آلة الزمان

(١) مقدمة

كان الرحالة في الزمن (ويحسن أن نعرفه بهذه الصفة) يشرح لنا أمرًا عويصًا وكانت عيناه تومضان، ووجهه الممتقع في العادة مضطرمًا يجري فيه ماء الحياة، وكانت النار الموقدة مرتفعة اللهب، ومقاعدنا كأنما تضمنا وتغازلنا، والجو كما يكون بعد العشاء؛ إذ تجري الخواطر في سلاسة لا تعوّقها الدقة والإحكام. وكان هو يتكلم شارحًا — ومشيرًا بإصبعه المعروق — ونحن جلوس حوله، نعجب في كسل واسترخاء بأخذه هذه النقيضة (كما كنا نتوهمها) مأخذ الجد، إعجابنا بخصوبة ذهنه.

فقال: «يجب أن تتبعوني بدقة وعناية، وسأنقض رأيًا أو بضعة آراء شائعة، فإن الهندسة التي تعلمتموها في المدرسة، مثلًا، قائمة على خطأ في التصور.»

فقال فيلبي، وهو رجل أحمر الشعر يحب الجدل: «أليس من الشطط أن تتوقع منا الابتداء بهذا القول؟»

فقال: «لست أنوي أن أطالبكم بالتسليم بشيء بغير دليل كاف. وستسلمون بما فيه الكفاية لي. وأنتم تعرفون أن الخط الرياضي — الخط الذي لا سمك له — ليس له وجود حقيقي. ألم يعلموكم هذا؟ ومثله السطح الرياضي. هذه مجرد فروض نظرية ليس إلا.»

فقال النفساني: «صحيح.»

فعاد يقول: «والمكعب الذي ليس له سوى طول وعرض وسمك، ليس له وجود حقيقي.»

فقال فيلبي: «أنا أعترض على هذا التقرير، فإن الجسم ذا الطول والعرض والسمك يوجد. وكل حقيقي من الأشياء …»

قال: «هذا ما يظنه الأكثرون. ولكن مهلًا. هل يمكن أن يوجد مكعب لا يبقى أي بقاء زمني؟»

فقال فيلبي: «لست فاهمًا.»

قال: «هل يكون للمكعب الذي لا يبقى أية فترة من الزمن وجود حقيقي؟»

فبدت على فيلبي هيئة المفكر، ومضى الرحالة في الزمن يقول: «من الواضح أن كل جسم حقيقي لا بد أن يكون له امتداد في أربعة اتجاهات؛ فلا بد أن يكون له طول، وعرض، وسمك وبقاء زمني. ولكنا لضعف طبيعي فينا — سأشرحه بعد لحظة — نميل إلى إغفال هذه الحقيقة، وهنا إذا اعتبرنا الواقع، أبعاد أربعة، الثلاثة المعروفة، والرابع الزمن، ولكنّ هناك ميلًا إلى التفريق بين هذه الأبعاد الثلاثة، وبين الرابع، لأن وعينا يتحرك على نحو متقطع في اتجاه واحد مع الزمن من بداية العمر إلى ختامه.»

فقال شاب يحاول أن يشعل سيجارته مرة أخرى من المصباح: «هذا … هذا واضح جدًّا.»

وعاد الرحالة في الزمن يقول: «ومن العجائب أن الإغضاء عن هذا عام. وهذا هو معنى البعد الرابع، وإن كان بعضهم حين يذكرونه لا يدرون أنهم يعنون هذا. على أن هذه ليست إلا وجهة نظر أخرى، فما ثم فرق بين الزمن وبين أي واحد من الأبعاد الثلاثة سوى أن وعينا يسير في اتجاهه، غير أن بعض الحمقى تناول الفكرة من طرفها المغلوط، وأحسبكم سمعتم بما يقولون في هذا البعد الرابع؟»

فقال عمدة من الريف: «أنا لم أسمع.»

فقال: «هذا هو: إن الفضاء، كما يقول علماؤنا الرياضيون، له ثلاثة أبعاد يمكن أن نقول إنها الطول، والعرض، والسمك، ويمكن تحديده دائمًا بالنسبة إلى سطوح ثلاثة كل منها على زاوية قائمة من الآخرين. ولكن بعض المتفلسفين يتساءلون لماذا تكون الأبعاد ثلاثة على الخصوص؟ لماذا لا يكون هناك اتجاه آخر على زاوية قائمة من الأخرى؟ وقد حاولوا فعلًا أن يوجدوا هندسة رباعية الأبعاد. وقد كان الأستاذ سيمون نيوكوم يشرح هذا للجمعية الرياضية في نيويورك منذ حوالي شهر فقط، وأنتم تعرفون أننا نستطيع — على سطح ليس له سوى بعدين اثنين — أن نرسم شكلًا ذا أبعاد ثلاثة. ولهذا يرون أنه بواسطة نماذج ذات أبعاد ثلاثة يمكن تمثيل شكل ذي أبعاد أربعة إذا وسعهم أن يتمثلوا صورته.»

فقال العمدة الريفي: «أظن ذلك.» وزوى ما بين عينيه، وشردت نظرته، وصارت شفتاه تختلجان كأنما يردد ألفاظًا خفية «نعم، أظن أني فهمت الآن.» قال هذا بعد هنيهة، وأشرق وجهه لحظة.

«ولست أكتمكم أني شغلت نفسي بهذه الهندسة الرباعية الأبعاد زمنًا، وبعض ما وصلت إليه، عجيب. فمثلا، هذه صورة رجل في الثامنة من عمره، وهذه أخرى في الخامسة عشرة، وثالثة في السابعة عشرة، ورابعة له في الثالثة والعشرين وهكذا، وبَدِيه أن هذه جميعًا جوانب له — صور ثلاثية الأبعاد. لكيانه الرباعي الأبعاد — وهو شيء ثابت لا يتغير.»

ومضى في كلامه بعد فترة كافية لاستيعاب هذا المعنى «إن العلماء يعرفون أن الوقت ليس إلا ضربًا من الفضاء. هذا رسم بياني لتقييد الحالة الجوية. وهذا الخط الذي أتتبعه بإصبعي يبين حركة البارومتر، وقد كان المقياس أمس عاليًا إلى هنا، فهبط في الليل، وعاد هذا الصباح إلى الارتفاع إلى هنا. ومن المحقق أن الزئبق لم يرسم هذا الخط في أي واحد من أبعاد الفضاء المعترف بها. ولكنه رسم الخط، فهذا الخط لا يسعنا إلا أن نقرر أنه على اتجاه بعد الزمن.»

