وليم شكسبير

ما حاجة شكسبير إلى أحجار فوق أحجار يقيمها الناس مدى قرن كامل لتأوي إليها رفاته المجيدة؟ ما حاجته أن تدفن بقاياه المقدسة تحت هرم يصعد حتى يصل إلى عنان السماء؟ يا ابن الذكرى العزيز ووارث المجد العظيم، ماذا يعنيك من هذا الاعتراف الضئيل بفضل اسمك وقد أقمت لنفسك من إعجابنا وعجبنا تمثالًا لا يبلى؟!

ملتن

تمثالًا لشكسبير! ولماذا؟! إن التمثال الذي أقامه لنفسه على عماد هو إنجلترا كلها لخير له من كل تمثال، ليس شكسبير بحاجة إلى هرم وله مؤلفاته، وماذا يمكن أن يخلد الرخام منه؟ وماذا يستطيع البرنز أن يقيم حيث يقيم المجد؟ إن الأحجار كلها والفنانين الذين ينحتونها يضيعون جهدهم عبثًا، فالعبقرية هي العبقرية من غير حاجة إليهم، ولو اجتمعت الأحجار كلها، أفتراها تكبر هذا الرجل إصبعًا؟ وأي قوس أبقى من هذا القوس: قصة الشتاء، العاصفة، زوجات وندسور المرحات، يوليوس قيصر، كريولان، وأي أثر أعظم من لير، وأشد تجهمًا من تاجر البندقية، وأبهر من روميو وجوليت، وأبهى من ريكاردوس الثالث، وأي بدر يلقي على هذا البناء ضياء أعجب من حلم ليلة الشتاء؟ وأي عاصمة ولو كانت لندرة تثير حوله ضجة هائلة كما تثير روح مكبث الهائلة الضجيج؟ وأي حلية من خشب الزان أو البلوط تبقى بقاء أوتللو؟ وأي نحاس أصلب من نحاس هملت؟ كلا، لن يوازي بناء من الحجر أو الصخر أو الحديد هذا الروح، روح العبقرية العميق، روح الله يتجلى به على لسان الإنسان، ورأس فيه فكرة هو القمة، أمَّا أكداس الأحجار فجهود ضائعة، وأي بناء يساوي فكرة؟ إن بابل لَدُونَ إيزاس، وخوفو لأصغر من هوميروس، والكوليزيم لأقل من جوفنال، وقصر إشبيلية قزم إلى جانب سرفانتس، وكنيسة القديس بطرس في روما لا توازي كعب دانت، فكيف تستطيعون — وإن جهدتم — أن تقيموا برجًا في رفعة هذا الاسم: شكسبير.

فكتور هوجو
وصدق ملتون، وصدق فكتور هوجو، فأنت لا تعني إذ تذكر شكسبير، أأقيمت له تماثيل أم رفعت له نصب وأهرام، وأنت لا تذكر إلى جانب اسمه ما تذكره إلى جانب اسم نابليون من عماد فندوم أو قبر الأنڨاليد، بل أنت إذ تذكر شكسبير تنسى كل ما في العالم غير ما خلَّف شكسبير، غير هذه التركة الخالدة من الشعر السامي فوق كل مراتب الشعر، والذي يزداد سموًّا كلما ازددت فيه إمعانًا، حتى لتنسى إلى جانبه كل شعر وكل موسيقى وكل فن؛ لأنك ترى فيه عالمًا كاملًا من الأشياء والناس والآلهة خلقه خيال يندمج فيه كل خيال، وفن يتلاشى أمامه كل فن، ولتنسى إلى جانبه الإعجاب في الحياة بأي شيء سواه، هذا وشكسبير لم يكن ملكًا ولم يكن غازيًا ولم يكن عظيمًا في قومه، بل كان ككل نابغة وكل عبقري رسولًا تؤذيه رسالته حتى لتحرقه، ومن هذا الأذى ومن هذا الاحتراق تتعطر الحياة بأريج تلك الرسالة وتزداد بهذا الأريج شعورًا كلما ازداد عطر الاحتراق والأذى ذيوعًا وانتشارًا.

