الفصل الثالث

مبدأ الديموقراطية

لا احتياج إلى كبير صلاح في الحكومة الملكية أو الحكومة المستبدة حتى يستقيم أمرها أو تبقى، فقوة القوانين في الأولى وذراع الأمير المرفوعة دائمًا في الأخرى تنظمان أو تمسكان كل شيء، ولكنه لا بد للحكومة الشعبية من نابض زيادة، لا بد لها من الفضيلة.

وما أقوله يؤيده التاريخ بأسره، ويلائم طبيعة الأمور كثيرًا؛ وذلك لأن من الواضح أن يحتاج في الملكية، حيث يُرى من يأمر بتنفيذ القوانين أنه فوق القوانين، إلى فضيلة أقل مما في الحكومة الشعبية حيث يشعر مَن يأمر بتنفيذ القوانين بأنه خاضع لها بنفسه وبأنه يحمل عبئها.

ومن الواضح أيضًا أن الملك الذي ينقطع عن الأمر بتنفيذ القوانين عن سوء مشورة أو عن إهمال يمكنه أن يتدارك هذا الضرر بسهولة، فليس عليه إلا أن يغير الديوان، أو أن يدع الإهمال جانبًا، ولكنه إذا ما كف عن تنفيذ القوانين في الحكومة الشعبية، وذلك ما لا ينشأ عن غير فساد الجمهورية، دل هذا على ضياع الدولة منذ زمن.

ومن المناظر التي هي على شيء من الروعة في القرن الماضي أن ترى جهود الإنكليز القاصرة عن إقامة الديموقراطية بينهم، فبما أنه لم يكن عند من اشتركوا في الأمور فضيلة قط، وبما أن طموحهم قد أثير بفوز الأكثر إقدامًا،١ وبما أن روح العصابة لم تزجر بغير روح عصابة أخرى، فإن الحكومة كانت تتغير بلا انقطاع، وكان الشعب الحائر يبحث عن الديموقراطية فلا يجدها في أي مكان كان، ثم قضت الضرورة بأن يركن، بعد كثير من الفتن والوقائع والزعازع، إلى ذات الحكومة التي كانت قد أُبعدت.

ولما أراد سيلا أن يعيد الحرية إلى رومة لم تستطع أن تنالها، وعاد لا يكون لديها غير بقية قليلة من الفضيلة، وبما أنها ظلت ذات قليل من الفضيلة فإنها أمضت في العبودية بدلًا من أن تفيق بعد قيصر وطيبريوس وكايوس وكلوديوس ونيرون ودوميسيان، والطغاة هم الذين أصابتهم جميع الضربات، ولم تصب الطغيان واحدة منها.

وكان سياسيو الإغريق الذين يعيشون ضمن الحكومة الشعبية لا يعترفون بغير الفضيلة قوة تستطيع أن تؤيدهم، وأما سياسيو اليوم فلا يحدثوننا عن سوى المصانع والتجارة والأموال والثروات وعن النعيم أيضًا.

ولما زالت هذه الفضيلة دخل الطموح في الأفئدة القادرة على تلقيه ودخل البخل كل شيء، وتغير الرغائب أهدافها، فيعود ما كان محبوبًا غير محبوب، ويريد المرء أن يكون حرًّا ضد القوانين بعد أن كان حرًّا بها، ويصبح كل واحد من أبناء الوطن مثل عبد هارب من منزل سيده، ويُسمى عرامة ما كان حكمة، ويُسمى عسرًا ما كان قاعدة، ويُسمى خوفًا ما كان احتراسًا، وتغدو القناعة، لا ابتغاء القِنْوَة، بخلًا هنالك، ويعد بيت المال تراث الأفراد بعد أن كان يؤلف من مال الأفراد، وتصير الجمهورية نهابًا، ولا تكون سلطتها غير سلطة بعض أبناء الوطن وتسريحًا للجميع.

وكانت أثينة تنطوي على مثل تلك القوى أيام كانت تسيطر مع كبير مجد وأيام كانت تخدم مع عظيم حياء، وكانت تشتمل على عشرين ألفًا من الأهلين٢ عندما دافعت عن الأغارقة ضد الفرس ونازعت إسپارطة السلطان وأغارت على صقلية، وكانت تحتوي على عشرين ألفًا من الأهلين عندما أحصاهم٣ ديمتريوس الفاليري كما يُحصى العبيد في السوق، ولما أقدم فيليب على قهر بلاد اليونان وظهر على أبواب أثينة٤ لم تكن قد أضاعت الوقت بعد، ويمكن أن يبصر في ديموستين مقدار ما كان يجب أن يكابد من عناء حتى تستيقظ، وكان يُخشى فليب فيها عدوًّا للملاذ،٥ لا عدوًّا للحرية، وقد غلبت هذه المدينة في كيرونه، وكان إلى الأبد غلب هذه المدينة التي قاومت كثيرًا من الهزائم ورئي بعثها بعد خرابها،٦ وما هي قيمة تسريح فليب جميع الأسرى؟ هو لم يطلق رجالًا، وقد كان يسهل أن ينصر على قوى أثينة دائمًا بمقدار ما كان يصعب النصر على فضيلتها فيما مضى.
وكيف كان يمكن قرطاجة أن تبقى على حالها؟ ألم يذهب الحكام إلى اتهام نيبال أمام الرومان عندما صار واليًا وأراد أن يمنع القضاة من سلب الجمهورية؟ ويل لمن يريدون أن يكونوا مواطنين من غير أن يكون هنالك وطن، وأن ينالوا غناهم من أيدي هادميهم! لم تلبث رومة أن طلبت ثلاثمئة من أكابرهم رهائن، وقد حملت على تسليم الأسلحة والسفن إليها، ثم شهرت الحرب عليهم، ويمكن أن يحكم، بالأمور التي أوجبها اليأس في قرطاجة العزلاء،٧ فيما كانت تستطيع أن تصنعه بفضيلتها حين قبضها على قواها.

هوامش

(١) كرومويل.
(٢) انظر إلى بريكلس لپلوتارك، وإلى قريسياس لأفلاطون.
(٣) كان يوجد فيها واحد وعشرون ألفًا من الأهلين، وعشرة آلاف من الأجانب، وأربعمئة ألف من العبيد، انظر إلى أتينه، باب ٦.
(٤) كانت تشتمل على عشرين ألفًا من الأهلين، انظر إلى أريستوغ لديموستين.
(٥) كانوا قد حملوا على وضع قانون يعاقب بالقتل كل من يقترح تحويل المال الخاص بالملاهي إلى أعمال الحرب.
(٦) الخراب بكسر الخاء هي جمع الخراب بفتحها، والخراب هو عكس العمار كما هو معروف.
(٧) دامت هذه الحرب ثلاث سنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