فقال رجل الطب، وهو يحدق في النار: «ولكن إذا كان الزمان ليس أكثر من بعد رابع في الفضاء، فلماذا يعد — ولماذا كان دائمًا يعد — شيئًا مختلفًا؟ ولماذا لا نستطيع أن نتحرك في الزمن كما نتحرك في الأبعاد الأخرى في الفضاء؟»

فابتسم الرحالة في الزمن وقال: «أواثق أنت أننا نستطيع أن نتحرك بحرية في الفضاء؟ إننا نذهب يمينًا ونذهب شمالًا، ونمشي قدمًا، ونرجع القهقرى بحرية، وما زال الناس يقدرون على ذلك، وإني لأعترف أننا نتحرك بحرية في بعدين، ولكن ما القول في «فوق» و«تحت»؟ إن الجاذبية تحد من حركتنا هنا.»

فقال رجل الطب: «كلا، فإن هناك البالون.»

قال: «ولكن قبل عهد البالون، وفيما عدا القفز والوثب وعدم استواء السطح، لم تكن للإنسان حرية في الحركة الفوقية.»

فقال رجل الطب: «على كل حال يستطيع أن يتحرك قليلًا إلى فوق، وإلى تحت.»

«الحركة إلى تحت، أسهل، أسهل جدًّا.»

«ولا سبيل إلى الحركة في الزمن، لا تستطيع أن تجاوز اللحظة الحاضرة.»

«يا سيدي العزيز، هذا هو موضع الخطأ. هذا هو الذي أخطأ فيه العالم كله، فإننا لا ننفك نجاوز اللحظة الحاضرة، ووجودنا العقلي — وهو غير مادي وليس له أبعاد — يمضي على بعد الزمن بسرعة منتظمة من المهد إلى اللحد كما نسير إلى تحت، إذا بدأنا وجودنا على ارتفاع خمسين ميلًا فوق سطح الأرض.»

وقال النفساني مقاطعًا: «ولكن الصعوبة هي أننا نستطيع أن نتحرك في كل اتجاه في الفضاء، أما في الزمن فلا.»

– «هذه جرثومة اكتشافي العظيم، وأنت مخطئ حين تقول إننا لا نستطيع أن نروح ونجيء في الزمن. مثال ذلك، أن أتذكر حادثة بوضوح، فأنا أكر راجعًا إلى اللحظة التي وقعت فيها، أو يشرد فكري، فأنا أثب راجعًا مسافة لحظة. ولا أحتاج أن أقول إنه ليس لنا وسيلة نستطيع بها التلبث في رجعاتنا وكراتنا هذه، أي مسافة من الزمن، كما لا يستطيع الإنسان المستوحش، أو الحيوان أن يبقى في الهواء على ارتفاع ستة أقدام من الأرض، ولكن الإنسان المتحضر أحسن حالًا من المستوحش في هذا، فإن في وسعه أن يصعد في الجو ببالون على الرغم من الجاذبية، فلماذا لا يحق له أن يرجو أن يستطيع آخر الأمر أن يقف، أو يسرع على سنن البعد الزمني، أو حتى أن يدور، ويطوّف في الناحية الأخرى؟»

فقال فيلبي: «آه، هذا كله …»

فسأله الرحالة في الزمن: «لم لا.»

قال فيلبي: «إنه مما لا يقبله العقل.»

فسأله: «أي عقل؟»

فقال فيلبي: «قد تستطيع أن تثبت أن الأسود أبيض، ولكنك لا تقنعني.»

قال: «ربما … ولكنك بدأت تدرك الغرض من بحوثي، في الهندسة الرباعية الأبعاد. ومنذ زمن بعيد خطر لي على نحو غامض، أن في الوسع صنع آلة.»

فصاح الشاب: «للطواف بها في الزمن؟»

– «يمكن الطواف بها في أي اتجاه في الفضاء والزمن على هوى مسيّرها.»

فاكتفى فيلبي بالضحك.

فقال: «ولكني جربت إثبات ذلك عمليًّا.»

فقال النفساني: «إن هذا يكون مفيدًا جدًّا للمؤرخ، فيستطيع أن يكر راجعًا، ويحقق ما حدث في معركة هيستنجز مثلًا.»

وقال رجل الطب: «ألا تخشى أن تلفت إليك الأنظار؟ إن أجدادنا لم يكن حظهم جزيلًا من سعة الصدر.»

وقال الشاب: «ويسع الإنسان أن يتلقى اللغة الإغريقية من فم هومر أو أفلاطون! وثم المستقبل، تصور هذا! في وسع المرء أن يستثمر كل ماله ويتركه ينمو ويزداد، ويسرع فيسبقه.»

فقلت: «فيجد الجماعة الإنسانية قائمة على مقتضى نظام شيوعي دقيق!»

وقال النفساني: «يا له من شطط في التصور والخيال!»

– «نعم، هذا ما كنت أظن في بداية الأمر، ولهذا لم أفه بكلمة عنه حتى …»

فصحت: «حتى حققته بالتجربة! أتريد أن تثبت هذا؟»

وصاح فيلبي وقد كل ذهنه: «التجربة!»

وقال النفساني: «أرنا تجربتك على كل حال، وإن كان الأمر كله كلامًا فارغًا.»

فابتسم لنا الرحالة في الزمن، وهو يدير فينا عينيه، ثم تركنا وخرج على مهل، ويداه في جيبي بنطلونه، وكنا نسمع وقع قدميه، وهو ماض إلى معمله.

فقال النفساني: «ترى ماذا عنده.»

فقال رجل الطب: «لعبة بارعة، أو ما هو منها بسبيل.»

وهم فيلبي أن يحدثنا عن حاو في «بير سلم»، ولكن قبل أن يفرغ من مقدمة كلامه دخل الطواف في الزمن، فانهارت القصة.