نعم، لم يكن شكسبير ملكًا ولا غازيًا ولا عظيمًا في قومه، بل كان مؤلف روايات وكان مهرجًا، كان عمله في الحياة أن يبعث السرور والنشوة إلى نفس الجمهور ثم لا يناله أكثر الأحيان من هذا الجمهور الذي أضحكه غير السخط والازدراء، ومات شكسبير وانطوى دور المهرج فظل أهل عصره ينكرون عليه مقامه كمؤلف وينعتونه بأنه لم يحدث جديدًا، وبأنه غراب اكتسى بريش الطيور الجميلة فلم يصنع أكثر من أن سرق ما كتب غيره، لكن الزمن الدائم الكر والذي يصهر تراث الماضي فيستخلص جوهره من خبثه، لم يجد في شكسبير إلا جوهرًا يشع في المستقبل إلى قرون وقرون بعده، فلا تزداد إلا تطلعًا إليه وإعجابًا به، وهذا الزمن وجد في إلهام شكسبير الشعري علمًا وحكمة، فنفى عنه حسد أهل عصره وأقام له من المجد ما عبر عن بعضه ملتن شاعر إنجلترا الأول بعد شكسبير، وهوجو مقدم شعراء فرنسا ومترجم شكسبير إلى الفرنسية.

وإذا لم يكن شكسبير عظيمًا في قومه فليس في تاريخ حياته ما يقف النظر عنده إلا أن يكون خلقه الثائر ونفسه المتمردة على الخلق وعلى الفضيلة.

ولد في ستراتفورد-أُن-أيفن في ٢٣ أبريل سنة ١٥٦٤ أي في عصر الملكة إليصابات أحد عصور إنجلترا الزاهرة، وفي القرن السادس عشر عقب الانقلاب الديني العظيم الذي قام به مارتن لوثر وتأثرت به إنجلترا أكثر مما تأثرت به أية أمة غيرها، وكان أبوه جون شكسبير محترمًا في قومه لأنه كان يملك ثروة تغنيه عن غيره، جاءه بعضها من كدِّه وبعضها من زوجه، وقد اختلف الرواة في الصناعة التي كان يزاولها جون بين أنه كان تاجرًا أو مزارعًا أو جزارًا، ويذهب كثيرون إلى أنه كان يزاول هذه المهن جميعًا كما كان يفعل الكثيرون من أهل القرى والبلاد الصغيرة، ولمكانته من قومه انتخب في مجلس بلدته القروي ونيطت به أعمال قاضي المصالحات، وفي سنة ١٥٧٧ ساءت حال جون شكسبير المالية حين كان ابنه وليم ما يزال — وهو في الثالثة عشرة من عمره — في بداءة تعليمه، فاضطر للاستعانة به في كدح الحياة، وجعل الفتى — على قول بعض مترجميه — «يذبح العجول لأبيه ويلقي أثناء قيامه بعمله خطبًا رائعة الأسلوب على سامعيه»، وكذلك انقطع عن الدرس وشغل بهمِّ الحياة حتى تزوج في الثامنة عشرة من عمره من أنا هثواي ورزق منها في ٢٦ مايو سنة ١٥٨٢ فتاة أسماها سوزان وتوءمين غلامين في فبراير سنة ١٥٨٥.

على أن هموم الحياة ومشاغل الأسرة لم تغير شيئًا من خلقه المضطرب الثائر، فقد أولع منذ صباه بالشراب حتى كان فيه مفخرة قريته، كما أنه كان لا يتعفف عن سرقة الصيد من أملاك كبار الملاك وبخاصة من أملاك السير توماس لوس كبير قضاة قصبته، وكم خضع من أجل ذلك لهوان الضرب ومذلة العقوبة، وفيما هو يومًا يجاري أهل قرية مجاورة في الشراب سكر حتى لم يستطع العود إلى أهله، فلما أصبح ذكر حاله وما آل إليه أبوه الذي أدخل السجن بسبب ديونه ففضل هجرة بلد أصبح لا احترام له بين أهله برغم ما كان يشعر به في نفسه من تفوق على أقرانه أن كان قد بدأ يتغنى بشعر ينظمه، فهجر ستراتفورد إلى لندن وهو لا يدري ما يستطيع أن يفعل فيها.

