دفن روجر مالفن

«من الحوادث القليلة التي وقعت في الحرب مع الهنود الحمر، والتي تحتمل بطبيعتها أن تكون موضوعًا للقصص الرومانتيكي، تلك الحملة التي قامت بالدفاع عن الحدود في سنة ١٧٢٥ وانتهت (بمعركة لافيل) المذكورة. وقد يستطيع الخيال — بترك بعض الظروف وإسقاطها — أن يرى كثيرًا مما يستحق الإعجاب في بطولة عصبة قليلة قاتلت ضعفي عددها من العدو في قلب بلاده. وقد كانت البسالة الصريحة التي أبداها الفريقان مطابقة لآراء الحضر في معنى الشجاعة ومقتضياتها، ولم تعدم الفروسية ما لا تخجل أن تسجله من أعمال واحد أو اثنين من المقاتلة. ولم تكن المعركة — على هول عنفها بالذين خاضوا غمارها — مشئومة النتائج للبلاد، فقد ألوت بقوة قبيلة وأفضت إلى السلم فاستقرت سنوات عدة. وقد عني التاريخ والراوية الشعبية — على خلاف العادة — بتفاصيل هذه الواقعة. ونال قائد نفيضة من رجال الحدود من الشهرة الحربية مثل ما يغنمه قائد الجيش المظفر. وفي بعض ما أنا مورده في الصفحات التالية ما سيفطن إليه — على الرغم من الاعتياض من الأسماء الحقيقية أخرى مخترعة — مَن سمعوا من أفواه الشيوخ بمصير القليلين الذين استطاعوا أن يرجعوا بعد معركة لافيل.»

خفقت أشعة الشمس الطالعة في طلاقة وبهجة على رءوس الأشجار التي رقد تحتها من الليلة البارحة جريحان مكدودان، وكان فراشهما ورق البلوط الذاوي اليبيس المنتثر في مستوى ضيق من الأرض، في ظل صخرة قريبة من ضَهْرِ نجوة من تلك النجاء التي تختلف بها وجوه الأرض هناك. وكانت كتلة الصخر التي يذهب سطحها الأملس المستوي في الهواء مقدار خمس عشرة قدمًا أو عشرين، فوق رأسيهما، كأنها حجر قبر ضخم، وكأن عروقها الجارية كتابةٌ بحروف مجهولة. وكان البلوط وما إليه من الشجر العظيم يحيط بالصخرة في رقعة فسيحة، بدلًا من الصنوبر وهو الغرس المألوف في هذه المنطقة. وكان هناك عودٌ أخضر قوي على مقربة من الرجلين.

وكان الجرح البليغ الذي أصاب أكبر الرفيقين قد حرمه من النوم على الأرجح، فما كاد أول شعاع من الشمس يلمس أعلى شجرة، حتى جهد أن يغير رقدته، ثم اعتدل قاعدًا. وكانت غضون وجهه العميقة وما شاع من الشيب في رأسه، تدل على أنه جاوز خير شطري العمر. غير أن متانة أسره كانت خليقة — لولا ما كلفه جرحه — أن تعينه على احتمال التعب كما يحتمله الشاب في عنفوانه. وكان الفتور والإعياء مرتسمين على محياه المتهضم. وكانت نظرة اليأس التي يمد بها بصره في جوف الغابة تنبئ باقتناعه أن رحلته قد شارفت ختامها. ثم أدار عينه إلى رفيقه الراقد إلى جانبه. وكان هذا الشاب — فما بلغ مبالغ الرجال بعد — نائمًا ورأسه على ذراعه، وكان نومه مضطربًا، وكان يخيل إلى الناظر إليه أن ضَرَبَانَ الوجع من جرحه، سيوقظه في كل لحظة من نومه. وكانت يده قابضة على بندقية. وكان الاضطراب العنيف الذي ترتسم مظاهره على معارف وجهه يوقع في الروع أنه يرى في منامه صورة من القتال الذي كان أحد القليلين الذين نجوا منه. وكأنما أطلق في منامه الذي يتراءى له صيحة عميقة عالية، فاختلجت شفتاه بهمسة خافتة. وعلى أن هذا الصوت الخفيض الذي انبعث منه كان كافيًا لإزعاجه من رقاده فاستيقظ فجأة، وكان أول ما فعل بعد أن عاد إليه الوعي، وتنبهت الذاكرة، أن أقبل على صاحبه الجريح يسأله عن حاله بلهفة، فهز رفيقه رأسه وقال: «روبن — يا بني — إن هذه الصخرة التي تقعد تحتها حسبُ ذلك الصائد الكهل والمقاتل القديم صُوَى لقبره. فما تزال أمامنا أميال عدة، دونها أميال طويلة، من المفاوز التي تنوح فيها الرياح وتعوي، ولن يجديني حتى أن تكون مدخنة بيتي على الجانب الآخر من هذه الهضبة، لقد كانت رصاصة الهندي أفتك مما ظننت.»

فقال الشاب: «إنما أتعبتك مسيرة الأيام الثلاثة. وأخلق بالراحة أن تعيد إليك نفسك وتنعشك، فابق هنا ريثما أجوب هذه الغابة التماسًا للأعشاب والجذور لطعامنا، ثم بعد أن تأكل تتكئ علي ونولي وجهنا شطر البيت، فما أشك في أنك بمعونتي تستطيع أن تصل إلى بعض حاميات الحدود.»

فقال الآخر بهدوء: «ليس فيّ دماءٌ يكفي يومين يا روبن، ولن أحملك عبء جسمي الذي لا خير فيه، وأنت لا تكاد تقوى على حمل نفسك. إن جراحك عميقة وقوتك تنضب بسرعة، ولكنك قد تنجو إذا عجلت بالذهاب، أما أنا فلا أمل لي وسأنتظر الموت هنا.»

فقال روبن بلهجة المصمم: «إذا كان لا بد من هذا فسأبقى وأعنى بك.»

فقال رفيقه: «كلا يا بني، كلا، اجعل لرغبة رجل يجود بأنفاسه وزنًا عندك. هات يدك ثم اذهب، وهل تظن أن لحظاتي الأخيرة يخففها علمي أني أتركك للموت البطيء؟ لقد أحببتك كحب الأب يا روبن، وفي مثل هذه الساعة ينبغي أن يكون لي بعض حق الأب وسلطانه، فأنا أدعوك أن تذهب، حتى أقضي نحبي بسلام.»

فقال الشاب: «ومن أجل أنك كنت أبًا لي أينبغي لي أن أتركك تموت وتبقى بلا دفن في هذه الفلاة؟ كلا، إذا كان أجلك قد دنا حقًّا فسأبقى بجانبك، وأتلقى آخر كلماتك، وسأحفر هنا قبرًا بجوار الصخرة، فإذا خذلتني قوتي رقدنا فيه معًا، أما إذا وهبني الله القوة فسآخذ طريقي إلى البلدة.»

