الفصل الخامس

شلايرماخر

كان «فريدريك شلايرماخر» لاهوتيًّا وفيلسوفًا مثاليًّا ألمانيًّا، وُلد عام ١٧٦٨م، وأسس الجامعة في برلين مع همبولت فيما بين عامي ١٧٩٨م و١٨١٠م حيث عمل بالتدريس فيها حتى وفاته عام ١٨٣٤م، لم ينل شلايرماخر ما يستحق من شهرة في مراجع تاريخ الفلسفة المتداولة، فقد كان منصرفًا إلى اللاهوت بشكل رئيسي، ومُقلًّا بالتالي في نشر أعمالٍ فلسفية، رغم أنه لم يتوقف عن تدريس الفلسفة بجميع أفرعها وإلقاء محاضرات متقنة العرض في الفلسفة اليونانية وتاريخ الفلسفة وفلسفة الأخلاق وعلم الجمال والهرمنيوطيقا والفلسفة السياسية وفلسفة التربية، ويُعد شلايرماخر مؤسس الهرمنيوطيقا العامة وأبا الدراسات الثيولوجية والدينية الحديثة، وهو المترجم العمدة لأفلاطون إلى الألمانية.١

في عبارة افتتاحية لمحاضراته في الهرمنيوطيقا يقول «شلايرماخر»: «الهرمنيوطيقا بوصفها فن الفهم لا ودود لها كمبحثٍ عام، فليس هناك غير كثرةٍ من الأفرع الهرمنيوطيقية المنفصلة.» وهو بذلك يعلن في جملة واحدة عن هدفه الأساسي: تأسيس هرمنيوطيقا عامة بوصفها فن الفهم.

يؤكد «شلايرماخر» أن هذا الفن هو فن واحد من حيث ماهيته، سواء كان النص نصَّا تشريعيًّا أو نصًّا دينيًّا أو عملًا أدبيًّا، صحيح أن هناك فروقًا مؤكدة بين هذه المجالات العديدة من النصوص مما يستدعي أن يطور كل مجال أدواته النظرية الملائمة لمشكلاته الخاصة، غير أنه من وراء هذه الاختلافات تكمن وحدةٌ أصيلة، إن جميع هذه النصوص تَمْثُل في جسدٍ لغوي؛ ومن ثم فلا بد من استخدام النحو لكشف معنى العبارة، فالفكرة العامة تتفاعل مع البنية اللغوية لتكوِّن المعنى، أيًّا ما كان صنف النص، فإذا أمكن صياغة مبادئ كل فهمٍ لغوي فإن هذه المبادئ تشكل هرمنيوطيقا عامة، ويمكن لهذه الهرمنيوطيقا العامة أن تكون الأساس والجوهر لكل هرمنيوطيقا خاصة.

غير أن هذه الهرمنيوطيقا العامة، فيما يرى شلايرماخر، لم يكن لها من وجود، فلم تكن هناك غير أفرع هرمنيوطيقية متباينة، أهمها الهرمنيوطيقا الفيلولوجية (فقه اللغة)، واللاهوتية، والقانونية، وحتى داخل الهرمنيوطيقا الفيلولوجية لم يكن هناك ترابط منهجي، بل مجموعة من القواعد والإرشادات العملية المهيئة لمواجهة مشكلات لغوية وتاريخية جزئية بعينها تطرحها النصوص القديمة العبرية واليونانية واللاتينية. كان الشيء الغائب دائمًا هو التصدي للفعل الأساسي في كل تفكير، فعل الفهم، الفهم الذي يضطلع به كائنٌ إنساني حي يشعر ويَحْدس.