(٢) الآلة

كان الذي يحمله الرحالة في الزمن آلة من المعدن اللامع لا تزيد في الحجم عن ساعة صغيرة ولكنها دقيقة الصنع. وكان فيها عاج ومادة أخرى بلورية شفافة. ويحسن بي هنا أن أتحرى الدقة لأن ما سأورده ليس له تعليل إلا إذا سلمنا بتعليله. فقد تناول إحدى المناضد المثمنة الأضلاع ووضعها أمام الموقد، فكانت اثنتان من قوائمها على السجادة. ووضع الآلة على هذه المنضدة، ثم جر كرسيًّا وقعد عليه. ولم يكن على المنضدة شيء آخر سوى مصباح صغير مظلل كان ضوءه مسلطًا على هذه الآلة النموذجية. وكان في الغرفة أيضًا حوالي اثنتي عشرة شمعة؛ اثنتان منها في شمعدانين من النحاس على الصفة، والبقية في شمعداناتها الموزعة في الغرفة، فالغرفة حسنة الضوء. وقعدت أنا على كرسي بجانب الموقد وزحفت به حتى صرت بين الرحالة في الزمن وبين النار. وجلس فيلبي وراءه يطل من فوق كتفه، وكان رجل الطب والعمدة على يمينه والنفساني على يساره، ووقف الشاب خلف النفساني وكنا جميعًا متحفزين متربصين؛ فمما لا يقبله العقل أن يخدعنا خادع مهما بلغ من حذقه وبراعته.

ونظر إلينا الرحالة في الزمن ثم رد بصره على الآلة فقال النفساني: «نعم؟»

فأسند المطوف مرفقيه، وضم راحتيه فوق الآلة وقال: «هذه الآلة الصغيرة ليست سوى نموذج لآلة يطوف المرء بها في الزمان. وتلاحظون أنها تبدو مائلة، وأن لهذا القضيب وميضًا غريبًا، كأنه شيء لا حقيقة له.» وأشار إلى القضيب بإصبعه «وهنا أيضًا رافع أبيض صغير. وهنا واحد آخر.»

فنهض رجل الطب عن كرسيه وحدق في الآلة وقال: «إنها بديعة الصنع.»

فقال الرحالة في الزمن: «قد سلخت في صنعها عامين.» وبعد أن تأملناها جميعًا مضى يقول: «وأحب أن تعرفوا أن هذا الرافع إذا ضُغط يدفع الآلة فتنساب في المستقبل، وهذا الرافع الآخر يعكس الحركة والاتجاه. وهذا السرج يمثل مقعد المطوف. وسأضغط الرافع فتنطلق الآلة ماضية، وتختفي، وتنتقل إلى المستقبل، وتغيب فيه. فتأملوها جيدًا، وأديروا عيونكم في المنضدة لتكونوا على يقين من أنه لا خدعة هناك. فلست أحب أن أفقد هذا النموذج ثم يقال لي بعد ذلك إني مشعوذ.»

وساد السكون لحظة، وكأنما هم النفساني بأن يخاطبني ثم عدل ثم مد المطوف إصبعه إلى الرافع ولكنه قال فجأة: «كلا. بل هات أنت يدك.» والتفت إلى النفساني فتناول يده وأمره أن يمد سبابته، فكان النفساني هو الذي أرسل نموذج آلة الزمان في رحلتها التي لا نهاية لها. ورأينا كلنا الرافع يتحرك. وكنت على يقين جازم من أنه لا خداع في الأمر. وهبت نسمة فوثب لهب المصباح، وانطفأت إحدى الشمعتين على الصفة، ودارت الآلة بغتة، وغمضت، وبدت كالشبح مقدار ثانية، أو كموجة من لمع العاج والنحاس، ثم غابت، اختفت. ولم يبق على المنضدة سوى المصباح.

وساد السكون مرة أخرى ثم قال فيلبي: «إنه لعين.»

وأفاق النفساني من ذهوله وانحنى لينظر تحت المنضدة، فضحك الرحالة في الزمن مسرورًا وقال: «ثم ماذا؟» ثم نهض إلى وعاء الطباق على الصفة وشرع يحشو بيبته، وظهره إلينا.

ونظر بعضنا إلى بعض ثم قال رجل الطب: «اسمع. أأنت جاد؟ أتعتقد حقيقة أن هذه الآلة ذهبت تطوف في الزمن؟»

فقال الرحالة وهو ينحني ليشعل عودًا من النار: «لا شك.» ثم دار وهو يوقد الطباق، ونظر إلى وجه النفساني الذي أراد أن ينفي عن نفسه مظنة الاضطراب فتناول سيجارًا وهم بأن يشعله من قبل أن يقطعه.

ومضى الرحالة يقول: «وأزيد على ذلك أن عندي آلة كبيرة كاد صنعها يتم. (وأشار إلى المعمل) ومتى تمت فإن في عزمي أن أقوم برحلة.»

فسأله فيلبي: «هل تعني أن هذه الآلة تطوف في المستقبل؟»

– «في المستقبل — أو في الماضي — فلست أعرف على وجه التحقيق.»

فقال النفساني بعد هنيهة، وكأنما أُلهم شيئًا: «لا بد أن تكون قد ذهبت في الماضي، إذا كانت قد ذهبت إلى شيء.»

فسأله الرحالة في الزمن: «ولماذا؟»

فقال: «لأني أفترض أنها لم تذهب في الفضاء، فلو أنها ذهبت تطوف في المستقبل لبقيت هنا طول الوقت.»

فقلت: «ولكن إذا كانت قد ذهبت تجوب الماضي، فقد كانت خليقة أن تكون مرئية عندما دخلنا هذه الغرفة — ويوم الخميس الماضي لما كنا هنا — والخميس الذي قبله، وهكذا.»

فقال العمدة بلهجة المنصف الذي لا يتحيز: «اعتراضات وجيهة.» ونظر إلى الرحالة في الزمن.

فقال هذا: «كلا. (ونظر إلى النفساني) فكر، فإن في وسعك أن تشرح هذا، إنه عرض مركز.»

فقال النفساني، وهو يطمئننا: «صحيح، صحيح. هذه مسألة سهلة في علم النفس. وكان ينبغي أن أتذكرها ولا أغفل عنها، وهي واضحة كفيلة بتعليل التناقض على وجه مرضي. فنحن لا نستطيع أن نرى هذه الآلة، ولا أن ندرك وجودها، كما لا نستطيع أن نرى محور عجلة دائرة، أو رصاصة منطلقة في الهواء. وإذا كانت تجوب الزمن بسرعة أكبر من سرعتنا خمسين مرة أو مائة مرة، وإذا كانت تقطع الدقيقة على حين لا نقطع نحن سوى ثانية، فإن الوقع الذي تحدثه يكون بالبداهة معادلًا لواحد على خمسين، أو واحد على مائة من وقعها لو أنها لم تكن تجوب الزمن. وهذا واضح جدًّا.»