فقال الآخر: «إنهم في المدن وفي حيث تسكن الجماعات من الناس يدفنون الموتى في جوف الأرض، ويحجبونهم عن عيون الأحياء، ولكن هنا — حيث يتفق أن تمضي مائة سنة ولا تدب قدم — لماذا لا أرقد تحت السماء لا تغطيني إلا أوراق البلوط، حيث تنثرها رياح الخريف؟ وإذا كان لا بد مما يذكّر بي ويدل على مكاني، فها هنا هذه الصخرة وسأحفر عليها بيدي الضعيفتين اسم «روجر مالفن»، فإذا اجتاز هذه الناحية أحد عرف أن ها هنا يرقد صائد مقاتل، فلا تتلكأ إذن من أجل سخافة كهذه، بل أسرع إن لم يكن من أجلك فمن أجل تلك التي لن تجد مؤاسيًا بغير ذلك.»

وكان مالفن ينطق بالكلمات الأخيرة بصوت مضطرب، وكان وقعها في نفس صاحبه واضحًا جدًّا، فأذكرته أن هناك واجبات أخرى أصرح من مشاطرة صاحبه مآله، وأن موته معه لن ينفعه. وليس في الوسع أن يقال إن قلب روبن خلا من كل شعور أناني، وإن كان إدراكه لاضطراب نفسه بهذا الشعور، قد حمله على التشدد في مقاومة الرجاء الذي ألح به عليه زميله.

وقال روبن: «ما أهول أن يقعد المرء منتظرًا دلوف الموت إليه في هذه الوحدة! … إن الرجل المقدام لا يتهيب الموت في إبان المعركة، وحتى المرأة قد تتلقى الموت وهي ساكنة النفس إذا حف بسريرها الأوداء. ولكن هنا …»

فقاطعه مالفن قائلًا: «لن أَفرق من الموت حتى هنا يا روبن بورن. وإني لرجل غير منخوب القلب، ولو أنني كنت ذاك لكان لي عون أوثق من عون الإخوان. وأنت شاب والحياة حبيبة إليك وعزيزة عليك، وأنت في ساعاتك الأخيرة أحوج إلى المواساة مني. واعلم أنك بعد أن تدفنني في جوف الثرى وتمسي مستفردًا وَحيدًا، ويلف الليل هذه الغابة في شملته، ستشعر حينئذ بكل مرارة الموت التي تغيب عنك الآن. على أني لن أحض نفسك الكريمة بدوافع من الأثرة. فاتركني من أجلي أنا ليتسنى لي بعد أن أدعو الله لك بالسلامة، أن أتوجه إليه بقلبي مستغفرًا من غير أن تزعجني هموم الدنيا وأحزانها.»

فصاح روبن: «وابنتك؟ كيف أجرؤ أن أنظر إليها؟ ستسألني عن مصير أبيها الذي أقسمتُ أن أبذل حياتي دونه. فهل أقول لها إنه سار معي ثلاثة أيام من ميدان القتال وإني بعد ذلك تركته يموت في الفلاة؟ أليس خيرًا أن أرقد وأموت إلى جانبك من أن أعود سالمًا وأقول هذا لدوركاس؟»

فقال روجر مالفن: «قل لابنتي إنك على الرغم من جراحك البليغة وضعفك وتعبك قدت خطاي المتعثرة عدة أميال وإنك ما تركتني إلا إجابة لرغبتي الملحة لأني لم أرد أن أحمل تبعة موتك. قل لها إنك على الرغم من الألم والخطر كنت وفيًّا. وأنه لو كان دم قلبك يستطيع أن ينقذني لأريق في سبيلي إلى آخر قطرة، وقل لها إنك ستكون أحنى عليها من أبيها، وإني أدعو لكما جميعًا، وإن عيني اللتين يوشك أن يطبقهما الموت تستطيعان أن تريا طريقًا طويلًا تسلكانه معًا وتحمدان السير فيه.»

وكان مالفن وهو يتكلم قد كاد يرفع نفسه عن الأرض، وكأنما بعثت القوة التي نطق بها العبارة الأخيرةَ صورةً من صور السعادة في هذه الغابة الموحشة، ولكنه تحلّل به الإعياء فهوى على فراش الورق فانطفأ النور الذي التمعت به عينا روبن وأحس كأن من الإثم والجنون أن يفكر في السعادة في مثل هذه اللحظة. وكان صاحبه يلاحظ ما يتعاقب على محياه من المشاعر المختلفة، فأراد أن يحمله بالحيلة الكريمة على ما فيه خيره، ومضى في كلامه فقال: «عسى أن أكون واهمًا في أجَلي، ولعلي إذا أُسْعِفْت بالمعونة أبرأ من جراحي، ولا بد أن يكون أسبق اللاجئين قد حملوا قبل الآن أنباء ملحمتنا الوبيلة إلى الحدود، وأحسب أن جماعات قد خرجت لنجدة أمثالنا، فإذا لقيت جماعة منهم وعدت بها إلى هنا فمن يدري؟ لعله يقسم لي أن أجلس مرة أخرى إلى جانب موقدي.»

وطافت ابتسامة حزينة بمحيا هذا الرجل الذي يجود بنفسه وهو يوحي إلى صاحبه بالأمل الذي لا مطمع فيه، وإن كان قد ترك أثره في نفس روبن. وما كان أي باعث من الأثرة، ولا حتى أسى دوركاس وولهها ليغريه بهجر رفيقه في ساعة كهذه، ولكن هوى قلبه تعلق بالأمل في إمكان إنقاذ مالفن، وأمدته طبيعته المستبشرة بما رفع إلى مرتبة اليقين ذلك الأمل البعيد، البعيد، في الحصول على معونة إنسانية.

وقال كأنما يحدث نفسه: «إن هناك على التحقيق دواعي — دواعي قوية — تبعث على الأمل في أن يكون بعض الإخوان غير بعيدين منا. لقد فر جبان — خرج بلا جرح — في أول القتال، والأرجح جدًّا أن يكون قد أسرع حتى بلغ مأمنًا، ولا شك أن كل ذي نجدة حقيق بأن يحمل بندقيته حين يسمع أنباء الوقعة، وقد لا تتوغل الجماعات في تطوافها إلى هذا المكان من الغابة، ولكني قد ألتقي ببعضها بعد مسيرة يوم واحد.»

والتفت إلى مالفن وقد خامره الشك في حقيقة بواعثه فقال: «أشر علي بإخلاص. لو كنت أنا في مكانك أكنت تتركني وبي ذماء (بقية الروح)؟»

فقال روجر مالفن وهو يتنهد، وما خفي عليه التفاوت الشديد بين الحالتين: «لقد مضت عشرون سنة مذ فررت مع صديق عزيز عليّ من أسر الهنود قرب مونتريل، فسلخنا عدة أيام ونحن نجتاز الغابة حتى تكسر صاحبي من الجوع والجهد، فرقد وناشدني أن أتركه فقد كان يعلم أن بقائي معه يلحقني به، فجمعت كومًا من الأوراق الجافة وجعلت منها وسادة لرأسه، ومضيت في سبيلي وأنا ضئيل الأمل في الحصول على نجدة.»

