلصين والذين لا مصلحة لهم في سؤدد آراء ومبادئ معينة، وهذا التقدير هو الذي يكفل انتصار الحق ولو بعد حين، لكن تين الذي كان يقضي كل وقته قراءة وبحثًا، والذي أوتي هبة النقد والتمحيص منذ شبابه، والذي لا يستطيع أن يسلم بغير ما يعتقده الحق، تين هذا — وهو طالب — لم يكن ليقر كثيرًا من المبادئ الفلسفية التي كانت تدرس يومئذٍ وغايتها إما تأييد ناحية دينية تجعل التفكير خاضعًا للمبادئ المسيحية التي تريد للكنيسة أن تسود، أو تأييد ناحية علمية خاصة هي ناحية المنطق المطلق، أو المنطق المجرد مما كان يدرسه كوزن وغير كوزن من فلاسفة ذلك العصر، وقد خرج تين — وما زال طالبًا — على هاتين الطريقتين من طرائق التفكير، ورأى فيهما وسائل غير صالحة للكشف عما في العالم من حقيقة، ووضع تين — وما يزال طالبًا — قواعد تفكيره هو، هذه القواعد التي سار عليها في مستقبل أيامه مجاهدًا لإكمالها ما استطاع، ولكن من غير أن يرى في كل دراساته وبحوثه ما يطعن عليها أو ينقضها، وإذًا فهو ثائر على التعاليم المقررة، وإذًا فيجب ألا ينجح في إجازة الفلسفة التي تقدم لها مع زميليه أوبيه وسوكو في سنة ١٨٥١، وليكن عدم نجاحه هذا وهو المشهود له بالفضل والتفوق عزاء لغيره من الذين تقدموا للإجازة نفسها فرسبوا وهم دونه تفوقًا وفضلًا.

ولم يغير عدم نجاحه في إجازة الفلسفة من رأيه ولا من عزمه، واستمر في عمله وبحوثه وإن اشتغل بالتدريس في المدارس المختلفة أن عينه وزير المعارف مدرسًا بمدرسة (نفير) في مفتتح عام ١٨٥١ الدراسي، لكنه لم يبق في هذه المدرسة إلا شهورًا نقل بعدها إلى مدرسة دونها في الدرجة، ذلك أن اضطرابًا سياسيًّا وقع في فرنسا واتُّهم المعلمون بأنهم سببه وطُلِبَ إليهم أن يعتذروا وأن يشكروا رئيس الجمهورية على التعديلات التي أدخلها على نظام الحكم، فكان تين هو الوحيد الذي رفض الاعتذار والشكر، وعلى ذلك أُنذر ونُقل إلى بواتييه ومنها نقل مساعد مدرس إلى بزانسون سبتمبر سنة ١٨٥٢.

ومع تنقلاته الكثيرة وعدم رضا السلطات عنه فإن نشاط تين لم يفتر ودراساته وتحصيله لم يَهِنَا وإيمانه بمذهبه في البحث لم يضطرب، فقد وضع رسالة عن المشاعر Les Sansations أو رسالة لاتينية تقدم بها إلى السوربون لنيل إجازة الفلسفة، ولما كانت هذه الإجازة قد ألغيت فقد أراد أن ينال بهما إجازة الآداب Agregation-es-lettres لكن طريقته في التفكير جنت عليه هذه المرة كذلك فلم تقبل رسالته، فوضع رسالة أخرى عن لافونتين هي التي نال بها دكتوراه الآداب في ٣٠ مايو سنة ١٨٥٣.

ومن بعد حصوله على الدكتوراه عرضت الأكاديمية الفرنسية موضوعًا لجائزة تمنح في سنة ١٨٥٥ رسالة تكتب عن تيت ليف الكاتب والمؤرخ الروماني الكبير، فتقدم لها تين وكتب فيها رسالة كانت هي الأولى بين كل الرسائل التي قدمت.

بعد هذه المجهودات المضنية ست سنوات تباعًا شعر تين بالحاجة حاجة ماسة مطلقة إلى الراحة ونصح له بأن يذهب إلى جبال البرانس، وطلب إليه الناشر هاشت أن يكتب له دليلًا عنها فوضع كتابه «سياحة في البرانس» وصف فيه هذه الطبيعة الجميلة العجيبة وعادات أهلها وقصصهم وصفًا دقيقًا، ناقدًا ما رأى موضعًا لنقده مازجًا ذلك كله بفلسفته، متبعًا حتى في هذا الكتاب طريقته الجديدة التي جنت عليه من قبل.