وفي كل حوار يجري، فإن عملية صياغة قولٍ ما وإصداره في كلمات هي شيء، وعملية تلقي هذا القول وفهمه هي شيءٌ آخر مختلفٌ ومتميزٌ كليًّا، والهرمنيوطيقا في رأي شلايرماخر إنما تنصب على العملية الثانية وحدها، عملية الفهم، إنها باختصار شديد: فن الفهم، ومن ثم فقد جعل شلايرماخر نقطة بدايته هذا السؤال العام: كيف يتم على وجه الدقة فهم أي عبارة أو أي قول، سواء أكان قولًا منطوقًا أو مكتوبًا؟ إن موقف الفهم هو موقف علاقة حوارية، وفي كل علاقة من هذا النوع ثمة طرفان: الطرف المتحدث وهو من يشيِّد جملةً لكي يعبر عن المعنى الذي لديه، والطرف المستمع وهو من يتلقى سلسلةً مكونةً من كلمات … من مجرد كلمات، ولكنه فجأة، ومن خلال عملية باطنة وسرية يمكنه أن يستشف معانيها، هذه العملية الباطنة الإشراقية هي عملية التأويل، إنها المجال الحقيقي للهرمنيوطيقا، فالهرمنيوطيقا هي فن الإصغاء.

والفهم عند شلايرماخر، بوصفه فهمًا، هو عملية إعادة معايشة للعمليات الذهنية لمؤلف النص، فهي عكس التأليف؛ لأنها تبدأ من تعبيرٍ ثابتٍ ومكتمل وتعود القهقرى إلى الحياة الذهنية التي نبع منها التعبير، إن المتحدث أو المؤلف يبني جملة، وعلى المستمع أن ينفذ إلى داخل بناء الجملة وبناء الفكرة، وبذلك يتكون التأويل من لحظتين متفاعلتين: اللحظة اللغوية واللحظة السيكولوجية (بالمعنى العريض لكل ما تشتمل عليه الحياة النفسية للمؤلف)، أما المبدأ الذي تنهض عليه إعادة البناء هذه بشقيها اللغوي والسيكولوجي فهو مبدأ «الدائرة التأويلية» Hermeneutical circle دائرة التأويل.
الفهم عملية «إحالية» (إشارية) Referential بالأساس، فنحن نفهم الشيء بمقارنته بشيء آخر لدينا به معرفة، وما نفهمه يشكل نفسه في وحدات منظمة أو دوائر مكونة من أجزاء، والدائرة بوصفها كلًّا تحدد كل جزء مفرد فيها، والعكس أيضًا صحيح، فالأجزاء المفردة تكوِّن الدائرة الكلية وتحددها: الجملة على سبيل المثال هي وحدةٌ كلية، ونحن نفهم معنى الكلمة المفردة داخل الجملة بإحالتها إلى الجملة الكلية، والجملة بدورها يعتمد معناها الكلي على معنى كلماتها المفردة، وتمتد هذه العلاقة التبادلية لتشمل المفاهيم الذهنية، فكل مفهوم مفرد يستمد معناه من السياق أو الأفق الذي ينسلك فيه، ومع ذلك فإن الأفق أو السياق إنما يتكون في حقيقة الأمر من العناصر نفسها التي يضفي عليها معناها، وخلال هذا التفاعل الجدلي بين الكل والجزء يمنح كلٌّ منهما الآخر معناه ومغزاه، الفهم إذن عملية دائرية، والمعنى في الحقيقة لا ينهض إلا داخل هذه «الدائرة»؛ ونحن لذلك نطلق عليها «دائرة التأويل».
من الواضح أن مفهوم «دائرة التأويل» ينطوي على تناقض منطقي (أو «مفارقة» Paradox إن شئت الدقة): فإذا تعين علينا أن نفهم الكل لكي نفهم الأجزاء، فلن يتأتى لنا أن نفهم أي شيء، غير أننا قلنا إن الجزء يستمد معناه من الكل، ومن المؤكد من الجهة الأخرى أننا لا يمكن أن نبدأ من الكل غير المتميز إلى أجزاء! وإذا كان الأمر كذلك ألا يُعد مفهوم دائرة الهرمنيوطيقا مفهومًا ممتنعًا ومستحيلًا؟ بالطبع هو مفهوم ممتنع إذا كنا نفكر في الأمور تفكيرًا خطيًّا مستقيمًا، غير أن المنطق الخطي يعجز عن تقديم شرحٍ مقنعٍ لعمل الفهم، أما وجه الأمر فهو أن هناك «قفزة» تحدث إلى داخل دائرة التأويل، وأننا في الحقيقة نفهم الكل والأجزاء معًا، فالفهم عملية إحالية مقارنة من جهة، وحدسية استشفافية من جهة أخرى، ولكي تعمل دائرة التأويل على الإطلاق فهي تفترض بالضرورة عنصرًا حدسيًّا.
وقد أدرك المفكرون منذ القدم فكرة الاعتماد المتبادل بين الكل والجزء في عملية الفهم وما ينطوي عليه ذلك من مفارقة ظاهرة، وذهب أصحاب المذهب العقلي Rationalists إلى ضرورة وجود شيء من المعرفة الفطرية لكي تكون المعرفة ممكنة على الإطلاق؛ إذ يبدو من المعقول أن الإنسان يلزمه أن يكون عارفًا بشيءٍ ما لكي يتعلم شيئًا آخر، بينما البدء من الصفر ثم تعلم كل شيء من التجربة هو أمر لا يسيغه العقل، وللغوي المعاصر نوام تشومسكي جهود لإثبات ذلك في مجال اللغة،٢ ومن المفارقات الشهيرة في الفلسفة ما يُعرف باسم «مفارقة التعلم» Learning Paradox، وتعني أننا إذا كنا لا نفقه شيئًا على الإطلاق فلن يمكننا أن نبدأ في تعلم هذا الشيء، ما دمنا لا نعرف ما يكفي لأن نعرف كيف نبدأ! وقد كان أفلا Anamnesis في محاورة «مينون» Meno كانت حَلَّه المقترح لهذه المفارقة (بالإضافة إلى استخدامها في محاولة إثبات خلود النفس)، في هذه المحاورة تُعد عملية التعلم «تذكرًا» لأشياء سبق تعلمها في حياةٍ سابقة ثم نُسيت، وفيها نجد سقراط يحاول إثبات ذلك عن طريق توجيه الأسئلة إلى صبي من عبيد مينون لم ينل أي قسط من التعليم، وينجح بطريقته السقراطية المعتمدة على مجرد توجيه أسئلة بسيطة في أن يستخلص من الصبي كيفية تكوين مربع تساوي مساحته ضعف مساحة مربع معلوم، كما نجد لهذه الأفكار المستغربة صيغة معاصرة في فلسفات اللغة التي تنظر إلى الطفل الرضيع بوصفه «لغويًّا صغيرًا» عليه أن يترجم اللغة التي تكتنفه في مسقط رأسه إلى ذلك الوسيط الأصلي المفطور الذي لا يقل ثراءً مفاهيميًّا عن اللغة التي يلقنونه إياها.

