الفصل الحادي عشر

هابرماس: الهرمنيوطيقا النقدية

ما زال الإنسان يصنع الآلات ويطور الأدوات حتى أصبح هو ذاته آلةً بين الآلات وأداةً بين الأدوات، والأدهى بعد ذلك أنه صار عبدًا لها يأتمر بأمرها ويدور في الفلك المدوِّخ الذي أفرغته، ويرزح في مجال القهر الجديد الذي أفرزته.

ظل اهتمام النظرية التأويلية خلال تطورها منذ شلايرماخر حتى جادامر مُنصبًّا على عبور (أو عدم عبور) الفجوة التاريخية والثقافية التي تفصل ما بين المفسر والنص، غير أن هذا التركيز من جانب النظرية قد يحمل جرثومة وَهْنها وذبولها؛ إذ يبدو أن الهرمنيوطيقا فور زوال الفجوة ستفقد مبرر وجودها ولن يعود لها دور، إلا أن الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورجين هابرماس Jurgen Habermas (١٩٢٩م) شق للهرمنيوطيقا طريقًا جديدًا سواء من حيث النظرية أو التطبيق. ينتمي هابرماس إلى الجيل الثاني من مفكري «معهد البحث الاجتماعي» أو ما يُعرف بمدرسة فرانكفورت التي اشتهرت بالمزج بين الفكر الذي يستلهم الفلسفة الماركسية وبين المناهج الناشئة للعلوم الاجتماعية، وجعلت النقد غايةً في ذاته، وانصرف اهتمامها إلى نقد الواقع الاجتماعي (السياسي-الاقتصادي)، أو نقد الفكر من حيث هو وثيق الصلة بمواقف اجتماعية معينة.١

شيد هابرماس فلسفته على نفس الأسس الفكرية التي تقوم عليها مدرسة فرانكفورت بصفة عامة، وأهمها أن المعرفة هي نتاج المجتمع، وهو نتاجٌ عرضةٌ في كثير من الأحيان للتزييف والتعمية والتشيء، وأن التأمل النقدي كفيلٌ بكشف هذا الزيف والتغلب على هذا التشيء، وفي عام ١٩٦٨م أصدر هابرماس كتابه «التقنية والعلم كأيديولوجيا»، وقد أفاد فيه من أفكار هربرت ماركوز (وبخاصة في كتابه «الإنسان ذو البُعد الواحد») وافتتح المرحلة الثانية من مراحل تطور مدرسة فرانكفورت.

شهد هابرماس مجهودات التحديث في ألمانيا، وخصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، وعايش مرحلة البناء المسترشد بالعقلانية، حيث الخطاب الثقافي والسياسي يكبت السؤال ويُقصي النقد، وقد دفعه ذلك إلى اختيار الاستمرار في تقليدٍ ثقافي وفلسفي ألماني يتخذ من «السلب» والنفي والنقد مبدأه الموجه، ويجعل من الفلسفة أداةً لتفكيك الأفكار والمعتقدات الرائجة والمتداولة، ولمحاكمة الفكر الوضعي الذي يُكِنُّ له عداءً نظريًّا مكينًا.٢

تَجَذَّرَ هذا العداء للفكر الوضعي في قلب مدرسة فرانكفورت بمختلف أجيالها، وصار هاجسها الأكبر كشف الأسس النظرية والتاريخية والاجتماعية التي تُسيِّر هذا الفكر، وإماطة اللثام عن «إرادة القوة» التي تتبطن هذه الأسس، الأمر الذي استدعى من أقطاب مدرسة فرانكفورت جميعًا التنقيب عن أصول (جينيالوجيا) تلك النزعة العلمية المتطرفة لدى المذاهب الوضعية.

(١) هربرت ماركوز

كرس هربرت ماركوز العديد من مؤلفاته لنقد كل أشكال الاستقطاب، وعلى رأسها الاستقطاب العلموي (النزعة العلمية المتطرفة) والتقني، باعتبار التكنوقراطية هي الوجه الآخر للفلسفة الوضعية، «فإذا كان أفلاطون أراد أن يجعل من الفلاسفة سادةً، فإن التكنوقراطيين يريدون أن يجعلوا من المهندسين مجلس إدارة المجتمع».٣
في كتابه «العقل والثورة» يؤكد ماركوز على أن «الوضعية» من حيث اشتقاقها تعني مذهب «الإيجاب والقبول» Positivism، وهما أمران يجب أن يُفهَما في معناهما السياسي والأيديولوجي في سياق القرن التاسع عشر في فرنسا بالذات بعد الثورة الفرنسية. إن «الإيجاب» كان يعني قبول الأوضاع الراهنة والوقوف منها موقف الرضا والمناصرة، خلافًا للرفض أو «النفي» الذي كانت تحمل لواءه فلسفاتٌ أخرى عاصرها أوغست كونت (١٧٩٨–١٨٥٧م)، رائد الوضعية، في فرنسا أو خارجها، أبرزها فلسفة هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م) التي كانت ترتكز على فكرة السلب والتناقض، وهو الاتجاه ذاته الذي سار فيه ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م) فيما بعد مع تعديله كي يقف على قدميه، هذا فضلًا عن الفلسفات الاشتراكية الخيالية في فرنسا كفلسفة سان سيمون (١٧٦٠–١٨٢٥م) ومذهب برودون (١٨٠٩–١٨٦٥م) الفوضوي، إنها اشتراكياتٌ تستند إلى فلسفةٍ اجتماعية رافضة تتخذ موقف الرفض من الأوضاع الراهنة ومن النظم الاجتماعية القائمة، وتدعو إلى تغييرها تغييرًا جذريًّا في الوقت الذي اقترنت فيه الوضعية مع كونت بالدعوة إلى الإصلاح في إطار ما هو قائم وما هو موجود؛ لذا فإن الإعجاب بالعلم ومعاداة الفلسفة لدى هذا المفكر لا يمكن أن يُفهما إلا في هذا السياق، سياق الهجوم المرير على فلسفات السلب والرفض متمثلة في المذاهب الفلسفية الاجتماعية التي عرفت انتشارًا في فرنسا، وفي فلسفة هيجل واليسار الهيجلي في ألمانيا.
لا تُفهم وضعية كونت حق الفهم إلا في ضوء نقيضها، أي في استحضار الخصم الذي كانت هذه الفلسفة تواجهه، فقد جاءت كرد فعل واعٍ على الاتجاهات النقدية الهدامة في فرنسا وألمانيا، فوصفت مذهب هيجل مثلًا، بسبب قوامه النقدي، بأنه فلسفة سلبية تنفي أي واقع لا معقول، وتحاول قياس الواقع وفق معايير العقل المستقل، وهو تحدٍّ للنظام القائم وبحث عن إمكانيات الأشياء من دون معرفة واقعها الفعلي؛ لأنها تقتصر على الصور المنطقية ولا تصل إلى العمق الفعلي الذي لا يمكن استنتاجه في هذه الصور، إن الفلسفة السلبية، نظرًا إلى بنائها التصوري، «تنفي (أو تنكر) الأشياء على ما هي عليه، فالأمور الواقعة التي تؤلف الوضع القائم، أو الحالة الراهنة، حين يُنظر إليها في ضوء العقل، تصبح سلبية محدودة عارضة، أي تصبح صورًا زائلة داخل عملية شاملة تؤدي إلى تجاوزها.»٤ ويتجلى الارتباط بين وضعية القرن التاسع عشر والوضعية المحدثة في توجيه الفكر نحو الأمور الواقعة ورفع مكانة التجربة بحيث تصبح هي المعيار والفيصل في كل معرفة.

