الفصل السادس

إعادة الحفريات إلى الحياة

نادرًا ما يكون علم المتحجرات ملحمة بطولية جميلة من الحفر لاستخراج هياكل عظمية كاملة أو مجتمعات بأسرها محفوظة سليمة في صخرة لينة لطيفة؛ ففي الغالب تكون المهمة شاقة؛ عبارة عن التقاط الآلاف والآلاف من شظايا الحفريات من أجل العثور على أدلة بالغة الدقة يمكن تجميعها، وغالبًا ما يكون ذلك على مدار سنوات، لتصبح ذات شكل متماسك الأجزاء. من ثم فإن قدرًا كبيرًا من السحر الذي يتمتع به علم المتحجرات يكمُن في دور المخبر السري الذي يلعبه العالِم. فعالم المتحجرات يعمل بأسلوب يشبه كثيرًا أسلوب عمل عالِم الطب الشرعي الذي نعرفه في المسلسلات البوليسية (وفي الحياة الواقعية)، فهو يستنبِط أسرار حياة فرد وحياة العالم أجمع من بعض البقايا التي تغيب عنها الحياة.

ولعلم المتحجرات عدة أهداف طموحة بصورة استثنائية. على المستوى التاريخي، كانت أولى تلك الأهداف استخدام الحفريات في علم رسم طبقات الأرض، واكتشاف وتفسير تركيب وتاريخ الأرض نفسها. كل طبقة من الأجزاء الرسوبية لقشرة الأرض لها حفرياتها المميزة الخاصة بها، وهو ما يجعلها تقدم مفتاحًا لعمرها مقارنةً بالطبقات الأخرى، وكذلك البيئة الأصلية. ولما كانت الطبقات عبر الزمن تظهر ممالك حيوانية ونباتية متباينة «وإن كانت مرتبطة بصورة واضحة»، فقد أعقب ذلك الهدف الثاني: إعادة تجميع علم أنساب شامل جامع — أي العلاقات التداخلية التطورية — للحفريات والكائنات الحية، للعودة إلى أصول الحياة ذاتها. وما من عالِم متحجرات يمكنه أن يتخيل يومًا أن شجرة العائلة الناتجة ستكون مكتملة. غير أن كل حفرية يُعثر عليها لديها القدرة على إضافة شيء ما لقاعدة البيانات التطورية. ولكن المهمة الثالثة الرئيسية لعلم المتحجرات أكثر طموحًا: أن نفهم ما كانت عليه الكائنات التي صارت حفريات أثناء حياتها. وليست مهمته أن نتعرف على هذه الكائنات فحسب، وإنما أن نعيد بناء مظهرها، ووظائفها الميكانيكية والفسيولوجية، والبيئة التي عاشت فيها، بل وحتى سلوكياتها.

الكائن الحي

تعتمد عملية إعادة بناء الكائن الحي اعتمادًا كبيرًا على امتلاك معرفة واضحة ببيولوجية الكائنات الحية والعثور على نظير ملائم له بين الكائنات الحية الحالية. ويمكننا — على سبيل المثال — الاستدلال من أسنان حفرية ما على نوع الطعام الذي كان الحيوان يقتات عليه؛ ويمكن للفكين أن يدلانا على الأسلوب الذي كان يمضغ به الطعام؛ أما المفاصل وندوب العضلات ونسب الأطراف بعضها إلى بعض، فتدلنا على الطريقة التي كان يسير أو يركض بها؛ والصَّدفة من شأنها أن تدلنا على الأسلوب الذي كان يختبئ به؛ ومن هذه النسب يمكننا أن نقدر حجم الكائن بأكمله. وفي حالة حيوانات كثيرة، من الممكن في الغالب أن نعرف ما إذا كان ذكرًا أم أنثى. وفي الفقاريات، يدل تعظم الدرزات في الجماجم على الفرد البالغ وهكذا. وتدل أشكال أوراق الأشجار الحية على سمات البيئة التي تعيش فيها: فالأوراق المجزأة ذات الأطراف الطويلة عادةً ما تكون لنباتات تعيش في بيئات رطبة، والأوراق الرفيعة الطويلة أكثر كفاءة في جمع طاقة الشمس في البيئات الجافة المكشوفة، والحواف المستديرة للأوراق تميز أكثر ظروف الأجواء المعتدلة. وفي الوقت نفسه، تعتمد عمليات إعادة بناء الحفريات الجديدة (بل ومراجعتنا المستمرة لإعادة بناء الحفريات القديمة) على — كما أنها تعدَّل بناءً على — النماذج الحية التي ننتقيها كي نقارنها بها. ومما لا شك فيه أن الحيوان أو النبات الذي تحول إلى حفرية والذي نسعى لإعادة بنائه على الأرجح كان يبدو — ويحيا — أشبه بأقرب أقربائه من الأحياء، أكثر من أي شيء آخر.