لا يسع المرء حين يأخذ هذه النظرية الأفلاطونية بمعناها الحرفي سوى أن يستنكرها ويستغرب مضمونها، غير أن بوسعه أيضًا أن «يؤولها» ويفهمها بمعنى أقل حرفية على أنها تعني أن معرفة حقيقة جديدة يقتضينا أن نعيد تجميع ما نعرفه أصلًا ونسلكه في هذا السياق الكلي.

ومن الحق أن دائرة الهرمنيوطيقا تومئ إلى منطقة من الفهم المشترك، فما دام كل تواصل هو علاقة حوارية فهو يفترض منذ البداية وجود معنى مشترك بين المتحدث والمستمع، قد ينطوي ذلك بدوره على تناقض آخر: فالشيء المطلوب فهمه لا بد أن يكون معروفًا من الأصل! ولكن أليس هذا هو الحق؟! أليس من العبث أن تتحدث عن الحب إلى شخص لم يعرف الحب في حياته، أو تتحدث عن مباهج المعرفة إلى أولئك الذين يرفضونها؟ إن المرء لا بد أن يكون على معرفة بدائية ما بالموضوع الذي هو بصدد تعلمه، ولا بد أن يكون قد توفر على حد أدنى من المعرفة المسبقة الضرورية للفهم والتي بدونها يتعذر عليه أن يقفز إلى داخل الدائرة التأويلية، ولدينا مثال واضح على هذه الظاهرة فيما نجده من غموض واستغلاق لدى القراءة الأولى لكُتابٍ عظام مثل: كيركجارد ونيتشه وهيدجر، فالمشكلة هنا هي أن فهم كتابات هؤلاء يتطلب إلمامًا بالاتجاه العام لفكر الكاتب، وبدون هذا الإلمام العام يتعذر فهم أقوالهم الجزئية، بل يتعذَّر استخلاص معنى واضح من أعمالهم الكاملة، ولا يعدم القارئ رغم ذلك لحظات عابرة يقع فيها على عبارة مفردة تضيء له كل ما كان مستغلقًا عليه من قبلُ كأنها البارقة الخاطفة، ذلك أنها تومئ إلى ذلك «الشيء الكلي» الذي كان المؤلف يتحدث عنه.