هكذا يرى ماركوز أن اسم الوضعية (الإيجابية) اسمٌ سجالي، أي لا يمكن فهمه إلا في سياقٍ خلافي واختلافي، أي لا يُفهم إلا باستحضار الخصم الذي يحاربه، حينئذٍ يتبيَّن للمرء أنه نُحت للدلالة على ذاك التحول من نظريةٍ فلسفية إلى نظرية تريد أن تكون علمية، فحلول الملاحظة محل التأمل في علم الاجتماع عند كونت يعني تأكيد النظام بدلًا من أي خروج على النظام، وهو يعني سلطة القوانين الطبيعية بدلًا من الفعل الحر، والتآزر بدلًا من اختلاف النظام.

ينعت ماركوز الوضعية في موضع آخر بأنها فلسفة أحادية البُعد، تعكس تطور المجتمع الأحادي البُعد الجديد وأشكال الرقابة التكنوقراطية فيه، ثمة إذن طبعٌ أيديولوجي ملازمٌ لكل جنوحٍ وضعيٍّ وتطرف علمي، فربط صدق الفكر والمعرفة باختبارهما الواقعي، وجعل العلوم الفيزيائية نموذج اليقين والدقة، والاعتقاد بأن تقدم المعرفة منوطٌ بالاحتذاء بذلك النموذج، كلها علاماتٌ على انتصار معايير الواقع التكنولوجي حيث يتحول العالم إلى عالم أدواتٍ ومنافع ومصالح؛ لذا فإن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة ويشهد على التقدم التقني هو الرفاه والفعالية وافتقاد الحرية الفردية، «وهل ثمة ما هو أكثر عقلانية من إلغاء الفردية عن طريق ميكنة الأعمال الضرورية اجتماعيًّا والشاقة رغم ذلك؟»٥
إن لغة الفعالية والإنتاجية هي لغة النظام التكنولوجي، وحتى الحقوق والحريات التي كانت عوامل أساسيةً في المراحل الأولى من المجتمع الصناعي تقل أهميتها وحيويتها في مرحلةٍ أكثر تقدمًا، وتفرغ من مضمونها التقليدي: «فقد كانت حرية الفكر والكلام والضمير — شأنها شأن المشروع الحر الذي كانت تخدمه وتذود عنه — تهدف، وهي المكونة في جوهرها من أفكار نقدية، إلى ترك ثقافة مادية وفكرية بالية وتبني ثقافةٍ أخرى أكثر فعاليةً وعقلانية، وعندما أخذت تلك الحريات والحقوق صفة المؤسسات، شاطرت المجتمع الذي أصبحت جزءًا لا يتجزأ منه، مصيره، وبكلمةٍ واحدة، إن الإنجاز يموِّه المقدمات.»٦
يصف ماركوز المجتمع الصناعي المعاصر بأنه مجتمعٌ يضفي صفة العقلانية على اللاعقلانية، باعتباره مجتمعًا تسنده حضارةٌ منتجةٌ، ناجعةٌ، قادرةٌ على زيادة الرفاه وعلى إضفاء صفة الحاجة على ما هو زائدٌ على الحاجة، وتحويل ما هو كماليٌّ إلى ضرورة، وما هو هدميٌّ إلى بناء! وبمقدار ما تحول الحضارة القائمة عالم الشيء إلى بُعدٍ للجسم والروح الإنسانيين، يصبح مفهوم الاستلاب بالذات إشكاليًّا، فالناس يتعرفون على أنفسهم في بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم في سيارتهم وجهازهم التلفزيوني الدقيق الاستقبال، وفي بيتهم الأنيق وأدوات الطهي الحديثة، إن الآلية التي تربط الفرد بمجتمعه قد تبدلت هي نفسها، والرقابة الاجتماعية تحتل مكانها في قلب الحاجات الجديدة التي وَلَّدَتها.٧

فالأشكال السائدة من الرقابة الاجتماعية هي أشكالٌ تكنولوجيةٌ بمعنًى جديد، ومما لا شك فيه أن البنية التقنية وفعالية جهاز التدمير والإنتاج قد أسهما في إخضاع السكان لتقسيم العمل الحالي، ولكن الرقابة التقنية غدت اليوم تعبيرًا عن العقل نفسه الذي أصبح خادمًا لكل الجماعات ولكل المصالح الاجتماعية، بحيث إن كل تناقض يبدو لا عقلانيًّا وكل معارضة تبدو مستحيلة، يخضع المرء في المجتمع التقني الجديد للونٍ جديدٍ من التبعية: تلك التي تُخضع المرء ﻟ «نظام أشياء موضوعي»، هو القوانين الاقتصادية وقوانين السوق وغيره … ولئن كان «نظام الأشياء الموضوعي» هو أيضًا من صنع السيطرة ونتائجها، فإن السيطرة تعتمد الآن على درجةٍ أكبر من العقلانية، عقلانية مجتمعٍ يدافع عن بنيته الهرمية، ويستغل في الوقت نفسه وبصفة أنجع الموارد الطبيعية والفكرية ويوزع على نطاقٍ متعاظمٍ باستمرارٍ أرباح هذا الاستغلال.

يقول ماركوز: «إن التكنولوجيا المعاصرة تضفي صبغةً عقلانيةً على ما يعانيه الإنسان من نقصٍ في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل «تقنيًّا» أن يكون الإنسان سيد نفسه وأن يختار أسلوب حياته، وبالفعل، إن نقص الحرية لا يطرح نفسه اليوم على أنه واقعةٌ لا عقلانية، أو واقعةٌ ذات صبغةٍ سياسية، وإنما يعبر بالأحرى عن واقع أن الإنسان بات خاضعًا لجهازٍ تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل. إن العقلانية التكنولوجية لا تضع السيطرة موضع اتهام، وإنما هي تحميها بالأحرى، والأفق الأداتي للعقل يطل على مجتمعٍ كليٍّ استبدادي وقد أُضيفت عليه الصفة العقلانية.»٨

يتبين إذن أن التقنية ليست شيئًا محايدًا عديم اللون والطعم والرائحة، كما أنها ليست مجرد تطبيقٍ عملي لممارسةٍ نظريةٍ هي العلم، إنها منطقٌ أو وضعٌ أو موقفٌ فلسفي أو أيديولوجي، ليست آلاتٍ وأدواتٍ ووسائل عملٍ في يد الإنسان، بل هي أدواتٌ ووسائل تكرس منطق السيطرة وتكشف عصر التقدم التقني وأيديولوجيا النظام التكنولوجي.

ثمة مشابهاتٌ بين هذا الموقف الذي دافع عنه ماركوز ثم هابرماس، وموقف هيدجر الذي يعتبر الوضعية الأساسية للأزمنة الحديثة هي «الوضعية التقنية»، ولأن العصر تقنيٌّ، فالتنقية شكلٌ من أشكال الحقيقة وكيفيةٌ من كيفيات الوجود أو نمطٌ من أنماط تجلياته، إنه موقفٌ يصب في القول ﺑ «لا حيادية» التقنية، خلافًا للموقف الماركسي الذي يعتبرها مجرد تطبيقٍ للعلم.٩

(٢) التقنية والعلم كأيديولوجيا

يرى هابرماس أن العلم ليس بريئًا وليس محايدًا وليس نزيهًا!