بعد أن تسلَّحنا بتلك القواعد، حتى لو كان لدينا حفرية عبارة عن جزء واحد من الهيكل العظمي فإن باستطاعتنا القيام بتقديرات مستنيرة للشكل الذي كانت عليه الأجزاء المجاورة له. فالكائن الذي تكون أرجله الأمامية مثل أرجل الفيل لن تكون أرجله الخلفية مثل أرجل الغزال، على سبيل المثال. في بدايات القرن التاسع عشر، كان البروفيسور كوفييه (والذي صار بعد ذلك بارونًا) في باريس على يقين تامٍّ من قدرته على التنبؤ بالهيكل العظمي بأكمله من مجرد جزء صغير، لدرجة أنه وضع «مبدأ ارتباط الأشكال في الكائنات المنتظمة» الذي وُضع قانونًا لهذا النوع من الاتساق. وقد كان على يقين أن باستطاعته إعادة بناء هيكل عظمي كامل من مجرد عظمة واحدة ليس إلا.

ومن ثم، فإن قدرًا كبيرًا من العمل يعتمد على معرفة عالم المتحجرات بنوع الكائن الذي يتعامل معه. فحفرية لماموث — على سبيل المثال — يمكن أن نتوقع وجود أوجه شبه كثيرة لها مع حيوانات الأفيال الحية الآن. ولكننا عندما نتعامل مع مجموعة من حفريات الكائنات العملاقة التي لا تنتمي بصلة قرابة واضحة بالحيوانات التي تحيا الآن، تصبح المشكلة أكثر صعوبة. فديناصور الإجوانودون سمي بذلك الاسم لأن أسنانه كانت تشبه أسنان السحلية المعاصرة، المسماة إجوانا. غير أن الديناصور ليس مجرد سحلية متضخمة؛ كما أن الإكتيوصورات ليست تماسيح، كما اعتُقِد في بادئ الأمر. أما البليزوصورات (التي وصفت بأنها تشبه ثعبانًا يمر عبر جسد سلحفاة)، فقد كانت أكثر صعوبة في تفسيرها. عندما اكتشف أول بليزوصور عام ١٨٢١ على يد ماري آننج، جزم كوفييه بقوة أنه لا بد وأن يكون خطأً أو شيئًا مزيفًا؛ لأنه لم يكن هناك حيوان معروف له مثل هذه الرأس الصغيرة والعنق والجسد الطويل. فحيوان كهذا لم يكن من الممكن أن يكون له وجود! ثم تبين أنه في علم المتحجرات — مثلما هو الحال في أي علم آخر، وبالنسبة لكوفييه، مثلما هو الحال بالنسبة لنا جميعًا — يكون أصعب شيء على المرء هو أن يكتشف مدى جهله. فقد كشف لنا سجل الحفريات عن الكثير والكثير من الكائنات التي تبدو للوهلة الأولى أنها ما كان من الممكن أن تكون موجودة. وهناك الكثير من الحفريات التي ليس لها نظير بين الكائنات الحية التي نعرفها. وجميع حالات التشابه ليست سوى أساس لإعادة البناء وليست برهانًا على هوية الكائن.

