الفصل الأول

مقدمة

الحفريات (أو الأحافير) لغةً هي كل ما يُحفر باطنُ الأرض لاستخراجه.

***

ما زلت أتذكر وكأنه كان بالأمس متى عثرت على أولى حفرياتي وأين. كان ذلك في أوائل شهر أبريل عام ١٩٦١، أما المكان فكان مقاطعة آرتشر بولاية تكساس، التي كانت حينذاك — كما هي الآن — ضربًا من الأراضي الوعرة، فهي جافة تقطعها بعض المستنقعات الضحلة التي ترى فيها بسهولة الصخور الخضراء الضاربة إلى الرمادية والصخور الحمراء التي تنتمي إلى العصر البرمي، والتي تحيا فيها الحيات ذات الأجراس في رغد من العيش. وقد عثر على حفريات داخل تلك الصخور قبل ما يربو على مائة عام. كنا ننقب عن الأسماك، والبرمائيات الأولى، والزواحف، وكانت أول حفرية عثرت عليها فقرة عظمية واحدة رمادية اللون. أسفل قشرة مغلفة لها من الحجر الجيري، كان من الممكن رؤية قناة الحبل الشوكي، بجانب أسطح التمفصل مع الفقرات المجاورة. وكشفت عملية التنقيب التي جرت وأنا جاثٍ على ركبتيَّ عن المزيد من الأجزاء والقطع، جميعها من ذيل حيوان برمائي في حجم التمساح يدعى أريوبس. وكان الأرجح أن الحيوان قد لقي حتفَه في موضع آخر؛ إذ لم تكن هناك آثار أخرى باقية منه؛ لقد انجرفت تلك العظيمات القليلة مع تيار ماء وترسَّبت داخل بقعة صغيرة ضحلة من الطمي. ثم طُمر الطمي والعظم أسفل المزيد من الطبقات الرسوبية وتحول في بطء إلى تكوين صخري. حدث ذلك قبل ٢٢٠ مليون عام، عندما كانت المنطقة عبارة عن دلتا نهر مكتظة بالمستنقعات. كما حوت جيوب أخرى حاملة للحفريات تقع بالقرب من المكان قشور أسماك وعظام فقرية لأسماك قرش. وحوى البعض منها بقايا حيوان الديميترودون الغريب؛ وهو حيوان من الزواحف تمتد أشواك فقراته مكونة شراعًا مرتفعًا فوق ظهره. أي على الصعيد العلمي البحت، لم تكن حفريتي الأولى مثيرة للاهتمام بشدة، ولكنني أصبحت شديد الشغف بالمجال.

في الفقرة الأولى من الفصل ذكرت بعض العبارات التي تعبر عن حقائق (وجود الحفرية، وشكلها، وهوية الحيوان الذي تنتمي إليه، وطبيعتها المتحجرة، والبقايا المرتبطة بها) وبعض الاستنتاجات المبنية على حقائق أخرى (عمر الصخور، وما حدث للحيوان الأصلي عند موته، والبيئة الأصلية التي وقع فيها كل ذلك). وفي هذا الكتاب، سوف أشرح الأساس الذي يقوم عليه كل ذلك: تعريف الحفريات وبعض المفاهيم والمبادئ التي بنيت عليها دراسة الحفريات. وسوف أناقش أيضًا الأهمية الأشمل للحفريات المتمثِّلة في إثراء معرفتنا بتاريخ الأرض والحيوانات والنباتات — ويشمل ذلك الحديث عن أسلافنا الأوائل — التي استوطنتها بمختلف الصور طيلة مليارات السنين الماضية.

