مقدمة

هل تساءلتَ يومًا عن سببِ قدرتنا المادية على شراءِ ملابسَ أكثرَ بكثير مما استطاع أجدادُنا شراءه في أي وقتٍ مضى، وعدم قدرتنا على الأرجح على امتلاكِ منزلٍ للاحتفاظ فيه بهذه الملابس جميعها؟ ولماذا يتضاعف سعرُ فاتورةِ البنزين الخاصةِ بك في غضون أشهر، ولكنه لا ينخفض بالسرعةِ نفسِها؟ ولماذا تغضُّ حكوماتنا الطرْف عن بعض الفظائع حول العالم، ولكنها لا تتردَّد في الخوض في صراعاتٍ أخرى؟

قد تدفعك قراءةُ الأخبار هذه الأيام إلى التساؤل عمَّا إذا كان هذا الوضع سيسمح لأيٍّ منَّا أن يتحمَّل نفقاته كلما تقدَّم في العمر، أو عمَّا إذا كان من الممكن توافر ما يكفي من الوظائف في زمنٍ تسود فيه الهجرة الجماعية.

إن الاقتصادَ هو المحرِّك الرئيسي لكلِّ هذا. وهو الكلمة التي أضحَت هذه الأيام من بين الكلمات التي تثير انزعاجًا، لا سيما منذ الانهيارِ الاقتصادي في عام ٢٠٠٨. فقد أصبحت كلمةُ «اقتصاد» اختصارًا للنظام المُحَيِّر الذي فقدَ كثيرٌ منَّا ثقتَه فيه. فقد تعرَّض الاقتصاديون — المتنبئون بالأحوال المالية — للنقدِ المستمر في وسائل الإعلام. والسببُ هو عجزُهم عن رؤية العاصفة القادمة، وعدم تَمَكُّنِهم من فعلِ ما يلزم لإصلاح الضرر الذي خلَّفته العاصفة. يبدو عادةً الذين يحرِّكون الأمورَ في الظل — الساسة والشركات المجهولة الهوية — إما جاهلين، أو سيئي النوايا، وهو الأسوأ.

يُطلق على الاقتصاد أحيانًا العِلم الكئيب، ولكن يُمكن أيضًا وصفُه بالعِلم الذي تحتكره فئةٌ معيَّنة. يعقد المنتدى الاقتصادي العالمي اجتماعَه السنوي الذي يقتصر على الأشخاصِ المدعوِّين فقط من كبار رجال الأعمال وقادة الحكومات في دافوس، وهي بلدة نائية تقع في جبال الألب السويسرية. يأتي المندوبون من كل حَدَب وصَوب، والغريب في الأمر هو استقدامُ أحدِ نجوم هوليوود اللامعين مثل أنجيلينا جولي أو ليوناردو دي كابريو للمشاركة بغيةَ إضفاء زَخْم إضافي على الحدث. بات مصطلح «رجل دافوس» (لا يزال أغلبهم من الرجال) كلمةً عامية تُطلق على عضو النُّخبة العالمية. إن مناقشات هؤلاء الرجال التي تُجرى في قاعات المؤتمرات أو في الدهاليز أو أثناء تناولهم المشروبات هي التي تدعَم القرارات التي تتحكَّم في مصائرنا.

من المُسْتَبْعد أن يتلقى معظمُنا دعوةً لحضور المنتدى الاقتصادي في دافوس، ولكن، حتى لو لم نكن حاضرين في القاعة، فلا يزال بمقدورنا فهْم تلك المناقشات، ونحن بالفعل بحاجةٍ إلى فهْمها. قد يكون «رجال دافوس» هم الذين يحرِّكون الأمورَ من وراء السِّتار، لكن فهْمنا للكيفية التي يعمل بها النظام من شأنه أن يمنحنا جميعًا المزيدَ من السلطة. ويمكننا ممارسةُ هذه السلطةِ ليس فقط من خلال اختيار الساسة الذين نُصَوِّت لهم، وإنما أيضًا من خلال القرارات البسيطة التي نتخذُها جميعًا بشكلٍ يومي، أيًّا كان مكاننا في العالم.

لقد كانت رغبتي في إخبار الناس عن عالَم الاقتصاد الغريب، وآثاره علينا جميعًا، هي ما دفعني إلى ترْك وظيفتي في قاعةِ تداول بلندن والعمل بغرفة أخبار. (على المستوى الشخصي، ربما لا يُعَد هذا القرارُ الاقتصادي الأكثرَ عقلانية.) والآن، مع تداعيات الأزمة المالية التي لا تزال تخيِّم على الصورة، أردت أن أقدِّم رؤيةً أوضحَ للكيفية التي تُشكِّل بها القوى الاقتصاديةُ العالَم الذي نعيش فيه. ومن هنا بدأت فكرةُ الكتاب.