ما هي هذه الطريقة الجديدة؟ وكيف يمكن أن تجني على كاتب في عصر كالعصر الذي عاش فيه تين والذي تقررت فيه حرية الرأي والنشر على أنها مكفولة مقدسة؟!

أما طريقة تين في رسائله التي تقدم بها للامتحانات وفي كتاب تيت ليف وفي غير ذلك من الكتب التي ظهرت والتي ستظهر حتى آخر أيام حياته، فتقوم على فكرة أساسية هي تطبيق الطريقة الواقعية — أو الوضعية — التي قررها أوجست كومت على الأحياء بنفس الدقة التي تطبق بها على غير الأحياء، وتطبيقها على الإنسان وعلى النفس والروح بنفس الدقة التي تطبق بها على الأحياء الأخرى غير الإنسان وعلى غير الأحياء، فكما أن طريقة البحث العلمي في شأن غير الأحياء هي الملاحظة والتجربة واستنباط القوانين على قواعد هذه الملاحظة والتجربة، فيجب اتباع هذه الطريقة بعينها في شأن الحيوان والإنسان على السواء.

وأنت لكي تدرس غير الأحياء فأنت تحلل الشيء، وأنت ترجعه إلى نظائره وأشباهه، وأنت تلاحظ تأثره بالبيئة المحيطة به وتأثيره فيها ثم تستنبط القوانين الخاصة به بعد إذ تنظم ملاحظاتك وتجاريبك وتبوبها وترتبها، ثم أنت تعمد لتقف على حياة الحيوان إلى تأثره عن طريق حواسه بالأشياء المحيطة به، كما أنك إذا أردت أن تعرف تاريخه عمدت إلى ما قد يكون باقيًا في الأحجار من آثاره، هذا فضلًا عن التجائك في تجاريبك عليه إلى كل الوسائل المختلفة التي يلجأ إليها الكيميائيون والأطباء وغيرهم في معاملهم.

ذلك كذلك يجب أن يكون شأنك مع الإنسان، يجب ألا ترى فيه عالمًا مستقلًّا وسط هذا العالم الذي تعيش فيه، إنما هو جزء من هذا العالم خاضع لقوانينه وأحكامه متأثر به مؤثر فيه تجري عليه السنن التي تجري على غيره من الخلائق، فإذا أردت أن تبحث في أي شأن من الشئون يتعلق به وجب عليك أن تلجأ إلى الطرائق العلمية التي تلجأ إليها في الظروف الأخرى، وأن ترى في أعماله ومشاعره وإحساسه وتصوراته وسائل الوصول إلى دخيلة نفسه، هذه دون سواها هي الطريقة الأكيدة التي تصل بك إلى شيء يقرب من الحقيقة، وهذه يجب أن تكون أساس البسيكولوجيا وأساس التاريخ وأساس الاجتماع وأساس العلوم المتصلة بالإنسان جميعًا، فأما الطريقة التي تقيم هذه العلوم على قواعد المنطق المجردة التي تجعل من استجمام الشخص في طوايا نفسه وسيلة رسمه للعالم ما يستلهمه من صورته، فليست من الطرائق العلمية في شيء ولا يمكن الاعتماد عليها إذا نحن أردنا أن نقيم علمًا إنسانيًّا أو فلسفة إنسانيةً على قواعد علمية صحيحة.