منذ أقدم العصور، تباين تاريخ تفسيرات ماهية الحفريات والنظريات التي تفسر معناها. ففي البداية، كانت كلمة حفريات تُستخدم للإشارة إلى أي شيء يجري حفر باطن الأرض لاستخراجه منها، بما فيها المعادن والأحجار الكريمة أو خامات الفلزات، علاوة على البقايا العضوية المتحجِّرة التي صرنا الآن نقصر استخدام المصطلح عليها وحدها. ثمة أدباء إغريق قدامى مثل إمبيدوكليس وزينوفانيس ممن كانت لديهم فكرة لا بأس بها عن كنه الحفريات، مثلما كان الحال مع ليوناردو دافينشي، غير أن الحفريات اكتسبت أهمية مميزة عندما وصلت جميع التداعيات الفلسفية/العلمية المتقاطعة لمجرد فكرة وجود الحفريات على كوكب الأرض إلى نقطة حرجة. بل إن في استطاعتنا أن نحدد بدقة متناهية اسم المؤلف وتاريخ الحدث: إنه العالم الإنجليزي روبرت هوك، الذي وضع مؤلفه في عام ١٦٦٥. قبلها، كان من الممكن التعامل مع الحفريات باعتبارها أشياء غريبة مثيرةً للفضول؛ ومنذ ذلك الحين، صارت الحفريات بدرجات متفاوتة أساسًا لثورة علمية وتهديدًا لأصول ثابتة في علم اللاهوت.

fig1
شكل ١-١: ساعدت رسوم روبرت هوك الدقيقة للحفريات — مثلما يتبيَّن في هذه اللوحة للأمونيتات من كتابه «محاضرات ومقالات عن الزلازل» (نُشر بعد وفاته في عام ١٧٠٥) — في إقناع القراء بطبيعتها العضوية.

قبل هوك، كان من الممكن ألا تحظى الحفريات بأي اهتمام باعتبارها محض «غرائب الطبيعة»؛ أو «أحجار متشكلة»، وكان علينا أن نحلم بنظريات معقدة كي تفسر لنا وجودها من زاوية «القوة التشكيلية» في التربة أو خواص البلورات. وبالنسبة لأناس آخرين، كانت الحفريات تمثل الدليل المادي على الطوفان العظيم الذي ورد ذكره في الإنجيل. أما بالنسبة للعلماء، فقد صارت الحفريات هي الحقائق المركزية لنظرية حول تغير كوكب الأرض بالغ القدم. قادتنا الحفريات إلى فهم تلك الحركة الدائبة التي لا تهدأ للقارات، والتقلبات المناخية، وتاريخ الحياة الذي يخضع لسلسلة لا تتوقف من عمليات النشوء والانقراض.

من خلال دراسة الحفريات، يمكننا تحديد الأنماط المتغيرة للتنوع البيولوجي على كوكب الأرض، لنكتشف أنه كانت هناك فترات مباغتة من الانقراض الجماعي، وفترات أخرى من التنوع الشديد. إن الحفريات تساعد على توضيح كيف انجرفت الصفائح القارية في جميع أنحاء سطح الكوكب، وكيف تغير سطح كوكب الأرض؛ إذ إنها توضح — على سبيل المثال — أن بِحارًا ذات أعماق سحيقة كانت موجودة ذات يوم في مواضع صارت الآن أرضًا يابسة. يمكننا رسم خارطة لتغيرات بالغة القدم في المناخ، فنكتشف ضمن أمور أخرى أن القطبين الشمالي والجنوبي الحاليين كانا عبارة عن جنات شبه استوائية.