•••

إليكم دينيس جرينجر. لا تدَع مظهرَه اللطيف يخدعك: فالشَّيب في رأسه وطلاقة لسانه وحُسن هندامه أشياءُ تُنبئ بأنه مديرُ بنكٍ متقاعدٌ من شمال شرق إنجلترا. ولن يخطر ببالك أبدًا حين تنظر إليه أنه شخصٌ قضى ما يزيد على العقد من الزمان في شن حربٍ مريرة على عالَم الأموال الغامض.

في عام ١٩٩٨، بدأ دينيس وظيفتَه الجديدة في أحد أفرع بنك «نورثرن روك» البريطاني، وكان مقر هذا الفرع مدينة ساندرلاند. وفي خضم سعيه للتخطيط بجِدِّية لمستقبله، ادَّخر دينيس كلَّ بنس على أملِ التقاعد في غضون ١٠ سنوات. لم يكن دينيس مؤهلًا للحصول على معاشٍ من البنك الذي يعمل به؛ لذلك اشترى بدلًا من ذلك أسهمًا فيه: بالنسبة إلى مواطنٍ محلي، ما الذي يمكن أن يكون أكثرَ أمانًا من بنكٍ محلي قوي؟ أصبح بنك «نورثرن روك» مصدرًا وطنيًّا لحسابات التوفير والرهونات العقارية للملايين في المملكة المتحدة بعد بداياته المتواضعة في القرن التاسع عشر. كان بنكًا محلَّ ثقة؛ وكان جزءًا من المنظومة.

ربما شعرت زوجة دينيس بالقلق عندما انخفضت أسعارُ أسهم البنك إلى حدٍّ ما في عام ٢٠٠٧، مما هدَّد خططَ التقاعد الخاصة بهما، لكن دينيس ظلَّ على ثقته في البنك. ولكنَّ هذه الثقةَ لم تدُم؛ ففي يوم ١٤ سبتمبر، اعترف بنك «نورثرن روك» أن موارده المالية أوشكت على النفاد، الأمر الذي ألجأه إلى السعي للحصول على دعمٍ طارئ من بنك إنجلترا. بدأ الذعر يخيِّم على المشهد. وهُرع المدَّخِرون إلى فروع البنك الاثنين والسبعين لإنقاذ المدَّخَرات التي جمعوها طَوال حياتهم. اصطفَّت جموعُ المدَّخِرين حول مبنى البنك؛ وأصبحت جميع خطوط الهواتف مشغولة. سعى السياسيون إلى طمأنة الناس بشأن مستقبَل البنك، لكن قوائم الانتظار استمرَّت في التزايد حول فروعه، ومنها فرعٌ واقعٌ على بُعد أمتار قليلة من بنك إنجلترا. كان أولُ تهافُت لسحبِ الودائع من بنك بريطاني منذ ١٥٠ عامًا على وشْك الحدوث. وكان مشهدًا لا يُصدَّق في العاصمة المالية للعالم. وراء الكواليس، بذل السياسيون والمصرفيون المُحرَجون جهودًا كبيرة لتفقُّد الخيارات للخروج من الأزمة التي أطلقوا عليها بشكلٍ سريالي «مشروع إلفيس».

وفي غضون شهور، كانت الحكومة قد استحوذت على البنك، وأصبحت أسهُم دينيس التي كانت تساوي في يومٍ من الأيام ١١٠ آلاف جنيه إسترليني بلا قيمة. لقد نجح دينيس في تحقيقِ ما لا يستطيع تحقيقه إلا القليل منَّا: لقد حرص على الادخارِ لتأمين مستقبله. ولكن ذهبت كلُّ جهوده سُدًى.

أصبح بنك «نورثرن روك» الآن مرادفًا للانهيار الاقتصادي لعام ٢٠٠٨ الذي علَّمنا أن نتوقَّع ما هو غير متوقَّع. لم يدرك معظم الناس أن الكارثة كانت قادمةً منذ بدت أولى علاماتها، وأنها ستكون على نطاقٍ عالمي غيرِ مسبوق. وعندما حلَّت الأزمة، كان دينيس الحكيم من بين أولئك الذين دفعوا ثمنًا باهظًا نتيجةً لسوء تصرُّف الآخرين، ولا يزال يناضل من أجل الحصول على تعويضٍ من حكومة المملكة المتحدة. ولم يفعل ذلك من أجل نفسه فقط، لكنه قاد حملةً نيابةً عن كثيرٍ من أصحاب الأسهم السابقين. في عالَمٍ بعيدٍ عن الساسة ورجال الأعمال الأثرياء الذين شَهَّرَت الصحافة بهم في أعقاب الأزمة، فإن العديدَ من أولئك الذين يسعون إلى الحصول على تعويضات هم أراملُ أو أبناءُ موظفين سابقين كانوا يعتقدون أن بنك «نورثرن روك» آمنٌ مثل المنازل التي مَوَّلها.