فالعلم في سياق العقلانية التقنية تتلبسه حسابات السياسة، أي إرادة قوة بالمعنى النيتشوي تنبغي تعريتها وإخراجها إلى واضحة النهار، الأمر الذي يستلزم نقد المذاهب الوضعية والنزعة العلمية المتطرفة Scientism والنزعة التقنية، بوصفها جميعًا تعبيراتٍ عن الأيديولوجيا المكونة للحداثة التقنية، أما الوضعية فهي تميل إلى تحنيط العلم حتى ليتحول إلى دينٍ جديدٍ دوجماوي يقدم أجوبةً وثوقيةً عن كل الأسئلة الممكنة ويقدم حلولًا ناجعةً لكل المشكلات، وأما النزعة التقنية فهي الميل إلى اعتبار التطبيق العملي للمعرفة العلمية هو وحده الكفيل بتقدم المجتمع، واعتباره توظيفًا عمليًّا محايدًا للمعرفة العلمية، متناسية أن التقنية تحول البشر أنفسهم إلى وسائل وأدوات، فتقمع طاقاتهم الإبداعية والتحررية، وبهذا المعنى فهي أيديولوجيا تلعب دورًا أساسيًّا في إضفاء المشروعية على النظام الاجتماعي والسياسي الحديث القائم على العقلانية التقنية.١٠

ويعود الفضل إلى ماكس فيبر في استخدام مفهوم «المعقولية» لوصف الشكل الرأسمالي للنشاط الاقتصادي، والنمط البرجوازي للمبادلات والأنماط البيروقراطية للسيطرة؛ وعليه فإن العقلنة تعني توسيع المجالات المجتمعية التي تخضع لمعايير القرار العقلي، والتي تسير بموازاة تصنيع العمل الاجتماعي وميكنة الحياة الاجتماعية وإضفاء الصفة الآلية والتقنية على حياة الإنسان، إن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة هو رزوحها تحت أشكال من الرقابة المتعددة المستويات، تُحشر في عداد العقلنة والتخطيط والترشيد المتوخية كلها تحقيق «غايات» و«أهدافٍ» معقلنة.

ويؤكد هابرماس أن «العقلنة» المتزايدة للمجتمع تتم بموازاة عملية إضفاء صيغة المؤسسة على التقدم العلمي والتقني، فبقدر ما يتدخل العلم والتقنية في مؤسسات المجتمع ويُفقدانها طابعها كمؤسسات، تغدو الإنتاجية هي المعبئ الوحيد للمجتمع وتضع نفسها فوق كل مصلحة.

هكذا يحول هابرماس مفهوم العقلنة، مثلما استخدمه ماكس فيبر، ويكيفه تكييفًا يجعله يسير على قدميه، وليس على رأسه كما كان الأمر مع هذا الأخير، وهابرماس، هنا، يقتفي أثر ماركوز الذي انتقد الطابع الصوري للمعقولية في صيغتها الفيبرية، وكأنها مجرد عمليةٍ تتم في حدود نشاط عقلي يقرره رئيس مؤسسةٍ رأسمالية متوخيًا منه تحقيق غايات وأغراض عملية استنادًا إلى معايير العلم والتقنية، فهو يرى أن خلف هذه «المعقولية» المظهرية ثمة إرادة سياسية ثاوية تسعى إلى توسيع مجال السيطرة وعقلنته، فكل عقلانية تكنولوجي يحايثها (يباطنها ويحل بها) منطقٌ للسيطرة يتمثل في إخضاع الإنسان لنظام الأشياء، فما دامت معقوليةٌ من هذا القبيل تقوم على وضع الخطط والاختيار بينها بحثًا عن أفضلها، واستخدام التكنولوجيا الملائمة وتهيئة الأنظمة المناسبة والمواتية لبلوغ غاياتٍ ثابتة ومحددة، فإنها تبقي شيئًا يتم في غفلةٍ عن التفكير، وفي خلسةٍ من المصالح الاجتماعية الكبرى، معقولية من هذا القبيل لن تخدم سوى علاقات التسيير والتحكم التقني، إنها تفترض نوعًا من السيطرة على الطبيعة أو على المجتمع، ذلك أن النشاط العقلي حينما يضع لنفسه غايات، يتحول إلى رقابة؛ لذا فإن «عقلنة» شروط الحياة تعني في نهاية الأمر تحويل السيطرة إلى مؤسسةٍ لها شرعيتها، والتي لا ينتبه إلى أنها شرعية سياسية، وهذا هو جوهر النقد الذي يوجهه ماركوز ثم هابرماس إلى ماكس فيبر.

ففي المجتمعات الرأسمالية المتقدمة صناعيًّا تتجه السيطرة إلى أن تفقد طابعها القمعي المعيمن والمسيطر لتتحول إلى نوعٍ من السيطرة «المعقلنة»، من دون أن تتخلى مع ذلك عن طابعها.

غير أن الطابع القمعي لا يختفي تمامًا، بل يتخذ لنفسه مظاهر وتجلياتٍ تتمثل في خضوع الأفراد ورُزُوحِهم تحت نير جهاز الإنتاج والتوزيع واندماجهم الكلي في منطقه، إلا أن الأفراد لا يعون الجوهر القمعي لكل ذلك؛ لأنه يُضفي على نفسه رداءً جديدًا من الشرعية، مفاده الزعم بأن السيطرة على الطبيعة والتحكم في الإنتاجية المتزايدة هو ما سوف يضمن للأفراد شروط العيش الرغيد.١١

لقد فاق تعاظم قوى الإنتاج، والذي هو إحدى مميزات التقدم العلمي والتقني المعاصر، كل النسب والحدود، ومبادئ العلم الحديث قد رُكبت وبُنيت، مسبقًا، على نحوٍ يمكن معه استخدامها كأدواتٍ مفاهيمية من طرف عالم الرقابة الإنتاجي الذي يجدد نفسه بصفةٍ أوتوماتيكية، وكان من نتيجة ذلك أن اندمجت النزعة الإجرائية النظرية بالنزعة الإجرائية العملية وامتزجت بها، وهكذا قدم المنهج العلمي، الذي فتح الباب على مصراعيه أمام السيطرة الفعالة على الطبيعة، مفاهيم بحتة، ولكنه قدم أيضًا مجموع الأدوات التي سهلت سيطرة الإنسان على الإنسان على نحو مطرد الفاعلية من خلال السيطرة على الطبيعة، ولقد أصبح العقل النظري، بمحافظته على بقائه وحياده، خادمًا للعقل العملي، ولقد كان هذا التلاقي مفيدًا لكليهما، واليوم لا تزال السيطرة قائمة، وقد أخذت طابعًا أكثر شمولًا بفضل التكنولوجيا، وبوجهٍ خاص بوصفها تكنولوجيا، فالتكنولوجيا تبرر ابتلاع السلطة السياسية من خلال امتدادها إلى كل دوائر الثقافة.

(٣) المعرفة والمصلحة

في كتابه «المعرفة والمصلحة» الذي صدر عام ١٩٦٨م (أي في نفس العام الذي صدر فيه «التقنية والعلم كأيدلوجيا») رسم هابرماس الخطوط العريضة لتأويليته النقدية، وذلك عندما قسَّم المصلحة البشرية إلى ثلاثة أقسام: المصلحة التقنية أو الأداتية، والمصلحة العملية، والمصلحة التحررية.

«أما المصلحة التقنية» أو الأداتية فهي تلك التي تحكم العلوم التجريبية، وتستخدم المناهج الإمبيريقية-التحليلية للوضعية لكي تستخلص المعرفة الأداتية للعلوم الطبيعية، إن ما يميز عبارات العلوم التجريبية هو أن دلالتها تكمن في قابليتها للاستغلال التقني، وهذا هو سر الارتباط بين المعرفة التجريبية والمصلحة التقنية.

«وأما المصلحة العملية» فمجالها التواصل بين البشر، وتستخدم المنهج التأويلي، لتنتج المعرفة العملية.

«وأما المصلحة التحررية» (المصلحة الرامية للتحرر والانعتاق) فتستخدم النظرية النقدية لكي تظفر بمعرفةٍ تُحرر الإنسان من الزيف والوهم.

