الفصل الرابع

إعزاز الحرية بطبيعة الحكومات ونسبتها

إن من فوز الحرية استنباط كل عقوبة من طبيعة الجرم الخاصة، فبذلك تنقطع كل مرادية، ولا تصدر العقوبة عن هوى المشترع مطلقًا، بل عن طبيعة الأمر، ولا يكون الإنسان هو الذي يقهر الإنسان أبدًا.

وللجرائم أربعة أنواع، فجرائم النوع الأول تؤذي الدين، وجرائم النوع الثاني تؤذي الآداب، وجرائم النوع الثالث تؤذي الراحة، وجرائم النوع الرابع تؤذي سلامة المواطن، وعلى العقوبات التي تفرض أن تشتق من طبيعة كل واحد من هذه الأنواع.

ولا أضع بين صنف الجرائم التي تهم الدين غير التي تحمل عليه رأسًا كجميع المدنسات للقدسيات؛ وذلك لأن الجرائم التي تكدر ممارسته هي من طبيعة الجرائم التي تقلق راحة أبناء الوطن أو سلامتهم، فيجب ردها إلى هذه الأصناف.

ولكي تكون عقوبة المدنسات للقدسيات مشتقة من طبيعة الأمر١ يجب أن تقوم على فقدان جميع المنافع التي ينعم بها الدين، كالطرد من المعابد، والحرمان من مجتمع المؤمنين لزمن معين أو إلى الأبد، واجتناب حضورهم واللعنات والنفرات والتعزيمات.

وتكون الأفعال الخفية من اختصاص العدل البشري في الأمور التي تقلق راحة الدولة وسلامتها، وأما في الأفعال التي تضر الألوهية، حيث لا يوجد فعل علني، فلا تكون مادة إجرام مطلقًا، فكل شيء يقع بين الإنسان والرب الذي يعرف مقدار انتقامه وزمن نقمته، فإذا ما خلط الحاكم بين الأمور فبحث عن مدنسات القدسيات الخفية أيضًا يكون قد قام بتفتيش غير ضروري عن نوع من الأفعال؛ أي: يكون قد قوض حرية الأهلين بتسليحه ضدهم غيرة المشاعر الهيابة والمشاعر الفتاكة.

وقد صدر الشر عن الفكرة القائلة بضرورة الانتقام للآلهة، مع أنه يجب تمجيد الألوهية من غير أن ينتقم لها مطلقًا، وإلا متى ينتهي التنكيل إذا ما سير بهذه الفكرة الأخيرة؟ وإذا كانت قوانين الناس تنتقم لكائن لا نهاية له فإنها تكون قد سنت حول لا نهائيته، ولا حول الطبيعة البشرية وجهالاتها وأهوائها.

ويروي مؤرخ من الپروڨنس٢ خبر أمر يصف لنا به ما يمكن أن يكون لمبدأ الانتقام للألوهية من تأثير في النفوس الضعيفة، وذلك أن يهوديًّا اتهم بأنه جدف على العذراء فحكم بسلخه، ويصعد فرسان متنكرون حاملون سكاكين في منضدة الإعدام ويطردون الجلاد منها لكي ينتقموا للعذراء بأنفسهم … فلا أريد أن أسبق تأملات القارئ مطلقًا.

والصنف الثاني مؤلف من الجرائم المنافية للآداب، وذلك كانتهاك العفاف العام والخاص؛ أي: انتهاك الضابطة حول الوجه الذي يجب أن يتمتع به بملاذ استعمال الحواس واجتماع الأبدان، فالعقوبات على هذه الجرائم يجب أن تصدر عن طبيعة الأمر أيضًا، فيكفي لقهر تهور الجنسين أن يُحرم الجاني ما يربطه المجتمع بنقاء الآداب من المنافع، وأن تفرض عليه غرامات وأن يخزى وأن يكره على الاختفاء وأن يشهر وأن يطرد خارج المدينة أو المجتمع، وأن يعاقب بجميع العقوبات التي هي من اختصاص محاكم الجنح، والواقع أن هذه الأمور تقوم على نسيان الإنسان نفسه واستخفافه بها أكثر مما على فجورها.

ولا يقصد هنا غير الجرائم التي تهم الآداب فقط، لا الجرائم التي تؤذي السلامة العامة أيضًا كالخطف والغصب اللذين هما من النوع الرابع.

وجرائم الصنف الثالث هي التي تؤذي راحة الأهلين، فالعقوبات على هذه الجرائم يجب أن تصدر عن طبيعة الأمر، وأن تناسب هذه الراحة كالسجن والنفي والتأنيبات، وما إلى ذلك من العقوبات التي ترد النفوس القلقة وتعيدها إلى النظام الثابت.

وأقصر الجرائم ضد الراحة على الأمور التي تُصيب الضابطة بأذى بسيط؛ وذلك لأن الأفعال التي تؤذي السلامة بإقلاقها الراحة يجب أن تعد من الصنف الرابع.

وتسمى عقوبات هذه الجرائم الأخيرة بأحكام الإعدام، وهذا نوع من القصاص الذي يوجب على المجتمع أن يأبى السلامة على مواطن حرم آخر إياها أو أراد أن يحرمه إياها، وقد صدرت هذه العقوبة عن طبيعة الأمور أو إنها استنبطت من سبب الخير والشر ومن منابعهما، فابن الوطن يستحق القتل إذا بلغ من انتهاك السلامة ما نزعه معه حياة أو أقدم على نزع حياة، وتعد عقوبة القتل هذه دواء للمجتمع المريض، وإذا ما اعتدي على سلامة الأموال أمكن أن يكون من الأسباب ما يجعل العقوبة إعدامًا، ولكن الأفضل على ما يحتمل، والأقرب إلى الطبيعة، أن يكون خسران الأموال عقوبة على جرائم سلامة الأموال، ويجب أن يقع هذا إذا كانت الثروات شاملة أو مساوية، ولكن بما أن من ليس عندهم مال هم الذين يعتدون مختارين على مال غيرهم أكثر من سواهم وجب أن يقوم العقاب البدني مقام العقاب النقدي عندما يجازون.

وكل ما قلته مستنبط من الطبيعة، وهو ملائم لحرية ابن الوطن كثيرًا.

هوامش

(١) وضع سان لوريس قوانين بالغة من الشدة ضد المجدفين ما رأى الباب معه ضرورة التحذير منها، فخفف هذا الأمير غيرته ولطف قوانينه، انظر إلى مراسيمه.
(٢) لوپ. بوجيريل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