فمن المسئول عن مثلِ هذه الكارثة؟ إن حكومة المملكة المتحدة هي المُطالَب الأول بدفع التعويضات، لكن اللوم على الأزمة التي قضَت على مدخَرات هؤلاء الأشخاص العاديِّين قد يقع على أطرافٍ أخرى. قد نلوم المصرفيِّين الذين تحايلوا على القواعد واعتمدوا على أموالٍ مشكوك فيها لتعزيز أرباحهم. أو قد نلوم هؤلاء المقرِضين الذين وافقوا على قروضٍ لا يستطيع المستهلِكون الأمريكيون سدادَها. قد نتساءل كيف أسهمت تصرُّفات الأفراد في أزمةٍ بهذا الحجم، أزمةٍ يبدو أنها خارجَ نطاق السيطرة.

لكي نفهمَ تمامًا ما حدَث لدينيس والملايين غيره ممن تضرَّروا في عام ٢٠٠٨، نحتاج إلى النظر في آليةِ عمل الاقتصاد العالمي.

يصبح العالَم الذي نعرفه أصغرَ وأكثرَ تعقيدًا في الوقت نفسِه. يعيش سبعة مليارات منَّا ويعملون على هذه الأرض، ونحن جميعًا نتنافس على العناصرِ نفسها التي تتوافر بكمياتٍ محدودة: الطعام أو النفط أو حتى الهواتف الذكية. إنه نظامٌ مترابط بشكل متزايد؛ إذ يمكن أن تؤديَ كلمة من أحد المصرفيِّين في واشنطن أو برلين إلى جوع أشخاص متقاعدين في اليونان، أو ترْك شابٍّ لعائلته ليقوم برحلة عبْر أفريقيا جنوب الصحراء بحثًا عن حياةٍ أفضل. غالبًا ما يبدو هذا الانكماشُ في العالَم، أو العولمة، كأنه قوةٌ غير شخصية هائلة، تعمل لصالح البعض، وتتعامل بقسوة مع البعض الآخر. ويبدو أنه لا مناصَ من هذه القوة.

وعلى بُعد ثماني مناطقَ زمنية في بكين، كانت تجربة وانج جيانلين مختلفةً تمامًا عن تجربة دينيس جرينجر. وُلد وانج جيانلين في مقاطعة سيشوان عام ١٩٥٤، وعلى خُطى والده، التحق بجيش التحرير الشعبي، لكنَّ هذا التقليد العائلي لم يكن كافيًا لإرضاء وانج. وبدلًا من ذلك، في غضون بضعة عقود، أصبح وانج قُطبًا من أقطاب العقارات وتُقَدَّر ثروته بمليارات الدولارات، واستمر في تكوين مجموعةٍ عالمية تضم أكبرَ سلسلة دُور سينما في العالم ولوحات بيكاسو الباهظة الثَّمن. لا توجد أوجهُ مقارنة بين الكثير من حرسِ الحدود الصينيين السابقين والمجرمين في روايات وأفلام جيمس بوند، لكنَّ جندي المشاة الشيوعي السابق هذا لديه إمبراطوريةٌ من الممكن أن تثيرَ حسدَ إيرنست ستافرو بلوفيلد. أنفق وانج ثروتَه على سلسلة قاعات «أوديون» و«إيه إم سي»، الأمر الذي مكَّن الأوروبيين والأمريكيين من الاستمتاع بأفلام هوليوود الناجحة التي حُظرت في الصين. واشترى بمبلغ ٤٥ مليون دولار أمريكي حصة ٢٠ في المائة في نادي كرة القدم الإسباني الرائد «أتلتيكو مدريد»، في الوقت الذي كان فيه ١٠٠٠ يورو هو ثَمن تذكرة موسمية. لقد كان شراؤه للشركة الصانعة اليخوت التي بنَت سفنًا لسلسلة أفلام جيمس بوند هو ما أدَّى إلى مقارنة وانج بأباطرة الكاتب إيان فلمنج الأشرارِ في الصحف. أشادت مجلة «ذي إيكونوميست» بطموحه الذي يضاهي «طموح نابليون» وبهيئته التي لا تزال متناسقةً وتعكس «الانضباط الحديدي» الذي يدير به مشروعاته. على الرغم من نشأته العسكرية المنضبطة، فإن هدفَه الرئيسي هو الترفيه عن الملايين حول العالم كلَّ أسبوع. إنه ليس رياضيًّا أو نجمًا سينمائيًّا؛ إنه أغنى رجل في الصين.