لا يقتصر عمل دائرة الهرمنيوطيقا — إذن — على المستوى اللغوي، بل تعمل أيضًا على مستوى «المادة» المقدمة أو المضمون الفكري، ولا بد لكل من المتحدث والمستمع أن يلتقيا على صعيدٍ واحد ويشتركا في لغة القول وموضوعه أيضًا، فمبدأ المعرفة المسبقة يعمل على كلا المستويين: لغة الحديث (أو وسيطه الحسي) ومادة الحديث أو موضوعه، في كل فعل من أفعال الفهم.

(١) التأويل اللغوي والتأويل السيكولوجي

ثمة اتجاه متزايد في تفكير «شلايرماخر» المتأخر إلى الفصل بين مجال اللغة ومجال الفكر، أما اللغة فيختص بها التأويل اللغوي، وأما مجال الفكر فقد أسماه المجال التقني ثم أسماه المجال السيكولوجي فيما بعد، فالتأويل اللغوي يضطلع بتحديد المعنى وفقًا لقوانين موضوعية وعامة، بينما يركز الجانب السيكولوجي من التأويل على ما هو ذاتي فردي، يقول «شلايرماخر»: «بالضبط كما أن لكل حديث علاقة مزدوجة باللغة كلل وبجماع تفكير المتحدث، كذلك هناك في كل فهم لحظتان: فهم للحديث بوصفه شيئًا مستمدًّا من اللغة، وفهمه بوصفه «واقعة» في تفكير المتحدث.» تنتمي اللحظة اللغوية إلى التأويل اللغوي وتُعد إجراءً سلبيًّا وعامًّا يفرض حدودًا ويقدم البنية التي يعمل الفكر في إطارها، وأما التأويل السيكولوجي فيرمي إلى فرادة المؤلف وعبقريته الخاصة، وهو من أجل ذلك يتطلب اندماجًا وجدانيًّا بالمؤلف ولا يفرض حدودًا ويُعد الشق الإيجابي بحق في عملية التأويل.

لا شك أن كلا جانبي التأويل ضروري وهام وأنهما في تفاعل دائم في حقيقة الأمر، فالاستخدامات الفردية للغة تُحدث تغييراتٍ في اللغة ذاتها، غير أن المؤلف نفسه بإزاء لغة لا بد له من أن يضع بصمته الفردية عليها، وإذا كان المفسر يفهم الطابع الخاص للمؤلف بالإحالة إلى العام فهو أيضًا يفهمه بطريقة إيجابية ومباشرة وحدسية، ومثلما أن دائرة الهرمنيوطيقا تتضمن الجزء والكل، كذلك التأويل اللغوي والسيكولوجي كوحدة واحدة يتضمن هو أيضًا الخاص والعام، هذا الصنف من التأويل هو عام وواضع حدود وهو خاص وإيجابي في الوقت نفسه، يضطلع التأويل اللغوي بإيضاح العمل في علاقته باللغة، وذلك من حيث بناء عباراته وتفاعل أجزائه ومن حيث علاقته بالأعمال الأخرى التي تنتمي إلى نفس الجنس الأدبي، ووفقًا لمبدأ الجزء والكل الذي أشرنا إليه آنفًا، وينبغي بنفس الطريقة أن ننظر إلى فرادة المؤلف والعمل في سياق الحقائق الأكبر لحياته وبالمقارنة بحياة غيره وبأعمالهم، هكذا يتبين أن مبدأ التفاعل والإضاءة المتبادلة بين الجزء والكل هو مبدأ أساسي لشقَّي التأويل كليهما.