لقد بدأت الحفريات تبرهن على كل تلك الأشياء قبل ظهور نظرية تشارلز داروين عن الانتخاب الطبيعي بزمن طويل، وهي النظرية التي طُرحت رسميًّا عام ١٨٥٩ وقدمت الآلية السببية لأصل الأنواع. وقد اكتشِفت حفريتا الزاحف/الطائر المسمى أركيوبتركس (١٨٦٠) وإنسان نياندرتال (١٨٥٦) في الوقت المناسب تمامًا لإثبات نظريات داروين: فقد كانت بمثابة «الحلقات المفقودة» في سلسلة متصلة من الوجود تمتد إلى بدء الخليقة. والآن صار كل اكتشاف جديد يعيد تحديد نطاق بحثنا عن «حلقات» جديدة؛ فإننا في حالة بحث عن أسماك ذات أرجل، وديناصورات ذات ريش، ودائمًا عن أسلاف الإنسان. أما فيما يتعلق بالتطور البشري، فإنه تمامًا مثلما كشف جاليليو بتلسكوبه عن وجود عوالم من وراء عوالم هناك في الفضاء الخارجي، ومن ثم اختزل مكانة كوكب الأرض (والإنسان معه) إلى حصاة لا أهمية لها في الكون شاسع الأرجاء، فإن تاريخ الحفريات على تلك الأرض بالغة القدم يكشف عن أن الإنسان العاقل ليس سوى وافد جديد على عالم الحيوان، وأنه على الأرجح مخلوق محكوم عليه بالانقراض مثل بقية المخلوقات الأخرى.

تقدم الحفريات نوعًا من العلم يسهل جدًّا الحصول عليه؛ فكثير من الباحثين الجادين كان مبعث اهتمامهم الأول بالعلم ذلك الحماس الذي شعروا به تجاه الحفريات. إن متاحف التاريخ الطبيعي تعتمد على الحفريات — وتحديدًا الديناصورات — في اجتذاب قطاع عريض من الزوار، ومن ثم الدخل؛ وهي تعتمد على صائدي الحفريات في تقديم الموضوع للجمهور. وتمثل الحفريات لعلماء المتحجرات — سواء المتخصصين منهم أو الهواة — اندماجًا رائعًا بين رومانسية القرن التاسع عشر وبين الوضوح القاسي الرزين للعلم المعاصر. ولا يزال جمع الحفريات — سواءٌ من على سهل شاسع يقع في بلد أجنبي، أو بالحفر المتناثر في أرجاء شلالات جرف لايم ريجيس — واحدًا من الأنشطة النادرة (يشاركه في ذلك علم الفلك للهواة) التي تتيح لشخص بمفرده — أو يعمل وسط مجموعة قليلة العدد — أن يحقق إنجازات رائعة؛ فبإمكانه — متسلحًا بمطرقة وعين فاحصة ليس إلا، مثله مثل المنقِّب عن الذهب — أن يقدم إسهامًا جوهريًّا للعلم.

وقد اتَّسع نطاق علم المتحجرات بصورة هائلة، سواءٌ على نطاق الهواة أو المتخصِّصين خلال السنوات الخمسين الماضية. فعندما حضرت اجتماع جمعية متحجرات الفقاريات لأول مرة في عام ١٩٦١، كان عدد الحاضرين قرابة الثلاثين فردًا، وفي العام الماضي كان هناك ما يزيد عن ٢٠٠٠ شخص.

المخلوقات من أمثال الديناصورات والأمونيتات وثلاثيات الفصوص والزواحف الطائرة والماموث (نادرًا ما تجتذب الحفريات النباتية اهتمام الجمهور) نصف حقيقية ونصف خيالية. وإننا نفتتن بمدى ألفتها قدر ما نفتتن بمدى غرابتها. بل يصل الأمر إلى أنها تصبح صديقة للأطفال؛ فمثلًا الطفل الذي يبلغ من العمر ست سنوات والذي يتلعثم في البداية لإتقان أسمائها العلمية، سرعان ما نجده يجمع لعبًا تحاكيها بدقة يضمها إلى مجموعة لعبه اللينة التي يحتفظ بها في غرفة نومه؛ ومن ثم فإنها تُسهم في دعم صناعة واسعة الانتشار.