على الرغم من كون وانج رائدَ أعمال ورجلَ أعمال ماهرًا، فإن هذا ببساطة لا يكفي لاغتنام الفرصة المناسبة. إن سببَ نجاح وانج هو استغلال التغيُّرات الاقتصادية العالمية الضخمة التي شهدناها على مدى الثلاثين عامًا الماضية لمصلحته. وبصفته أحدَ المصنِّعين الرئيسيِّين، وهو أيضًا مستثمرٌ وقد أصبح مؤخَّرًا مستهلِكًا ضخمًا، فقد حقَّق وانج أقصى استفادة من هذه التغيُّرات، من تطوير العقارات التجارية التي دعمَت التحولَ الصناعي في الصين إلى دعم مراكز الكاريوكي للطبقات المتوسطة الحضرية المزدهرة. إن النهضة التي تشهدها الصينُ هي أيضًا واحدةٌ من القصص السياسية الرئيسية في عصرنا. وهي قصةٌ آسرة، وكما سنرى، فهي مرتبِطة من نواحٍ كثيرة بما حدث لدينيس جرينجر.

هذه مجرَّد قصصٍ لاثنين من مليارات البشَر على كوكبنا، لكنها تُظهِر كيف يمكننا أن نرتقيَ أو أن نهويَ بفعل قوى الاقتصاد العالمي؛ القُوى التي غالبًا ما تبدو خارجةً عن نطاق سيطرتنا.

يمكن تعريفُ الاقتصاد العالمي بأنه جميعُ المعاملات والتفاعلات والمشتريات والاتفاقيات التي تعتبر تجارةً بشكل عام. بمرور الوقت، يتراكم تدفُّق الدخل الناتج عن تلك العلاقات التجارية ليشكِّل الثروة. يتشكَّل الاقتصاد والقوى التي يحتويها من خلال تصرُّفات الأفراد؛ سواء في دافوس أو في إحدى الأسواق في شوارع كلكتا، بطرقٍ قد لا يقصدونها.

ومع ذلك، ثمَّة شيء واحد مُؤَكَّد: نحن جميعًا خاضعون لهذه القوى، وسواء كان بإمكاننا السيطرة عليها أو لا، فمن المهم معرفةُ كيفية عملها، وكيف تؤثِّر على حياتنا.

•••

في لندن ونيويورك، وفي باريس وميلانو، وحتى في بكين، يُعد أسبوع المُوضة من الأنشطة التجارية الضخمة، لكننا لم نَعُد بحاجةٍ إلى ميزانيةٍ تكفي لشراء أجمل إطلالات الأزياء الراقية من منصة العرْض. ففي غضون أسابيع، ستظهر التصاميمُ على رفوف متاجرنا المحلية «بريمارك» أو «زارا». بينما نلقي نظرةً على أروقة المتاجر، قد نلاحظ عددَ الملابس المصنوعة في الشرق الأقصى. ونحن عندما نشتري من متاجرَ تجزئة مثل هذه، فإننا لا نلبي احتياجاتنا الشخصيةَ للمُوضة السريعة فحسب. إن عملية الشراء هذه تجعلنا جزءًا من قصةٍ عالميةٍ أكبرَ بكثير. بينما نبحث عن الأسعار المنخفضة وأحدثِ الصيحات، فإننا نقوم بتحويل الدخل إلى الجانب الآخر من العالَم، لصالحِ أشخاصٍ آخرين. ليس سرًّا أن مُصنِّعي الملابس يستغلون العمالةَ الرخيصة في آسيا. لكنَّ القصةَ أكثر تعقيدًا؛ لأنه من خلال شراء هذه المنتجات ربما نكون قد أسهمنا في الأسباب التي أدَّت إلى أزمةٍ مالية في وطننا، متسبِّبين في ضررٍ يَلحق بسبل معيشتنا ومعيشة أحبائنا.

إن وراء كل معاملة تجارية قصة. كل جنيه أو يورو أو ين ننفقه يروي قصة. ولكن مع التدفُّق الدولي المستمر للأفراد والنقود والأفكار، قد يكون من الصعب تكوينُ فكرة عن مدى الترابط بينها. لكن يمكننا فِعل ذلك، من خلالِ تحليلِ القرارات وكذلك المنطق الكامن وراء المعاملات التجارية، حتى تلك التي تبدو عديمةَ الأهمية، وتتبُّع تأثيرها وكيفية ارتباطها.