هذه هي الطريقة الجديدة التي امتاز بها تين والتي جنت عليه في كثير، وهي قد أصبحت اليوم قديمة وقد أصبح يرد عليها نقد كثير أساسه ما فيها من تطرف وغلو، ولكنها كانت جديدة يوم نادى بها تين، وكانت عمادًا قويًّا للمذهب المادي، فهي لا تقر للروح ولا للنفس ولا لأمثال هذه الألفاظ بمدلولات مستقلة قائمة بذاتها بعيدة عن مادة الجسم، بل هي ترى كل ما في الجسم بعض مادته كما أن ما في أي موجود من الموجودات بعض مادة هذا الموجود، وإذا كانت هذه المادة ذات إرادة وذات خلق وذات تصور وتفكير، فإن هذه المظاهر ليست إلا صور القوة الكمينة في المادة، أو إن شئت التعبير الدقيق، فهي بعض صور المادة متحولة إلى قوة؛ لأن المادة والقوة شيء واحد بدليل تحول كل منهما إلى الآخر حين تفاعله مع غيره من القوى أو المواد، وما دام ذلك هو الشأن وكانت القوة والمادة تخضعان لقوانين ثابتة لن تجد لها تبديلًا، فمن الخلط الذي لا يبرره مبرر أن تختلف طريقة البحث في الإنسان عنها في غير الإنسان، ومن الخطأ المبني على العقائد الرائجة انتهاج سبيل في بحث شئون النفس غير السبيل العلمية المقررة في سائر الشئون.

كانت هذه الطريقة جديدة يوم نادى بها تين، لكنه نادى بها منذ كتبه الأولى على صورة واضحة وبأسلوب قوي لفتا الأنظار له، وبخاصة أنظار مفكري ذلك العصر ومن كانت بيدهم مقاليد الجماعة في التفكير وفي الحكم، وإذا التفتت أنظار هؤلاء فلا تفكر في حرية مكفولة ولا في حرية مقدسة، إنهم — إن كانوا مخلصين حقًّا — يعتبرون أنفسهم حماة الجمعية ونظامها، ويرون في محاربة الأفكار التي تخالف أفكارهم محافظة على هذا النظام، وكثيرون منهم يشعرون — وإن لم يقولوا — بأن المحافظة على نظام الجماعة جديرة بأن تهدر من أجلها كل حرية؛ لأن الحرية لا توجد إلا حيث يوجد النظام.

ونشر كتابه «سياحة في البرانس»، وصف فيه هذه الجبال الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا وأخلاق أهلها وطبق في وصفه وفي تحليله نظرياته التي أشرنا إليها، على أنه لم يكتفِ من سياحته بالرياضة وبوضع هذا الكتاب، بل هو ظل يستمع لقارئ استصحبه في جولاته وظل يفكر فيما يسمع ويعلق عليه، أليس شعاره أنه يعيش ليفكر، فإذا هو كان في رياضة قضت بها صحته، أو هو كان في مكتبه، فليس أمامه ما يمنعه عن التفكير كما أنه ليس أمامه ما يمنعه عن التنفس، ولقد كان فكره بحاجة إلى العمل حاجة رئتيه إلى الهواء، حتى لقد يخيل إلى من يقرأ تاريخ حياته أن هذه الحياة تتعرض للخطر إذا هو انقطع عن التفكير العلمي الجدي يومًا من الأيام.

ولقد أفاد من سياحاته في البرانس لصحته، وأفاد من قراءته وتفكيره وأفاد شيئًا جديدًا لم يكن له من قبل به عهد، ذلك اتصاله بالحياة الخارجية ولو اتصالًا محدودًا، فلقد عاش منذ أيام تلمذته وليس يعرف غير كتبه ومكتبته وغير البيانو يوقع عليه الألحان التي يحبها والتي يجد فيها سلوة عن كل تعبه، وكان من أثر ذلك عليه أن جعله — على ما قال فاشرو — يدرك ويتصور ويحكم ويقرر بغاية السرعة، ويولع بالقواعد والتعاريف حتى لكثيرًا ما يضحي بالحقيقة من أجلها، أليس ما في الكتب منطقًا مجردًا؟! أوليست كتب ذلك العصر — حتى كتب الفلاسفة الواقعيين — قليلة التحليل للوقائع الصغيرة؟! فلتين عذره إذا هو سارع إلى تقرير النتائج ووضع التعاريف والقواعد ما دام يسير على الطريقة التي رسمها لنفسه على أنها سبيل الحقيقة، وما دام لم يتصل بالعالم الخارجي اتصالًا يجعله أكثر ميلًا لتحليل الحوادث الصغرى واستقرائها وترتيب النتائج عليها، فلما أتاحت له زيارة البرانس الاتصال بالحياة أتاحت له مع هذا الاتصال شيئًا من التؤدة في منطقه الرياضي السريع وجعلته أكثر عناية باستيعاب أكثر ما يستطيع استيعابه من الوقائع الصالحة لإقامة ما يريد أن يقيمه عليها من نظريات وقواعد.