كما شرحنا في الفصل الثالث، كان اكتشاف الديناصورات في عشرينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر إشارة بدء لظاهرة كبرى في الثقافة الشعبية. وعندما قام ويليام باكلاند — الأستاذ بجامعة أكسفورد — بوصف الميجالوصور لأول مرة معتمدًا على بعض القطع من الفك، والحوض، وبعض عظام الأطراف، لم يكن هناك حيوان يسير على قدمين مشابه له معروف آنذاك، وكان من المنطقي إعادة بنائه باعتباره حيوانًا يسير على أربع؛ يشبه في جزء منه الضفدع وفي جزء آخر حيوان الضبع. وأعاد جوزيف ليدي في فيلادلفيا بناء الهادروسورس الذي اكتشفه عام ١٨٥٨ باعتباره يسير على اثنتين، غير أن علماء المتحجرات لم يمتلكوا دليلًا لا يمكن دحضه على أن تلك الحيوانات كانت تقف على قدميها الخلفيتين إلا بعد أن اكتُشِفت مجموعة من الهياكل الكاملة للإجوانودون في أحد مناجم الفحم في بلجيكا؛ وحتى يومنا هذا، لا يمكن للمرء أن يتيقن بحق من وظيفة تلك الأطراف الأمامية الضئيلة التي لدى حيوان مثل التيرانوصور ركس (برغم كثرة الافتراضات في هذا الأمر).

في وقت من الأوقات، افتُرِض أن الديناصورات الضخمة آكلة الأعشاب من فصيلة صوروبودا مثل الأباتوصور كان وزنها من الثقل بحيث لا يمكنها العيش على اليابسة، وإنما لا بد وأنها كانت تعيش في البحيرات بحيث يتحمل الماء جزءًا من وزنها. وقد فُهمت على أنها حيوانات بطيئة الحركة وغبية، مثلما هو الحال مع جميع الديناصورات: ذوات دم بارد فسيولوجيًّا وذوات أمخاخ صغيرة. وقد أعلن العلماء في جسارة أن تلك الحيوانات كانت على درجة من الطول حتى إن الإشارات العصبية كانت تستغرق وقتًا طويلًا حتى تصل من المخ إلى الذيل، وأنه لا بد أنه كان هناك مخ إضافي موجود في منطقة جوفاء من القناة الفقارية في المنطقة العجزية. وكان يُنظر إلى الديناصورات التي تسير على قدمين باعتبارها حيوانات خرقاء هي الأخرى، تجرجر ذيولها الطويلة على الأرض، أو أن تلك الذيول تؤدي وظيفة قدم ثالثة عندما يكون الحيوان في فترة الراحة.

وفي ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، دخلت دراسة «الشكل والوظيفة» لدى الحيوانات الحية — وهو خليط يجمع بين علوم الميكانيكا الحيوية وعلم الفسيولوجيا وعلم السلوك وعلم البيئة — طورًا تجريبيًّا وتحليليًّا جديدًا. فكانت جميع جوانب بيولوجية الكائنات الحية — سواء كانت بسيطة أو معقدة، من نباتات ولافقاريات وفقاريات — مفتوحة أمام نوع جديد من التدقيق والفحص، وسرعان ما طبقت النتائج على الحفريات. وفي حالة الديناصورات، بدأت الدراسات التي أجريت على أحجام غمدات العضلات في الهيكل العظمي، والقياس الدقيق لزاوية مفاصل الوركين والأكتاف، بجانب الدراسات التجريبية المفصلة لوظائف الأعضاء وأسلوب حركة الزواحف الحية (بالطبع مع المساعدة التي قدمتها الأفلام المتحركة باستخدام الأشعة السينية)، في رواية قصة جديدة ومختلفة.

fig12
شكل ٦-١: هيكل عظمي لديناصور داينونيكس، ينتمي للعصر الطباشيري المبكر، حسبما أعيد بناؤه لأول مرة في وضع حركي على يد البروفيسور جون أوستروم.

كان من العناصر الحاسمة في تلك القصة الوصف الذي قدمه جون أوستروم من جامعة ييل عام ١٩٦٩ لديناصور متوسط الحجم يعود للعصر الطباشيري من مونتانا. لقد بدا في جوانب عديدة منه ديناصورًا تقليديًّا صغير الحجم من الديناصورات آكلة اللحوم، فيما عدا أنه كان له مخلب ضخم ذو مظهر مخيف في كل قدم من قدميه الخلفيتين. وكان الذيل مرتكزًا على سلسلة طويلة من الأربطة المتعظمة، ومن الواضح أنه لم يكن يجرجره على الأرض. وكشفت عمليات إعادة بناء ديناصور داينونيكس (أي «المخلب البشع»، حسبما أطلق عليه بعد ذلك) عن حيوان مفترس شديد الضراوة، يتميز بخفة الحركة والنشاط. ولا بد أنه كان من ذوات الدم الحار ويتسم بالذكاء. ثم تلت ذلك اكتشافات مماثلة، من بينها أشكال مثل ديناصور الفيلوسيرابتور ضئيل الحجم. وبذلك الاكتشاف، صار هناك أسلوب جديد تمامًا للتفكير في الديناصورات وتصويرها وصار ذلك الأسلوب هو الشائع. وكان مفهوم الديناصورات ذوات الدم الحار مع طوفان من المعلومات الجديدة التي ظهرت عن الحفريات ذاتها، إيذانًا بمولد جيل جديد من عمليات إعادة البناء الكاملة لكائنات ذوات دم حار، تجنح في بعض الأحيان للخطأ، بقدر مسرف نحو الدراما المبالغ فيها، مثلما كانت الآراء الأقدم مضحكة وتفتقر إلى الحيوية.