فسأله روبن: «وهل عدت إليه وأدركته؟»

وانتظر رده كأنه نبوءة تبشره بالتوفيق.

فقال مالفن: «نعم. وقعت على خيام لجماعة خرجت للصيد قبل الغروب في اليوم نفسه، فمضيت بهم إلى حيث كان صاحبي راقدًا ينتظر الموت، وهو الآن رجل صحيح معافى يعمل في حقله بعيدًا من الحدود، وأنا هنا جريح طريح في قلب هذه الغابة.»

وقد لقيت هذه الرواية، التي كانت عظيمة الأثر في توجيه عزم روبن، عونًا خفيًّا من بواعث أخرى مكنونة القوة، ولم تفت عين روجر مالفن أن الفوز كاد يكتب له فقال: «والآن اذهب يا بني وليكن الله في عونك، ولا تعد مع أصدقائك حين تلقاهم لئلا تطيح بك جراحك وتعبك، ولكن وَجِّه إليّ اثنين أو ثلاثة يكونون في فسحة من الوقت والعمل ليبحثوا عني. وصدقني يا روبن حين أقول لك إن كل خطوة تخطوها إلى بيتك تخفف عني ما أجد وتريح قلبي.»

على أن وجهه حال، وصوته تغير، وهو يقول ذلك، ولا عجب، فإنه مصير مرعب أن يُترك ليموت في هذه الغابة الموحشة.

ونهض روبن بورن أخيرًا عن الأرض ووساوس الشك تساوره في صواب ما هو صانع، واستعد للرحيل. وجمع أولًا — على خلاف رغبة مالفن — ذخرًا من الجذور والأعشاب التي اتخذا منها طعامهما في اليومين الماضيين، ووضع هذه المئونة العقيمة في متناول صاحبه، وجمع له كذلك كومًا جديدًا من أوراق الشجر لفراشه، ثم صعد إلى قمة الصخرة — وكان أحد جانبيها خشنًا وعرًا — وثنى إليه العود الأخضر وربط منديله بأعلى أغصانه، وكان هذا الاحتياط ضروريًّا ليهتدي بالمنديل من عسى أن يجيء باحثًا عن مالفن، إذ كانت الصخرة ما عدا جانبها العريض الأملس يحجبها النبت الكثيف على وجه الأرض. وكان روبن يتخذ من هذا المنديل ضمادًا لجرح في ذراعه. وأقسم بالدم الذي عليه وهو يشده إلى الغصن أن يعود لينقذ حياة صاحبه، أو ليواري جثته في قبر. ثم انحدر ووقف مطرقًا ليتلقى من روجر مالفن آخر كلماته.

وكانت لتجرية مالفن الفضل في كثير من النصح الدقيق لرفيقه الشاب في اجتيازه هذه الغابة المُضِلَّة. وكان وهو يتكلم في هذا هادئًا جادًّا؛ كأنما هو يوجه روبن إلى القتال أو الصيد على حين يقعد هو آمنًا في بيته، وكأنما هذا الوجه الإنساني الذي سيتركه ويغيب عنه ليس آخر وجه ستقع عليه عينه، ولكن هذا الثبات تزعزع قبل أن يختم حديثه: «بلغ دوركاس تحيتي ودعائي، وقل لها إن آخر دعواتي كانت لها ولك، ومرها ألا تظن بك سوءًا من أجل أنك تركتني، (وهنا أحس روبن بالحز في قلبه)، فإنك ما كنت لتحرص على حياتك وتضن بها لو أن بذلها كان يجديني، وستتزوجك بعد أن تحد على أبيها مدة، أطال الله عمركما وجعلكما من السعداء، وليحف بكما أحفادكما عند الممات. ويا روبن، (وهنا غلبه ضعف الإنسان الفاني) ارجع بعد أن تبرأ جراحك وتندمل، وتسترد العافية — ارجع إلى هذه الصخرة الموحشة وضع عظامي في قبر، وصل عليّ.»

وكان أهل الحدود يجعلون لمراسم الدفن قيمة تكاد تكون خرافية، ولعل ذلك راجع إلى عادات الهنود الذين كانوا يشنون الحرب على الموتى كما يشنونها على الأحياء. وهناك أمثلة كثيرة للتضحية بالحياة في سبيل السعي لدفن الذين طاح بهم «سيف الفلاة»، ولهذا كان روبن يدرك قيمة العهد الذي أعطاه لروجر مالفن بأن يعود ويدفن رفاته. وكان من الغريب أن مالفن بعد أن أفضى في كلماته الأخيرة بكل ما في قلبه، لم يعد يحاول أن يقنع رفيقه الشاب بأن أسرع النجدات قد يكون لها غناء في إنقاذ حياته. وكان روبن مقتنعًا فيما بينه وبين نفسه بأنه لن يرى وجه مالفن حيًّا مرة أخرى. وكانت مروءة نفسه تنزع به إلى البقاء بالغًا ما بلغ الخطر على نفسه حتى يقضي صاحبه نحبه فيدفنه، ولكن إرادة الحياة والأمل في السعادة قَوِيَا في نفسه واستوليا على قلبه، فلم يقدر على مغالبتهما.

وبعد أن أصغى مالفن إلى روبن وهو يعاهده أن يعود قال: «كفى، اذهب والله معك.»

فضغط الشاب يده في صمت، ودار على عقبه، وهمّ بأن يمضي، ولكنه لم يسر إلا قليلا، ثم رده صوت مالفن يناديه بصوت ضعيف: «روبن، روبن»، فارتد إليه روبن وجثا إلى جانبه، فأفضى إليه بآخر رجاء: «ارفعني واجعل ظهري إلى الصخرة، ليكون وجهي شطر البيت، ولأراك لحظة أخرى وأنت تمشي بين الأشجار.»

