محمود باشا سليمان

… وهذا أيضًا محمود سليمان باشا قد مات، فأضاف حلقة إلى سلسلة عظماء مصر الذين ودعوا عالمنا في السنتين الماضيتين.١ لكنه ودعه على صورة غير تلك التي ودعوه عليها، هم كانوا بين مجاهد تحفزه قوى الشباب للجهاد، وآخر بعض طبعه الكفاح، وثالث اضطر لاعتزال الناس اضطرارًا، أما هو فجاهد لخير وطنه في شبابه، ثم جاهد له في كهولته، ثم جاهد له وقد نيف على التسعين، وبعد اعتزامه الانقطاع إلى الله وعبادته، فلما دب الخلاف بين المصريين واندلع لهيب الفتنة في البلاد نأى عن الفتنة مختارًا وعكف على ما اعتاد من عبادة وتقوى، وظل في تقواه وفي عبادته ينتظر بقلب مطمئن ونفس هادئة اليوم الذي يختاره الله فيه إلى جواره، فلما كان عصر يوم الثلاثاء الماضي أغمض عينه عن عالمنا هذا ليفتحها هناك في العالم الذي قضى سنيه الطويلة يرجوه، عالم أجر وسعادة لا يعرفان الزمان ولا المكان لأنهما يسموان على كل زمان ومكان.

وليس كثيرين من أبناء هذا الجيل مَنْ يذكرون شخص محمود باشا سليمان، وإن كانت أجيال مصر المتعاقبة، وكان تاريخ مصر يذكره أطيب الذكر، وليس كثيرون من يذكرون هذا الرجل المهيب في وقاره النحيف في جسمه الطويل القامة في اعتدال، الحاد النظرات الأسمر اللون الجليل المشيب، ولئن كانت قد مضت سنوات لم أره فيها، فإني ما أزال أذكر أول مرة رأيته، وكنت ما أزال طالبًا بالحقوق، وكنت أتردد على دار «الجريدة» عند أستاذنا لطفي بك السيد، فبينا أنا هناك في أحد أيام ربيع سنة ١٩٠٨ دخل محمود باشا سليمان فحياه الحاضرون في إجلال واحترام وقدمني له لطفي بك، وأشهد لقد جلست وفي نفسي شيء من الرهبة أمام هذا الشيخ الذي يحمل طي تجاعيد وجهه صحفًا مجيدة من تاريخ مصر، جلست وجعلت أحاول أن أختلس — في نظرات يداخلها الحياء والخوف — صورة رئيس حزب الأمة آتيًا يتحدث إلى كاتب حزب الأمة، وانتظرت أن يتكلم، فمضت لحظات خلتها طويلة وخلت معها أن وجودي قد يحول دون الشيخ والكلام، فاستأذنت وانصرفت، ولم أره بعد ذلك غير مرات قليلة كانت الأخيرة منها حين كان رئيسًا للجنة الوفد المركزية وحين كانت تتعلق باسمه آمال الوفد المصري في أوربا، وآمال المصريين في مصر.

هذا الرجل قد غادرنا بعد أن طوى رحلة الحياة في أناة وتؤدة ووقار، وانتقل منها في مثل هذه التؤدة والأناة والوقار إلى جوار ربه وما يرجو من حسن ثوابه، غادرنا بعد إذ خلف وراءه تاريخًا حافلًا جليلًا وذكرًا لا تشوب سواطع نوره شارة من ظلام؛ فلقد وهب هذا الرجل حياته كلها لله ولوطنه ولأبنائه، كان في عهد إسماعيل باشا الخديو رجلًا كاملًا مسموع الرأي نافذ الكلمة، ترك عمدية بلده ساحل سليم ونظارة القسم التي تتبعه إلى وظائف وكيل مديرية في جرجا وفي أسيوط، فلما صدر القانون النظامي بعقد مجلس النواب في عهد توفيق باشا تقدم للنيابة عن الأمة وانتخب عضوًا بمجلس النواب وألقي عليه أن يلقي خطاب العرش، وكان له في هذا المجلس مواقف يذكرها له التاريخ.