البيئة والسلوك

كثيرًا ما تحكي لنا البقايا الحفرية بصورة مباشرة كلًّا من أسلوب موت الكائنات وكذلك شيئًا عن أسلوب حياتها. إضافة إلى أن آثار انغراس الأسنان تدلنا على ممارسة الاقتيات على القمامة أو الافتراس، كثيرًا ما تدلنا بقايا الهياكل العظمية على وجود التئامات للكسور، وتقدم لنا أدلة على أمراض كالتهاب المفاصل؛ ويبدو أن دببة كهوف العصر البليستوسيني كانت عرضة لهذا المرض بقدر كبير. نجت عينة ديناصور التيرانوصور الموجودة بمتحف شيكاغو الميداني — والتي يطلق عليها اسم «سو» — من كسر بعدة ضلوع، ومن إصابات في فكها، والتهاب العظم والنقي (التهاب يصيب الأنسجة العظمية) بالساق اليسرى.

هناك حفريات للإكتيوصورات لا تزال محتويات مَعِداتها سليمة، بينما لقيت أخريات حتفها أثناء الولادة. وماتت أسماك كثيرة عند محاولتها التهام سمكة أخرى كانت هائلة الحجم. وهناك حشرات حفظت ملتصقة بصمغ الكهرمان كانت في بعض الأحيان في وضع التزاوج. وتترك الكائنات الطفيلية والكائنات الحفارة عددًا من الآثار المادية داخل فرائسها. وتحتوي أعشاش ديناصور الماياصورا على صغار، مما يشير لوجود رعاية أبوية. وهناك علم فرعي كامل يُعنى بالروث الحفري، وهو ميدان علمي ثري بالمعلومات الخاصة بالتغذية.

أما الآثار الأحفورية، فذات فائدة جمة. في العصر الجوراسي الأوسط (منذ ١٦٨ مليون عام) وفي محجر أردلي بالقرب من أكسفورد، يسجل ساحل عتيق آثار سير ديناصور تمتد لمسافة تزيد على ٢٠٠ متر تقريبًا. فقد كانت مجموعة من الصوروبودات هائلة الحجم تتهادى في بطء على طول أرض منبسطة طينية، تطأ بأقدامها الخلفية بثبات في المواضع نفسها — التي يقترب حجمها من حجم طبق تقديم العشاء — التي وطئتها أقدامها الأمامية. وهناك مجموعة أخرى من الآثار — متجهة إلى الوجهة نفسها في الشمال الغربي — خلفتها ثلاثة أو أربعة من حيوانات الثيروبودات التي تسير على قدمين — وهي حيوانات آكلة للحوم يبلغ طولها من ٢٠ إلى٣٠ قدمًا (وهي على الأرجح ميجالوصور). وباستخدام معادلة بسيطة تربط بين ارتفاع مفصل الورك عن الأرض وطول الخطوة، من الممكن حساب أن الصوروبودات كانت تسير في بطء بسرعة تقل عن ٢ ميل في الساعة. وفي معظم الأوقات كانت الحيوانات آكلات اللحوم تسير بسرعة تتراوح بين ٢٫٥ و٣ أميال في الساعة، ثم انطلقت راكضة بعد ذلك (بسرعة تقترب من ٨ أميال في الساعة)، لفترة قصيرة؛ لكن سرعتها كانت أقل كثيرًا مما يمكن أن يمثل الحد الأقصى لسرعتها الذي يبلغ حوالي ١٨ ميلًا في الساعة. ومن المغري هنا أن نعيد بناء هذا المشهد على أنه مشهد تطارد فيه الميجالوصورات المفترسة ذلك القطيع الصغير من الحيوانات النباتية العملاقة، وتخيل أن «خارج المشهد» (تحت المنحدر بعد المساحة المفتوحة) كانت هناك مجزرة مروعة. ولكن بالمثل، ربما سارت الميجالوصورات على امتداد الشاطئ أولًا، بل وربما طُوردت من قبل الحيوانات العملاقة التي تقترب منها. كما أن هناك ذلك الاحتمال الذي يفتقر إلى أية إثارة أن المجموعتين تجولتا على امتداد الشاطئ نفسه في وقتين مختلفين ولم ترَ أيٌّ منهما الأخرى مطلقًا. فعلى المرء أن يكون حذرًا كي لا يفرط في خياله فيما يتعلق بالآثار الأحفورية!