وهكذا يتجلى هدف التأويل كما يراه «شلايرماخر»، وهو إعادة بناء الخبرة الذهنية لمؤلف النص، لقد كان يصبو إلى إعادة معايشة ما عايشه المؤلف وألا ينظر في قول من الأقوال بمعزل عن قائله، ومن الجدير بالذكر رغم ذلك أن هذه المعايشة الثانية ليست بالضرورة «تحليلًا نفسيًّا» للمؤلف، بل هي مجرد تذكير بأن الفهم هو فن إعادة بناء التفكير الخاص بشخص آخر، وبعبارة أخرى أن غايتنا ليست تحديد دوافع المؤلف السيكولوجية أو بواعث شعوره، بل إعادة تشييد الفكر نفسه الخاص بشخص آخر من خلال تأويل حديثه.

والحق أن إعادة بناء فردية المؤلف لا يمكن أن تتم بتحليل أسبابه ودوافعه، فهذا التحليل يظل عامًّا بدرجة محبِطة، أما التأويل السيكولوجي فيتطلب معالجةً حدسية بالدرجة الأساس، وإذا كان المدخل اللغوي يستخدم منهجًا مقارنًا ويتقدم من العام إلى خصوصيات النص، فإن المدخل السيكولوجي يستخدم كلا المنهجين: المقارن والاستشفافي Divinatory، والاستشفاف هو أن يضع المرء نفسه موضع الشخص الآخر كيما يفهم فرديته بشكل مباشر، لكأنما هو يخرج من ذاته ويتحول إلى المؤلف نفسه وبذلك يقف على العملية الذهنية لهذا الأخير بمباشرة تامة، على أن الغاية ليست في النهاية أن نفهم المؤلف من الوجهة السيكولوجية، بل أن نجد أقوم السبل، وننفذ أبلغ نفاذ، إلى ذلك الذي يعنيه النص ويقصده.

(٢) الفهم التأويلي بوصفه فهمًا للأسلوب

اللغة عنصر أساسي من بداية التأويل إلى نهايته، وحتى استشفاف فردانية المؤلف هو شيء متقوِّم باللغة ومستند إلى الأسلوب الخاص لهذا المؤلف، ولن يتم أي فهم لنفسية كاتب بمعزل عن لغته وأسلوبه، ومهما بلغت قدرة المرء على فهم الآخرين من بني البشر، فما لم تكن هذه القدرة مضفورةً باستبصار لغوي يُضيء بنية النص، وينفذ إلى نفسية الكاتب من خلال أسلوبه، فلن يتسنى له الفهم الكامل، إننا نعرف الإنسان في تمام فردانيته من خلال الأسلوب، وسيظل الفهم الوافي للأسلوب هو غاية علم التأويل التي لا غاية وراءها.

(٣) التأويل كعلم منظم

كانت جهود شلايرماخر التأويلية ترمي إلى تحويل الفهم إلى علم منظم، وذلك بتنظيم الملاحظات المتفرقة في وحدة متماسكة منهجيًّا، فالفهم في رأيه يجري وفقًا لقوانين يمكن اكتشافها والتصريح بها، ولم يقتصر طموح شلايرماخر على وضع مجموعة من القواعد كما كان الحال في مبحث التأويل القديم، بل يرمي إلى كشف القوانين التي يعمل بها الفهم، وتحويل مبحث الفهم برمته إلى علم منهجي يمكن أن يرشدنا في عملية استخلاص المعنى من نص ما.

تطور فكر «شلايرماخر» من التمركز على اللغة إلى التمركز على الذاتية.

لم يكن تطور الفكر التأويلي عند شلايرماخر معروفًا قبل عام ١٩٥٩م، عندما أخذ هاينز كيميرلي يفتش بدأب عن وثائق شلايرماخر غير المنشورة في مكتبة برلين، ويجمع كتاباته التي كتبها بخط يده في تسلسل زمني منظم، هنالك تبين أن الفكر التأويلي عند «شلايرماخر» قد مر بمراحل وشهد تحولًا حاسمًا.٣

في المراحل المبكرة من تطور شلايرماخر الفكري كان التأويل عنده متمركزًا على اللغة، صحيح أنه كان منذ البداية يتلمس أهمية معرفة الكاتب نفسه، ويؤكد أن على المرء أن يفهم القائل نفسه حتى يفهم ما يقوله، غير أنه كان يؤكد أيضًا أن المرء لن يفهم القائل في نهاية الأمر إلا من خلال اللغة، وجملة القول أنه في مجال التأويل لا شيء نبدأ منه غير اللغة ولا شيء ننتهي إليه غير اللغة، وما من شيء موضوعي أو ذاتي نبتغيه إلا هو كامن في اللغة وينبغي أن يُلتمس في اللغة.