وأمر يده في حيث كانت الآلة، وقال وهو يضحك: «أترون؟»

فلبثنا هنيهة نحدق في المنضدة التي خلت مما كان عليها ثم سألنا الرحالة في الزمن رأينا.

فقال رجل الطب: «إن الأمر يبدو في ليلتنا هذه معقولًا جدًّا، ولكن انتظر إلى الغد، انتظر حتى يعود الرشد مع الصباح.»

فسألنا الرحالة في الزمن: «أتريدون أن تروا آلة الزمن نفسها؟»

وتناول المصباح وتقدمنا في الدهليز الطويل الكثير التيارات إلى معمله، وما زلت أذكر الضوء المضطرب، ورأسه العريض العجيب، والظلال الراقصة وكيف كنا نتبعه ونحن حائرون لا نكاد نصدق، وكيف رأينا في المعمل نسخة مكبرة من الآلة التي شهدنا بأعيننا اختفاءها. وكانت أجزاء منها من النيكل وأخرى من العاج، وغيرها مبرودًا أو مقطوعًا بالمنشار من البلورات الصخرية، وكانت الآلة على وشك التمام، ولكن القضبان البلورية الملتوية كانت ملقاة على مقعد، وإلى جانبها بعض الرسوم، فتناولت أحدها لأتأمله، فخيل إلي أنه من حجر الصوان.

وقال رجل الطب: «اسمع، هل أنت جاد؟ أم ترى هذه خدعة، كذلك الشبح الذي أريتنا إياه في عيد الميلاد؟»

وقال الرحالة في الزمن، وهو يرفع المصباح: «بهذه الآلة سأقوم برحلة في الزمن، فهل كلامي واضح؟ إني أتكلم جادًّا.»

فلم ندر كيف نتلقى قوله.

ولمحت فيلبي ينظر من فوق كتف الطبيب، فغمزني بعينه.

(٣) الرحالة في الزمن يعود

أظن أننا لم نكن في ذلك الوقت نؤمن بآلة الزمن، والواقع أن الرحالة في الزمن من هؤلاء الذين نجدهم أذكى وأبرع من أن تستطيع تصديقهم والاطمئنان إليهم، فإنك لا تشعر وأنت معه أنك تراه من كل الجهات، ولا تزال تحس أن هناك شيئًا مغيبًا عنك، أو متربصًا لك من وراء صراحته المشرقة، ولو أن فيلبي كان هو الذي أرانا الآلة وشرحها بألفاظ الرحالة في الزمن لكان شكنا أقل وترددنا أضأل، لأنه كان يسعنا أن ندرك بواعثه، فما يعجز أحد عن فهم فيلبي، ولكن الرحالة في الزمن رجل آخر، تمتزج بعناصر نفسه نزعات خفية، فنحن نتوجس من ناحيته، وما هو خليق أن يُكسب من هو دونه ذكاء، الشهرة وبعد الصيت، كان يبدو كالألاعيب في يديه. وأحسب أن من الخطأ أن يفعل المرء الشيء بمثل هذه السهولة المفرطة. وكان الجادون معه لا يستطيعون أن يعرفوا كيف يكون سلوكه، وكانوا يشعرون أنهم معه كالأوعية والأدوات المصنوعة من الصيني في غرف الأطفال، ومن أجل هذا لا أظن أن أحدًا منا أطال القول في هذا الطواف في الزمن في الفترة بين ذلك الخميس والخميس الذي تلاه. وإن كانت غرائب احتمالاته ظلت تدور ولا شك في النفوس، أعني إمكانه أو استحالته في الواقع وما إلى ذلك. وكنت مشغولًا بالنموذج وقد تناولته بالبحث مع رجل الطب لما قابلته يوم الجمعة في النادي فقال لي: إنه رأى ماي يشبهه في «توبنجن» وألفيته معنيًّا جدًّا بانطفاء الشمعة، ولكنه قال إنه لا يستطيع إيضاح الأمر.

وفي يوم الخميس التالي قصدت إلى رتشموند — وأحسب أني من الزوار المواظبين للرحالة في الزمن — فوجدت أربعة أو خمسة سبقوني إلى الاجتماع في غرفة الاستقبال، وكان رجل الطب واقفًا أمام الموقد وفي إحدى يديه رقعة وفي الأخرى ساعة. فتلفت باحثًا عن الرحالة في الزمن فقال رجل الطب: «إنها الساعة السابعة والنصف الآن، أفلا يحسن أن نتعشى؟»

فسألت: «وأين …؟» وسميت مضيفنا.

– «أو لم تحضر إلا الساعة؟ هذا غريب! لقد عاقه عن الحضور ما لا حيلة له فيه، وبعث إلي برقعة يرجو مني فيها أن أنوب عنه في العشاء معكم في الساعة السابعة إذا كان لم يحضر، وسيفضي إلينا بالباعث على تخلفه حين يجيء.»

فقال محرر جريدة يومية مشهورة: «إنه يكون من دواعي الأسف أن ندع العشاء يفسد.»

فدق الطبيب الجرس.

وكان النفساني هو الوحيد الذي شاركنا مع الطبيب في العشاء السابق، أما الجديدون فهم بلانك الصحفي الذي أسلفت الإشارة إليه، وصحفي آخر معه، وثالث، رجل حيي ذو لحية ،لا أعرفه ولا أذكر أنه فتح فمه على العشاء بكلمة واحدة. ودار الحديث على المائدة فيما عسى أن يكون الداعي إلى تخلف الرحالة في الزمن، فقلت لعله التجواب في الزمن، وكنت أقرب إلى المزح مني إلى الجد، فطلب مني المحرر أن أشرح له معنى هذا القول، فتولى عني النفساني البيان وقص ما شهدناه في الأسبوع الماضي، وإنه لفي هذا وإذا بالباب يفتح على مهل وبلا صوت، وكان وجهي إليه فرأيته قبل غيري وقلت: «هاللو! أخيرًا!» ودخل الرحالة في الزمن ووقف أمامنا، فندت عني صيحة استغراب، وقال رجل الطب: «يا للسماء! ماذا دهاك أيها الرجل؟» ودارت العيون كلها إلى ناحية الباب.

