الفصل الحادي عشر

قرطاجة ومرسيلية

كانت لقرطاجة حقوق للأمم عجيبة، وذلك أنها كانت تُغرِق١ جميع الأجانب الذين يتاجرون في سَرْدينية ونحو أعمدة هِركول، ولم تكن حقوقها السياسية أقل غرابة، وذلك أنها حَظَرت على السردينيين زراعة الأرض معاقِبةً بالقتل مَن يخالف، وقد زادت سلطانها بثرواتها، ثم زادت ثرواتها بسلطانها، وهي لما صارت سيدة شواطئ إفريقية التي يبللها البحر المتوسط امتدت على طول شواطئ البحر المحيط، وقد نشر هانُّون، بأمر من سِنات قرطاجة، ثلاثين ألف قرطاجي فيما بين أعمدة هركول وسِرْنة، وقد قال إن هذا المكان يَبعد من أعمدة هركول بُعد هذه الأعمدة من قرطاجة، ويَقضِي هذا الوضع بالعجب كثيرًا، ومنه يُرى أن هانُّون حدد ممتلكاته في الدرجة الخامسة والعشرين من العرض الشمالي، أي وراء جزائر كَنَارِي بدرجتين أو ثلاث درجات من ناحية الجنوب.
ولما كان هانُّون في سرنة قام بسياحة بحرية أخرى أراد أن ينتهي بها إلى اكتشافات أبعد مدى نحو الجنوب، فلم يظفر بأية معرفة عن القارة تقريبًا، ودام ما قام به من سفر بحري ثمانية وعشرين يومًا، فاضطُر إلى العود لعدم المِيرة، ولم ينتفع القرطاجيون بشيء من مشروع هانُّون هذا كما يلوح، ويقول سيلاكس٢ إن البحر غير صالح للملاحة٣ وراء سِرْنَة لأنه وَطِئ مملوء طينًا وأعشابًا بحرية، والواقع أنه يوجد كثير من ذلك في هذه السواحل،٤ وكان يمكن التجار القرطاجيين الذين تكلم عنهم سِيلَاْكس أن يجدوا مثل الموانع التي وجدها هانُّون، ذو المراكب الستين المجهز كل واحد منها بخمسين مجدافًا، فتغلب عليها، فالمصاعب أمر نسبي، ثم لا ينبغي أن يُخلَط بين مشروع قائم على الإقدام والتهور، وما هو نتيجة سلوك عادي.

وتُعدُّ قصة هانون من أروع قِطَع القرون القديمة، فالرجل الذي قام بموضوعها هو الذي قصها، وهو لم يَشُب ما كَتَب بأي افتخار كان، ويسجل أكابر الربابنة مآثرهم ببساطة، وذلك لأنهم أكثر مجدًّا بأعمالهم مما بأقوالهم.

فالأمور كالأسلوب، وهو لم يتورط في العجيب، وكل ما قاله عن الإقليم والأرض والطبائع وأوضاع الأهلين يطابق ما يُرَى اليوم في ذلك الساحل الإفريقي، ويلوح أن هذه هي يومية أحد ملاحينا.

ومما لاحظ هانُّون٥ من فوق أسطوله أنه كان يسود اليابسة سكون واسع في النهار، وأنه كان يُسمع في الليل أصوات لمختلف آلات الموسيقا، مع رؤية نيران في كل مكان بعضها أعظم من بعض، وتؤيد كتب رحلتنا هذا، فمنها يُعلَم أن هؤلاء الهمج ينزوون في الغاب اجتنابًا لحرارة الشمس، وأنهم يوقدون في الليل نيرانًا كبيرة طردًا للضَّوارى، وأنهم شديدو الولع بالرقص وآلات الطرب.

ووَصَف لنا هانون بركانًا مع جميع الحوادث التي يُبْديها بركان ڨِيزُوڨ في أيامنا، وليس مما لا يُصدَّق ما قصه من خبرٍ عن المرأتين الشعراويتن اللتين فَضَّلتا القتل على اتباع القرطاجيين فأمر بإحضار جلديهما إلى قرطاجة.

وتزيد قيمة قصة هذه الرحلة لأنها أثر پُونى، وهي قد عُدت أسطورية لأنها أثر پوني، وذلك لأن الرومان قد احتفظوا بحقدهم على القرطاجيين حتى بعد استئصالهم، ولكن لم يكن غير النصر ما قرر وجوب القول: العهد الپوني أو العهد الروماني.