ودخل العاصمة العظيمة خالي الوفاض يضنيه الضنك والعوز فأسرع إلى حرفة من أحقر الحرف، ذلك أنه كان ينتظر بخيول المتفرجين على أبواب المسارح، فإذا انقضت ساعات التمثيل نفحوا هذا الخادم بما تجود به أنفسهم، ولعل لهذه الحرفة الوضيعة حظًّا غير قليل فيما يدين به العالم اليوم لشكسبير من رواياته الخالدة، فمن سبيل هذه الحرفة استطاع شكسبير أن يعرف بعض الممثلين وأن يكسب عطفهم وأن يلتحق بعد ذلك بإحدى الفرق في أدوار تافهة، لكنها كانت سلَّمه إلى أدوار خير منها، ومع أنه لم يكن يومًا ممثلًا بارعًا ولم يصل إلى النبوغ في التمثيل إلا ما كان من نبوغه في دور طيف والد هملت، فإن خشبة المسرح هي التي دفعته إلى كتابة روايات تشهد الأجيال المتعاقبة تمثيلها معجبةً مقدسةً.

وكما تدهشك أن تكون حرفة شكسبير الحقيرة سبب هذا المجد العالمي، فقد يدهشك كذلك أن تعلم أن ظرفًا آخر لا يد له فيه قد عاون الشاعر في عمله، ذلك أن اضطرابات العاصمة الإنجليزية أدت إلى إقفال مسارحها ما بين ١٥٩٢ و١٥٩٤، وإذ كان شكسبير قد بدأ يولع بالنظم والتأليف ووجد من معونة بعض ذوي النفوذ ما أغناه عن اتباع الفرق التمثيلية في تجولها، فقد ظل مدى هاتين السنتين مكبًّا على دراسة اللغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية، مكبًّا على النظم والتأليف، وخلالهما استشف مظاهر نبوغه وعبقريته وميوله التمثيلية، فكتب في أبريل سنة ١٥٩٣ قصيدة فينس وأدونيس Venus and Adonis كما كتب في مايو سنة ١٥٩٤ رواية لوكريس وأهداها إلى لورد سوذامبتون، ويقال إن اللورد شجعه على الاستمرار في عمله وأعانه بألف جنيه دفعها له، فمكنه من زيارة شمال إيطاليا وإتقان لغتها التي كان قد بدأ يدرسها في لندن، والوقوف على كثير من الأساطير الإيطالية التي استعان بها في رواياته، وفي أثناء زيارة إيطاليا بدأ يكتب مقطوعاته التي نشرت بعد ذيوع اسمه، والتي أهدى أكثرها إلى لورد سوذامبتون كما جعل يؤلف للمسرح روايات أمل في تمثيلها بعد انقضاء الاضطرابات وعود الحياة الهادئة إلى عاصمة بلاده.

وفي صيف سنة ١٥٩٤ فتحت دار التمثيل أبوابها وعاد شكسبير إلى المسرح وبدأ يقدم رواياته للتمثيل، ولم تكن قوة هذه الروايات لتخفى على أحد خصوصًا أنها كانت تمثل حياة ذلك العصر وأخلاقه أدق تمثيل؛ لذلك لم يلبث شكسبير أن حاز من ذيوع الصوت ما خلع عليه اسم الممثل البارع، وإن كانت براعته الحقة في تواليفه، وكان من أثر ذلك أن شارك شكسبير بنصيب في أرباح مسرح (الجلوب) الذي كان يشتغل فيه، فاستطاع بذلك أن يشتري في بلدة ستراتفورد دورًا وضياعًا وأن يعيش في رغد ونعمة وأن يعيد أباه وأهله إلى حب الحياة، وكما يسرت شهرة شكسبير له سبل العيش فقد فتحت أمامه أبواب العظماء وأنالته عطف الأسرة المالكة، ورفعت بذلك من مقام التمثيل والممثلين الذين كانوا قبل ذلك بمكان من الضعة والحقارة، يشعر الإنسان به حين يقرأ من مقطوعات شكسبير ما كتبه في أثناء مقامه بإيطاليا وما فيه من برم بالحياة وألم لازدراء الناس مهنة لم يكن له كي يكسب العيش مفر من احترافها، وزاد المهنة رفعة أن مثَّل شكسبير في حضرة الملكة إليزابث وأن نال من عطفها، وإن يك قد تنكر بعد ذلك لها حتى لم تذرف عليها عينه دمعة عند موتها ولم تتحرك شاعريته بعبارة ألم لرثائها.