fig13
شكل ٦-٢: رسم مخطط لآثار السير بمحجر آردلي، في أكسفوردشير. مجموعة من الصوروبودات الآكلة للعشب (الخطوط المتَّصلة) كانت تعبر هذا الشاطئ الطميي في العصر الجوراسي؛ وما إذا كانت تعلم بوجود اثنين من الميجالوصورات المفترسة (صاحبة الخطوط المتقطعة) أم لا، فهو أمر لا يزال محلَّ تخمين. كلتا المجموعتين كانتا تتجهان نحو الشمال الشرقي.
fig14
شكل ٦-٣: برغم تجاور تلك الآثار بصورة مخيفة، فإن صاحب آثار القدم البشرية لم يلتقِ مطلقًا بنمر اليغور الذي مر هو الآخر بشاطئ النهر الكوستاريكي.

تقوم كثير من السلوكيات المصورة في الرسوم وإعادة بناء الحفريات على تحليلات وظيفية صارمة للتركيب الجسماني. فبعضها — لا سيما في حالة الرسوم المتحركة التي تُنتَج من أجل التليفزيون والسينما — تخميني و/أو قائم على افتراضات مستقاة من نماذج حية. فعلى سبيل المثال، إن الأباتوصور الذي يظهر في مسلسل الرسوم المتحركة الذي أنتجته «بي بي سي» «السير مع الديناصورات» والذي حقق نجاحًا جماهيريًّا كبيرًا بدأ بفيل يسير ويركض. لقد قدم المسلسل مكافئًا ديناميكيًّا (وهو في حالتنا هذه إلكترونيًّا) لهيكل الفيل ثم أضيف إليه العنق الطويل وذيل الديناصور باستخدام فن الجرافيكس. وقد كان التأثير رائعًا، ولكن بمجرد أن تعلم أن هناك فيلًا في الصورة، تصبح رؤية الأباتوصور أكثر صعوبة.

معظم الحفريات لا توجد فرادى وإنما يعثر عليها في مجموعات. وينبغي أن يطلق على تلك المجموعات اسم «تجمعات»؛ للتمييز بينها وبين المجتمعات الأصلية التي تمثل هي انعكاسًا لها. إن طبائع تلك الروابط تقدم لنا معلومات وفيرة. العديد من أنواع حفريات النباتات مؤشرات دقيقة دالة على المناخ، بل وحتى — بالنسبة للنباتات المزهرة المعاصرة — على الارتفاعات التي نمت عندها. الطبقات المتتالية من الرسوبيات والحفريات المطمورة في ترسبات البحيرات تتيح لنا قراءة أنماط التغير المناخي على مدى مئات أو آلاف السنين. ورغم الكثير من الصعوبات، فإنه يمكن استخدام الحفريات في إعادة بناء قسط كبير من المعلومات الحجرية البيئية المتعلِّقة بالظروف البيئية للأفراد، والمجتمع الذي يتكون من جميع الأفراد، وكذلك الموطن الأكبر لهم.