ومن المعاصرين٦ من انتحلوا هذا الحكم المبتسر، فقالوا: ماذا أصبح حال المدن التي وصفها هانون لنا ولم يبقَ منها أقل أثر حتى زمن پليني؟ فالعجيب أن يكون قد بقي لها أثر، وهل كان على هانون أن يُنشئ على تلك الشواطئ كُورِنْثُوس أو أثينة؟ هو قد ترك في الأماكن التجارية أُسرًا قرطاجية، وهو قد جعلها، على عَجَل، في مأمن من وحوش الآدميين ومن الضوارى، وقد أدت فجائع القرطاجيين إلى انقطاع ملاحة إفريقية، وكان لا مَعْدِل لهذه الأسر من أن تَهلِك أو تصبح وحوشًا، وأقول زيادة على ذلك: من ذا الذي كان يكتشف أنقاض هذه المدن في الغاب والمَنَاقع لو ظلت باقية؟ ويُعلَم من سِيلَاكس وپُولِيب، على الخصوص، أنه كان للقرطاجيين مؤسسات كبيرة في هذه السواحل، وهذه هي آثار مدن هانون ولا يوجد غيرها، وذلك لأنه لا يكاد يوجد حتى من قرطاجة غيرها.

وكان القرطاجيون على طريق الغِنَى، ولو بلغوا الدرجة الرابعة من العرض الشمالي والدرجة الخامسة عشرة من الطول لاكتشفوا الساحل الذهبي وما جاوره من السواحل، ولأقاموا هنالك تجارة مهمة من نوع آخر غير التي تزاوَل هنالك اليوم، غير التي يلوح أن أمريكة تستذلُّ بها ثروات جميع البلدان الأخرى، ولوجدوا هنالك كنوزًا كان الرومان لا يقدرون على نهبها.

وقد رُويت أمور محيرة عن ثروات إسپانية، ولو صُدِّقَ أرسطو٧ لرُئِى أن الفنيقيين الذين وصلوا إلى تَرْتِيز وجدوا هناك من الفضة ما لم تستطع مراكبهم أن تشتمل عليه، فصنعوا من هذا المعدن أخس أوانيهم، ويروي ديودورس٨ أن القرطاجيين وجدوا في جبال البرانس من الذهب والفضة ما وضعوا منه في مراسي سفنهم، ولا ينبغي أن يُعتَمد على هذه الأقاصيص الشعبية، وإليك ما صح من الوقائع.
يُرى في نبذة لپُوليب أوردها استَرابُون،٩ أن مناجم الفضة التي كانت عند منبع بِيتِيس، حيث كان يُستخدم أربعون ألف رجل، كانت تعطي الشعب الروماني خمسة وعشرين ألف درهم في كل يوم، أي ما يَعْدِل نحو خمسة ملايين رطل في كل عام، على أن يساوي المَرْكُ خمسين فرنكًا، وكانت تسمى الجبال التي كانت فيها هذه المناجم جبال الفضة١٠ وهذا ما يدل على أن ذلك كان پُوتُوزي تلك الأزمنة، واليوم لا تشتمل مناجم هانوڨِر على ربع العمال الذين كانوا يُستخدَمون في مناجم إسپانية، وهي تُعطي زيادة، ولكن، إذ لم يكن عند الرومان غير مناجم نحاس وقليل مناجم فضة، وإذ لم يعرف الأغارقة غير مناجم الأتِّيك القليلة الغِنَى إلى الغاية، فإنهما دُهشا من غزارة تلك بحكم الضرورة.
وفي حرب وِراثة إسپانية اقترح رجل يُدعى مركيز رودس، يقال إنه افتقر في مناجم الذهب واغتنى في المَضَايف،١١ على بلاط فرنسة فتح مناجم البرانس مستشهدًا بالصوريين والقرطاجيين والرومان، فأُذن له في التنقيب، فنقب وبحث في كل مكان، وهو ما انفك يستشهد ولم يجد شيئًا.
وأراد سادة التجارة والذهب والفضة القرطاجيون أن يكونوا سادة الرصاص والقصدير أيضًا، وكان هذان المعدِنان يُنقلان بالعربات برًّا فيما بين موانئ بلاد الغول على البحر المحيط حتى موانئ البحر المتوسط، وأراد القرطاجيون تناولهما من المكتشِف الأول فأرسلوا هِمِيلْكون إلى جزائر كَسِّيتِريد، التي يُظن أنها جزائر سِيلَّه، لإنشاء١٢ مؤسسات فيها.
وحملت هذه الرحلات البِيتِيَّة إلى إنكلترة بعض الناس على الظن بأن القرطاجيين كانوا حائزين للبوصلة، ولكن من الواضح أنهم كانوا يتبعون السواحل، ولا أبغِي برهانًا غير ما أورده هِمِيلْكون الذي قضى أربعة أشهر من مصب البِيتِيس إلى إنكلترة، وذلك ما يدل على أن هذه السفن كانت قريبة من السواحل كثيرًا عندما التقت، وذلك فضلًا عن قصة هذا الربان القرطاجي١٣ الذي أبصر قدوم مركب روماني فاندفع إلى الساحل لكيلا يعلم منه طريق إنكلترة.١٤