وعاد من البرانس فعاش مع أمه في جزيرة (سان لوي) ثم اختلط من جديد بأصدقائه بلانا وبريفو برادول وأبو وتعرَّف إلى رينان، ومن طريقه عرف سانت بيف وجدد علاقاته مع مسيو هافيه الذي كان أستاذًا بمدرسة المعلمين مدى ثلاثة أشهر، وكما عاد إلى أصدقائه عاد إلى جده وإنتاجه حتى لتعتبر السنتان ١٨٥٥ و١٨٥٦ من أكثر حسنى حياته نشاطًا وأغناها إنتاجًا، فلقد نشر عشرات المقالات في مجلة (L’Instruction Pubique) كما نشر مقالًا في مجلة «العالمين»، وفي سنة ١٨٥٧ بدأ يكاتب جريدة «الديبا» واستمر بعد ذلك على مكاتبتها طويلًا.

والذي يقرأ كتبه الثلاثة «رسائل في النقد وفي التاريخ» وكتابه «الفلاسفة الإنشائيون في القرن التاسع عشر» يرى اتجاه مجهوده العقلي في تلك السنوات الخصبة من حياته، ويرى مبلغ هذا المجهود الضخم الذي تناول بحث اليونانيين القدماء وكُتَّاب فرنسا وفلاسفتها وكُتَّاب إنجلترا ومفكريها، وتناول ذلك في دقة وإحاطة قل نظيرهما، وماذا تريد أن تكون الدقة والإحاطة أكثر من أن يعرض تين أمام نظرك فكرة كل كاتب وفلسفته وأسلوبه، وأن يحلل ذلك وأن يرده للبيئة وللجنس اللذين نشأ الكاتب فيهما، وأن يدلك على ما يراه النقاد غيره وما يراه هو في الكاتب وفكرته من قوة وضعف وكمال ونقص ودقة في بلوغ الغاية التي قصد إليها الكاتب أو اضطراب في نهج السبيل إلى تلك الغاية، وهذه هي طريقته التي سار عليها منذ تلك الأيام في النقد، وهي الطريقة العلمية الصريحة التي لا تعرف المواربة ولا المداجاة، ولا تعرف مذاهب الشك والتردد، والتي تقفك من كل كاتب ومن كل موضوع على خلاصة الموضوع وعلى صورة واضحة من الكاتب على نحو ما رآه تين.

وقد طبع تين مباحثه عن الفلاسفة الإنشائيين ونشرها في أوائل سنة ١٨٥٧، أي في التاسعة والعشرين من عمره، ومع أنه إلى ما قبل ذلك التاريخ قد لقي من رجال الجامعة ومن وزارة المعارف عنتًا، فإن رسائله المختلفة التي نشرت لم تثر من النقد إلا ما كتبه أصدقاؤه عن سياحة البرانس وما كتبه الأستاذ الكبير جيزو عن تيت ليف، لكنه ما لبث أن نشر «الفلاسفة الإنشائيون في القرن التاسع عشر» حتى تكلم عنه كثير من كبار نقاد عصره أمثال سانت بيف وشرر ويلانش وغيرهم مما زاد في ذيوع رفعته ككاتب وكمفكر وكفيلسوف مجدد في الطريقة وفي الأسلوب.