وكانت حالته مدهشة، فقد كانت ثيابه معفرة وقذرة وكماه ملوثين بمادة خضراء، وكان شعره منفوشًا وقد زاد فيه الشيب اشتعالًا على ما بدا لي — مما عليه من التراب أو لأن لونه حال — وكان وجهه أصفر، وفي ذقنه جرح — جرح يكاد يلتئم — وكانت معارفه واشية بالتعب والفتور كأنما كان يعاني برحًا ثقيلًا، وقد تردد لحظة وهو واقف بالباب كأنما أزاغ النور بصره، ثم دخل، وكان يظلع في مشيته كما يفعل الذين أحفاهم طول السعي، فأتأرناه النظر في صمت، منتظرين أن يتكلم.

ولكنه لم ينبس بحرف، بل مشى متحاملًا على نفسه إلى المائدة، وأشار إلى الشراب فملأ له المحرر قدحًا من الشمبانيا، فكرعه وبدا عليه الانتعاش، فقد أدار عينه في المائدة، وقد خفقت على محياه ابتسامته المعهودة، وسأله الطبيب: «ماذا كنت تصنع؟» ولكنه كان كأنه لا يسمع، وقال بصوت مضطرب: «لا تنزعجوا فإني بخير.» وأمسك، ومد يده بالقدح يطلب ملئه، وأفرغه في فمه وقال: «هذا حسن.» وازدادت عيناه التماعًا، وعاد إلى وجهه الدم، وكان لحظة يتنقل من وجه إلى وجه، وفيه معنى الرضى والموافقة، ثم جالت عينه في الغرفة الدافئة الوثيرة وقال وكأنه يتحسس طريقه: «سأغتسل وأغير ثيابي، ثم أنزل إليكم وأفضي إليكم بما عندي … أبقوا لي شيئًا من هذا اللحم، فإني أتضور من فرط اشتهائه.»

ونظر إلى المحرر — وكان زائرًا مغبًّا — وأعرب عن رجائه أن يكون مسرورًا، فهم المحرر بسؤال فكان الرد: «سأجيبك بعد لحظة، فإني — دائر الرأس — وسأكون بخير بعد برهة.»

ووضع القدح، ومضى إلى باب السلم؛ فلاحظت مرة أخرى أنه يظلع، وأن وقع قدميه خافت فوقفت أنظر وأنا في مكاني، فأخذت عيني قدميه وهو يخرج، فإذا هما حافيتان ليس عليهما إلا جوربان ممزقان ملوثان بالدم، وأغلق الباب وراءه، وحدثتني نفسي أن أتبعه، ولكني تذكرت أنه يمقت اللغط والضجات، وشرد ذهني لحظة، ثم سمعت المحرر يقول: «سلوك غريب من عالم شهير.» — كأنما يكتب عنوانًا لخبر. فردني هذا إلى المائدة البهيجة.

وقال الصحفي: «ما هي الحكاية؟ إني لست فاهمًا.»

والتقت عيني بعين النفساني، فقرأت في وجهه التفسير الذي خطر لي، ورحت أفكر في الرحالة في الزمن وهو يصعد الدرجات متكئًا على نفسه. وما أظن أن أحدًا غيري لاحظ عرجه.

وقد كان الطبيب أول من ثابت إليه نفسه؛ فدق الجرس — فقد كان الرحالة في الزمن يكره أن يقف الخدم وراء المائدة — وطلب طبقًا، فعاد المحرر إلى الشوكة والسكين وهو يزوم، وفعل مثله الرجل الصموت. وعدنا إلى الطعام، وكان الحديث عبارة عن جمل متقطعة تتخللها فترات استغراب، ثم لم يطق المحرر أن يظل يكتم ما يخامره فقلت له: «إني واثق أن ما به راجع إلى هذه الآلة.» وتناولت رواية النفساني ووصفه لما شهدناه من حيث قطعه وكان الجديدون من الضيوف صرحاء في رفض التصديق. وجعل المحرر يثير الاعتراضات ويتساءل: «ما هو هذا التطويف في الزمان؟ إن الإنسان لا يستطيع أن يعفر نفسه بالتراب بأن يتمرغ في بعض النقائض؟»

ولما أحاط بالموضوع تناوله بالتهكم وسأل: «أليس عند الناس في المستقبل فرشاة لنفض التراب عن الثياب؟»

وكان الصحفي كذلك يأبى أن يصدق، فانضم إلى المحرر وعاونه على ركوب الأمر بالسخرية. وكان كلاهما من الطراز الحديث في الصحافة، أي شابًّا مرحًا لا يوقر شيئًا، وأنشأ الصحفي يقول: «يروي مكاتبنا الخاص فيما بعد غد …» وإذا بالرحالة في الزمن يدخل علينا في ثياب السهرة العادية، ولا شيء يشي بما طرأ عليه من التغير الذي أزعجني سوى نظرته الفاترة.

وصاح به المحرر: «لقد كان هؤلاء الفتيان يقولون إنك كنت تجوب منتصف الأسبوع المقبل! فهات لنا القصة. وعين الثمن الذي تتقاضاه لقاء ذلك.»

فتقدم الرحالة في الزمن إلى المقعد المحفوظ له بلا كلام، وابتسم ابتسامته الهادئة وقال: «أين اللحم؟ يا لها من نعمة، أن يغرز المرء شوكته في اللحم مرة أخرى.»

فصاح المحرر: «القصة!»

فقال الرحالة في الزمن: «لعنة الله على القصة! إني أريد شيئًا آكله. ولن أنطق بكلمة واحدة حتى أنعش الدم في شراييني. شكرًا، والملح من فضلك.»

فقلت: «سؤال واحد. هل كنت تجوب الزمان؟»

فقال: «نعم.» وهز رأسه وفمه محشو.

وقال المحرر: «إني مستعد أن أنقده شلنًا على كل كلمة.»