وبقي شكسبير يؤلف في السنة الواحدة الرواية والروايتين ويمثلها مع زملائه الذين كانوا وإياه على خير وفاق، وقد أثار تاريخ تأليفه كل رواية من رواياته مباحث شتى حتى وضع (أومندمالوني) كتابًا سماه «محاولة لتحقيق الترتيب الذي كتبت به روايات شكسبير». (An attempt to ascertain the order in which the plays of Shakespeare were written.)

كذلك أنكر بعض النقاد نسبة بعض الروايات له كما أنكر بعضهم وجوده.

وفي سنة ١٦١٠ اعتزل المسرح وترك لندن إلى ستراتفورد حيث عاش عيشًا هادئًا مكتفيًا بما جمعه من مال مستمرًّا مع ذلك في كتابة رواياته، ويذهب بعض مؤرخيه إلى أنه كان مع ذلك يعود إلى لندن الحين بعد الحين ويشترك في تمثيل بعض الروايات حتى احترق مسرح الجلوب في ٢٩ يونيو سنة ١٦١٣ في أثناء تمثيل رواية هنري الثامن، هنالك انسحب شكسبير إلى قريته ولم تبقَ له عناية بغير رفاهته، فعاش عيش ذوي اليسار وطلق التمثيل والتأليف جميعًا، وجعل يقرض الناس بالفائدة مما أدهش كثيرين ممن كتبوا عنه، قال تين: «خاتمة غريبة تبدو لأول نظرة خاتمة تاجر لا خاتمة شاعر، أفنعزوها إلى هذه الغريزة الإنجليزية التي ترى السعادة في حياة رجل الريف صاحب الملك حسن الإيراد كريم الأصل الحاصل على أسباب الرغد المطمئن بين الناس إلى مكانته واحترامه وإلى سلطته العائلية ومكانته من قومه؟ أم أن شكسبير كان كفولتير رجلًا موزونًا وإن يك خيالي الذهن يحتفظ بقوة حكمه خلال نشاط شاعريته، حذرًا لتشككه مقتصدًا لحاجته إلى الاستقلال عن الناس، قديرًا — بعد أن يحيط بكل ما مر بخاطر الإنسان — أن يرى مع كانديد أن الخير كل الخير في أن يزرع حديقته؟ أما أنا فأميل لافتراض يدل عليه رأسه المليء المتين، ذلك أنه لكثرة ما أنتج خياله المتموج قد نجا كما نجا جيتي من مخاطر الخيال المتموج، وأنه في تصويره الشهوات قد بلغ ما بلغه جيتي من تخفيف حكم الشهوات إياه، وإن الاندفاع لم يحدث في سلوكه انفجارًا لأنه كان يجد في الشعر مصرفًا لاندفاعه، وإن رواياته حفظت عليه حياته لأنه ألمَّ من خلالها بكل ما في الحياة الإنسانية من هوس وتعس، فاستطاع أن يجلس بينها وعلى ثغره ابتسامة مطمئنة مكتئبة، وأن يسمع ليسري عن نفسه هذه الموسيقى الأثيرية التي أبدعها في رواياته، وأريد أن أفترض أخيرًا أنه كان في جسمه مثله في سائر تكوينه، أحد رجال جيله العظيم وعصره العظيم، وأن متانة العضل كانت عنده مثلها عند رابليه وتسيان وميكلنج وروبنز توازي حساسية الأعصاب، وإن الماكينة الإنسانية كانت يومئذٍ أقوى بناء وأحسن بلاء، فكانت تستطيع أن تقاوم عصف الشهوات واندفاعات الهوى، وإن النفس والجسم كانا ما يزالان متوازنين، فكان النبوغ يومئذٍ زهرًا وثمرة، ولم يكن مثلما هو اليوم مرضًا.»