في حين أن الديناصورات تنتمي إلى الماضي السحيق، فإن الإنسان المنتصب وإنسان نياندرتال يشعراننا بالخوف إلى حدٍّ ما؛ إذ إنهما من جميع الزوايا قريبين منا بصورة تشعرنا بالخطر. ونحن لسنا مضطرين للجوء للرسوم الكاريكاتورية الشنيعة البعيدة عن الواقع التي تصور أسلافنا وأبناء عمومتنا في هيئة وحوش كثيفة الشعر تمشي في تثاقل حتى نتقبل فكرة أنه منذ عهد قريب — بالقياس إلى الأزمنة الجيولوجية — كان أجدادنا الأوائل ليست لديهم لغة أو حضارة مادية. إن سجل الحفريات الذي يقول إن الرسم والنحت لم يظهرا إلا منذ حوالي ٣٠ إلى ٤٠ ألف عام مضت — وفي سياق أناس يشبهوننا كثيرًا من الناحية الجسمانية — من شأنه إما أن يجعلنا نشعر بالفخر بذلك الذي بدأ نشأة التكنولوجيا والثقافة التي تمخضت لنا عن رامبرانت وتيرنر وتوايلا ثارب وفرقة البيتلز وشكسبير، أو يجعلنا نشعر بالتواضع الشديد. فلا عجب إذن أن فكرة أننا — بني البشر — خلقنا الإله خلقًا خاصًّا لها جاذبيتها الخاصة.

غير أن الديناصورات والبشر ليسا سوى مكوِّنَين فحسب من طيف هائل من عالم الحفريات. فإذا امتدَّ بنا النظر للوراء بعيدًا نحو بدايات نشأة كوكب الأرض لوجدنا بالفعل مئات الآلاف من الأنواع يمثلها ملايين لا حصر لها من العينات غير الجذابة الراقدة بلا حياة ضمن مقتنيات المتاحف (ولا تزال أعداد هائلة منها مطمورة وسط الصخور). هذا هو المكان الذي يصبح فيه العلماء وهم يرتدون معاطفهم البيضاء في صدارة المشهد حقًّا؛ ففي استطاعتهم أن يحسبوا ويقيسوا ويشرِّحوا ويمسحوا بالأشعة السينية والأشعة المقطعية، أو يضعوا نماذج باستخدام الكمبيوتر، ثم يبنوا رؤى عن العالم الذي ما كان لنا بخلاف هذا سوى أن نحلم به. ويمكنهم أيضًا أن يوثقوا لمسار التغير التطوري وأن يقودونا نحو وجهات نظر تتعلق بالآليات المحتملة. إن فحص قطعة من حفريات قاع البحر في حجم كرة الجولف يمكن أن يدلنا على أماكن ننقب فيها عن النفط أو الغاز. والحفريات متناهية الصغر التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة تقول لنا إنه قبل ٧٠٠ مليون عام مضت كانت الأرض مطمورة في عصر جليدي أعظم كثيرًا من ذلك الأخير؛ كما يمكنها أن تخبرنا الكثير عن المناخ، وإبان ذلك تنبِّهنا لما سيجري في المستقبل.

في كل يوم في مكان ما من العالم، يحفر العشرات من المتخصصين في علم المتحجرات في موضع جديد أو يمسحون الترسبات القديمة ومجموعات من مقتنيات المتاحف، بحثًا عن شظية أخرى تنير لهم الطريق نحو علوم الأرض والحياة. ولا يزال هناك الكثير والكثير لنتعلمه عن الحفريات نفسها وعن الظروف والتقلبات التي أدت إلى موتها والتي أتاحت حفظ بعض الأفراد (رغم الصعوبات الهائلة) وتحولهم إلى صخور. كذلك لأن الحفريات تمثل شيئًا كبيرًا للغاية في عيون العامة، هناك دومًا أشياء زائفة يجب كشف اللثام عنها ونظريات خاطئة يجب رفضها. ولا تزال هناك اكتشافات عظيمة علينا التوصل إليها؛ فقط بمجرد حفر الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