كان هذا هو الرأي المبكر عند «شلايرماخر»، ثم حدث تحولٌ حاسمٌ في فكره، فتخلى عن التصور الخاص بهوية الفكر واللغة، وكان سبب هذا التخلي فلسفيًّا في صميمه: لقد رأى أن مهمته هي التوسط بين «باطنية» الفلسفة التأملية الترنسندنتالية وبين «ظاهرية» العلم الإمبيريقي الوضعي، ورأى أن هناك اختلافًا أو تفاوتًا بين الماهية الداخلية المثالية وبين الظاهر الخارجي، بحيث يتعذر أن ننظر إلى النص على أنه التمثل المباشر لعملية ذهنية داخلية، بل ننظر إليه على أنه شيء ما قد أُسلم إلى الضرورات الإمبيريقية للغة، مهمة الهرمنيوطيقا إذن هي أن تتجاوز اللغة لكي تقف على العملية الداخلية، ورغم أن هذا لا يتم إلا من خلال اللغة نفسها، فإن اللغة لم تعد الآن مرادفةً للفكر كما كانت قناعة شلايرماخر لفترةٍ طويلة سابقة، ومن هنا رأى كيميرلي وجادمر أنه قد ضل الطريق وتخلى عن جهوده المثمرة المتمركزة على اللغة من أجل نظرة ميتافيزيقية زائفة.

لقد كان «شلايرماخر» في فكره المبكر في موقف أقرب إلى التصور الحديث حين ذهب إلى أن تفكير الإنسان، بل وجوده كله، تحدده اللغة، وأن فهم الإنسان لنفسه وللعالم هو شيء تقدمه اللغة، غير أنه تخلى عن هذا الموقف المنهجي المتماسك الخصب واتخذ موقفًا سيكولوجيًّا تحولت الهرمنيوطيقا بمقتضاه إلى فن إعادة بناء العملية الفكرية للمؤلف، وهي مهمة لم تعد لغوية في جوهرها، ورغم أن الأسلوب ما يزال في نظر شلايرماخر هو مفتاح لشخصية الكاتب، فإن الأسلوب أصبح يشير إلى شخصية غير لغوية، شخصية لا يعدو أسلوبها أن يكون مظهرًا إمبيريقيًّا لها.٤