ودفع الرحالة قدحه إلى الرجل الصامت ونقر عليه بأظافره، وكان الرجل الصامت يحدق في وجهه فانتبه، وصب له الشراب الذي يبغيه. ولبثنا قلقين إلى آخر العشاء، وكانت شفتاي تضطربان، بما أهم بالسؤال عنه، وأحسب أن غيري كان شأنه كشأني. وحاول الصحفي أن يخفف وطأة الحال بحكايات يقصها عن «هيتي بوتر» وكان الرحالة في الزمن عاكفًا على الطعام يلتهمه التهام من طال حرمانه. وأشعل الطبيب سيجارة، وذهب يدخن ويراقب الرحالة في الزمن، وبدا الرجل الصامت أشد اضطرابًا مما يكون عادة، فأقبل على الشمبانيا يكرع منها بانتظام وإلحاح من فرط ما به من الاضطراب العصبي، وأخيرًا دفع الرحالة في الزمن طبقه وأقصاه عنه، وهو يتلفت ويقول: «أحسب أن عليّ أن أعتذر. ولكن الحقيقة أني كنت أتضور جوعًا. وقد قضيت فترة مدهشة العجائب.» وتناول سيجارًا وقطع طرفه، وقال: «تعالوا إلى غرفة التدخين، فإنها حكاية طويلة، والأطباق كلها شحم.» ودق الجرس وهو يتقدمنا إلى الغرفة المجاورة.

وسألني وهو يضطجع في كرسيه: «هل خبرت بانك، وداش، وتشوز، خبر الآلة؟» وأشار إلى الضيوف الحديثين.

فقال المحرر: «ولكن المسألة كلها نقائض.»

فقال: «لا أستطيع أن أجادل الليلة، ولا بأس بالحكاية، أما الجدل فلا. وسأقص عليكم ما حدث لي — إذا شئتم — ولكن عليكم ألا تقاطعوني وإن بي لحاجة إلى الإفضاء بها … حاجة ملحة، وستبدو لكم كأنها أكذوبة من تلفيق الخيال، فليكن! ولكنه صحيحة. كل حرف منها، وقد كنت في معملي في الساعة الرابعة، وقد عشت منذ تلك الساعة، ثمانية أيام … أيام لم يعشها إنسان آخر قبلي … وإني لمهدود القوة، ولكن النوم لن يسعفني حتى أقص عليكم قصتي، وبعد ذلك أنام. ولكن لا تقاطعوا، فهل هذا عهد؟»

فقال المحرر: «موافق.»

ورددنا جميعًا كلمة الموافقة.

وشرع الرحالة في الزمن يقص ما كان من أمره، كما أثبته هنا فيما يلي.

وكان في أول الأمر مضطجعًا في كرسيه، يتكلم بفتور، ولكنه انتعش شيئًا فشيئًا، وإني إذ أنقل ما سمعته لأدرك قلة غناء القلم والمداد، وضعف حيلتي في نقل صفة الكلام إلى القارئ. وما أظن بك إلا أنك تقرأ بعناية، ولكنك لا تستطيع أن ترى المتكلم ووجهه المخلص الباهت اللون، على ضوء المصباح المتألق، ولا أن تسمع نبرات صوته، ولا أن ترى أن تغيير وجهه يختلف تبعًا لإحساسه بما يرويه. وكان أكثرنا يجلسون في ظلام، فما أضيئت الشموع في غرفة التدخين. ولم يكن النور يبدي منا غير محيا الصحفي، وساقي الرجل الصامت. وكان بعضنا في أول الأمر يتلفت إلى بعض، ثم كففنا عن ذلك، وصارت عيوننا لا تتحول عن وجه الرحالة في الزمن.

(٤) التطواف في الزمن

بينت لبعضكم يوم الخميس الماضي المبادئ التي تقوم عليها آلة الزمان، وأريتكم الآلة أيضًا، وكانت ناقصة لم تتم، وهي هناك الآن، وقد نال منها الطواف … حقيقة … وقد انكسر قضيب من العاج فيها، وانثنى آخر من النحاس، ولكن بقيتها سالمة. وكنت أتوقع أن أتم صنعها يوم الجمعة، ولكني يوم الجمعة بعد أن كدت أفرغ من تركيبها وجدت أن قضيبًا من النيكل أقصر مما ينبغي بمقدار بوصة، فاحتجت أن أصنعه من جديد. فلم أفرغ من العمل إلا هذا الصباح. وفي الساعة العاشرة من يومنا هذا بدأت أول آلة للزمان حياتها وسيرتها، وقد أدرت فيها عيني، واختبرتها آخر اختبار، وامتحنت كل ما فيها من الروابط، وصببت قطرات من الزيت على القضيب المصنوع من «الكوارتز» واتخذت مقعدي على السرج. وأحسب أن المنتحر الذي يتناول المسدس، ويسدده إلى رأسه، يشعر بمثل ما شعرت به، وأمسكت بالرافعة بإحدى يدي، وبالأخرى المجعولة لوقفها بيدي الأخرى، وضغطت الأولى، ثم الثانية بعد ذلك مباشرة، وخيل إليّ أني أترنح، وشعرت كأني سأسقط، وتلفت فألفيت المعمل على حاله — كما كان بلا فرق — فهل ترى حدث شيء؟ وخفت — لحظة — أن يكون عقلي خدعني، ثم نظرت إلى الساعة، وكانت قبل برهة لم تجاوز العاشرة إلا بمقدار دقيقة أو نحوها. فإذا بها الآن منتصف الرابعة!

فملأت صدري بالهواء، وقرضت أسناني، وتناولت الرافعة بكلتا يدي ومضيت، فأخذ المعمل يبدو لي أقل وضوحًا ثم أظلم. ودخلت السيدة «واتشيت» وقطعت الغرفة كأنها لا تراني، ومضت إلى باب الحديقة. وأحسب أنها اجتازت الغرفة في نحو دقيقة، ولكنها كانت تبدو لي مارقة كالسهم أو الشهاب، وضغطت الرافعة إلى أقصى حد، فدخل الليل، كما تطفئ مصباحًا، وبعد لحظة أخرى، جاء الغد، وغاب عني المعمل شيئًا فشيئًا، وجاء المساء أسود حالكًا، ثم الصباح فالليل مرة أخرى، فالنهار كرة ثانية، وكان في مسمعي كصوت تلاطم الأمواج، وغشي عقلي الارتباك والبلادة.