ولم يكن عجبًا أن ينال هذا الكتاب من كتب تين تلك المكانة، فهو قد قصد به إلى هدم الفلسفة الكلامية التي كان يدرسها ويقررها في ذلك الوقت لارمجييه ومين دبيران والمسيو فكتور كوزان، وكان فكتور كوزان صاحب مقام كبير في ذلك الظرف، وكان القائم بتدريس الفلسفة في كلية فرنسا، وكان درسه مقصد المئات من المستمعين؛ لذلك كانت حملة تين عليه أشد من حملته على صاحبيه، فكان يقول عنه إنه بحاثة غير فيلسوف، وكان يرى في هذه الفلسفة الكلامية أو الإنشائية شذوذًا معيبًا على قواعد العلم التي تقررت منذ أوائل ذلك القرن، وعودة إلى قواعد قديمة عقيمة تخلط بين طريقة ديكارت التي تبدأ بالشك، والنظريات الألمانية التجريدية الصرفة، وهو قد سلك في هدمه لتلك النظريات مسلكًا جمع بين المنطق الدقيق الذي امتاز به وبين التهكم بتلك الطرائق العتيقة البالية من طرق البحث عن الحقيقة تهكمًا ظهرت فيه مقدرة تين ككاتب إلى جانب تفوقه كمفكر وكفيلسوف، ثم هو قد أيد ما قررته مباحث عصره الحديثة مما جاء به أوجست كومت وداروين وغيرهما من الذين وضعوا قواعد العلم الواقعي وأسس نظريات التطور، ثم هو قد أضاف إلى ذلك نظريته الخاصة بتطبيق هذه القواعد تطبيقًا لا هوادة فيه على الإنسان كتطبيقه على غير الإنسان وعلى الجماد، وإذا كانت هذه النظرية قد لقيت في بادئ الأمر شيئًا من معارضة الهيئات الجامعية، فإن المباحث العالية التي نشرها تين مشبعة بها والمقام الذي كان يرتفع إليه يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، جعل نجاح كتابه عن الفلاسفة الإنشائيين نجاحًا حاسمًا ودعا الكثيرين إلى أن يعيدوا النظر فيما يقرره هؤلاء الفلاسفة من قواعد، وجعل ما وجهه كارو وغيره إلى تين وإلى رينان من نقد أساسه رميهم بالإلحاد، لا يلقى من المفكرين والعقلاء وذوي الرأي أي التفات له بأكثر من الإشفاق على كاتبيه والرثاء لحالهم.

وكما جمع مقالاته عن الفلاسفة في كتابه هذا فقد جمع رسائله في النقد وأظهر الجزء الأول من «رسائل في النقد وفي التاريخ» سنة ١٨٥٨، على أن كتابة هذه الرسائل وجمعها ونشرها لم يشغله عن متابعة بحوث تاريخية في الأدب الإنجليزي شغف بها منذ أيامه الأولى وشغل بها منذ مطالعاته بعد ترك مدرسة المعلمين، ولقد نشر الأجزاء الأولى حتى بيرون في سنة ١٨٦١ واستمر يكمل هذا الكتاب الذي يعتبر ككتابه عن (الذكاء) وكتاب (أصول فرنسا الحديثة) أُمًّا من أمهات كتب تين وأثرًا باقيًا من آثار تفكيره، وقد أتم هذا الكتاب ونشره كاملًا في سنة ١٨٦٣ ووضع له المقدمة التي أشرنا من قبل إليها، والتي حلل فيها صلة الإنسان بالبيئة وبالجنس وبالعصر الذي يولد فيه تحليلًا انتهى منه إلى أن المرء ثمرة هذه العوامل الثلاثة، وإنك إذا استطعت أن تعرف كل الدقائق المحيطة بهذه العوامل الثلاثة استطعت أن تضع للإنسانية من القوانين الثابتة ما لا سبيل إلى تبديله إلا أن يكون لتبديل سنن الكون العامة سبيل.