فلما شبت نار الثورة العرابية كان من بعيدي النظر الذين قدروا ما يمكن أن يصيب البلاد من جرائها، فتنحى عن الاشتراك فيها كما تنحى بعد ذلك عن الاشتراك في النظام الذي أعقبها، فمع هذه المكانة الكبيرة التي كانت له، ومع ما أظهر من مقدرة في مجلس النواب الذي سبق الثورة، ومع أنه لم يكن من أنصار الثورة وأعوانها، فإنه لم يرَ بعد فشل الثورة واحتلال الإنجليز مصر أن يتقدم للعمل العام تحت النظام الجديد الذي سنه الإنجليز لمصر حين استصدروا من الخديو قانون مجلس الشورى والجمعية العمومية، بل تنحى عن العمل العام وترك القاهرة إلى الصعيد، وعكف على عمله الخاص وعلى البر بالفقراء، وظل كذلك من سنة ١٨٨٢ إلى سنة ١٨٩٥ حين أخرجه ظرف محلي خاص من هذه العزلة وجعله يتقدم لعضوية مجلس الشورى، وما لبث أن عاد إلى القاهرة وإلى العمل العام حتى انتخب وكيلًا للمجلس وحتى كانت له فيه مواقف مشهودة.

وإذا كان للتاريخ أن يذكر السابقين إلى مطالبة الإنجليز بأن يخلوا بين مصر ووضع نظام الحكم فيها؛ فلقد كان المغفور له محمود باشا في مقدمة هؤلاء، كان في مقدمتهم منذ كان عضوًا في مجلس الشورى وحين ترأس بعد ذلك حزب الأمة.

وإذا كان للتاريخ أن يذكر السابقين إلى الأحزاب المنظمة، فإن محمود سليمان باشا هو أول من ترأس حزبًا ذا برنامج ونظام في مصر؛ فلقد كانت الأحزاب المصرية إلى يوم تشكيل حزب الأمة تقوم على فكرة الدعوة لعمل واحد معين، فالحزب الوطني أيام عرابي باشا كانت مطالبه محصورة في الدستور وفي التسوية بين المصريين والأتراك من رجال الجيش، والأحزاب والهيئات التي جاءت بعد ذلك كانت تطلب مطلبًا واحدًا كجلاء إنجلترا عن مصر أو ما هو من ذلك بسبيل، أما حزب الأمة فكان أول الأحزاب التي وضعت لها برنامجًا مفصلًا يتناول مرافق البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية جميعًا، وعلى نهجه سلكت الأحزاب الأخرى بعد ذلك.

ولقد تألف حزب الأمة على هذه الصورة في أخريات سنة ١٩٠٧ وسبقته الجريدة التي كانت بعد ذلك لسان حاله بشهور، وكان رئيس شركة الجريدة ورئيس حزب الأمة هو المغفور له محمود باشا سليمان، فلما حدثت بعد ذلك بسنوات أسباب للخلاف بين المسلمين والأقباط وكان من أثرها أن عقد الأخيرون مؤتمر أسيوط يتهمون فيه حكومات ذلك العصر بأنها تُنْئِي الأقباط عن مناصب الحكم ولا تعطيهم حظهم الكامل منها، وكانت هذه الحركة خطيرة النتائج، كان محمود سليمان باشا من الذين تقدموا للقضاء عليها ولإعادة الألفة بين العنصرين؛ ولذلك تألف المؤتمر المصري بهليوبوليس واختار رياض باشا رئيسًا له ومحمود سليمان باشا وكيلًا له، وفند مزاعم الأقباط يومئذٍ وأظهر الناس على أن لهم من مناصب الحكم أكثر من نسبتهم العددية بكثير، ودعاهم إلى أن يكونوا في وحدة الأمة صفًّا.