والحق أن هابرماس يضع الهرمنيوطيقا النقدية في موضعٍ أعمق بعض الشيء من الهرمنيوطيقا التقليدية، بمعنى أنه يدرجها ضمن النطاق «التحرري» من المصلحة البشرية، والهرمنيوطيقا النقدية التي يقترحها هابرماس لا تشذ عن الروح العامة لأسلوب البحث في مدرسة فرانكفورت، فهي مُركبٌ فعالٌ من النظرية والتطبيق وبرنامج العمل غايته أن يضاد التأثيرات القمعية للبناء الاجتماعي للمعرفة.١٢

(٤) المعركة الفكرية بين هابرماس وجادامر

في كتاب «المعرفة والمصلحة» ظل الطابع السائد هو نقد المعرفة، ولم يُقَدَّر لهابرماس أن ينشغل بالهرمنيوطيقا النظرية والعملية بشكلٍ جاد ودائم، ويتحول بالتالي من نقد المعرفة إلى نقد اللغة، إلا بعد اشتباكه مع جادامر في سجالٍ عنيف (لعله أطول المعارك الفكرية في التاريخ الحديث؛ إذ استمر عدة عقودٍ من الزمن)، في هذا الجدل نجد هابرماس يأخذ على جادامر ميله إلى إخضاع الفهم والتأويل لسلطة التراث (التقليد/الإرث)، فالتراث في نظر هابرماس (وفي نظر كل مفكر ذي خلفية ماركسية) هو وعاءٌ يحوي تحريفاتٍ أيديولوجيةً هائلة ويختزن في قلبه الزيف والتعمية والتَّشْيِيء، زد على ذلك أن التراث ليس شيئًا متصلًّا موصولًا ثابتًا، فهو عرضةٌ للتمزق الذي يحدثه التعقل والتفكير العقلاني، وهو مليءٌ بالتمزقات التي تخلق ألوانًا من القطيعة والانقلاب، ثمة مصالح حقيقيةٌ في المنهج، وفي العلم بصفةٍ عامة، ينطوي عليها التراث بحيث لا يكفي أن نُلم بأسس الفهم ودعائمه بل يلزمنا خلاص، يلزمنا انعتاق من ربقة التراث وبخاصةٍ إذا كان هذا التراث قمعيًّا.

كما سخر هابرماس من إحجام جادامر عن التنظير في المنهج التأويلي واكتفائه بمجرد عرض مفاهيم موغلةٍ في التجريد من مثل «الآفاق» و«التحام الآفاق»، الأمر الذي استهدف الهرمنيوطيقا لوابلٍ من التهكم والازدراء من جانب الوضعيين.

أما السلطة التي دافع عنها جادامر وبرأها، والحكم المسبق (أو التحيز) الذي جعل منه أداة للفهم كما أراد هيدجر، فقد نالا قسطهما من التفنيد والنقد، ذلك أن هابرماس يرى الأحكام السبقية التي نتشربها من تراثنا كثيرًا ما تكون عثراتٍ وقيودًا على العقل، وينبغي أن نخضعها للتمحيص النقدي باسم العقل والتأمل، لا بد من أن نضع طاقة العقل وسلطانه في مواجهة الطبيعة الظاهرية والقبول السطحي لأطروحات التراث وطرائقه وسُبله، أما المبدأ القائل بعبثية التخلص من الأحكام المسبقة واستحالته، والذي أخذه جادامر عن هيدجر، فهو مبدأ خاطئ في نظر هابرماس الذي يؤكد أن بإمكان الهرمنيوطيقا أن تقهر التحيزات عن طريق المنهج النقدي، وإذا كان جادامر قد حاول أن يزيل التوتر بين النزعة الموضوعية والنزعة الذاتية ويذيب الفوارق بينهما ويفض الاشتباك، فإن هابرماس قد أعاد مرةً ثانية حكم الموضوعية في الهرمنيوطيقا ورد لها سلطانها.

وأما اللغة، تلك التعويذة الهيدجرية التي تعبد بها هيدجر وجعلها مكافئةً للوجود ذاته، فهي في نظر هابرماس كيانٌ أيدلولوجي يختزن في قلبه الزيف والخرافة والاستلاب، وإذا كانت الأيديولوجية في اللغة قمعيةً كابتةً فإن فهم اللغة لا جدوى منه ما لم يتم التحقق من الأيديولوجيات وتمحيصها، ثمة فرقٌ بين الفهم من خلال اللغة وبين الانعتاق من اللغة، ومن المتيقن أن المبادرة السياسية بتصحيح الموقف أهم بكثيرٍ من مجرد تفسير الألفاظ، ذلك أن تشويهات اللغة لا تأتي من استعمال اللغة بل من ارتباطها بالعمل وبالسلطة، وهو ارتباط يظل أعضاء المجتمع غافلين عنه وغير متفطنين إليه، الأمر إذن ينطوي على تشويهٍ منظمٍ للفهم وليس مجرد سوء فهم، وإذا كان الحوار لا يكفي للتغلب على هذا التشويه وهذه الغفلة فإن كشف الأيديولوجيا وتفكيكها يجب أن يمر خلال مسارٍ التفافيٍّ من الإجراءات المعنية ﺑ «التفسير» Explaining وليس مجرد «الفهم» Understanding.
هذه بعض المناوشات الصغرى التي جرت في السجال الطويل بين هابرماس وجادامر، فالحق أن جدل هابرماس ينفذ إلى القلب من تأويلية جادامر ليصبح أساسًا لتأويلية هابرماس النقدية، يزعم هابرماس أن المشكلة الجذرية في تأويلية جادامر هي أنه يظن أن كل حوارٍ بين ذاتٍ وموضوع، أو بين ذاتٍ وأخرى، هو حوارٌ صادقٌ وأصيل، ويظن أن كل التحامٍ بين أفقين هو التحام حقيقي، لم يضع جادامر في حسبانه احتمال وجود حوارٍ زائفٍ وإجماعٍ زائف، ولم يَدُر بخلده أن لعبة الفهم والتفسير الجارية المتدفقة يمكن أن تفسدها القوى الأيديولوجية المسيطرة والعنيفة والمشوهة، والتي قد تشف وتدق بحيث لا يراها ولا يحسها اللاعبون أنفسهم، يتفق هابرماس مع جادامر في أن الحوار يجب أن يكون تفاعلًا متبادلًا حرًّا بين قوتين، ولكنه يرى أن هذه الحرية التي يقوم عليها الحوار مهددةٌ في الصميم، فما إن يُصاب الحوار بعدوى الأيديولوجيا حتى تنهار حريته ويُصبح الاتفاق الذي يفضي إليه الحوار اتفاقًا زائفًا، بإمكان الأيديولوجيا أن تتخلل «نظرة العالم» World View كليًّا، وتتخلل «الأفق» Horizon (أي مقولات الفهم التي لا يسعنا أن نرى وراءها)، غير أن بإمكان الأيديولوجيا أيضًا أن تتسلل إلى نسيج اللغة ذاتها وتسلك نفسها في سدى اللغة ولحمتها، وهكذا تصبح اللغة، وهي الأداة الضرورية للحوار الجادامري، حاملةً للعدوى الأيديولوجية، وهكذا يبدو جادامر في الصورة الكاريكاتورية لجراحٍ خطرٍ يحمل حقيبة آلاتٍ جراحيةٍ ملوثة.
ويتفق هابرماس مع جادامر في أن ممارسة لعبة التأويل تعني ممارسة لعبة اللغة، غير أن ممارسة لعبة اللغة عند هابرماس تعني ممارسة السيطرة والعنف والتحريف، وإذا شاءت الهرمنيوطيقا أن تتجه إلى الحقيقة وتقصدها فلا بد لها من أن تقف خارج اللعبة كمُشاهدٍ موضوعي، لا بد للمؤول من أن يتخذ موقف ملاحظٍ خارجي غير مشارك حتى يستطيع أن يُشخِّص بدقةٍ تلك العمليات المشئومة والأفاعيل الشريرة التي ترتكبها الأيديولوجيا واللغة، وحيث إن كلًّا من الأيديولوجيا واللغة تتسرب إلى «نظرة العالم» World View حتى لدى أعتى مفكر نقدي فقد كان على هابرماس أن يجد نقطةً أرشيميديةً يستطيع منها أن يفض الأسرار المحجبة للأيديولوجيا واللغة، وقد تبين أنه أسعد حظًّا من أرشيميدس نفسه؛ ذلك أن هابرماس استطاع أن يكتشف نقطتين من تلك النقاط لا نقطةً واحدة، وهما بالتحديد: التحليل النفسي الفرويدي والنقد الماركسي للأيدولوجيا، أما التحليل النفسي الفرويدي فهو يقدم نموذجًا لعلاج الأدواء النابعة من التشويه المنظم الذي تلحقه الأيديولوجيا واللغة بنظرة العالم. إن المحلل النفسي يشجع مرضاه، بلغة الكلام، على مداواة العلل الناجمة عن الذكريات والدوافع اللاشعورية، كذلك ينبغي على الهرمنيوطيقا النقدية أن تشجع البشرية، بلغة الخطاب، على أن تناهض القمعَ والزيفَ والتَّشْيِيءَ الذي تنطوي عليه المعرفة.