تخيَّل مليارات المعاملات التجارية التي تُنجَز بشكل يومي؛ ربةَ منزل في أمريكا أو نيجيريا تشتري بقالة، أو سيدةَ أعمال فرنسية تُودِع أرباحَها في البنك، أو أبًا هنديًّا يدفع ثَمن حفل زفاف ابنته، أو شخصًا أستراليًّا يشتري بيرةً لحفل شواء. عندما نذهب للتسوُّق، إذا كنا خارج الولايات المتحدة، فمن المحتمل أننا لا ننفِق الدولارات. قد نعتقد أن الدولار ما هو إلا عملة واحدة من بين العديد من العملات؛ قطعة من الورق أو معاملة إلكترونية تسمح لنا بشراء أو بيع السلع في الولايات المتحدة. لكننا سنكون مخطئين إذا فكَّرنا هكذا. الدولار ليس مجرَّد عملةٍ مثل بقية العملات. بادئ ذي بدء، يُعَد الدولار واجهةَ القوة الاقتصادية الأمريكية. مثل جميع العملات، يمكن اعتبارُ الدولار مقياسًا لثروات الدول. نحن نسمع ساسةً ومعلِّقين يتحدثون عن قوةِ أمةٍ من حيث عُملتها: «انخفض سعر الجنيه اليوم»؛ «ارتفع سعر الين». بالطبع الدولار قويٌّ. إنه يمثِّل أقوى أمة على وجهِ البسيطة. وبالنسبة إلى أولئك الموجودين على الأراضي الأمريكية، فإنه يمثِّل أيضًا قوةَ الحُلم الأمريكي.

الدولار هو أيضًا واجهةُ القوة الأمريكية والمصالح الأمريكية. إن الدولار لا يجلِب القوةَ الشرائية فحسب؛ بل يجلِب النفوذ. إن امتلاك دولار، أو عدم امتلاكه، يمكن أن يمليَ الطريقة التي تعيش بها الشعوب على الجانب الآخر من العالم. اشتهرت دبلوماسيةُ الدولار، أي استخدامُ الاستثمارات أو القروض الأمريكية للتأثير على السياسة في الخارج والوصول إلى الأسواق الخارجية، في جميعِ أنحاء أمريكا اللاتينية، لكن وجودها أصبح محسوسًا في جميع أنحاء العالَم منذ استقلال أمريكا.

يعتبر الدولار، على الرغم من ذلك، أكثرَ من مجرَّد رمزٍ للقوة والنفوذ: إنه أيضًا أحدُ أكثر مخازن القيمة ثقةً في العالم. فقد يجد عمالُ الإغاثة أن ضخَّ الدولارات بشكلٍ سريع هو أسرعُ طريقة لتوفير المعدَّات للتخفيف من وطأة أزمة إنسانية في المناطق التي تعاني حالةً من عدم الاستقرار الشديد. مع ارتفاعِ الأسعار في الأرجنتين في عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٢ وانخفاضِ قيمة البيزو بسرعة، رأى بعضُ الأثرياء أن إخفاء مُدَّخراتهم بالدولار تحت مرتبةِ السرير هو الخِيار الأكثر أمانًا. فالدولار مستقر، ومن ثَم فهو عملة بديلة شائعة. وبالمِثل، فهو المفضَّل لدى رجال الأعمال والساسة الفاسدين في كل مكان؛ إذ يتمتَّع بالقبول العام، ويسهُل إنفاقه.

لا يتوقَّف الأمر عند هذا الحد. فالدولار هو أيضًا «العملة الاحتياطية» في العالَم، وسنكتشف المزيدَ حولَ ما يعنيه هذا لاحقًا. في الحقيقة، يتعلَّق الأمر بالثقة. فالدولار هو العملةُ الأكثر موثوقيةً في كل مكان، سواء بالنسبة إلى البنوك اليابانية التي تُخزِّن ثرواتها أو بالنسبة إلى تاجرٍ من بنما يُقايض في السوق. وحتى في روسيا السوفيتية، يُفَضِّل الكثير من الناس الدولارَ الأمريكي على الروبل الروسي.

ونظرًا لأن الدولارَ هو العملةُ الأكثر موثوقيةً على وجهِ البسيطة، فقد أصبح أداةً قوية لإنشاء الاقتصاد العالمي الذي نحن جميعًا جزءٌ منه، شئنا أم أبينا. تحدُث العولمة لأننا وجدنا طرقًا لربطِ الناس معًا؛ والدولار هو جزءٌ أساسي من ذلك. إنه واجهةُ الاستقرار (وعدم الاستقرار) المالي العالمي؛ وحجرُ الزاوية لبقائنا (أو عدم بقائنا). إنه اللغة المالية التي تُعَد أساسًا لحياتنا جميعًا، أيًّا كانت العملات الورقية والعملات المعدِنية التي نستخدمها يوميًّا. إنه يدُل على مدى ترابط مصائرنا جميعًا. باختصار، قد ننظر إلى الدولار على أنه أداةُ العولمة، التي توزِّع الرخاء، ولكن ليس على الجميع.