ففعل روبن ما طلبه صاحبه واستأنف السير، وكان يمشي أول الأمر بأسرع مما تسمح به قوته، لأن شيئًا من التحرج الذي يعذب المرء أحيانًا، وإن كان عمله لا خطأ فيه ولا وزر، دفعه إلى الاستخفاء عن عين مالفن، غير أنه بعد أن أبعد في سيره على أوراق الشجر انكفأ راجعًا تدفعه رغبة ملحة مؤلمة في الوقوف على حال هذا الرجل المستفرد، واختبأ وراء شجرة مقلوعة، وجعل ينظر إليه، وكانت الشمس مشرقة لا يحجبها غيم، والأشجار — كبارها وصغارها — تعب في هواء مايو/أيار الطيب. ولكن وجه الطبيعة كان عليه كالجهامة، كأنما أدركها العطف على آلام الإنسان وأشجانه. وكانت يدا مالفن مرفوعتين بالدعاء الحار، وكان بعض ما يجري به لسانه في هذا السكون الذي يشمل الغابة يصافح سمع روبن، فيعصر قلبه ألم لا سبيل إلى العبارة عنه، فقد كان الصوت الذي يبلغه نبرات متقطعة ترتفع بالدعاء له ولدوركاس بالسعادة، وكان وهو يصغي ينازعه ضميره ووجدانه أن يعود ويرقد معه إلى جانب الصخرة، وشعر بهول المآل الذي قُضي به على هذا الرجل الكريم الرحيم الذي يهجره في شدته، وحدثته نفسه أن الموت سيدلف إليه كالجثة ويتسلل نحوه في هذه الغابة خطوة فخطوة، ويطالعه بوجهه المرعب الجامد من وراء شجرة بعد شجرة، ولكن هذا هو ما كان خليقًا أن يكون مصير روبن نفسه لو تلكأ يومًا آخر. ومن الذي يلومه إذا أشفق من تضحية عقيمة كهذه؟ وكان النسيم يحرك العلم الصغير المشدود إلى العود الأخضر وهو يلقي نظرة الوداع على صاحبه، فأذكره ذلك عهده له.

•••

وعاقت الجريحَ أمورٌ شتى في مسيره إلى الحدود، ففي اليوم الثاني تكاثفت السحب في السماء فمنعت أن يهتدي في سيره بموقع الشمس، وكان أكبر ما يخاف أن ينأى به عن غايته ما يبذله من جهد نفسه المنهوكة القوى. وكان قوته النزر، العنيبات وغيرها من الأثمار. وكانت أسراب من الظباء ربما مرت به وهي تخطف، وكثيرًا ما كان الطير يجدف عند قدميه، ولكن ذخيرته كانت قد نفدت في المعركة ولم يكن معه ما يذبح به. وكانت جروحه تهيج وتنتقض عليه من الجهد المتواصل الذي ارتهن به الأمل في الحياة والنجاة، فيستلب هذا قوته، وربما تركه مضطرب العقل مخلَّطًا. ولكنه كان، حتى حين يدور رأسه ويضطرب، يتشبث بالحياة كل التشبث حتى عجز عن الحركة عجزًا تامًّا فقعد تحت شجرة وراح ينتظر الموت.

وهنا أدركته جماعة أرسلت لإسعاف الناجين من المعركة لما وردت أنباؤها الأولى، فنقلوه إلى أقرب حلة واتفق أن كانت هذه حلته. فتولت دوركاس العناية بحبيبها الجريح وبقيت إلى جانب سريره تتعهده على عادة ذلك الزمن، وأولته تلك الألطاف المرهفة التي لا يُحسن الاتحافَ بها كقلب المرأة ويدها. وقد ظل روبن عدة أيام شارد اللب غائب الوعي والذاكرة بين المخاطر والمصاعب التي عاناها، وكان لا يستطيع أن يرد بجلاء على الأسئلة التي كان كثيرون يقبلون بها عليه متلهفين، فما كانت التفاصيل الصحيحة قد أذيعت على القوم، ولا كان أحد من الأمهات والزوجات والأبناء يعرف هل ذووهم في قيد الأسر أو في قيد الردى. وكانت دوركاس تطوي مخاوفها وجزعها في قلبها حتى كان مساءٌ فأفاق روبن من نيمة مضطربة، وبدا عليه أنه قد عرفها وفطن إليها كما لم يكن يفطن في الأيام السالفة، ورأت أن عقله قد ثاب إليه وعادت إليه وثاقته، فلم تستطع بعد ذلك أن تظل تكبح قلقها على أبيها.

وبدأت تسأله: «وأبي يا روبن؟» ولكنّ ما اعتام وجهه من التغير ردها عن المضي.

وكان الفتى قد تقبض كأنما ألح عليه ألم مر، وتدفق الدم إلى وجهه المتهضم الممتقع. وكان أول ما فعل أن غطى وجهه ثم غالب نفسه غلابًا شديدًا، فرفع جسمه وقال بصوت شديد مدافعًا عن نفسه مما خيل عليها من التهم: «لقد أصيب أبوك يا دوركاس بجرح بليغ في المعركة، وأمرني أن أعفي نفسي من عبئه وأن أكتفي بأن أمضي به إلى شط البحيرة ليطفئ ظمأه ويموت. ولكني لم أستطع أن أخذله في شدته، فأعنته وإن كان دم جروحي ينزف، ومنحته نصف قوتي وسرت به معي. ولبثنا ثلاثة أيام نسير معًا وكان حاله خيرًا مما كنت أتوقع أن تكون، ولكني ألفيته في صباح اليوم الرابع خائر القوى منهوكًا وعجز عن المشي وأخذ يجود بنفسه بسرعة و…»

فصاحت دوركاس بضعف: «مات؟»

ووجد روبن أن من المستحيل عليه أن يقرَّ لها بأن حبه الأناني للحياة نأى به عن صاحبه قبل أن يصير إلى مصيره، فأمسك عن الكلام وثنى رأسه على صدره، ثم ارتد إلى الفراش من الخجل والإعياء وأخفى وجهه في الوسادة، وبكت دوركاس لما أصبح شكها يقينًا، ولكن الصدمة لطول توقعها كانت من أجل ذلك أقل عنفًا وشدة.

وكان السؤال الذي ألهمها إياه شعورها البنوي وتقواها: «وحفرت قبرًا لأبي المسكين في الفلاة يا روبن؟»

فقال الفتى بصوت مخنوق: «كانت يداي كليلتين ضعيفتين ولكني فعلت ما وسعني. وهناك حجر عال يشرف عليه. ولشد ما أتمنى لو أنني كنت ساكنًا كسكونه.»

وأحست دوركاس من عباراته الأخيرة ثورة النفس، فأمسكت في يومها عن الاستفسار، ولكنها وجدت رَوْحًا وراحة إذ علمت أن روجر مالفن لم يعدم ما تيسَّر من مراسم الدفن، وقصت على الأصحاب ما كان من شجاعة روبن ووفائه، ولم تنتقص الإعادةُ من حسن الرأي فيه شيئًا، وكابد الشاب المسكين بعد أن تطرح من فراش المرض إلى الهواء والشمس، ذلَّ الثناء الذي لا يستحقه وعذابه وألمه، وقال الناس جميعًا إنه حقيق بأن يطلب يد الغادة الحسناء التي وفى لأبيها «حتى الموت.» ولكن قصتي ليست عن الحب، فحسبي أن أقول إن روبن صار زوجًا لدوركاس بعد بضعة شهور، وكانت العروس في حفلة الزواج مضطرمة الوجه من الخفر والحياء، أما روبن فكان ممتقع اللون.