•••

قد يكون هذا التصوير الذي فرضه تين لحياة شكسبير صحيحًا، لكنه لا يزيد على أنه فرض في رأي تين نفسه، على أنك إذا أردت أن تقف على أسرار شعر شكسبير ورواياته فقد وجبت دراسة ذلك كله دراسة لا يتسع المقام هنا لأكثر من الإلمام بشيء منها إلمامًا بسيطًا.

نشأ شكسبير — كما قدمنا — في العصر الذي عقب الانقلاب الديني الذي قام به مارتن لوثر، وتأثرت به إنجلترا أكثر مما تأثرت به أية أمة غيرها، وكان الذين أخذوا بالمذهب الجديد ما يزالون متأثرين قبل كل شيء بأساسه وهو حرية التفكير، وكان انهيار قيود الكثلكة هو البادي أمام الأنظار، ولم تكن بعد قد تركزت في النفوس قواعد المذهب الجديد تركزًا ثبت الإيمان بها تثبيتًا يحول دون تحطمها، كما لم تكن خلقت حول المذهب الجديد هذه الأوهام المحسنة التي تهون على الناس عبء الحياة فيخضعون لها طائعين؛ لذلك كله كانت جماعة ذلك العصر في إنجلترا تسيغ الإلحاد ولا تنزعج لإعلانه ولا تضطرب أمام ما يرتبه أصحابه عليه من تقشف أحيانًا واستهتار وإباحة أخرى وشك ثالثة، واعتدال في الحياة وفي المتاع بها اعتدالًا يبقي عليها ويطيل.

ولعل هذه الظاهرة كانت ذات أثر فيما رأينا من سلوك شكسبير ومن استباحته سرقة الصيد، وهي لا ريب كانت قوية الأثر في رواياته، فأنت ترى فيها من التجديف ومن الغواية، مصبوبين في أجمل قالب وأبهاه، ما لا يحتمله عصر غير عصره الذي كان مجاورًا للعصور الوسطى، والذي لم يتخلص من خرافاتها، وإن أباح لنفسه هدم هذه الخرافات.

وكما أثر العصر في شكسبير من ناحية حرية تفكيره فقد أثرت فيه هذه الخرافات من إيمان بالسحرة وبالجن حتى لنرى كثيرًا منها في رواياته، ثم إن هذا العصر الطليق المجاور للعصور الوسطى كان عصر اضطرابات ومجازر، وكان القتل أمرًا شائعًا فيه حتى لترى الرجل تُقْطَعُ عنقه لغير سبب إلا أنه أنكر على الملك سلطانه الديني أو أنه أغضب رجلًا ذا سلطان بإشارة أو بكلمة، أضف إلى ذلك ذيوع عادة المبارزة وانتهاءها في أحيان كثيرة إلى قتل أحد المبارزين، وهذا الاستهتار بالحياة الإنسانية هو سر ما نرى في أكثر روايات شكسبير من مجازر فظيعة تنتهي أغلب الأمر إلى موت أشخاص الرواية جميعًا.

ثم إن التمثيل على النحو الذي نعرفه اليوم كان في ذلك العصر ما يزال في دور نشأته حتى لم يكن معروفًا في كثير من البلاد ومن بينها فرنسا، فلم تكن قد تقررت له قواعد كالتي تقررت بعد ذلك من وحدة الزمن والمكان والحادث، ولذلك أنت ترى في شكسبير مناظر مختلفة في الفصل الواحد قد لا يكون بينها أية صلة، وقد يفصل بين المنظر والمنظر مئات الأميال، ثم إنك ترى كذلك في هذه الروايات خلطًا عجيبًا من أحط ما تنزل إليه الجماعة في حياتها العادية التافهة، ورفعة لا تدانيها رفعة في سمو الحيال وتصوير فعل الشهوات في النفوس.