في بعض الأحيان، يمثل التوزيع الجغرافي البسيط للحفريات مشكلة بيئية مليئة بالتحديات؛ فالديناصورات الضخمة — مثل الترودون آكل اللحم والإدمونتوصور آكل العشب — توجد في العصر الطباشيري بألاسكا؛ غير أن معظم الناس يعتقدون أن هاتين المنطقتين كانتا قطبيتين أو شبه قطبيتين في ذلك العصر. حتى لو كانت درجات الحرارة أكثر اعتدالًا في الشمال في تلك الأيام، فكيف ظلت الديناصورات على قيد الحياة خلال شهور الشتاء الطويلة المظلمة؟ من المعتقد أنها لم تهاجر مثل حيوان الرنة المعاصر. فهل يوجد تفسير ما لم نضع أيدينا عليه بعد؟

الحفريات والفنانون

كان علماء المتحجرات يعتمدون دومًا وبقدر كبير على مهارات الفنانين في رسم أعمالهم، ومن بين العوامل المؤثرة في قبول أفكار روبرت هوك حول الطبيعة الحقيقية للحفريات في كتابه «ميكروجرافيا» (١٦٦٥) رسمه الرائع للعينات (حيث كان هوك قد تدرَّب في صغره على يد فنان لندن بيتر ليلي). غير أنه ليس كل علماء المتحجِّرات موهوبين بالقدر الذي يسمح لهم بإجراء عمليات إعادة البناء النهائية للحفريات التي يعملون عليها، والقليل جدًّا من الحفريات يكون مكتملًا بصفته عينة واحدة، وعادةً ما تكون هناك ضرورة للاستعانة بفنان لرسم كيان مكتمل واحد من تلك الأجزاء المبعثرة. والتعاون بين العالِم والفنان في أفضل صوره يكون عملًا تضافريًّا يحقق نتائج أفضل من الجهود الفردية.

وينقسم دور الفنان إلى شقين؛ أولهما: أنه قد يُطلَب من الفنان إبداع تصويري، صادق قدر الإمكان، ينقل تفاصيل العينة على نحوٍ يكاد يكون فوتوغرافيًّا. والثاني: أنه قد يطلب من الفنان رسم نظرية عن الحفرية. فكون حفرية حيوان ما ذات سيقان طويلة، أو أسنان ثلمة، أو أن نباتًا ما له أوراق مدببة، هذا أمر؛ وأسلوب أدائه لوظيفته في الحياة أمر آخر. وفي العديد من الحالات، يتعذَّر الفصل بين التصوير الصادق لما هو موجود وبين إعادة بناء ما يحتمل أن يكون موجودًا، برغم أنه يتعين على كافة الأطراف المعنية التيقن من أن أي تخمينات أو فرضيات في التمثيل النهائي لها مبررات قوية. وبالنسبة للقارئ، هناك قاعدة واحدة تنطبق بصفة عامة: الرسومات التي تُنفذ من أجل الدراسات العلمية تكون أكثر واقعية وتعبيرًا عن الحقيقة، أما تلك التي رسمت من أجل السوق الشعبية فغالبًا ما تكون أكثر اعتمادًا على الافتراضات.

ولعل أهم استخدام لمهارة الفنان يكون في إعادة بناء المناظر الطبيعية العتيقة بأسرها، بما تضمه من مستوطنات الحيوانات والنباتات في أوجها. في المتاحف، كانت تلك المناظر الطبيعية في الماضي غالبًا ما تُترجم إلى ديوراما بالحجم الطبيعي أو مصغرة؛ أعمال ثلاثية الأبعاد يكون فيها تصوير كائنات الحفريات فيها عمل للنحات أكثر منه للرسام، أما ذلك الأخير فيكون مستغرقًا بالكامل في تصوير خلفية المشهد. وربما كانت أولى محاولات رسم منظر طبيعي كامل تلك التي نفذها الجيولوجي هنري دي لا بيش، وهو مصمم بارع يحمل نزعة إلى التصوير الدرامي. وقد صارت لوحته التي نفذها بالألوان المائية والأحبار عام ١٨٣٠ — والتي أعاد فيها بناء إكتيوصورات وبليزوصورات وتيراصورات مقاطعة دورست الإنجليزية التي جمعتها ماري آننج وآخرون، وقد وضعت داخل منظر بحري يعود للعصر الجوراسي — نموذجًا خلال عقد واحد من الزمان سار على هديه عشرات المقلِّدين وتفرع منه لون من الفن العلمي التجاري الذي لا يزال ينمو ويتطور.

fig15
شكل ٦-٤: طبع هنري دي لا بيش نسخًا من رسمه الذي نفذه عام ١٨٣٠ بعنوان «دورست العتيقة» وطرحها للبيع مقابل ٢٫٥ جنيهًا إنجليزيًّا للنسخة الواحدة، وجعل حصيلة البيع لصالح دعم ماري آننج.