وصار في قلب روبن بورن خاطر لا سبيل إلى الإفضاء به — خاطر ينبغي أن يخفيه بعناية وحرص عمن لها حبه، وبها ثقته. وكان أسفه عميقًا على جبنه الذي أغراه بكبح لسانه عن الإفضاء إلى دوركاس بالحقيقة التي كان يهم بأن يبوح لها بها، ولكن الكبرياء والخوف من فُقْدَانِ حبها له، والإشفاق من الاحتقار العام — كل أولئك منعه أن يصدقها بعد أن كذب عليها. وكان يشعر أنه لا يستحق لومًا من أجل أنه ترك روجر مالفن، فما كان بقاؤه والتبرع ببذل حياته إلا ليزيدا آلام الرجل بلا موجب في ساعاته الأخيرة. ولكن كتمانه الحقيقة أفاض على هذا العمل السائغ كثيرًا من صفات الإثم وآثاره الخفية، فكان روبن على اقتناعه بأنه ما فعل إلا الصواب، يقاسي إلى حد كبير الآلام النفسية التي تعذب مجترحَ جريمةٍ مستورة. وكانت خواطره تتداعى أحيانًا على نحو يجعله يتصور أنه قاتل. وظل سنوات يعاوده خاطر لا تخفى عليه سخافته وشططه، ولكنه لا يستطيع أن ينفيه ويستريح منه. وكان ذهنه لا يبرح يعذبه بصورة مخامرة — صورة صهره جالسًا — إلى الآن — عند الصخرة على أوراق الشجر الذاوية — حيًّا ينتظر منه الوفاء بالمعونة الموعودة. على أن هذه الخدع العقلية كانت تروح وتجيء، وكان هو لا يغالط نفسه فيها فيخلطها بالحقائق، غير أنه في أصفى حالات عقله وأهدئها كان يشعر بأن في ذمته عهدًا لم يف به ولم ينجزه، وأن هناك جثة لم تدفن تصيح به من جوف الفلاة، ولكنه كان من نتائج مغالطته ولفه، أن عجز عن تلبية النداء وإجابة الدعوة. وكان قد مضى الوقت الذي يجوز فيه أن يطلب معونة أصدقاء مالفن للقيام بدفنه الذي طال إرجاؤه. وحالت الأوهام والمخاوف الخرافية التي كان أهل الحدود أحس بها من سواهم دون ذهاب روبن وحده لهذه الغاية. ثم إنه لم يكن يدري أين في هذه الغابة المُضِلَّة المترامية الأطراف ينشد تلك الصخرة الملساء المعرقة التي يرقد عند سفحها صاحبه. وكان تذكّره لرحلته فيها غامضًا، ولم يكن في ذهنه أي أثر للشطر الأخير من هذه الرحلة. على أنه كان لا يفتأ يحس دافعًا ملحًّا، ويسمع صوتًا من ذات نفسه يناديه أن يخرج لإنجاز وعده، وكان يخيل إليه أنه لو همّ بذلك لقادته رجلاه إلى رفات مالفن مباشرة. ولكن العام كان يمضي تلو العام، وهذا الصوت الذي يحسه ولا يسمعه سواه لا يجد منه مجيبًا. وصار هذا الخاطر المكتوم كالقيد، ولكن نفسه هي المُوثَقَةُ العانية، أو كالحية، يعض وينفض في قلبه، فانقلب رجلًا ساهمًا كاسف البال ولكنه ضجور سيئ الخلق.

وفي خلال سنوات قليلة بعد الزواج بدأت حالة الرخاء في حياة روبن ودوركاس تحول، وكانت ثروة روبن قلبه القوي وساعده المفتول، ولكن دوركاس — وارثة أبيها الوحيدة — جاءت زوجها بضيعة أكبر وأحفل بالأدوات والمواشي من مثيلاتها على الحدود، ولكن روبن بورن كان فلاحًا مهملًا فكانت أرض سواه تزداد كل عام زكاءً وثمرة، وأرضه تزداد على النقيض كدورًا وتأخرًا، وكانت متاعب الزراعة وأسباب التثبيط عنها قد قلت قلة شديدة بانقطاع الحروب مع الهنود، ولم يعد الناس يتناولون المحراث بيد والبندقية باليد الأخرى ويحمدون حسن حظهم إذا سلمت محاصيلهم من التلف في الأهراء، أو في ميادين القتال حين يغير العدو المتوحش، غير أن روبن لم ينتفع بما صار إليه الأمر من السكينة والأمان وإن كان لا نكران أن الفترات التي كان ينشط فيها للعناية بأموره لم تكن تجزيه إلا نجاحًا ضئيلًا. وكان فساد أعصابه من الأسباب التي أفضت به إلى الإكداء، وذهاب الخير لأن سوء خلقه كان كثيرًا ما يؤدي إلى الشجار والخلاف مع جيرانه في المعاملات التي لا بد منها معهم، فانتهى الأمر بقضايا لا عداد لها، إذ كان أهل «إنجلترا الجديدة» — ولاية بهذا الاسم — في العهد الأول من حياتهم المضطربة بهذه الولاية يؤثرون الوسيلة القضائية لفض منازعاتهم كلما تيسر ذلك. ونقول بإيجاز إن الأمور لم تستقم لروبن بورن فحل به الخراب، وإن كان هذا لم يصبه إلا بعد سنوات عديدة من زواجه، ولم يبق له إلا سبيل واحد ومخرج فرد من النحس الذي لحقه، وذلك أن يفيض نور الشمس على رقعة مظلمة في جوف الصحراء، وأن ينشد العيش والقوت من ثدي هذا المجهل البكر.

وكان الابن الوحيد الذي رُزقه روبن ودوركاس قد بلغ الخامسة عشر، وكان شبابه الريان يبشر برجولة بارعة، وكان على استعداد قوي لما تقتضيه الحياة على الحدود من الكفايات، بل لقد بدأ يظهر في ذلك حذقًا عظيمًا، فكان خفيفًا مشتد الذراع في الرماية، سريع الإدراك والفطنة، وندبًا شديد القلب، وكان كل الذين يتوقعون أن تُستأنف الحرب مع الهنود، يقولون عن «سيراس بورن» إنه الزعيم الذي يدخره المستقبل للبلاد، وكان أبوه يحبه حبًّا عميقًا صامتًا، كأنما كان كل ما فيه، هو، من الخير والسماحة قد انتقل إلى غلامه ومعه ما يقوى عليه القلب من الحب، حتى دوركاس — وإن كانت محبة محبوبة — صار ابنها أعز على أبيه منها، ذلك أن خواطر روبن المحجوبة، وعواطفه المعزولة جعلته على الأيام رجلًا أنانيًّا، فلم يستطع أن يحب حبًّا عميقًا، إلا ما كان يرى أو يتخيل فيه مشابهًا من نفسه. وقد طالعته من سيراس صورة مما كان هو في الأيام الماضية، وكان ربما شاطر غلامه نفسيته، فتهب على حياته نفحة منعشة من السعادة. وقد استصحب روبن غلامه في رحلته لانتقاء رقعة من الأرض للإقامة، ولقطع الشجر وحرق الخشب، وهو ما لا بد منه تمهيدًا لنقل البيت. وسلخا في هذا شهرين من الخريف عادا بعدهما ليقضيا آخر شتاء في الحلة.