وهذه الظواهر التي تجدها سائدة في دول أوربا كلها في ذلك العصر، بانت أكثر وضوحًا في إنجلترا، ومرجع ذلك أن الخلق الإنجليزي بطبيعته خلق ثائر طموح للحرية يفتديها بالدماء، وكان كذلك في تلك العصور الماضية أكثر مما هو اليوم، ولذلك كانت إنجلترا أسرع من غيرها إلى الأخذ بالمذهب الديني الجديد، ولذلك كانت مظاهر القسوة وما تلده من قتل وتعذيب أكثر تفشيًا بين هؤلاء السكسونيين، وكان من شأن السحرة عندهم ما لا تعجب بعده لطيف هملت ولا لساحرات مكبث، ثم كان من استهتار الناس بالحياة ما ترى آثاره في شعر شكسبير مما يجعل المتقشفة والمتصوفة أشد على الحياة حرصًا من أهل هذا الزمن، فليس عجيبًا إذًا هذا الذي نرى في شعر شكسبير من مجازر وخرافات وإن خيل لبعضهم بادئ الأمر أن فيه شيئًا من العجب يدعو إلى عدم تصديقه.

وإذ كان علم شكسبير راجعًا إلى ملاحظة الطبيعة أكثر من رجوعه إلى دراسة الكتب وكانت معلوماته التي استند إليها في تأليف رواياته لا تزيد على معارف سطحية في التاريخ والفلسفة والاجتماع، فإن كثيرًا من رواياته لا تعتمد على أكثر من أساطير سمعها أو قرأها في الكتب التي يتناولها الناس جميعًا، وفي مقدمتها تاريخ العظماء لبلوتارك، فرواية هملت تعتمد على أسطورة دانمركية ينكرها أكثر المؤرخين، ورواية روميو وجولييت أحدوثة إيطالية يغلب أن يكون شكسبير قد سمعها في أثناء سياحاته في شمال إيطاليا أو قرأها ولم يستتمها في بعض الكتب، ذلك أن هذه الأحدوثة تنتهي بأن روميو لما بلغه موت جولييت حضر إلى قبرها وبلغ من ألمه أن طعن نفسه بالخنجر، ولما كانت جولييت لم تتناول السم بل تناولت مخدرًا فقد استيقظت وروميو ما يزال في النزع، فبث كل منهما لصاحبه لاعج غرامه، وطعنت الفتاة نفسها بالخنجر الذي زج به محبها أعماق قلبه، ولم يشر شكسبير إلى هذه الواقعة الجديرة بأن تجري على أوتار ربة شعره بأرق أنغام الحب والألم، فدل بذلك على أنه لم يعرفها.

هذا التحليل للمحيطات التي وجد فيها شكسبير قد يفسر طريقة وضعه رواياته، وقد يهدي إلى أسرار ما ترى فيها اليوم مما نعتبره عند عدم وقوفنا على هذه المحيطات خرافة غير لائقة بعبقرية فذة كعبقرية شكسبير، لكنه مع ذلك لا يدلنا على شيء من سر عظمته ولا يهدينا إلى كثير من سر شعره، والحق أن البيئة والزمن وحدهما لا يفسران نبوغ النابغة ولا عبقرية الشاعر وإن بيَّنَا مراميه وكشفا عن أغراضه، فأما العبقرية فلازمة ذاتية وهبة قدسية تنفح بها الطبيعة شخصًا من الناس على حساب مواهب أخرى، وعبقرية شكسبير كانت في ملاحظته وفي خياله وفي شاعريته، وكانت في ثاقب نظره إلى حدٍّ يستطيع معه أن يرى دخيلة النفس الإنسانية وأن يصفها وصفًا حسبه الناس بادئ الأمر غواية شاعر، ثم أثبت العلم أنه الحقيقة العلمية التي لا تقبل نزاعًا ولا جدلًا.