وليس في وسعي أن أصور لكم الإحساس الخاص الذي يحدثه الطواف في الزمان، فإنه أثقل ما عانيت، والمرء يشعر بأنه مقذوف به ولا حيلة له. وخامرني الإحساس أيضًا بوشك التحطم، وكنت وأنا أجتاز الزمان وأزيد السرعة، أرى الليل يعقب النهار كما يخفق الجناح الأسود. وغاب عن عيني شبح المعمل الغامض، ورأيت الشمس تبدو وتختفي في السماء بسرعة، وكلما بدت مقدار دقيقة كان يوم. وكبر في ظني أن المعمل تقوض وأني خرجت إلى الهواء الطلق. وخيل إليّ أني أرى شيئًا كأنه الشعف على الجدران، ولكني كنت أمرق بسرعة فلم أكن أحس بالأشياء المتحركة، وكانت أبطأ القواقع خطوًا تخطف بسرعة فلا أكاد أراها. وكانت عيني يؤذيها اختلاف الليل والنهار بمثل سرعة البرق. وفي الظلام المتقطع رأيت القمر ينتقل في أوجز وقت من هلال إلى بدر كامل، ولمحت قبة السماء المزدانة بالنجوم، وظللت أمضي، وسرعتي تزداد، فاختلط بياض النهار بسواد الليل، وصارت زرقة السماء عميقة، وضاءة اللون، كالشفق، وغدت الشمس كأنها لسان من اللهب، أو قوس متقد في الفضاء والقمر كالحزام المضطرب، ولم أعد أرى النجوم، ولكنها من حين إلى حين كانت تبدو لي كدائرة خفاقة اللمعان في زرقة السماء.

وأصبح المنظر غامضًا غائمًا، وكنت لا أزال على ذلك الجانب من التل الذي يقوم عليه هذا البيت، فصار يرتفع ويغمض، ورأيت الأشجار تنمو وتتغير كأنها نفخة دخان، وتكون سمراء فتغدو خضراء، وكانت تنمو، وتكبر، وتهتز، وتزول، ورأيت مباني ضخمة تعلو وتمر كالحلم، وتغير وجه الأرض كلها فيما بدا لي، وصار ذائبًا يسيل ويتحدر تحت عيني. وكانت العقارب التي تسجل سرعتي تزداد سرعة دوران، فما لبثت أن رأيت نطاق الشمس يعلو ويهبط من وجه إلى وجه في دقيقة أو أقل، فعلمت أني صرت أقطع العام في دقيقة، فكان الثلج الأبيض يومض، دقيقة بعد دقيقة، على الدنيا، ويختفي، وتعقبه خضرة الربيع النضيرة القصيرة.

وصارت الإحساسات التي كابدتها في البداية أخف وطأة، وتحولت إلى نشوة عصبية، وقد لاحظت أن الآلة تضطرب وأن حركتها ليست بالسلسة لسبب لا أعرفه، وكان اضطراب عقلي أشد من أن يسمح لي بالعناية بذلك، واستغرقني نوع من الجنون فقذفت بنفسي في المستقبل، ولم يخطر لي في أول الأمر أن أقف أو أتريث، أو أن أجعل بالي إلى غير ما أحس، ولكني ما لبثت أن شعرت بضرب جديد من الخوالج — بمقدار من التعجب والتطلع، وبشيء من الخوف — ما عتمت أن استولت على نفسي أتم استيلاء، فقد تتكشف لي مظاهر تطور غريبة في حياة الإنسان، وتقدم مدهش في مدينتنا البدائية، إذا أنا أتيح لي أن أتدبر هذا العالم الغامض المتفلت الذي يعدو ويضطرب أمام عيني. ورأيت بُنى عظيمة رائعة ترتفع حولي، وهي أضخم من كل ما رفعناه وأعليناه في زماننا، ولكنها كانت تبدو مبنية من الضباب والضوء الخفاق. ورأيت الخضرة السائلة على جانب التل، أزهى وأنضر، وأبقى أيضًا فلا أثر للشتاء فيها. وحتى على الرغم من الحجاب الذي أسدله الاضطراب على عقلي بدت الأرض أجمل وأنقى، فشرعت أفكر في الوقوف.

وكان أكبر ما أخاف أن أجد مادة ما في الفضاء الذي أنا — أو الآلة — فيه، ولم يكن لهذا قيمة، وأنا أجتاز الزمن بسرعة كبيرة، فقد كنت كأني تضاءلت حتى لم أعد شيئًا، أو كنت كالبخار الذي ينفذ مما بين المواد المعترضة، ولكن الوقوف يجرّ إلي ضغطي ودفعي ذرة فذرة فيما عسى أن يكون في طريقي، وإلى جعل ذراتي من شدة الاتصال بذرات العقبة المعترضة، بحيث يفضي ذلك إلى إحداث تفاعل كيميائي عميق — أو عسى أن يؤدي إلى انفجار — فأتطاير أنا والآلة خارجًا من كل الأبعاد الممكنة إلى المجهول. وكان هذا الاحتمال قد خطر لي مرات وأنا أصنع الآلة، فأخلدت إليه على أنه أحد الأخطار التي لا بد من المجازفة بالاستهداف لها، أما الآن فقد صار الخطر لا مفر منه، فلم أواجهه بذلك الابتسام وتلك البشاشة كما كنت أفعل. والواقع أن غرابة ما أنا فيه، وتطرح الآلة، وطول الإحساس بأني أهوي؛ كل أولئك قد أتلف أعصابي، فحدثت نفسي أني لن أستطيع الوقوف، ونفد صبري على هذا، ووهى جلدي، فعزمت على الوقوف من توي. وتسرعت لسخافتي فجذبت الرافعة، فانقلبت الآلة، وقُذف بي في الهواء.

وصار في مسمعي مثل تهزّم الرعد وعسى أن أكون قد فقدت وعيي لحظة، وكان الثلج يسقط حولي، وألفيتني جالسًا على العشب الناعم أمام الآلة المقلوبة، وكان كل شيء فيما يبدو مغبرًا، ولكني تنبهت فأدركت أن صوت الرعد الذي كان في أذني قد زال؛ فأجلت عيني فيما حولي فوجدت أني فيما يشبه ممرًّا في حديقة تحيط بها شجيرات، ولاحظت أن نوارها يسقط به الثلج وكان ما يسقط منه يشبه السحابة الرقيقة على الآلة، وتطلقه الريح على الأرض كالدخان، وأحسست بالبلل ينفذ إلى بدني؛ فقلت: «يا له من إكرام لوفادة رجل اجتاز ما لا عداد له من السنين ليراك!»