نظرًا لكون والديَّ من الرحَّالة، فقد أصبحتُ على درايةِ بالوجود الكلي للدولار منذ سنوات عمري الأولى. إنه، في النهاية، اللغةُ الشائعة المُستخدَمة في فواتير الفنادق من بروناي إلى باربادوس. واليوم، ربما يكون دفْعُ الدولار لعجلة الثروة في جميع أنحاء الولايات المتحدة هو أفضلَ ما يشتهر به، لكن بالرغم من ذلك، فإن اسمَه حتى ليس أمريكيًّا. كانت اﻟ «ثالرز» Thalers، أو اﻟ «دالرز» dolers كما كانت تُعرَف أيضًا، عملاتٍ فضيةً استُخدمت للمرة الأولى في بوهيميا خلال القرن السادس عشر. تطور الاسم إلى النسخة الإنجليزية، «دولار»، والتي ظهرت حتى في مسرحية شكسبير «ماكبث» في عام ١٦٠٦. استُخدم الدولار على نطاق واسع، بما في ذلك في إسبانيا والبرتغال، ومن ثَم شقَّ طريقَه إلى العالَم الجديد حيث نَهب الغزاة الإسبان مناجمَ الفضة في المكسيك لإنتاج عملاتٍ معدِنية من فئة الدولار. تسلَّل بعضها شمال الحدود إلى الأراضي البريطانية، مما سهَّل الأعمالَ التجارية؛ إذ لم تكن الجنيهات البريطانية (أو العملات البديلة، ومنها التبغ) متاحة. ثم حدَث الاستقلال، فتخلَّص الأمريكيون من الجنيه، مثلما فعلوا مع الشاي، واتخذوا الدولار عملةً رسمية بشكلٍ كامل للولايات المتحدة في عام ١٧٩٢.

يعكس الارتفاع المستمر لسعر الدولار خلال القرن العشرين نهوضَ النظام العالمي الحالي، وقد تزامن ذلك الارتفاعُ مع تفوُّق الولايات المتحدة. يبدو أن اكتسابَ الولايات المتحدة للمركزِ الأول يرجع في المقام الأول إلى الحظ بقدْرِ ما كان يرجع إلى التخطيط. في ثلاثينيات القرن الماضي، أضعفَ الكسادُ الكبير الولايات المتحدة وعُمْلَتَها، ولكن جاءت الحرب العالمية الثانية بعد ذلك، وبينما كانت أوروبا واليابان تضمِّدان جراحَهما، كانت أمريكا بصدد التوسُّط لإحلال سلام دائم. لقد جعلت الدولار عملةً للتجارة الدولية ووسيلةً للاستقرار.

ازداد تأثير الدولار مع تسارُع وتيرة العولمة. ربما أتاحت الحربُ الباردة وتداعياتها فرصةً لتغيير ذلك، لكن انهيار الشيوعية وتفكُّك الاتحاد السوفيتي خلق فراغًا، ويمكننا جميعًا تخمينُ العملة التي كانت مهيَّأة للاستفادة من الفوضى الناتجة. على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي يُشكل أقلَّ من ربع اقتصاد العالم، فإن الدولار الآن يظهر في ٨٧ في المائة من جميع المعاملات التجارية التي تتم بالعملات الأجنبية.

في هذه الأيام، ربما يكون وجهُ جورج واشنطن هو الأكثرَ استنساخًا على هذا الكوكب. فهو يُطبع على ١٧ مليون ورقة من فئة الدولار يوميًّا. «الرئيس الراحل» هو مجردُ واحد من العديد من الأسماء التي تُطلق على ورقةٍ من فئة الدولار. يوجد الآن أكثرُ من ١١,٧ مليارًا من الدولارات، بشتَّى أسمائها في اللغة الإنجليزية، في محافظ النقود، أو في أجهزة الصرَّاف الآلي، أو تحت مراتب السرير، أو في أدراجِ النقود بالمتاجر، بالإضافة إلى جميع الدولارات المُحتفَظ بها إلكترونيًّا في البنوك. بالنظر إلى التفوُّق العالمي للدولار، ربما ليس من المُستغرَب وجودُ نصف أوراق الدولارات المتداوَلة في العالَم خارج الولايات المتحدة.