وكانت مظاهر الطبيعة في أرق صورها وأجملها أول ما فاجأ خيال شكسبير، فأنت لا تقرأ له رواية ولا مقطوعة إلا وجدت من وصف هذه المظاهر وصفًا وديعًا يدلك على مبلغ تأثيرها في أعصاب هذا الشاعر الدقيق الحس تأثيرًا يجعله يندفع إلى الإعجاب بالجمال وتقديسه إلى أقصى حدود الإعجاب والتقديس، فيظهر أثر ذلك في شعره، ويظهر في رعشة موسيقية قوية رقيقة في قوتها، متجاوبة ثائرة في تجاوبها، تهز نفسك هزًّا وتسحرك عما حولك وتصل بك حتى ترى أمام خيالك ما رسمه خيال شكسبير ماثلًا واضحًا، وقد بلغ من تأثير هذه الصور في نفس الشاعر العظيم أن حلت منه محل التفكير حتى في شأن الحياة الإنسانية، فالرجل الغاضب كالطبيعة الثائرة، وما يترتب على ثورة الطبيعة من آثار هو بعينه عند شكسبير ما يترتب على غضب الإنسان من آثار، والطبيعة في سيرتها العادية تافهة حتى إذا ملكتها الثورة أبرقت وأرعدت وعصفت وأهلكت الحرث والنسل، كذلك الإنسان في سيرته العادية تافه حتى إذا ملكته الشهوة أسرف في الحب أو في البغض أو في الإيثار أو في التشفي والانتقام، والطبيعة خاضعة لظروف لا سلطان لها عليها، والإنسان خاضع مثلها لظروف لا سلطان له عليها، وكما تسير الغرائز الطبيعية تسير غرائز الإنسان، فكل صورة للطبيعة لها مثلها في الإنسان، ولذلك كان أسلوب شكسبير وكان خياله خيالًا تصويريًّا في وصفه وفي إحساسه وفي شهواته وفي تفكيره، اقرأ مكبث حين يصف آثار جريمته وكيف لا تستطيع البحار أن تمحو ما خلفت من دم على يديه، واقرأ هملت في ثورته على أمه وفي سائر هذياناته الحكيمة، بل اقرأ قيصر واقرأ في قيصر خطاب أنطوني، اقرأ ما شئت من شكسبير ترَ هذا التقديس لصور الطبيعة وهذا التفكير المصوغ في قالب تلك الصور.

وكما يندفع شكسبير إلى تقديس مظاهر الطبيعة ويتخذ من صورها صور تفكيره، فهو لا يرى في غرائز الحياة غير الاندفاع لا يقوم على أساس من روية ولا تفكير، وإنما يقوم على الغرائز الإنسانية البسيطة هي التي توجهه وتصرفه؛ فالحب عنده لا يحتاج إلى تحضير ولا سعي من جانب الرجل لكسب المرأة، بل هو اندفاع من جانب شابين كل منهما نحو صاحبه، اندفاع رقيق كل الرقة قوي كل القوة، اندفاع شعري عذب يتغنى فيه كل من المحبين بأهازيج الهوى على نغمة موسيقية حلوة كأنما كوبيدون إذ رمى عن قوسه فأوصد القلب رمى مع القوس الوتر، فأخرج هذا الوتر من أعصاب كل من المحبين أنات وآمالًا وأحلامًا لذيذة ويأسًا فاجعًا لا يعرف الشعر في كل الأمم شيئًا منه مثل ما عرف على لسان شكسبير، استمع إلى أنغام أوفليا في حبها هملت وتوجعاتها حين اليأس الذي أدى بها إلى الموت، واسمع هذا التجاوب الحلو بين روميو وجولييت يجعل من الحب جنة نعيم ليس بعدها جنة نعيم، ثم اقرأ ثوران الغيرة وضجيجها والتهابها في نفس أوتللو مما لا مثيل له في أقوى ما تصل إليه موسيقى فاجنر، وخيال شكسبير يصل من ذلك في بعض الأحايين إلى حدود يعجز أقوى خيال عن تصورها.