•••

وفي أوليات مايو/أيار بتت الأسرة الصغيرة ما كانت تتعلق به، وودعت القليلين الذين كانوا في أيام نحسها يحفظون لها عهد الصداقة. وكان أسى الفراق يخففه عند كل واحد من الثلاثة مخفف، فأما روبن فكان رجلًا طويل الوجوم كارهًا لبني الإنسان لأنه شقي في حياته، فلما آن الرحيل مضى وهو مقطب، مطرق لا يكاد يأسف على شيء، ويأنف أن يعترف بأسف أو ندم. وأما دوركاس فبكت بأربع على الوشائج المبتوتة التي كانت توثِّق ما بين نفسها الطيبة العطوف وبين كل ما هنالك، ولكنها كانت تحس أن ما حل في السواد من حبة قلبها يَسيرُ معها، وأن كل ما خلا ذلك لا تعدم عنه عوضًا في حيثما تكون. وأما الغلام فكفكف دمعة واحدة وراح يتصوَّر مُتَعَ الخِطار في الغابة التي لم تطأها قدم أبيه، ومن ذا الذي لم تُغْرِهِ الأحلام في عنفوان نشوتها، بأن يشتهي أن يطوّف في عالم من المجاهل المشمسة وإلى جانبه رفيق جميل يعتمد على ذراعه في رفق؟ في الشباب لا تعرف خطواته الحرة الجذلة عائقًا سوى عباب اليم المتحدر ورءوس الجبال التي يكسوها الثلج. ثم تجيء الرجولة الساكنة فَتُؤْثِر بيتًا في واد سخت عليه الطبيعة بالزخرف، وأجرت فيه غديرًا رائقًا شفافًا. حتى إذا دلفت إليه الشيخوخة بعد سنوات طويلات المدد من تلك الحياة النقية إذا به قد صار أبًا لقبيل، ورأسًا لشعب، ومؤسس أمة عظيمة تتمخض عنها الأيام. ثم يوافيه الحَيْن فيستسلم إليه ويرحب به، كما نرحب بالنوم العذب بعد يومٍ سعيد، فيبكي ولده رفاته الجليل. ويحيطه كر الأيام بهالة، ويكسبه مناقب وخصائص عجيبة ترفعه في أعين الأجيال التالية إلى قريب من مراتب الأرباب. وترجع الإنسانية بصرها من وراء قرن فتلمح مجده الخافت.

على أن الغابة المظلمة المعقدة المسالك التي كان يضرب فيها مَنْ أَرْوِي قصتَهم، لم تكن تشبه في شيء تلك الأرض التي تصورها الأحلام. ولكنه كان في أسلوب حياتهم ما يجري على نسق الطبيعة، وكانت الهموم المخامرة التي رافقتهم من الدنيا التي خرجوا منها، هي كل ما يعكر الآن صفو حياتهم ويحول دون استفاضة الشعور بالسعادة. وكان معهم جواد أشعث متين الأسر، يحمل كل ما يملكون ولا يجزع أن تضاف دوركاس إلى ما يحمل، وإن كانت نشأتها تعينها على السير إلى جانب زوجها في آخر كل مرحلة يومية. وكان روبن وابنه يمشيان بخطى ثابتة قوية وعلى كتف كل منهما بندقيته، وعلى ظهره فأسه، وعينه تدور باحثة عن قنيصة للطعام. وكلما جاعوا وقفوا وأعدوا طعامهم على شاطئ غدير صاف، فإذا ظمئوا انحنوا بشفاههم على مائه السلسال ليرشفوا من نميره، وهو يترقرق عنهم في مثل دلال الغادة إذ تتلقى القبلة الأولى من فم حبيبها. وكانوا ينامون في كوخ يصنعونه من الأغصان ويستيقظون مع أول خيط من النور، وقد انتعشوا وتهيئوا لمتاعب اليوم التالي. وكانت دوركاس وابنها يمشيان مرحًا، حتى روبن كان أحيانًا يشرق وجهه ويلمع فيه نور البشر، ولكنه كان يطوي بين أضلاعه كمدًا باطنًا يقرص قلبه ويتركه فيما يرى كمجرى الغدير جمد فيه ماؤه وغطته أوراق الشجر الخضراء النضيرة.

وكان سيراس بورن أعرف بمسالك الغابات وأخبر بالسير فيها من أن يخفى عليه أن أباه لا يلتزم الجادة التي ساروا فيها الخريف الماضي، فقد كان ينتحي ناحية الشمال وينأى عن الأرض المأهولة ويضرب إلى حيث لا توجد إلا الوحوش وأمثالها من الآدميين. وكان الغلام ينبهه إلى ذلك أحيانًا فيصغي له روبن، ويعدل عن الطريق الذي كان آخذًا فيه، عملًا منه بنصيحة ابنه، ولكنه كان كلما فعل ذلك بدا كالمضطرب، فكان يمد لحظه ويجيله كأنما يتوقع أن يرى أعداء مختبئين وراء جذوع الشجر. وكان سيراس يرى أن أباه يرتد شيئًا فشيئًا إلى اتجاهه الأول الذي كان قد صرفه عنه، فيحجم عن معاودة الاعتراض، وكان يشعر أن شيئًا غامض الكنه قد بدأ يجثم على صدره، ولكن جرأته الفطرية على الخِطار أبت له أن يأسف من أجل أن الطريق زاد طولًا وغموضًا.

وفي عصر اليوم الخامس وقفوا وهيئوا لأنفسهم مكانًا قبل الغروب بساعة، وكان وجه الأرض فيما قطعوا من الأميال الأخيرة يعلو ويهبط كأنه أمواج تحجرت. وقد أقاموا في منخفض منها كوخهم وأوقدوا نارهم. وكان في مقامهم هناك — وقد نأوا عن كل حي ووثق ما بينهم الحب — ما يشجو ويملأ القلب حرارة. وكانت أشجار الصنوبر تشرف عليهم وتتخلل الريح أغصانها العالية، فتتجاوب الغابة بمثل أصوات الوله والأسى، أم ترى هذه الأشجار العتيقة تتوجع مخافة أن يكون الإنسان قد أقبل ليضرب في جذورها بفأسه …؟