(٤) أهمية مشروع شلايرماخر في الهرمنيوطيقا العامة

بصرف النظر عن تلك الشائبة من النزعة السيكولوجية في فكر «شلايرماخر» المتأخر، فإن إسهامه في الهرمنيوطيقا يمثل نقطة تحول في تاريخها؛ إذ لم يعد يُنظر إلى الهرمنيوطيقا على أنها مادة تخصصية تتبع اللاهوت أو الأدب أو القانون، بل أصبحت هي فن الفهم؛ فهم أي قول لغوي على الإطلاق. ومن أقوال «شلايرماخر» المبكرة التي تلقي الضوء على طبيعة التأويل قوله «إن الهرمنيوطيقا هي بالضبط طريقة الطفل في فهم معنى كلمة جديدة»: إنه يسترشد ببنية الجملة وبسياق المعنى، وكذلك تفعل الهرمنيوطيقا العامة. تبدأ الهرمنيوطيقا في نظر شلايرماخر من أحكام الحوار، فهي «حوارية» Dialogical في طبيعتها، غير أنه للأسف لم يتفطن إلى المتضمنات الخلاقة لهذه الطبيعة الحوارية، وشغلته عن ذلك رغبته في استخلاص قوانين والحصول على تماسك منهجي، غير أن هذا التخلي بحد ذاته، من وجهة نظرنا الحالية، قد وجه الهرمنيوطيقا وجهةً جديدة، وجهها إلى أن تصبح علمًا.
وقد اقتفى دلتاي أثر «شلايرماخر» وأكمل هذا المسار حين جعل بُغيته ذلك «الصواب الموضوعي» في المعرفة، وحين افترض أن مهمة الهرمنيوطيقا هي اكتشاف قوانين الفهم ومبادئه، قد يعاني هذا الافتراض من قصور في الفهم التاريخي، من حيث إنه ينطوي على التسليم بأن بإمكان المرء أن يشغل نقطة فوق التاريخ أو خارج التاريخ يستطيع منها أن يظفر بقوانين لازمانية، إلا أن الاتجاه إلى جعل عملية الفهم هي نقطة البدء في الهرمنيوطيقا كان إسهامًا مفيدًا في نظرية التأويل، وسوف تمر سنوات طويلة قبل أن يدرك المفكرون أن قوانين الفهم التي رآها شلايرماخر من زاوية علمية يمكن النظر إليها بالأحرى من زاوية تاريخية، أي بالنظر إلى البنية التاريخية الصميمة للفهم، وبالنظر بصفة خاصة إلى أهمية «الفهم المسبق» Dre-Understanding في كل عمليات الفهم على الإطلاق، وقد أشار شلايرماخر، وأشار حتى سابقوه من مُنظِّري التأويل، إلى هذا التصور الأخير حين صرحوا بمبدأ دائرة التأويل التي تتم داخلها كل ضروب الفهم.

ومن العناصر الهامة في تأويلية شلايرماخر تصوره للفهم بوصفه منبثقًا من الحياة ونابعًا من علاقة بالحياة، وهو تصور سيكون ملهمًا لكل من دلتاي وهيدجر ومنطلقًا لفكرهما التأويلي، لقد جعل دلتاي هدفه هو الفهم النابع «من الحياة ذاتها»، أما هيدجر، وقد اتخذ نفس الهدف، فقد حاول الوصول إليه بطريقة مختلفة، طريقة تاريخية قلبًا وقالبًا، فالفكرة أو المركب الفكري لن تستمد أهميتها من كونها مفتاحًا لفهم عملية ذهنية عند مؤلفها، بل ستكون شائقة في ذاتها، وبوصفها خبرة نعيها بالإحالة إلى أفق خبرتنا نفسها، ولن نكون واقعين في النزعة السيكولوجية بالضرورة عندما نقول بأن الفهم لا يمكن أن نتصوره مُنْبَتًّا عن خبرتنا الخاصة وبمعزل عن صلاته الدالة بخبراتنا السابقة.

ويبقى المأخذ الأكبر على فكر «شلايرماخر» هو تسرب النزعة السيكولوجية إليه، لقد شغله غموض «الآخر» عن غموض «التاريخ» على حد تعبير جادامر، وشغلته سيكولوجية الحوار عن تاريخية التأويل، وحتى عن الأهمية المركزية للغة في التأويل، لقد جرفته هذه السيكولوجية الحوارية، بالإضافة إلى تسويته المغلوطة بين عملية الفهم وعملية «التقمص» و«إعادة بناء» ذهن المؤلف، وأفضت به إلى المزالق الفكرية التي وقع فيها في المراحل المتأخرة من تطوره الفكري.٥

ومهما يكن من شيء، فإن «شلايرماخر» يُعد بحق أبًا للتأويلية الحديثة، ويدين له بالفضل كل مفكري التأويل في القرن التاسع عشر بجميع فصائلهم وتخصصاتهم واتجاهاتهم الفكرية، وقد حملت بصمته جميع النظريات التأويلية العامة في ذلك العصر، وعلى رأسها جميعًا نظرية «فيلهلم دلتاي».

١  The Cambridge Dictionary of Philosophy, Cambridge University Press, 1996, p. 716.
٢  Earle, W. J., Introduction to Philosophy, p. 55.
٣  Funk, Robert, W., eds., History and Hermeneutic., Journal of Theology and the Church. Series, Vol. IV., New York: Harper, 1967., pp. 107–21..
٤  Richard E. Palmer, Hermeneutics, pp. 91–94.
٥  Ibid., 94–97.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