وأما التراث الماركسي في نقد الأيديولوجيا، وهو رافدٌ أساسيٌّ لفكر مدرسة فرانكفورت بصفةٍ عامة، فهو يقدم نموذجًا آخر للنفاذ إلى البنى التحتية للمجتمع والنظر إلى البنية الاجتماعية للمعرفة، يقول ماركس في كتابه «الأيديولوجية الألمانية»: «الوعي لا يحدد الحياة، الحياة هي التي تحدد الوعي.» غير أنه بين الضروب المختلفة من الوعي والتعبير في أي مجتمع هناك وعيٌّ سائد ومسيطر وغالب، ووعيٌ آخر مسودٌ وخاضعٌ ومغلوبٌ على أمره، الوعي الغالب هو وعي الطبقة الحاكمة، وهو يشكل أيديولوجية المجتمع، ويعمل على تبرير سلطة الطبقة المسيطرة وخدمة مصالحها وإضفاء الشرعية على أوضاعها، مهمة النقد الماركسي للأيدلويوجيا هي أن يكشف النقاب عن هذه الخدع الأيديولوجية للوعي المسيطر والتعبيرات السائدة، ويرتكز على المصلحة المحررة ويهدف إلى تحرير الطبقات المقهورة.

أفاد هابرماس إذن من التراثين الماركسي والفرويدي، وشيد نظريةً تأويلية تبدأ من افتراض أن كل معنى ينتج عن الاتفاق هو موضع شك في أن يكون نتاج اتفاقٍ زائف، وأن يكون من ثم معنى زائفًا، ومهمة الهرمنيوطيقا النقدية إذن هي البحث عن اتفاق حقيقي ومعنًى أصيل، وحيث إن عملية البحث عن اتفاق هي في أمثل الأحوال مغامرةٌ عقلية، فقد استعار هابرماس فكرة العقلانية التي قال بها ماكس فيبر، ولا سيما فكرتي الفعل والفعل العقلاني.

(٤-١) نظرية الفعل التواصلي Theory of Communicative Action

الفعل العقلاني، بأبسط معانيه وأصرحها، هو الفعل المخطط والمحسوب، والمصمم لتحقيق هدفٍ بعينه، وهو دائمًا أيسر إجراءً للظفر بأقصى نجاحٍ ممكن، وغني عن القول أن ليست جميع الأفعال البشرية أفعالًا عقلانية، ورغم ذلك فإن معظم الأفعال التي يقوم عليها المجتمع الحديث هي أفعال عقلانية: الأعمال التجارية والاستثمارية، الإجراءات القضائية، الإدارة المكتبية … إلخ. قد يكون الفعل العقلاني موجهًا نحو النجاح أو النجاعة، وقد يكون موجهًا نحو الفهم الأصيل، وقد يكون الفعل العقلاني أيضًا ذا نطاق اجتماعي، وقد يكون غير اجتماعي في نطاقه ومجاله، وفقًا لهذه التصنيفات يقسم هابرماس الفعل العقلاني إلى:
  • (١)
    «فعل عقلاني موجه إلى النجاح»، وهو ينقسم بدوره إلى صنفين:
    • فعل أداتي غير اجتماعي: يتخذ نموذج العقلانية التقنية.
    • فعل استراتيجي اجتماعي المجال: بمعنى أنه يجري في سياقٍ توجد فيه أطرافٌ عقلانيةٌ أخرى، والفعل الاستراتيجي هو بالضرورة فعلٌ تنافسي ومخططٌ بهدف قمع أفعال الأطراف الأخرى أو محاصرتها أو التفوق عليها، وينقسم الفعل الاستراتيجي إلى قسمين:
      • (أ) فعل استراتيجي صريح: حيث جميع الأطراف على علمٍ بأنها في عمليةٍ تنافسية، مثال ذلك المباريات، المناقشات، الإجراءات القانونية … إلخ.
      • (ب) فعل استراتيجي مُضمر: وينقسم بدوره إلى صنفين:
        • فعل ينطوي على خداعٍ شعوري: مثال ذلك التلاعب والإغواء، حيث هناك طرفٌ واحد يدري بالخدعة.
        • فعل ينطوي على خداعٍ لا شعوري: مثال ذلك التحريف الأيديولوجي، حيث جميع الأطراف لا تدري بالخدعة.
  • (٢)
    «فعل تواصلي Communicative Action»، وهو الفعل العقلاني الوحيد الذي يرمي إلى فهمٍ حقيقي، والفرق المميز له عن الفعل الاستراتيجي هو أن الفعل التواصلي غير تنافسي، ورغم أنه عقلاني الصبغة فهو قائمٌ على التواضع ومدفوعٌ بالفهم التعاوني البينذاتي Intersubjective ومجردٌ من الأنانية والمصلحة الذاتية.

يذهب هابرماس إلى أننا بصدد الفعل التواصلي تلزمنا هرمنيوطيقا نقدية للوصول إلى الغاية المشتركة من هذا الفعل وهو الفهم المتبادل، وبصدد الفعل الاسترايتيجي تلزمنا هرمنيوطيقا نقدية تكشف النوايا الخبيثة والمقاصد الشريرة التي تتبطن الفعل الاستراتيجي، وحيث إن كلًّا من الفعلين التواصلي والاسترايتيجي يتجسد في اللغة، فإن على الهرمنيوطيقا النقدية أن تولي عنايتها باللغة، وها هنا يبزغ المنعطف اللغوي الشهير لهابرماس: التحول من نقد المعرفة إلى نقد اللغة، والذي يُدخل النقد الأسلوبي للأيديولوجية عن ماركس إلى داخل نطاق علم اللغة (اللسانيات).