ورأى روبن وابنه أن يدعا دوركاس تهيئ الطعام وأن يتجولا في الغابة عسى أن يقعا على فريسة فقد أخطأهما الصيد في نهارهما. ووعد الغلام ألا يبعد وذهب يعدو خفيفًا كالظبي الذي يرجو أن يصيد. وشعر أبوه بنفحة عارضة من السعادة وهو يتبعه بعينه. وهمّ بأن يمضي هو في اتجاه آخر. وجلست دوركاس فوق جذع شجرة قديمة مقتلعة على كثب من العيدان التي أضرمت فيها النار. وكانت تلقي نظرها من حين إلى حين على القِدر التي بدأت تفور وتغلي ثم ترد عينها إلى «تقويم ولاية ماساشوستس» وكان هذا التقويم ونسخة قديمة من الإنجيل كل مكتبة الأسرة. وليس أشد عناية بحساب الأيام ممن نأوا عن المجتمع الإنساني، فلا عجب إذا كانت دوركاس قد قالت لزوجها إن اليوم هو الثاني عشر من شهر مايو/أيار كأنما هذا على أعظم جانب من الأهمية. فاضطرب روبن وتمتم: «الثاني عشر من شهر مايو …؟ إني لحقيق بأن أذكره» وتزاحمت الخواطر في رأسه فأحدثت له اختلاطًا يسيرًا وراح يسأل نفسه: «أين أنا …؟ وإلى أين أنا ماض؟ وأين تركته …؟»

وكانت دوركاس قد ألفت من زوجها غرابة أطواره فلم تعد تلقي بالها إلى ما يبدو من شذوذها. فوضعت التقويم إلى جانبها وقالت له بتلك اللهجة الشجية المعهودة التي يتخذها رقاق القلوب حين تكر بهم الذكرى إلى أحزانهم القديمة التي خمدت نارها: «لقد ترك أبي هذا العالم إلى آخر خير منه في مثل هذا الشهر منذ ست عشرة سنة. ولكنه لم يعدم ساعدًا قويًّا يسند رأسه وصوتًا حنونًا يخفف عنه غصص الموت يا روبن. إن عنايتك به ووفاءك له قد عزياني مرارًا كلما جشأت نفسي وجاشت. ألا ما أهول الموت على المستفرد الوحيد في مثل هذا المكان الموحش!»

فقال روبن بصوت متهدج: «ادعي الله يا دوركاس ألا يدرك الموت أحدنا نحن الثلاثة وهو وحيد، وألا يبقى بغير دفن في هذه الغابة العاوية.»

وأسرع ومضى عنها وتركها تنظر إلى النار تحت الصنوبر.

وخفت وطأة روبن وأبطأت رجله لما خفت حدة الألم الذي أحدثته له دوركاس بما قالته عفوًا. ولكن الخواطر الأليمة كانت تتزاحم وتتدافع في رأسه فكان يمشي كالنائم لا كالصائد. ولم يكن عن قصد منه أنه بقي على مقربة من الكوخ فقد كانت رجله كأنما تدب به دائرة. ولم يفطن إلى أنه قد صار على رأس طريق مكتظ بأشجار السنديان وغيره من الأشجار العظيمة. وكانت أصول الشجر قد نمت عليها وازدحمت حولها الأغصان النابتة وبقي ما بين الشجر عاريًا لا يكسوه إلا الورق الذاوي المنتثر. وكان روبن كلما سمع حفيف الأغصان أو صوت تمايل الجذوع — كأنما انبعثت الغابة من سباتها — يرفع بندقيته المراحة على ذراعه ويدير عينه بسرعة في كل ناحية. ثم يقتنع بأن لا شيء من الحيوان هناك فيعود إلى ما يدور في نفسه ويضطرب به جنانه. وكان يفكر فيما صرفه عن الطريق الذي كان معتزمًا أن يأخذه ورمى به قلب الغابة. ولم يستطع روبن أن يتغلغل بعينه إلى مكامن الأسرار من نفسه وأن يهتدي إلى البواعث الحقيقية المكنونة في قرارة الوجدان، فاعتقد أن صوتًا من وراء الحس قد دعاه، وأن قوة من وراء الطبيعة قد حالت دون ارتداده، وتمنى أن تكون مشيئة الله قد أتاحت له فرصة للتكفير عن خطيئته، ورجا أن يعثر على العظام التي بقيت هذا الزمن الطويل بلا دفن، فيدرجها في جوف الأرض فتعود إلى نفسه السكينة وتنشر النور بين حنايا ضلوعه التي صارت أحلك من القبر.

وانتبه على حفيف في الغابة على مسافة من الموضع الذي تقوده إليه رجلاه، ولمح حركة وراء النبات الأثيث الملتج، فأطلق بندقيته بدافع من غريزة الصياد وبإحكام الرامي المدرب. ولم يلتفت إلى الأنة الخفيفة التي تنبئ بإصابة المرمى، والتي يستطيع حتى الحيوان أن يعرب بها عما يعاني من أخذ الموت بكظمه.

ولكن ما هذه الذكريات التي بدأت الآن تطوف برأسه؟ …

لقد كان الموضع المعشوشب الذي أطلق روبن بندقيته قريبًا من قمة مرتفع من الأرض ومن أصل صخرة ملساء كأنها حجر ضخم مما يرفع على القبور. وكانت تبدو لروبن كأن لها صورة معكوسة في مرآة ذاكرته — بل لقد تذكر تلك العروق الجارية على وجه الصخرة كالكتابة بلغة منسية — كل شيء بقي كما كان سوى أن النبات الكثيف غطى أصل الصخرة، فهو يستطيع أن يحجب رفات روجر مالفن لو أنه بقي كما تركه قاعدًا هناك، ولكن عين روبن لم تلبث أن أخذت بعض ما أحدثه الزمن من التغيير مذ كان واقفًا هنا وراء جذع الشجرة الذاهبة في الهواء، وذلك أن العود الذي ربط إليه الخرقة الملطخة بالدم قد نما واشتد وصار شجرة عظيمة كثيرة الفروع المورقة، وإن كانت لم تستوف كل حظها من النماء. وقد رأى روبن في هذه الشجرة ما جعله يضطرب، فقد كانت الغصون الوسطى والسفلى ترف فيها نضرة الحياة، وكانت الخضرة اليانعة تحف بأصل الشجرة، ولكن آفةً على ما يظهر أصابت قمتها فبدا الغصن الأعلى ذاويًا جافًّا ميتًا. وتذكر روبن أن الخرقة التي نشرها كالراية كانت تخفق على هذا الفرع لما كان أخضر وريقًا، فأي خطيئة يا ترى عصفت به وأذوته …؟ ومن عسى أن يكون ذاك الذي اقترفها …؟

•••

وكانت دوركاس تواصل عملها في إعداد الطعام بعد أن تركها زوجها وابنها، وقد اتخذت من ساق شجرة غليظة متجدعة مائدةً نشرت على أعرض موضع فيها منديلًا ناصع البياض، ورتبت فوق هذا ما بقي عندها من الأوعية المعدنية التي كانت تُزهي بها في بيتها. وكان لهذه البقية من الأدوات المنزلية منظر غريب في قلب الغابة الموحشة، وكانت الشمس الغاربة لا تزال تضيء قمم الأشجار القائمة على الربى. ولكن ظلال المغيب كانت قد ارتمت وتكاثفت على وجه المنخفض الذي أقيم فيه الكوخ. وكانت النار ترسل ألسنتها فتضيء سيقان الشجر، ويخفق نورها على النبات المحيط بالمكان. ولم يكن في قلب دوركاس حزن، فقد كانت تحدث نفسها بأنه خير لها أن تجوب الغابة مع اثنين تحبهما ويحبانها من أن تكون وحدها بين من لا يعبئون بها.

