الفصل الثامن

الإسكندر وفتحه

أربع حوادث وقعت في عهد الإسكندر فأدت إلى انقلاب عظيم في التجارة، وهي: الاستيلاء على صُور وفتح مصر وفتح الهند واكتشاف البحر الواقع جنوب هذا البلد.

وكانت إمبراطورية الفرس تمتد حتى نهر السند١ وكان دارا٢ قد أرسل، قبل الإسكندر بزمن طويل، ملَّاحين لركوب هذا النهر فذهبوا حتى البحر الأحمر، وكيف كان الأغارقة، إذن، أول من تاجر مع الهند من ناحية الجنوب؟ وكيف يقال إن الفرس لم يقوموا بهذه التجارة سابقًا؟ وماذا كان انتفاعهم ببحار كثيرة القرب منهم، ببحار تُبلِّل إمبراطوريتهم؟ أجل، فتح الإسكندر الهند، ولكن أو يجب أن يُفتح بلد للتجارة فيه؟ هذا ما سأبحث فيه.
كانت الأريانة،٣ الممتدة من الخليج الفارسي حتى السند ومن بحر الجنوب حتى جبال هِنْدوكُش، تابعة لإمبراطورية الفرس من بعض الوجوه، غير أنها كانت في قسمها الجنوبي جديبة متلظية بائرة بربرية، ويُروَى٤ أن جيوش سميراميس وكُورْش هلكت في هذه الصحاري، وأن الإسكندر الذي اتُّبع بأسطوله لم يَدَعْ قسمًا كبيرًا من جيشه يهلك هنالك، وكان الفرس يتركون جميع الساحل قبضة الإِخْتُيوفَاج٥ والأُوريت وشعوب أخرى من البرابرة، ثم إن الفرس٦ لم يكونوا ملَّاحين، حتى إن دينهم نزع منهم كل تفكير في التجارة البحرية، وما حمل دارا على القيام به من الملاحة على نهر السند وبحر الهند كان نتيجة هَوَى عاهل يريد إظهار سلطته أكثر من أن يكون خِطة مُحكمة لمليك يريد استخدامها، ولم يكن لهذه الملاحة ما يَعقُبها تجارة ولا ملاحة، وإذا ما خُرِج من الجهالة فلِيُوقع فيها ثانية.
وزيادة على ذلك: كان يُرَى٧ قبل غزو الإسكندر أن القسم الجنوبي من الهند غير صالح للسكن،٨ ومصدر ذلك ما كان يُروَى من أن سميراميس٩ لم يرجِع بغير عشرين رجلًا وأن كُورْش لم يرجع بغير سبعة رجال.

ودخل الإسكندر من الشمال، وكانت خطته تقوم على السير نحو الشرق، ولكن بما أنه وَجَد القسم الجنوبي زاخرًا بأمم عظيمة وبمدن وأنهار فإنه حاول فتحه، وقد قام بهذا.

وهنالك عزم على جَمْع ما بين الهند والغرب بتجارة بحرية، كما أنه جَمَع بينهما بمستعمرات أقامها في البَرِّ.