والحقيقة أن هذا الكتاب الذي وضعه تين عن آداب اللغة الإنجليزية قد أضاف إلى مجده كفيلسوف وكمؤرخ مجده ككاتب، ولئن كانت رسالته عن «سياحة في جبال البرانس» قد دلت من ذلك على شيء كثير، فإن وصفه للعصور المختلفة التي مرت بها إنجلترا وأثرت في أدبها قد دل على خصب في الخيال لا يقل عما كان لتين من دقة في المنطق، وأنت تقرأ صحف هذا الكتاب المتتالية فتنتقل من تحليل نفساني دقيق لكاتب من الكتاب أو شاعر من الشعراء أو عصر من العصور، إلى وصف جمع بين الدقة المنطقية والخيال الشعري لحياة ذلك الكاتب أو الشاعر ولحياة جماعة أهل ذلك العصر، وهذا التداول بين دقة المنطق وخصب الخيال هو الذي طوع لكثيرين من نقاد تين أن يقولوا عنه إنه منطيق شاعر أو خيالي فيلسوف، وربما وجدت لهذا النقد في بعض كتب تين مسوغًا، لكنك تقع دائمًا على ما يدلك على أن تين كان يشعر تمام الشعور بهذا التداول، وكان يحرص على ألا يجني أحد جانبي نفسه على الجانب الآخر، فما يقع تحت قلمه عبارات تتردد آنًا بعد آن يذكر فيها أنه جاوز الحد مضطرًّا في استعمال المجاز وفي الالتجاء إلى الخيال ويعود بعدها إلى منطقه المحكم وتحليله الدقيق، فيشرح البيئة الطبيعية والعصر ومميزاته والجنس وخصائصه، ويطبق ما يستنتج من ذلك كله على الكتاب والشعراء الذين يحللهم ويرسم بذلك صورة مضبوطة من هذا الأدب الإنجليزي الذي استغرق تاريخه أربعة أجزاء من كتب تين.

وكان تين قد رشح نفسه سنة ١٨٦٢ ليقوم بتدريس الأدب في مدرسة الهندسة، لكن مسيو دي لموني انتخب بدلًا منه، على أن وزير الحربية عينه في مارس في السنة التالية ممتحنًا في التاريخ واللغة الألمانية بمدرسة سان سير الحربية، وفي سنة ١٨٦٤ شغل مقعد تدريس تاريخ الفن والجمال في كلية الفنون الجميلة، فكان تعاقبه في وظائف الدولة سببًا لإثارة الخوف في نفس رجال الدين مما دفع المونسنيير لوبانلو ليكتب منشورًا يوجه به إلى الشبيبة وإلى الآباء يطعن فيه طعنًا جارحًا على تين ورينان وليتري ويشهِّر فيه بنزعاتهم الإلحادية مما كاد يودي بمركز تين لولا تدخل البرنسيس ماتيلدا لحمايته.

وفي سنة ١٨٦٤ وجه بكتبه إلى الأكاديمية ليحصل على جائزة بوردان، فانبرى له مونسنيير لوبانلو من جديد واشترك معه آخرون ليحولوا بينه وبين الجائزة، على أن مسيو جيزو دافع عنه بكل إخلاص واستمرت المناقشة أمام الأكاديمية فيمن يستحق الجائزة ثلاثة أيام متتالية استقر الرأي بعدها على أن الجائزة لا تمنح لأحد ما دامت لا تمنح لتين، ومن ذلك التاريخ فتر اهتمام تين بالأكاديمية وتعضيدها أو عدم تعضيدها له.

على أن هذه الخصومات المتتابعة وهذا التجني على ذلك الكاتب الفيلسوف الكبير لم يحل دون حصوله على وسام اللجيون دونير في سنة ١٨٦٦ وعلى شهادة E.C.L. من جامعة أكسفورد بعد محاضرات ألقاها بها عن راسين وكورني في سنة ١٨٧١.

ومنذ عين تين أستاذًا لتاريخ الفن والجمال في كلية الفنون الجميلة اتسع له زمن البحث وميدانه ووجد من الوقت ما يسمح له بالسفر إلى بلاد مختلفة وبخاصة في إيطاليا مهد الفن ومنبت أجمل ما أبدع المثالون والمصورون من آثار.

على الطريقة التي كتب بها تاريخ آداب اللغة الإنجليزية كتب في سنة ١٨٦٥ كتابه فلسفة الفن وفي سنة ١٨٦٧ نشر رسائل عن المثل الأعلى في الفن أتبعها بمقالات عن فلسفة الفن الفلمنكي والفن اليوناني ضمت كلها بعد ذلك إلى كتاب فلسفة الفن.