وشغلت نفسها بإعداد مقاعد من خشب الشجر المتقادم المتجدع المغطى بالورق لنفسها ولروبن ولابنها. وكانت ترسل الصوت في جوف الغابة المظلمة فيرقص على نغم أغنية تعلمتها في صباها. وكانت هذه الأغنية الساذجة التي نظمها شاعر لم يفز بالذكر تصف ليلة شتوية في كوخ على الحدود، حيث كانت الأسرة تمرح وتنعم بالدفء من النار الموقدة، وقد أمنت عدوان المتوحشين بفضل ما تكدس من الثلوج. وكان للأغنية ذلك السحر الخفي الذي تمتاز به الخواطر المبتكرة غير المستعارة. ولكن أربعة أبيات منها كانت تبرز وتضيء وتشع النور والحرارة كلسان النار الذي تصف السرور حوله، وفي هذه الأبيات استطاع الشاعر أن يصوغ السحر بألفاظ قليلة، وأن يستقطر معاني الحب البيتي ويجسد السعادة المنزلية، فصارت الأبيات شعرًا وصورة في آن معًا.

وكانت دوركاس وهي تغني تحس أن جدران بيتها الذي فارقته تحيط بها هنا، فلم تعد ترى أشجار الصنوبر المظلمة، أو تسمع الأنات الجوفاء التي ينتهي بها نواح الرياح بين الأفنان، ولكن ردها إلى ما حولها طَلْق بندقية فاضطربت جدًّا من مفاجأة الصوت، أو من فرط الشعور بالوحدة وهي إلى جانب النار، على أنها ما عتمت أن ضحكت وقد عمر قلبها الزهو بابنها، فقالت تحدث نفسها: «يا له من صائد جميل … لقد أصاب ابني ظبيًا.» فقد تذكرت أن صوت الطلق جاء من الناحية التي ذهب إليها سيراس باحثًا عن طريدة. وانتظرت فترة كافية توقعت بعدها أن تسمع وقع قدمي سيراس يعدو إليها ليخبرها بما ظفر به، ولكنه لم يجئ، فأرسلت صوتها المرح بين الأشجار تدعوه إليها: «سيراس … سيراس …»

ولكنه أبطأ ولم يجئ، فاعتزمت أن تذهب هي إليه، فقد كان صوت الطلق ينبئ بأنه منها قريب، ثم إنه قد يحتاج إلى معونتها لحمل ما منت نفسها أن يكون قد صاده. ونهضت ومضت مهتدية بذكرى الصوت الذي سمعته، وكانت تغني وهي سائرة، ليسمعها ابنها فيخف للقائها، وكانت ترجو أن يطالعها وجهه من وراء كل شجرة، وكل ما يمكن أن يحجبه من النبات العالي، وأن تسمع ضحكته المنبعثة عن روح العبث في المغامر حين يلقى من يحب. وكانت الشمس قد غابت وراء الأفق، وكان الضوء المختلف بين الأشجار من الخفوت بحيث يجسد الأوهام لخيال المتطلع. وقد خيل إليها مرات أنها لمحت وجهه — ولكن في غير وضوح — مطلًّا من بين الأوراق، وكبر في وهمها مرة أنه واقف إلى جانب صخرة، وأنه يومئ إليها، على أنها بعد أن أوسعت هذه الصخرة تحديقًا، تبينت أن الذي بجانبها ليس إلا ساق شجرة تحف بها أغصان كثيرة، كان أحدها ممتدًا وكان النسيم يحركه. وظلت تتقدم حتى بلغت الصخرة، فألفت نفسها بغتة أمام زوجها الذي كان قد جاء من ناحية أخرى، وكان متكئًا على صدر بندقيته التي انغرست فوهتها بين الأوراق وهو يتأمل شيئًا عند قدميه.

فصاحت به دوركاس: «ما هذا يا روبن …؟ أتراك صدت الظبي ثم نمت عليه …؟»

وكانت تضحك مغتبطة بما لمحت أول الأمر من وقفته وهيئته، ولكنه لم يتحرك ولا حوّل إليها عينه، فدب في قلبها الخوف، وأخذتها رعدة مجهولة المصادر والعلل، وتفرست فتبينت في وجهه الامتقاع والتصلب، حتى لكأنما عجزت معارف محياه أن تغير ما ارتسم عليها من صورة اليأس.

ولم يبد منه ما يدل على أنه أحس بقربها، فصاحت به: «أتوسل إليك يا روبن أن تكلمني» وأفزعها صوتها أكثر مما أفزعها هذا السكون الرهيب.

وتنبه زوجها ونظر إليها ثم جرها إلى الصخرة وأشار بإصبعه، فإذا غلامها هناك راقد … نائم نومًا لا حلم فيه ولا يقظة منه … على أوراق الشجر الجافة، وخده على ذراعه، وأعضاؤه مسترخية قليلًا … أفتراه أدركه إعياء مباغت …؟ أيمكن أن يوقظه صوت أمه ويرده إليها …؟ كلا … فقد أدركت أنه الموت الذي لا حيلة فيه.

وقال زوجها: «هذه الصخرة العالية هي الحجر القائم على قبر أبيك يا دوركاس … وستسقط أشجارك على ابنك وأبيك كليهما.»

ولم تسمع دوركاس ما قال، بل أطلقت صرخة جزع انشقت عنها حبة قلبها المطعون، وهوت مغشيًّا عليها إلى جانب فتاها، وفي هذه اللحظة انقصف الفرع اليابس الذي في قمة الشجرة … وتهاوى هشيمه وتناثر ما بلي منه على الصخرة … وعلى الأوراق الذاوية المبعثرة … وعلى روبن وزوجته وابنهما … وعلى رفات روجر مالفن.

وانعصر قلب روبن، وتفجرت الدموع من عينيه كما يتفجر الماء من ينبوعه … لقد وفى الرجل الذي حاقت به اللعنة بالنذر الذي نذره وهو شاب جريح … وقد كفر عن خطيئته فزالت عنه اللعنة.

وفي هذه الساعة التي أهرق فيها دمًا أعز عليه من دمه، اختلجت شفتاه بصلاة ارتفعت إلى السماء، وكانت الأولى التي تَحَرَّكَتَا بها منذ سنين وسنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