(٤-٢) المنهج التأويلي لهابرماس: البراجماطيقا العامة

تنقسم دراسة اللغة في عامة الأحوال إلى الأقسام التالية (ضاربين صفحًا في هذا المقام عن «علم الأصوات الكلامية» Phonology و«علم تمثيل الأصوات» Phonetics و«علم الصرف» Morphology):
  • علم النظم (التراكيبية) Syntatics الذي يدرس علاقة العلامات اللغوية بعضها ببعض.
  • علم دلالة الألفاظ (السيمانطيقا/المعاني) Semantics الذي يدرس علاقة العلامات اللغوية ﺑ «الواقع الخارج عن اللغة» Extralinguistic Reality.
  • التداولية (البراجماطيقا) Pragmatics التي تدرس علاقة العلامات اللغوية بمستخدميها من بني الإنسان، فليست اللغة بأي حالٍ شيئًا مخزنًا بالمعاجم وكتب النحو، بل هي شيء متصل بين بني الإنسان، وأيسر طريقة لبيان الموضوعات التي تتألف منها البراجماطيقا هي أن نقول إنها تشمل جميع المسائل التي لا يمكن أن يبحثها اللغويون وفلاسفة اللغة في نطاق علم النظم أو علم الدلالة، والحق أنه في كثير من المناقشات اللغوية تستخدم عبارة «إنها مسألة تداولية لا أكثر» للتهوين من شأن بعض المسائل والموضوعات وعدم أخذها مأخذ الجد.
ربط هابرماس تأويليته النقدية بالبراجماطيقا (التداولية) التي تُعد أحدث الأفرع اللغوية سنًّا؛ إذ لم يُعترف بها كجزءٍ من علم اللغة إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، ولعل مرد هذا التأخير إلى أن البراجماطيقا تحيد كثيرًا عن الموضوع التقليدي لعلم اللغة وفقًا للتمييز الصارم الذي وضعه فرديناند دي سوسير (١٨٥٧–١٩١٣م)، رائد علم اللغة الحديث، بين «اللغة» Langue و«الكلام» Parole، أما «اللغة» Langue فهي القالب أو البنية اللغوية التي توجد وجودًا مثاليًّا خارج أي استعمال يومي معين، ذلك الاستعمال الذي يطلق عليه سوسير Parole «الكلام»، ﻓ«الكلام» عند سوسير هو تلك الكتلة المهوشة للعبارات (المنطوقات) اليومية التي لا تصلح موضوعًا لعلمٍ مثل علم اللغة، بينما اللغة عنده هي المادة المثالية المنظمة التي يمكن أن تكون موضوعًا للبحث العلمي.
ومن بين أفرع علم اللغة جميعًا فإن البراجماطيقا (التداولية) وحدها هي التي تجاسرت على دراسة «الكلام» Parole، بينما آثرت الأفرع الأخرى دراسة الكيان المنظم المستقر أي «اللغة» Langue، ورغم ذلك فقد انكب هابرماس على دراسة البراجماطيقا، ولم يكتفِ بتعديلها وتهيئتها بل أرهفها وكيفها بحيث يتلاءم مبحثها مع متطلباته النقدية.
والحق أن هابرماس لم يكن مولعًا بانشغالات البراجماطيقا ﺑ «الكلام» Parole بالمعنى السوسري والتي كان يراها انشغالاتٍ دنيويةً مفرطة، بل كان مولعًا في المقابل بالمبادئ التحتية التي تحكم البراجماطيقا وتحكم تجنيدها للغة، لقد أخذ يبحث عن النظام، والبنية، والقالب في منطوقات الحياة اليومية، وبذلك أحدث انقلابًا في البراجماطيقا، وإذ جعل يعامل «الكلام» معاملة «اللغة» فقد خلق ما أسماه «البراجماطيقا العامة» (العمومية/الشاملة/العالمية) Universal Pragmatics، فإذا كانت البراجماطيقا تبدأ بمناهج جمع البيانات الإمبيريقية، فإن براجماطيقا هابرماس العامة تقوم على إعادة بناء الاستراتيجيات التي يستخدمها الناس في أداء أفعالهم التواصلية داخل سياقات محددة.
مشروع البراجماطيقا العامة إذن هو إعادة بناء التعامل (التفاعل) التواصلي المثالي، ويقوم هذا المشروع على نظرياتٍ مفتاحيةٍ ثلاثٍ، تنتمي اثنتان منها للتراث الفلسفي اللغوي الأنجلوسكسوني، والثالثة تنتمي للغويات السيكولوجية الألمانية. أما «النظرية الأولى» من هذه النظريات الثلاث فهي مخطط سير كارل بوبر (١٩٠٢–١٩٩٤م) عن العوالم الثلاثة:
  • العالم ١: عالم البيئة الطبيعية.
  • العالم ٢: عالم الأفكار والخبرات الذاتية.
  • العالم ٣: عالم المعرفة الموضوعية … العالم الاجتماعي البينذاتي.
استلهم هابرماس هذا المخطط البوبري وذهب إلى أنه إذا كان هناك تمييزٌ جوهري بين هذه العوالم الثلاثة فإن هناك تمييزًا جوهريًّا بين اللغات التي تُستخدم وفقًا لكلٍّ من هذه العوالم أو داخل سياقها، ولكي يتعقب هابرماس هذا الاستبصار الأول فقد أفاد من النظرية الأساسية الثانية وهي نظرية «أفعال الكلام» Speech Acts كما بدأها فتجنشتين Wittgenstein (١٨٨٩–١٩٥١م) وطورها تلميذه الإنجليزي جون أوستن J. Austin (١٩١١–١٩٦٠م) في كتابه «كيف تفعل أشياء بالكلمات» How to Do Things with Words وضع جون أوستن تصنيفًا لأفعال الكلام، فقسم الأفعال الكلامية إلى ثلاثة مستويات:
  • (١)
    في المستوى الأول نجد الوظيفة الكلامية المحضة للمنطوق أو القول كما يحدث حين أُصْدِر ضوضاءَ صوتيةً أو أكوِّن جملةً مفيدةً أو أقول شيئًا ذا معنًى، ويُسمى هذا الفعل الكلامي Locu. Tionary Act.
  • (٢)
    في المستوى الثاني تأتي الوظيفة الإنجازية للمنطوق أو العبارة؛ إذ يكون القول ذاته «فعلًا»: فحين أكتب في وصيتي على سبيل المثال: «أنا أهب ساعتي لأخي وأوصي له بها» فإنني إذاك لا أصف ما أنا أقوم به ولا أثبت أنني أفعل ذلك، بل أنجز فعلًا وأهب ساعةً، وحين أقول في لحظة عقد الزواج «أنا أرضى بهذه المرأة زوجةً لي» فأنا لا أخبر عن نفسي خبرًا ولا أنقل وقائع الزواج، وإنما أتزوج، إن الجملة هنا ليست مجرد إخبارٍ أو تقرير أو إثبات، إنها جملة إنجازية، منطوق إنجازي، ويُسمى هذا الفعل من أفعال الكلام حيث يكون إنتاج العبارة هو ذاته إنجاز لفعل Illocutionary Act (الفعل الأدائي/الإنجازي/الإنشائي).
  • (٣)
    في المستوى الثالث تأتي الوظيفة الإيعازية أو التحريضية، وذلك حين يريد القائل من قوله أن يُحدث تأثيراتٍ في المتلقي: إقناعًا، رهبة، خشية، سخرية أو ازدراءً … إلخ، ويُسمى هذا الفعل الكلامي Perlocutionary Act.١٣
ذهب هابرماس إلى أن نظرية أفعال الكلام لجون أوستن تشق طريقًا لنظريته عن البراجماطيقا العامة، من حيث إنها تتناول بعض القواعد العامة للكفاءة التواصلية التي تهدف إلى تبيان الشروط اللازمة للاستعمال الموفق، أي المفهوم والملزم، للجمل في منطوقات أو عبارات كلامية، ذلك أن البراجماطيقا العامة معنية بتحليل اللغة المستخدمة كفعلٍ اجتماعي، وبخاصة كفعلٍ استراتيجي، وفعل تواصلي، ومثل هذا الاستخدام هو بالضرورة Illocutionary، فمن بين الأصناف الثلاثة من أفعال الكلام التي طرحها أوستن فإن الفعل «الأدائي/الإنجازي/الإنشائي» Illocutionary Act هو الذي يهم هابرماس بالدرجة الأولى.
لاحظ هابرماس رغم ذلك أن نظرية أفعال الكلام لجون أوستن تعاني من قصورٍ أساسي، من حيث إنه لم يدرك أن أفعال الكلام يمكن أن ترتبك بتحليل ﻟ «الصواب» Validity أعقد بكثير من مجرد تحليل «الصدق» القضوي Propositional Truth (أي الصدق الواقعي للخبر الذي تقرره العبارة)، فهناك أبعادٌ أخرى للصواب غير البعد الذي يقدمه الصدق القضوي وإن تكن مساويةً له في الأهمية والمشروعية، ورغم أن تحليل صدق القضايا يناسب تمامًا اللغة المستخدمة للإشارة إلى عالم بوبر الأول (الفيزيائي) وضمن سياقه، فإنه قد لا يصلح كمعيار لتحليل دعاوى الصواب الخاصة باللغات المستخدمة للإشارة إلى العالمين الآخرين (الذاتي والبينذاتي) وضمن سياقهما، ويتساءل هابرماس: إذا كانت هناك فروقٌ جوهرية بين العوالم الثلاثة وهناك بالتالي فروقٌ لا بد من أن تكون بين اللغات المستخدمة في الإشارة إلى، وداخل سياق، كل من هذه العوالم، فكيف ظلت فلسفة اللغة وعلم اللغة حتى زمن أوستن مقيدين بمعيارٍ واحدٍ ومونولوجي لتحليل الصواب، وهو معيارٌ غير حساسٍ للفروق اللغوية الجوهرية؟
ولكي يمضي في الطريق الذي شقته نظرية أفعال الكلام يستعين هابرماس بنظريةٍ أساسيةٍ ثالثة هي نظرية السيكولوجي واللغوي الألماني كارل بولر K. Buhler الذي لفت الأنظار إلى حقيقة أن اللغة يمكن استخدامها للتواصل بثلاثة طرقٍ هي:
  • (١)

    أن تمثل وقائع عن العالم الحقيقي.