كتب هذا الكتاب على طريقته في كتاب آداب اللغة الإنجليزية، فإلى جانب وصفه الممتع للآثار الفنية المختلفة ترى نظريته الثابتة التي تخضع الفن كما تخضع كل مظاهر الحياة الإنسانية — وكما تخضع الإنسان نفسه — إلى الطريقة العلمية في البحث، طريقة التحليل والمقارنة والاستنباط وإرجاع كل أثر من هذه الآثار إلى البيئة والجنس والعصر التي نشأ فيها صاحب الأثر، وهذا في نظره هو السبب الأساسي لاختلاف كل مدرسة من مدارس الفن عن سواها، فالفن الإيطالي غير الفن الفرنسي وغير الفن الفلمنكي وغير الفن الإنجليزي؛ لأن البيئة الإيطالية تختلف عن كل واحدة من هذه البيئات الأخرى، وإن أمكن أن يوجد شيء من الشبه بين منتجات هذه المدارس المختلفة إذا هي كانت معاصرة بعضها لبعض لما في هذه المعاصرة نفسها من داعٍ لوجود مشابهة قليلة أو كثيرة في التفكير والتصور والنظر بين الفنون المختلفة، وذلك هو سبب الاختلاف بين المذاهب المختلفة في الأمة الواحدة إذا هي اختلفت عصورها، وإن كان في اتفاق البيئة والجنس ما يبعث إليها شبهًا قويًّا يصل بينها في الروح والحياة.

وفي أوائل سنة ١٨٧٠ نشر كتابًا ثانيًا من أمهات كتبه، ذلك كتابه «في الذكاء»، ولقد ذكر هو في مقدمة هذا الكتاب أنه ثمرة بحث وتفكير عشرين سنة كاملة، والواقع أن بين هذا الكتاب وبين رسالة «المشاعر» التي قدمها ليحوز بها جائزة الفلسفة في سنة ١٨٥١ صلة كبرى، ذلك بأنه يرد الذكاء في الإنسان إلى إحساسه ومشاعره، وأن كل حس يؤثر بمحسوساته في مراكز الذكاء في الإنسان تأثيرًا هو صاحب الأثر الأكبر في تكوين هذا الذكاء، وفي هذا الكتاب أيضًا شرح تين نظرياته، بل لعله في هذا الكتاب وحده قد قرر هذه النظريات على صورة كاملة ظهر فيها مذهبه الجبري بكل قوته ووضوحه.

ظهر لتين كثير غير الكتب التي ذكرنا منها كتابه (مذكرات عن إنجلترا) وكتابه الآخر (مذكرات عن باريس)، وإذا هو كان في الكتاب الأول كاتبًا ومحللًا على طريقته فهو قد امتاز في الكتاب الثاني بالنكتة المقذعة وبرقة في العبارة مع دقة في الملاحظة ومرارة في التهكم بالناس وبالحياة جعلت كثيرين يتمنون لو أنه وجه نصيبًا كبيرًا من عنايته إلى هذا النوع من الكتابة.

وتزوج تين في سنة ١٨٦٨ فلم يغير زواجه شيئًا من حياة الجد والعمل التي كان يحياها، على أنه منذ سنة ١٨٧٠، وعلى أثر الحرب الفرنسية الألمانية، حز في نفسه ألم هزيمة بلاده وتوجه بكله يريد أن يقف على أسباب ضعفها، وكان هذا هو الدافع له إلى وضع كتابه الأكبر (أصول فرنسا الحديثة) الذي عمل فيه منذ سنة ١٨٧٠ إلى أن مات في ١٨٩٣ والذي اضطر من أجله أن يتخلى عن مهنة التدريس منذ سنة ١٨٨٤ لينقطع له انقطاعًا تامًّا، ويبدأ هذا الكتاب بجزأين عن العصر القديم، أي العصر السابق لما قبل الثورة الفرنسية، أما تاريخ الثورة فيتناول ستة أجزاء، ويتناول التاريخ الحديث ثلاثة أجزاء يعقبها جزء واحد وضعه تين كفهرس للكتاب كله، ولقد كان في عزمه أن يضع — في الجزء الذي لم يمهله القدر ليتمه — الصورة الصالحة لنظام العائلة ونظام الجمعية في فرنسا كما يريد العلم لهذا النظام أن يكون، لكنه توفي في الخامس من شهر مارس سنة ١٨٩٣ وما يزال في الخامسة والستين من عمره.