وكان القدماء قادرين على القيام برحلات بحرية تحمل على الظن بأنهم حائزون للبوصلة وإن لم يَحُوزوها، فالربان إذا ما ابتعد عن السواحل واتفق له وقت صاح فأبصر في الليل كله نجمًا قطبيًّا، وأبصر في النهار طلوع الشمس وغروبها، كان من الواضح أن يستطيع السير كما يُصنع اليوم بواسطة البوصلة، غير أن هذا أمر عَرَضِي، ولا يُعدُّ ملاحة مُحكمة.

ويُرَى من المعاهدة التي انتهت بها الحرب الپونية الأولى أن قرطاجة عُنِيَت بالمحافظة على السلطان البحري وأن رومة عُنيت بالمحافظة على السلطان البري، وصرَّح هانُّون١٥ في مفاوضته الرومان بأنه لا يُطيق غسلَهم الأيدي في بحار صِقِلية فقط، بل إنه لم يؤذَن لهم في الملاحة وراء الرأس الجميل، وقد حُظِرت١٦ عليهم التجارة في صقلية١٧ وسردينية وإفريقية، خلا قرطاجة، هذا الاستثناء الذي يدل على أنه لم تُهَيأ لهم تجارة نافعة هناك.
وفي الأزمنة الأولى وقعت حروب عظيمة بين قرطاجة ومرسيلية.١٨ حول موضوع صيد البحر، ولما تمت السَّلم قامتا بتجارة اقتصادية مباراة، وزادت مَرسيلية غَيرةً بغُدُوِّها دون منافستها سلطانًا مع مساواتها صِناعة، فكان هذا سبب ذلك الولاء العظيم للرومان، وما كان من محاربة هؤلاء للقرطاجيين في إسپانية صار مصدر ثراء لمرسيلية التي اتُّخِذت مستودعًا، وزاد خراب قرطاجة وكُورِنْثُوس عِزَّ مرسيلية أيضًا، ولولا الحروب الأهلية التي يجب إغماض العيون والانحياز إلى ناحية فيها لكانت مرسيلية سعيدة تحت حماية الرومان الذين لم تكن لتخامرهم أية غيرة من تجارتها.

هوامش

(١) إراتوستن في استرابون، باب ١٧، صفحة ٨٠٢.
(٢) انظر إلى رحلته البحرية، موضوع قرطاجة.
(٣) انظر إلى هيرودتس، in Melpomene، باب ٤، فصل ٤٣، حول العوائق التي وجدها ستاسب.
(٤) انظر إلى الخرائط والرحلات، الباب الأول من كتاب الرحلات التي انتفع بها في تأسيس شركة الهند، جزء١، صفحة ٢٠١، يبلغ هذا العشب من ستر سطح البحر ما تصعب معه رؤية الماء، ولا تستطيع السفن أن تمر بين ذلك من غير ريح ملائمة.
(٥) قص پليني (ﻫ.ن باب ٥ فصل ١) علينا الشيء بنفسه حينما تكلم عن جبل درن: Noctibus micare crebis ignibus, tibiarium cantu tympano-rumque sonitu strepere, neminem interdiu cerni.
(٦) م. دودويل، انظر إلى بحثه حول رحلة هانون الدائرة.
(٧) أمور عجيبة.
(٨) باب ٦.
(٩) باب ٣.
(١٠) Mons argentarius.
(١١) كان له نصيب في إدارتها.
(١٢) انظر إلى Festus Ovienus (يظهر من پليني أن هميلكون هذا قد أرسل في الوقت الذي أرسل فيه هانون، وبما أنه يوجد منذ زمن أغاتوكل هانون وهميلكون، رئيسان للقرطاجيين، فإن مسيو دودويل يظن أنهما هما، ما دامت الجمهورية قد ازدهرت منذ ذلك الحين).
(١٣) استرابون، باب ٣، حول الخاتمة.
(١٤) كوفئ على ذلك من قِبَل سنات قرطاجة.
(١٥) تيتوس ليفيوس، ذيل فرينشمينيوس، العشرة الثانية، باب ٦.
(١٦) بوليب، باب ٣.
(١٧) في القسم التابع للقرطاجيين.
(١٨) جوستان، باب ٤٣، فصل ٥، Carthaginensium quoque exercitus, cum bellum captis piscatorum navibus ortum esset, sæpe fuderunt, pacemque victis dederunt.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