وكما تحرك الغرائز المحبين تحرك الناس جميعًا في كل تجارة الحياة، فليس الملك على خلاف الناس جميعًا لأنه ملك، بل هو يحب أهله وأبناءه ويدللهم ما دام بعيدًا عن مباشرة شئون الدولة، وهو في هذه الشئون يتأثر بغرائز الإنسان وشهواته كما يتأثر أي إنسان سواه، والرجل السيئ الذي خلقه شكسبير في شخص ياجو وفي شخص شيلوك تاجر البندقية ينقاد للغرائز الإنسانية انقياد الوحش أوتللو، والناقم هملت، وإن كانت صورة هذه الغرائز تختلف من شخص إلى شخص حسب مزاجه، وهذا الاختلاف هو الذي جعل من أبطال شكسبير أشخاصًا ذوي حياة إنسانية صحيحة تشعر وإياها إذ ترى تمثيل الروايات على المسرح، في حين أنك إذ ترى روايات راسين وكورني مثلًا — وهما من أكابر كتاب فرنسا في القرن السابع عشر — تحس المؤلف هو الذي يتكلم وترى أفكارًا تروح وتجيء على المسرح، وكل وظيفة الممثل أن يقوم بإلقاء الألفاظ التي تؤديها من غير أن تظهر له شخصية حية تنسيك أنه ممثل وتنسيك أنه يقوم بدور تمثيلي.

ولقد أقر النقاد جميعًا لشكسبير بهذه الميزة وإن رأى بعضهم أنه يسرف في تصوير أشخاصه إسرافًا يجاوز المعقول، ناسيًا أن هؤلاء الأشخاص هم من عصر شكسبير، وأنهم من أبناء خياله الشعري المتوقد، وكما اتُّهم بالإسراف ظلمًا في هذا فقد اتهم بتهمة أخرى أثبت العلم خطأ اتهامه بها، فقد ذهب بعضهم في وقت من الأوقات إلى القول بأن شكسبير يخالف الطبيعة والمعقول فيما يقرره لبعض أشخاص من تصرفات، من ذلك مثلًا أنك ترى مكبث يرتكب جريمة القتل فتتلوث يداه بالدماء، ثم هو مع ذلك يظهر في أماكن لا يأمن أن يراه الناس فيها ويصيح بأن مياه البحار لا تغسل جريمته، وعلى الرغم من إلحاح لادي مكبث فإنه يظل يتحدث عن جريمته ولا يداري شيئًا من آثارها، فهذا في رأي النقاد الذين أشرنا إليهم تصرف غير معقول، أليس أول ما يصنع المجرم أن يعمل ليداري جريمته؟ لكن العلم الجنائي أثبت أن شكسبير على حق وأن الطبيعة الإنسانية تدفع بالمجرم إلى مكان جريمته وتُكرِهه أكثر الأحايين على الاعتراف بها.

وليس مثل مكبث إلا واحدًا من أمثال كثيرة في ثقوب نظر شكسبير واستشفافه حقيقة الغريزة الإنسانية.

•••

هذا بعض ما تأثر به شكسبير في شعره، وهو قليل من كثير يستحق العناية به وبحثه، والآن أخشى أن أكون أطلت في حديث لم أكن أقصد إلى الإطالة فيه، وإن يكن القول في شكسبير قصيرًا وإن طال، فلنجتزئ بما تقدم، وبأن شكسبير بعد أن أقام في ستراتفورد مكتفيًا من العيش بطمأنينته ونعمته، ظل حتى سنة ١٦١٦ ثم مرض فكتب وصيته بما يملك إلى ابنته سوزان غير تارك لزوجه إلا قليلًا، وفي هذه السنة مات ودفن من غير كبير احتفال، إلى أن اضطر العالم بعد أجيال ليقيم له من المجد ما يبقى على الأجيال حتى آخر الزمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