وقد أمر بإنشاء أسطول على نهر جِهْلَم، وركب هذا النهر ودخل السند وسار حتى مصبه، وترك جيشه وأسطوله في پَتَاله، وذهب بنفسه مع بضع سفن ليتحقق البحر، وعَيَّن الأماكن التي أراد أن يُنشأ عليها مرافئ ومَرَاسٍ ودور للصناعة، ثم عاد إلى پتاله وانفصل عن أسطوله وسلك طريق البر مساعدة له وتلقِّيًّا لمساعدة منه، وسار الأسطول والساحل من مصب السند على طول شاطئ بلاد الأُورِيت والإخْتيُوفَاج وكَرْمَانية وفارس، وأمر بحفر آبار وتأسيس مدن، وحظر على الإختيُوفَاج١٠ أن يعيشوا من السمك، فقد كان يَوَدُّ أن تسكن سواحل هذا البحر أمم متمدنة، وقد سَجَّل نِيَارْك وأُونِيز يقْرِيط هذه السَّفْرةَ البحرية١١ التي دامت عشرة أشهر، وقد وصلا إلى سُوس حيث وجدا الإسكندر يقيم أعيادًا لجيشه.
وكان هذا الفاتح قد أنشأ الإسكندرية ليقبض على مصر، وكانت مفتاحًا لفتحها في عين المكان١٢ الذي كان لأسلافه من الملوك مفتاح فيه لإغلاقها، وهو لم يفكر، قط، في تجارة كان يمكن اكتشاف البحر الهندي وحده أن يوحي له بها.
حتى إنه لم يلقِ نظرًا جديدًا على الإسكندرية بعد هذا الاكتشاف كما يلوح، وكان ناويًا، على العموم، أن يقيم تجارة بين الهند والأجزاء الغربية من إمبراطوريته، غير أنه كان يعوزه كثير معرفة ليستطيع وضع خطة تتم بها هذه التجارة بطريق مصر، أجل، كان قد رأى السند، وكان قد رأى النيل، ولكنه كان لا يعرف بحار بلاد العرب الواقعة بينهما، وهو لم يكد يصل إلى الهند حتى أمر بإنشاء أساطيل جديدة ورَكِب١٣ أُولْيُوس ودجلة والفرات والبحر، ونزع الشلالات التي كان الفرس قد وضعوها على هذه الأنهار، واكتشف أن الخليج الفارسي كان شَرْمًا من البحر المحيط، وبما أنه ذهب ليتحقق هذا البحر١٤ كما كان قد تحقق بحر الهند، وبما أنه أمر بإنشاء ميناء في بابل لألف سفينة كما أمر بإنشاء دور للصناعة، وبما أنه أرسل خمسمئة تَلَنْتٍ إلى فنيقية وسورية لجلب نَوَاتِيِّ حتى يقيموا بالمستعمرات التي كان ينشرها على الشواطئ، ثم بما أنه قام بأشغال واسعة على الفرات وغيره من أنهار أشور، فإنه لا يشك في عزمه على الاتجار مع الهند بطريق بابل والخليج الفارسي.
ومن الناس من تعللوا بعزم الإسكندر على فتح جزيرة العرب١٥ فقالوا إنه كان ينوي أن يجعل فيها قاعدة إمبراطوريته، ولكن كيف يختار مكانًا كان لا يعرفه؟١٦ ثم إن هذا البلد كان أكثر بلاد العالم عُسرًا، وهو بهذا البلد كان ينفصل عن إمبراطوريته، ولا غرو، فالخلفاء الذين بلغوا الأقاصي فتحًا غادروا جزيرة العرب في البُداءة ليستقروا بغيرها.

هوامش

(١) استرابون، باب ١٥.
(٢) هيرودتس In Melpomene، ٤ : ٤٤.
(٣) استرابون، باب ١٥.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) پليني، باب ٦، فصل ٢٣، استرابون، باب ١٥.
(٦) كانوا لا يركبون الأنهار لكيلا يدنسوا العناصر، مسيو هيد، ديانة الفرس، وكذلك اليوم لا تجد لهم تجارة بحرية، وهم يعدون من يركبون البحر من الملاحدة.
(٧) استرابون، باب ١٥.
(٨) قال هيرودتس في Melpomene (فصل ٤٤) إن دارا فتح الهند، فهذا لا يمكن أن يحمل على غير الأريانة، وكذلك لم يكن هذا غير فتح ذهني.
(٩) استرابون، باب ١٥.
(١٠) لا يشمل هذا جميع الإختيوفاج الذين كانوا يسكنون ساحل عشرة آلاف غلوة، وكيف كان يمكن الإسكندر أن ينعم عليهم بالغذاء؟ وكيف كان يمكنه أن يحمل على إطاعته؟ لا يمكن أن يكون غير بضعة شعوب مخصوصين موضوع بحث هنا، ومِن قول نيارك في كتاب Rerum Indicarum إنه وجد في أقصى هذا الساحل من ناحية فارس أقوامًا أقل أكلًا للسمك، فأرى أن أمر الإسكندر كان موجهًا إلى هذه البقعة أو إلى بقاع أخرى أقرب إلى فارس.
(١١) پليني، التاريخ الطبيعي، باب ٦، فصل ٢٢.
(١٢) أُنشئت الإسكندرية على شاطئ اسمه راكوتيس، وكان يوجد لقدماء الملوك حامية هنالك لتحُول دون دخول البلاد من قِبل الأجانب، ولا سيما الأغارقة الذين كانوا من أعظم القراصين كما هو معلوم، پليني، باب ٦، فصل ١٠، واسترابون، باب ١٨.
(١٣) أريان، من غزو الإسكندر، باب ٧.
(١٤) أريان، المصدر نفسه.
(١٥) استرابون، باب ١٦، في الآخر.
(١٦) رأي بابل مغمورة فعد بلاد العرب القريبة منها جزيرة، أريستوبول، في استرابون، باب ١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