لم يكن من غير المألوف أن تسمع الاقتصاديين والساسة، لا سيما أعداء أمريكا، يتنبئُون بتراجع الدولار، خاصةً بعد الانهيار الاقتصادي عام ٢٠٠٨. ولكن تظل القوة المحضة للدولار قائمةً. لقد سمِعتُ ذلك لأول مرة بعد انتقالي إلى نيويورك عام ٢٠٠٦ لتقديم تغطية شبكة «بي بي سي» المالية ﻟ «وول ستريت». في ذلك العام، عرَض أحدُ الاقتصاديين توقُّعاته لسوق الإسكان الأمريكي في برنامجي. بعد صعوده بشكل مريح خلال العَقدين الماضيَين، انخفض الخط الموجود على الرسم البياني انخفاضًا حادًّا. كان هذا هو توقُّعه بِناءً على أدلةٍ دامغة ومعادلات جرى اختبارها جيدًا. كان الأمر مخيفًا، أشبهَ بنظرية المؤامرة. وكان من المُغري اعتبارُ ما قاله لا يهدُف إلا إلى إثارة الذعر ومن ثَم يتعيَّن رفضُه وتجاهُله.

لكنه كان محقًّا. لقد حصل ملايين الأمريكيين على قروضٍ عقارية ليس بوسعهم سدادُها. كان الخوف الأوَّلي هو أن هذا قد يضرُّ بثروات البنوك في «وول ستريت»، والإنفاق في «مين ستريت» بالولايات المتحدة، ولكن حتى عندما أوضحت ذلك على موجاتِ الأثير، فإن تأثيرَ الدومينو العالمي أصبح واضحًا. كانت الطوابير تزداد خارجَ «نورثرن روك»، وتأثَّرت البنوك من فرانكفورت إلى بكين. فقد ساعد البحثُ عن الأرباح الذي كان يحرِّك النظامَ المالي النَّهِم على انتشار العدوى. كان يتعيَّن على الحكومات، أو بالأحرى المموِّلين، دفعُ فاتورة الأضرار. وانهارت التجارة الدولية. وتظل التبِعات قائمةً.

بعد عَقد من الزمان، لا تزال أمريكا هي المهيمنة، ولا تزال تحظى عملتها بشعبية دولية كما كانت دائمًا. فالدولار هو الملاذ الآمن، ويبدو أن ما تفعله كلُّ عاصفة جيوسياسية هو تعزيز هذه السُّمعة فحسب. شهدت الصين توسعًا سريعًا، لكنها كقوةٍ عظمى لا تزال تُحلِّق في انتظار الفرصة. لا يزال الدولار لا تشوبه شائبة؛ في الواقع، بحلول عام ٢٠١٧ كان أقوى بنحو ٣٥ في المائة مقابل الجنيه الإسترليني مما كان عليه في عام ٢٠٠٨. من نواحٍ كثيرة، الدولار القوي مفيدٌ لصورة أمريكا. (على الرغم من أنه، كما سنرى، يمكن أن يُضعِف أيضًا اقتصاد الولايات المتحدة واقتصاديات البلدان الأخرى). إن العملة هي التعبير النهائي عن التفوق السياسي والاقتصادي لأمريكا؛ وكما سنرى، فإن الدولار الواسع الانتشار يساعد أمريكا أيضًا في بسطِ سطوة قانونها خارج حدودها.

أكَّدت الأزمة العالمية كيف يتجاوز المالُ الحدود؛ فيمكن أن يكون للمعاملات التجارية في بلدٍ ما تداعياتٌ في كل مكان. إن المال هو المحرِّك الرئيسي للنظام وهو الغراء الذي يربطنا بعضنا ببعض. ومثل أي عملة أخرى، تعتمد قوة الدولار على الثقة؛ قد يعتبرها البعض ثقةً عمياء. لكن من دون هذه الثقة، أي إذا لم يثِق به أحد، سينهار النظامُ ومعه المجتمع.

حان الوقت إذن لتتبُّع الدولار في جميع أنحاء العالم، لإدراك قوَّته. ستشمل رحلتنا عملاتٍ أخرى بجانب الدولار: اليورو والروبية والجنيه الإسترليني، على سبيل المثال، وجميعها ذاتُ صلة. لكني آمُل أنه بتتبُّع النقود وهي تنتقل من شخص إلى آخر، سواء ماديًّا أو إلكترونيًّا، يمكننا إلقاء بعض الضوء على أساس المعاملات التي تشكِّل جميع جوانب عالمنا. كل سيناريو جزءٌ مهم من أحجية ستكشف بالضبط كيف يعمل عالُمنا: مَن يمتلك القوة حقًّا، وكيف يؤثِّر ذلك علينا جميعًا.