  • (٢)

    أن تعبر عن نوايا وخبرات المتحدث.

  • (٣)

    أن تؤسس علاقةً بالمستمع.

ثمة توازٍ لافت بين هذه الوظائف اللغوية الثلاث وبين عوالم بوبر الثلاثة، وقد اقتفى هابرماس أثر بولر بشكلٍ مباشر، وأفاد من نظرية بوبر بشكلٍ غير مباشر، فأعاد صياغة مفهوم اللغة التي تُستخدم كفعلٍ اجتماعي، أي كفعلٍ كلامي (إنجازي/إنشائي) Illocutionary، وقسم بنية هذه اللغة إلى ثلاثة مكونات:
  • مكوِّن قضوي Propositional.
  • مكوِّن تعبيري Expressive.
  • مكوِّن إنجازي/إنشائي Illocutionary.
ورغم أن هذه المكونات الثلاثة موجودةٌ في كل فعلٍ كلامي إنجازي/إنشائي Illocutionary فإن وجودها يتفاوت في نسبته ومقداره، وبحسب المكون السائد يقسم هابرماس الأفعال الكلامية الإنجازية إلى: خبرية Constative، وإشهارية Avowal أو تمثيلية Representative، وتنظيمية Regulative.
الفعل الكلامي الخبري Constative Speech Act: المكوِّن الغالب فيه هو المكون القضوي Propositional، ويشير إلى العالم البوبري الأول (الفيزيائي)، ويقوم بوظيفة تمثيل الوقائع (وفقًا لبولر)، ويعتمد على الطريقة، الحالة، المعرفية Cognitive في التواصل.
الفعل الكلامي الإشهاري Avowal أو التمثيلي Representative: يسوده المكون التعبيري، ويشير إلى العالم البوبري الثاني (الداخلي الذاتي)، ويقوم بوظيفة البوح بما في نفس المتحدث وكشف دخيلته، ويعتمد على الحالة التعبيرية Expressive في التواصل.
الفعل الكلامي التنظيمي Regulative: يسوده المكون الإنجازي Illocutionary، ويشير إلى عالم بوبر الثالث (البينذاتي/الاجتماعي/الموضوعي)، ويؤدي وظيفة تأسيس علاقاتٍ اجتماعية مشروعة، ويعتمد على الحالة التفاعلية في التواصل.
هكذا تبين هذه الأفعال الكلامية الثلاثة وجود فروقٍ جوهرية في اللغة المستخدمة في سياق كلٍّ من عوامل بوبر الثلاثة؛ إذ تبرز الفروق في البنية والوظيفة والحالة، على هذه الفروق الجوهرية الواضحة تترتب نتيجةٌ بالغة الأهمية وتشكل محور البراجماطيقا العامة عند هابرماس: وهي أن تحليل «الصواب» Validity ينبغي أن يفرد ثلاثة سبلٍ منفصلةٍ تحترم الاختلافات بين الأفعال الكلامية الثلاثة وتحفظ الفروق بينها ولا تخلط الأمور خلطًا يفتح المجال للزيف والتشييء أن يتسلل إلى نسيج اللغة، بذلك يتم تحليل الأفعال الكلامية الخبرية Constative من حيث فعلها الإشاري والتَّنَبُّئِي، ويتم تحليل الأفعال الكلامية الإشهارية Avowel (أو التمثيلية) من حيث مقصدها ونيتها ودخيلتها، ويتم تحليل الأفعال الكلامية التنظيمي Regulative من حيث طريقتها في تأسيس علاقات بينشخصية.١٤
وبينما تقنع نظرية أوستن في تحليل «صواب» أفعال الكلام بتغطية بنيتها المؤسسية المحيطة وعلاقات القوة الشاملة، فإن هابرماس يصر على أن تحليل «صواب» الأفعال الكلامية يمكن أن يتم بمعزلٍ عن ظروفها السياقية، ولا يتسنى ذلك إلا بتحديد «معيار صواب» خاص بكل صنف من أفعال الكلام الثلاثة:
  • «فالأفعال الكلامية الخبرية Constative»: معيار صوابها الخاص هو «الصدق» Truth (بمعنى صدق القضية ومطابقة ما في العبارة لما هو في العالم الخارجي).
  • «والأفعال الكلامية الإشهارية Avowal»: معيار صدقها هو «الإخلاص والأمانة وصدق النية» Truthfulness or Sincerity.
  • «والأفعال الكلامية التنظيمية Regulative»: معيار صوابها «الملاءمة أو السداد» Appropriateness or Rightness.
وجملة القول أن البراجماطيقا العامة بدلًا من أن تقيد نفسها بمعيارٍ واحدٍ أو «مونولوجي» فإنها تقدم معايير مختلفة لتقييم أفعال الكلام وفقًا لطبيعة كل فعلٍ وتكوينه الخاص من حيث الإشارة والبنية والوظيفة والحالة: فتقيِّم الأفعال الخبرية Constative أساسًا بما إذا كانت «القضية» Proposition فيها صادقة أم كاذبة، وتقيم أفعال الإشهار Avowals أساسًا بما إذا كانت تتحلى بسلامة القصد وصدق النية ونقاء السريرة أم لا تتحلى بذلك، وتقيم الأفعال التنظيمية Regulative أساسًا بالنظر فيما إذا كانت طريقتها في تأسيس علاقات بينشخصية هي طريقة ملائمة وقويمة وسديدة أم لا.

وجديرٌ بالتنويه أن تقييم أفعال الكلام بمعيارٍ أساسي مقيضٍ لها وفقًا للمكون البنائي السائد فيه لا يعني بحالٍ إغفال المكونات الأخرى وإغفال تقييمها بمعاييرها المقابلة، وما كان لنا أن نغفل أن كل فعلٍ كلامي له مكون أساسي غالب وله أيضًا مكونان آخران غير سائدين ينبغي أن ينالا قسطهما من التقييم المناسب وبالمعيار الخاص بكل منهما، وبعبارةٍ أخرى يمكننا القول بأن كل فعلٍ من أفعال الكلام يرفع دعوى صوابٍ واحدةً بشكلٍ مباشرٍ ويرفع اثنتين أخريين بشكلٍ غير مباشر، وعلينا من ثم أن نحلل الفعل الكلامي تحليلًا أوليًّا بواسطة معيار صواب أساسي مناسب للمكون السائد، وأن نحلله تحليلًا ثانويًّا بمعيارَيْن آخرَيْن مناسبَيْن لمكونَيْه الثانويَّيْن، أي إن البراجماطيقا العامة تُسلم بأن كل فعل كلامي يمكن أن يقيم، وينبغي أن يقيم، من ثلاثة منظورات مختلفة، ملقية في هذه العملية شبكةً دقيقةً منسوجة نظريًّا بحيث تتدارك وتصفي أي مقاصد شريرة للفعل الاستراتيجي.