إن الحيوانات في لوحة دي لا بيش عن مقاطعة دورست في الماضي ربما تبدو وكأنها مصنوعة من الخشب، غير أن تأثيرها لا يزال تأثير دراما شديدة وعنف. إنه ليس عالمًا قد يرغب البشر في المخاطرة بالدخول إليه إلا في خيالهم. (ولم تُحدث أيٌّ من عمليات إعادة البناء المتميزة العديدة لمواضيع أخرى — مثل حياة اللافقاريات في حقبة الباليوزي — تأثيرًا كهذا.) وقد استمر هذا التقليد منذ ذلك الحين، وغالبًا ما يخلق توترًا ديناميكيًّا بين الرغبة في إظهار شيء درامي وبين الحاجة للمحافظة على الصدق في رسم الواقع الأصلي. وفي هذا الصدد، ومن بين العديد من رسامي لوحات الديناصورات الموهوبين، ربما لم ينتج فنان معاصر مثل هذه المجموعة من الأعمال العبقرية والدرامية مثل فنان الرسوم المتحركة بيل واترستون في مسلسله «كالفين وهوبز».

fig16
شكل ٦-٥: لوحة جصية عملاقة من إبداع رودي زالينجر بمتحف بيبودي بجامعة ييل وضعت معيارًا لإعادة تصور معاصر للحياة في القدم. ويبين هذا المقطع منظرًا طبيعيًّا من العصر البرمي، يضم الديميترودون — الشبيه بالثدييات — «بشراعه» الظهري الأسطوري.

رسم بنجامين ووترهاوس هوكينز (الفصل الثالث) — علاوة على منحوتاته المفعمة بالحيوية للديناصورات — بعضًا من اللوحات الجدارية الكبرى التي تصور الحياة في حقبة الميسوزوي بجامعة برينستون حوالي عام ١٨٧٠. وفي وقت مبكر من القرن العشرين، خطا فن تصوير المواطن الكاملة خطوة للأمام في عمل رسمه تشارلز نايت، الذي رسم لوحات جدارية ضخمة تنبض بالحياة وتتَّسم بالدقة الشديدة في متاحف بنيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس. وفي عمل ربما يعد الأخير في هذا اللون من الفنون، رسم رودي زالينجر في خمسينيات القرن العشرين لوحة جصية طولها ١١٠ أقدام تصوِّر عصر الزواحف (تبعها فيما بعد عصر الثدييات) بمتحف بيبودي، بجامعة ييل. وقد أوجز هذا العمل — الذي وزع على هيئة ملصقات على معظم مدارس أمريكا والعديد من أنحاء العالم المختلفة — أحدث شيء فيما كان يُعرَف عن مظهر وسلوك حيوانات ونباتات حقبة الميسوزوي. إنه عمل فائق الروعة، يتميز بالدقة والتأني، برغم أن أوضاع بعض الديناصورات تبدو الآن متحفِّظة وساكنة مقارنةً بالأفكار الحديثة. وبوصف هذا العمل تصويرًا للأفكار علاوة على حقائق خاصة بالحفريات، فإنه يمثل معيارًا يُهتَدَى به في نطاق هائل من الجهود الأخرى في هذا الصدد — بدءًا من دي لا بيش — بالطريقة نفسها التي نقارن بها الحفريات.

تُظهِر بعض الحفريات أدلة على النمطية في المظهر الخارجي، ولكن الألوان المستخدمة في أي تصوير لحفرية — شأنها شأن كثير من الأوضاع والسلوكيات — يكون جزءٌ منها من خيال الفنان وجزءٌ آخر عبارة عن تخمينات من بيولوجيا الكائنات الحية. وبرغم وجود بعض المزاعم التي تدفع بأنه لو كانت الديناصورات ذات قرابة للطيور، لكانت استعانت بالألوان في سلوكياتها؛ إلا أنه ليس في مقدورنا أن نعلم أي شيء عن استخدام الألوان في التحذير أو الحماية، ولا أشكال الشعر، أو التقزح اللوني لدى الكائنات التي انقرضت منذ عهد بعيد، ناهيك عن سلوكيات التزاوج أو الاستعراضات الطقوسية. لا بد وأن جميع الديناصورات الضخمة كانت ذات جلود سميكة، ومن ثم كانت على الأرجح ذات ألوان رمادية باهتة وكئيبة كألوان الفيلة أو وحيد القرن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