وجاءت الحرب الكبرى وكان محمود باشا قد جاوز الثمانين وحق له أن يستريح من عناء العمل وأن يخلص كل نفسه لله في انتظار لقائه إياه، والحق أن صفحات الجهاد التي كانت له في ماضيه وما قام به كأب من حسن العناية وجميل البر بأبنائه كان كافيًا وفوق الكفاية ليكتب لهذا الرجل صحيفة مجد باقية، وصحت عزيمته على الاعتزال والانقطاع لله حتى لقد خرج من ماله لأبنائه في سنة ١٩١٦ واعتزم عيش الزهادة والنسك وتمام الانقطاع لله، وما أجمل هذه الشيخوخة الطاهرة المنزهة عن شوائب الهوى، والتي قامت فيما سبق لها من سني الحياة بما يطلب إلى الرجل من جد وبر وتقوى، تقضي في حساب النفس والقربى إلى الله ورجاء مغفرته وثوابه، ما أجمل الشيخ يصل إلى قمة الحكمة بعد أن يطوف من الحياة بشهواتها وأهوائها ومطامعها ومالها ومجدها فتدعوه الحكمة إلى أن ينظر إلى الأهواء والمطامع والشهوات جميعًا نظرة إصغار أن كانت لا بقاء لها ولا متاع للنفس بها، وإنما المتاع بإمعان النظر في الكون واستكناه ما فيه من خير وحق وجمال.

على أن الأقدار كانت قد احتفظت لمصر بصفحة أخرى من صفحات المجد يخطها محمود سليمان باشا، ليكُنْ لشيخوخته عليه حق، ولتكن خير خاتمة المرء أيامًا تُقضَى في العبادة والتقوى، وليكن محمود سليمان قد خرج من دنياه تاركًا إياها إلى أولاده وانقطع لنفسه ولربه، ليكن ذلك كله فإن للوطن مع ذلك عليه حقًّا، وهو لم ينسَ يومًا حق الوطن عليه؛ لذلك ما كادت الحرب العامة تضع أوزارها، ثم ما كادت الحركة الوطنية المصرية تبدأ، حتى إذا هذا الشيخ خرج مرة أخرى من عزلته وجاء ينضم إلى صفوف المجاهدين لإعلاء شأن الوطن ورفع مناره وتقديس كلمته، ولئن كان قد نيَّف على الثمانين فلن تزيده سِنُّهُ ولن يزيده مجده ومقامه وعظمته إلا حرصًا على الوقوف في الصف الأول من صفوف المجاهدين، وأن يكون في مقدمة من يتعرض لما يصاب به من يتعرض للدفاع عن عظمة هذا الوطن واستقلاله، وكان منظرًا يبهر النفس ما فيه من مهابة وإجلال، فقد جلس محمود باشا في رياسة لجنة الوفد المركزية يوم كانت البلاد تضطرب أحشاؤها من أقصاها إلى أقصاها ويوم كانت الأحكام العرفية بالغة قسوتها أعظم مبلغ، جلس في رئاسة لجنة الوفد المركزية وجعل من داره كعبة قصاد خدمة الوطن وأقسم لا يتزحزح إلا أن تزحزحه القوة، وأرادت القوة يومًا أن تبتلي ثباته وعزمه فأصدرت له الأمر أن يبرح القاهرة، فإذا به لا يبرحها حتى ذهبوا إلى ذهبيته وأبعدوها عن ميدان العمل السياسي على كره منه، ولقد كان في ذلك — كما كان في غيره — سباقًا إلى مثل التضحية والمكانة العلية، وكان في هذا مثلًا عاليًا من النزاهة والتضحية لخير الوطن.

ولما آن للبلاد أن ينقسم بعضها على بعض وأن تقوم بين أهلها الفتنة، اعتزل الميدان نهائيًّا وإن لم ينسَ قديم صلاته بأصدقائه سواء منهم من كان في فريقه السياسي أو من كان في فريق مخاصم له، وعلى اشتداد الخصومة في وقت من الأوقات بين الأحرار الدستوريين وسعد زغلول باشا فإن محمود باشا سليمان كان أسبق من أرسل إلى سعد باشا على أثر عودته من جبل طارق يهنئه بسلامة مقدمه، وكذلك كان في هذه كما كان في غيرها عظيمًا ساميًا فوق شهوات الساعة، كبيرًا عن أن يتأثر بالأهواء الطارئة.

ومن يوم اختلفت الأحزاب في مصر عكف هو على ما كان قد اعتزم منذ سنوات من الانقطاع لله ولعبادته، وظل كذلك حتى ارتضاه الله إلى جواره يوم الثلاثاء ٢٢ يناير سنة ١٩٢٩، ارتضاه إلى جواره فخلف هذه الدنيا في أناة وتؤدة وحكمة كما عاش فيها في أناة وتؤدة وحكمة.

هوامش

(١) كتبت هذه الرسالة لمناسبة وفاته في ٢٢ يناير سنة ١٩٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