(٤-٣) البراجماطيقا العامة والبرنامج النقدي لهابرماس

للسائل أن يسأل بعد هذا المسير المرهق في درب البراجماطيقا العامة: ما الصلة بين هذه النظرية وبين قضية هابرماس الأساسية وهي نقد الأيديولوجية؟ تتصل البراجماطيقا العامة في حقيقة الأمر بنقد الأيديولوجية صلةً وثيقة، وذلك بطريقتين:
  • «فالبراجماطيقا العامة»، أولًا: تقدم نفسها كمعيارٍ أو مقياسٍ ينبغي أن تُعرَض عليه جميع الأفعال الاستراتيجية حتى نكشف النقاب عن برنامجها الشعوري أو اللاشعوري، وعن إرادة القوة التي تضمرها وتُكنها، وبإخضاع كل فعل استراتيجي لتحليل ثلاثي (للصدق، والإخلاص، والملاءمة) يمكن للمؤول النقدي بسهولةٍ أن يعري الفعل ويكشف أنه فعل استراتيجي، ويحدد الطريقة التي يرتكب بها هذا الفعل تشويهًا منظمًا لعملية التواصل، فإذا ما أخفق الفعل الكلامي الإنجازي في أي واحدة من هذه الاختبارات الثلاثة يكون على الفور موضع شك بأنه محمل بعناصر استراتيجية وتحريفات أيديولوجية. بمقدور البراجماطيقا العامة في رأي هابرماس أن تتعقب أخفى العناصر الأيديولوجية التي تنسلك في نسيج اللغة، هذه هي الهرمنيوطيقا النقدية عند هابرماس بالمعنى الدقيق للكلمة، إنها المنهج الذي طور هرمنيوطيقا الارتياب التي تعود لأساتذتها الكبار ماركس ونيتشه وفرويد، وشحذ أدواتها وأرهفها تكنيكيًّا ومنطقيًّا ولغويًّا.

  • «والبرجماطيقا العامة» ثانيًا تنأى عن العالم المتشائم لأساتذة الارتياب الثلاثة، وتتجه إلى عالمٍ أكثر ألقًا حيث يمكن للعقلانية أن تتولى زمام الأمور، والبراجماطيقا العامة تقدم مثالًا يمكن للفعل التواصلي أن يسعى إليه ومجموعة أدوات يعمل بها، وإذا كانت هرمنيوطيقا هابرماس النقدية ارتيابية وتشاؤمية، فإن نظريته في الفعل التواصلي شديدة التفاؤل بل أقرب إلى أن تكون «يوتوبية»، بحيث جعلت فكرته غير الانهزامية عن العقلانية فكرةً بارزة واضحة في العالم بعد الحداثي الذي يُنَظِّر داخله.

إن هابرماس، في حقيقة الأمر، يبعث «الحوار» الجادامري ويحييه بعد أن أثخنه سابقًا وأصماه، وذلك بحقنه بالبراجماطيقا الجديدة التي تطهر «الأفق الجادامري»، و«اللغة» الجادامرية أيضًا، من العدوى الأيديولوجية ومن «إرادة القوة» اللاشعورية، إن هابرماس «جادامري» بمعنًى ما! من حيث إنه يؤمن بالحوار كطريقٍ نهائي إلى العقلانية، لقد سلك الحوار الجادامري في أحكام موقفٍ كلامي مثالي، حيث يُمنح كل أطراف الحوار فرصةً متكافئة للمشاركة في حوارٍ عادل، فيقررون أو يدافعون أو يمحصون دعوى الصواب في أي فعلٍ كلامي، وحيث التفاعل المتبادل غير مقيد ولا مكبوح بالتراتب الاجتماعي والمعايير الملزمة لطرفٍ واحدٍ، وحيث أطراف التواصل مبرأةٌ من أي برنامجٍ استراتيجي.

تذييل

توبة اللفظ (على ذكر تأويلية هابرماس)
ها قد جئتك أيها الشاعر،
مثقلًا بجرائمي، غاصًّا بذنوبي،
لأتداعى على قدميك،
وأتوب على يديك،
وأعترف:
كنت طاغيًا مستبدًّا،
ليس في الوجود من يفوقني استبدادًا وطغيانًا،
يظن الإنسان أنه يصنعني ويستخدمني.
الحقَّ أقول لك، أنا الذي أسخره وأسيِّره،
وأقوده كالمنوم.
ولا أسمح أن يرى من العالم إلا ما أريد له أن يرى.

•••

ولأني كهلٌ غروبي!
فظلالي دائمًا أطول مني،
وهي أرق مني وأدق،
وأكثر نفاذًا وبثًّا!

•••

كم أشعلت من الفتن والحروب،
قابعًا في غبرة الميدان لا يراني أحد،
مُتَلَمِّظًا بنزيف الأشلاء،
ثملًا بشميم الدم،
ضاحكًا من حماقة الخصوم،

•••

دعني أعترف:
كنت دائمًا مع القديم،
وجنديًّا من أشرس جنوده،
(فأنا كما قلت لك: كهلٌ خريفيٌّ غروبي!)
ومهما صال الجديد وجال،
وانتشى واغتر،
فما دمت قائمًا، فالقديم قائمٌ فيَّ بتمامه؛
فأنا خط الرجعة، وجِسر المتاب،
وما دمت أتجول بحرية،
وأتقلب على الألسنة كما أنا؛
فالقديم حيٌّ يُرزق،
يجلس بعدُ، ويملك ويحكم،

•••

دعني أعترف:
كنت شرطيًّا جافيًا،
أسحب الجِدَّة من الجديد، والفرادة من الفريد،
وأسدل على الجميع ليل الرواسم.
كنت أطمس الغريب بالإلف،
وأشدخ السؤال بالجواب،
وأقتل الشيء باسمه!
وكما تُخنق الأقدام بأحذية صينية،
كنت أخنق الرؤى بالنموذج،
والبدائع بالزي.
كان بمقدوري دائمًا أن أدبر للزائف سببًا،
وأسكَّ للباطل هوية،
وأمنح الوهمي خاتم النسر!

•••

دعني أعترف:
لم أكن أتنقل قط إلا حاملًا خنجري تحت العباءة.
ترافقني ظلالي الطويلة،
وتلازمني حاشيةٌ هائلة:
من ضلالات أفكار،
ونشيج مواجد،
وصليل معارك،
وأنين جموع،
ومصالح طبقة.
لا … لقد طفحت ذنوبي، وطال تجبُّري،
وصرت وحشًا جسيمًا باهظ الحضور.١٥
١  حسن محمد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، الطبعة الأولى، ٢٠٠٢م، ص٧.
٢  محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، الدار البيضاء، ١٩٩١م، ص٧-٨.
٣  سالم يفوت، المناحي الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر، دار الطليعة بيروت، ١٩٩٩م، ص٨٢-٨٣.
٤  هربرت ماركوز، العقل والثورة، ترجمة د. فؤاد زكريا، بيروت، ١٩٩٧م، ص٣١٣.
٥  هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الآداب، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٩٨٨م، ص٣٧.
٦  المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
٧  المرجع السابق، ص٤٥.
٨  المرجع السابق، ص١٩٠.
٩  سالم يفوت، المناحي الجديدة في الفكر الفلسفي المعاصر، ص٩٠-٩١.
١٠  المرجع نفسه، ص٩١-٩٢.
١١  سالم يفوت، المناحي الجديدة في الفكر الفلسفي المعاصر، ص٩٣-٩٤.
١٢  يورجين هابرماس، المعرفة والمصلحة، ترجمة حسن صقر، مراجعة د. إبراهيم الحيدري، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، ٢٠٠١م، ص٣٧٢–٣٧٩.
١٣  Austin, John. How to do Thing With Words. Oxford Univesity Press. 1975, pp. 5-6 .
١٤  Habermas, Jurgen.The Theory of Communicative Action. Vol. 2 Translated by Thomas McCarthy, Bacon Press, Boston, 1889, p. 62.
١٥  للقصيدة بقية آثرنا حذفها لخروجها عن الحل الذي ارتآه هابرماس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