وكتابه «أصول فرنسا الحديثة» هو عمله الخالد على التاريخ، ولقد سار فيه على نفس الطريقة التي سار عليها في سائر كتبه، وإن يكن الدافع الذي دفعه لكتابته، ألا وهو حب وطنه حبًّا أذكته هزيمة حرب السبعين وزادته ضرامًا، قد جعله في كثير من الأحيان يناصر حزبًا على حزب وطائفة على طائفة من الأحزاب والطوائف المختلفة التي حكمت فرنسا منذ ذلك العصر القديم الذي كتب هو عنه.

وهو على كراهيته للاستبداد في كل مظاهره وعلى تقديسه للحرية في مختلف صورها، لم يكن يؤمن بالديمقراطية ولا بالمساواة المطلقة التي تترتب عليها، بل كان يحسب فيها هي أيضًا لونًا من استبداد الجماهير الحمقاء بحكم البلاد لا تقل سوءًا عن استبداد الملوك الظلمة الغاشمين، فكلا الاستبدادين قائم على الشهوة العمياء التي تبتغي المصالح الذاتية في شره وسخف والتي لا تفهم المعاني العليا التي يتطلع إليها العلم ولا السنن الثابتة والتي تستنبطها الفلسفة القائمة على هذا العلم.

ويذكر كثيرون أنه كان في هذا كما كان في فلسفته متأثرًا بالفلسفة الإنجليزية وبالحياة السياسية الإنجليزية، ولعله كان يميل إلى شيء من الإرستقراطية بطبيعة تفكيره، ولذلك كان كتاب عصره جميعًا إنما يذكرونه باسم (مسيو تين)، وذلك امتياز لم يعرف إلا له ولاثنين أو ثلاثة من كبار الكتاب معه، وربما كان صدقًا ما يقوله مسيو هريو وزير معارف فرنسا في خطابه عن تين من أنه لو كان إنجليزيًّا وعاش في إنجلترا لكان حتمًا أن يلقب وأن يكون (السير هيبوليت)، وهذه النزعة هي التي أدت به ليكتب رسالة مطولة عن الانتخاب المباشر يطعن فيها مر الطعن على هذا النظام، ويرى من السخرية أمرَّ السخرية أن يتساوى في الرأي عن طريقة حكم البلاد ماسح الأحذية وعميدو الكليات ومديرو الجامعات، كما يرى حماقة أن يحكم نصف الأمة زائدًا واحدًا نصفها الآخر ناقصًا واحدًا، أو أن يحكم سوادها الطائش المخدوع بترهات المغررين والمضللين صفوة أبنائها وخلاصة ذوي الرأي والعلم فيها حكمًا أقل أثره أن يبعث التقزز إلى نفوس الصفوة ويضعف من حب كثير منهم للعمل ويضيع بذلك جهودًا أقلها خير ألف مرة من جهود السواد وقادته.

•••

وعاش تين ومات ومنطقه منطقه ورأيه لم يتغير، وكأنما كان مصداقًا حيًّا لهذه الكلمة: «النبوغ فكرة في الصبا تنفذ في الرجولة»، فمنذ كان تين في مدرسة المعلمين إلى أن مات، كانت غايته في الحياة واحدة وطريقته إلى هذه الغاية واحدة، كانت غايته الحقيقة وكانت طريقه إلى الحقيقة العلم، حقيقة لا هوادة فيها وعلم كذلك لا هوادة فيه، ولهذا كان جديرًا حقًّا بالخلود، وإذا كان كثير من نظرياته قد نقض بعد حياته، فهو في ذلك ليس إلا إنسانًا عظيمًا، هو قد خطا بالعالم في عصره الخطوة التي كان يجب أن يخطوها العالم، فكأنما كان رسولًا لتمام هذه الخطوة، أما وقد أتم رسالته وآن للعالم أن يخطو خطوة أخرى، فإن ذلك لن يغضَّ من فضله ولن يغمطه شيئًا من حقه، بل هو على العكس من ذلك يزيدنا قدرًا له وإعجابًا به، وكفى أن يسأل إنسان نفسه: ماذا يكون العلم وماذا تكون الفلسفة لو أن تين لم يوجد؟ ولن يستطيع إنسان أن يجيب على هذا إلا بالاعتراف لتين بفضل عظيم، وهذا الفضل هو الذي جعل فرنسا تحتفل بعيده، وجعل الفرنسيين يفكرون في إقامة تمثال له في باريس وتمثال آخر نصفي في مدرسة المعلمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