نبدأ برحلة عادية من إحدى ضواحي تكساس إلى «وول مارت»، أحدِ أكبرِ متاجر التجزئة في العالم، الذي يوفِّر الطعام والملابس للأمريكيين بشكلٍ ينال رضاهم. يؤدي شراء أحد الأشخاص راديو بأسعارٍ معقولة بشكلٍ اندفاعي إلى سلسلةٍ من ردود الفعل المعقَّدة، متسببًا في انتقال دولار إلى الصين، حيث صُنع الراديو. كيف تنتج الصين هذه السلعَ بهذا الثَّمن البخس، ومَن المستفيد من ذلك؟ سنرى كيف تتناسب الدولارات مع طموحات الصين في واحدة من القصص العالمية الكبرى في عصرنا.

وأين تخبِّئ الصين كلَّ أموالها؟ في بعض الأحيان في الأماكن التي لا تخطر ببالِ أحد، بما في ذلك نيجيريا، حيث نتَّجه بعد ذلك، إلى معرفة سبب اهتمام بعض البلدان بضخِّ أموالها في الخارج، وما إذا كان ذلك ناتجًا عن الإيثار أو الجشع.

في نيجيريا، نرى كيف يمكن لثروةِ العالم أن تتدفَّق عبْر بعض البلدان دون أن يستفيد منها غالبية شعوبها. بتتبُّع الدولار بحثًا عن طبقٍ من الأرز لإطعام السكان المتزايدة أعدادهم بكثافة في نيجيريا، نكتشف قصةً مماثلة في الهند. إن الهند لديها الاقتصاد الرئيسي الأسرع نموًّا على الإطلاق. فلماذا لا يتمتَّع المزارع الذي زرع الأرز بهذه المغانم؟ لقد تطوَّرت الهند بطريقةٍ مختلفة عن معظم البلدان الأخرى وجعلت الوضع أكثرَ إثارة، وحصلت على نتائجَ مثيرة للاهتمام.

يتطلب هذا الدينامو الاقتصادي وقودًا ليعمل، ولهذا السبب، ترسل الهند الدولارات إلى العراق، حيث سنفحص العالم الغامض للذهب الأسود. فالنفط الخام هو عنصر حاسم لبقائنا، ولسيادة الدولار. إنه يمثل نظامًا عالميًّا تتَّجه فيه كل الأنظار إلى المملكة العربية السعودية والشرق الأوسط، لكن هذا قد يتغيَّر في القرن المقبل. يُعَد السلام العالمي من الأخبار السيئة بالنسبة إلى روسيا، الوجهة التالية للدولار. يمكن لأحدِ صانعي الأسلحة أن يرويَ قصة أو اثنتين عن الرقص المضطرب، والمهم في الوقت نفسِه، لوطنه مع الدولار: هذه لعبة قوة على نطاق عالمي.

ومن روسيا نتوجَّه إلى برلين، قلبِ الاتحاد الأوروبي. ربما يوحِّد الدولار الولايات الأمريكية الخمسين، لكن ألمانيا، سيدة أوروبا الكبرى، لديها تجربة مختلِفة تمامًا في منطقة اليورو. ما الذي يسبِّب نجاح اتحاد العملة؟ لماذا لم يتغلب اليورو على الدولار؟ وهل المملكة المتحدة مُحقة في إدارة ظهرها للاتحاد الأوروبي؟ على الرغم من تَفَوُّق الدولار، لا تزال لندن هي العاصمة المالية للعالم، على الرغم من أنها قد لا تختلف اختلافًا جوهريًّا عن الكازينو، من حيث الفرص التي لا تُعَد ولا تُحصى لخسارة المال وكسْبه. كيف دفعتنا تلك المقامرات إلى أكبرِ أزمةٍ مالية على الإطلاق؟ بينما تضع المملكة المتحدة مستقبلها على المحكِّ مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، نعود غربًا، حيث يستقر الدولار مرةً أخرى في جيبِ شخص أمريكي، مما يُظهِر أن ازدهارَ حتى أقوى دولة في العالم، وهي الدولة التي تقف بمفردها في أغلب الأوقات، مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بازدهار بقية العالم.

إن جميع الشخصيات والتعاملات في هذا الكتاب هي من وحي الخيال. ولكن قصصهم هي نفسها قصص المليارات من البشَر حول العالم، الذين تعتمد مصائرنا على تعاملاتهم وقراراتهم. كان الدولار في رحلةٍ كشفت كيف يعمل الاقتصاد العالمي حقًّا، وكيف يرتبط مصير دينيس ووانج بمصائرنا. إنها قصة المال والسلطة؛ لكنها في الأساس قصتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