وخطر لي أن من البلاهة أن أبتل، فنهضت وتلفتُّ، فرأيت شخصًا عظيمًا كأنه منحوت من حجر أبيض يبدو من وراء الشجيرات والثلج المتساقط، وفيما عدا ذلك لم تأخذ عيني شيئًا من الدنيا.

ومن العسير وصف ما خالج نفسي. وقد صار هذا الشخص أوضح لما رق الثلج المتساقط، وكان عظيمًا جدًّا فقد كانت هناك شجرة عالية لا تبلغ إلا كتفه. وكان مصنوعًا من الرخام الأبيض، وعلى صورة أبي الهول بجناحين، ولكن الجناحين كانا منشورين فله هيئة الطير إذ يخفق. وكانت القاعدة على ما بدا لي من البرونز والصدأ عليه كثير، واتفق أن كان وجه التمثال إليّ، فخيل إليّ أن عينيه تراقباني، وكان على فمه طيف ابتسامة، وكانت الرياح قد عصفت به، فلمنظره في النفس وقع المرض؛ فوقفت أنظر إليه هنيهة — نصف دقيقة أو نصف ساعة — فكان يخيل إلي أنه يتقدم نحوي ويرتد عني كلما رق الثلج أو كثف. وأخيرًا حولت عنه لحظي فرأيت ستار الثلج يرق ويشف، ورأيت السماء تضيء مؤذنة بظهور الشمس.

فرجعت بصري إلى التمثال الأبيض الرابض؛ فأدركت مبلغ ما في رحلتي هذه من الجرأة والمجازفة. وماذا عسى أن يظهر متى ارتفع هذا الستر؟ وماذا ترى أصاب الناس؟ كيف يكون الحال إذا كانت القسوة قد صارت نزعة عامة أو إذا كان الجنس الآدمي قد فقد في هذه الفترة التي اجتزتها، رجوليته، ونزع صفته الإنسانية وخسر روح العطف وأفاد القوة الماحقة؟ ألا أبدو له حيوانًا مستوحشًا من العالم القديم يضاعف التقزز منه هذا الشبه الباقي؛ مخلوقًا قذرًا يستحق أن يذبح بلا رحمة؟

ورأيت مناظر أخرى عظيمة؛ بُنى ضخمة ذات أسوار ملتوية، وعمد سامقة وأخذت عيني شيئًا فشيئًا، مع سكون العاصفة سفح الجبل المكسو بالشجر، فاستولى عليّ الرعب، وأهويت على آلة الزمان أحاول أن أصلحها، فخلصت إلي في هذه اللحظة أشعة الشمس من خلال العاصفة المجلجلة، وانقطع ما كان يسح من السحاب وزال كما تزول ذلاذل (أسافل) أثواب الأشباح، وكانت تغشى زرقة السماء قطع من السحاب الرقيق لم تلبث أن اختفت، ووضحت المباني العظيمة لعيني وبرزت معالمها، ولمع ما بللها من المطر، وكساها ما لم يذب من البرد حلة بيضاء، فأحسست كأني عريان في عالم أجنبي، وشعرت بما أحسب الطائر يشعر به وهو يطير في الهواء ويعلم أن الصقر يخفق فوقه ويوشك أن ينقض عليه. وصار خوفي ذعرًا، فملأت رئتي هواءً، وقرضت أسناني، وأكببت على الآلة أعالجها بعنف فلانت لعزمي واعتدلت، وأصابت ذقني بقوة، ووقفت وأنا ألهث، وإحدى يدي على السرج والأخرى على الرافعة استعدادًا للركوب مرة أخرى.

وتشجعت لما وثقت من إمكان العود بلا تلكؤ، وزادت رغبتي في الاستطلاع وقل خوفي من هذا العالم الذي يعيش في المستقبل السحيق، ووقعت عيني في نافذة مستديرة في إحدى البيوت القريبة على لفيف من الناس في ثياب رقيقة ثمينة، ورأوني كما رأيتهم، فصارت عيونهم عليّ.

وسمعت أصواتًا تدنو مني، ورأيت رءوس رجال وأكتافهم، وهم يعدون مقبلين من بين الأشجار، مارين بأبي الهول الأبيض، وبرز أحدهم في الطريق المؤدي إلى حيث كنت واقفًا إلى جانب الآلة. وكان مستدق الجسم — حوالي أربع أقدام — وفي ثياب قرمزية، وعلى وسطه حزام من جلد، وفي قدميه صندلة وساقاه عاريتان إلى الركبتين. وتنبهت وأنا أنظر إليه إلى أن الجو دافئ.

ووقع في نفسي أنه على حظ كبير من الجمال والرشاقة، ولكنه ضعيف جدًّا وأذكرني وجهه المضطرم بحمرة الخد في المسلول. وثابت إليّ ثقتي بنفسي لما رأيته فرفعت يدي عن الآلة.

(٥) في العصر الذهبي

وما لبثت أن صرت وجهًا لوجه — أنا وذلك الإنسان الضعيف الخارج إليّ من المستقبل، وقد تقدم مني، وتبسم لي في عيني — ولم يسعني إلا أن ألاحظ أنه لا أثر للخوف في حركاته. ثم التفت إلى اثنين آخرين كانا يتبعانه وكلمهما بلغة غريبة فيها عذوبة ولين.

وكان هناك آخرون مقبلين، فصار حولي من هذه المخلوقات الجميلة ثمانية أو عشرة. وخاطبني أحدهم، فكان من الغريب أنه دار في نفسي أن صوتي أخشن وأعمق من أن يخف عليهم، فهززت رأسي، ثم هززته مرة أخرى وأنا أشير إلى أذني. فتقدم مني خطوة، وتردد قليلًا، ثم لمس يدي، وتابعه الآخرون فجعلوا يلمسون ظهري وكتفي كأنما أرادوا أن يستوثقوا من أني شخص حقيقي، ولم يكن في هذا ما يزعج أو يفزع، بل لقد كان هؤلاء الآدميون الصغار يعمرون الصدر بالثقة فقد كانت فيهم رقة، ورشاقة، وبساطة كبساطة الأطفال، وكان ما يبدو من ضعفهم يخيل إليّ أن في وسعي أن أعصف بجميعهم بلا عناء، ولكني اضطررت أن أحذرهم بإيماءة حين رأيت أيديهم الدقيقة تلمس الآلة وتتحسسها. وألهمت، قبل فوات الأوان، أن أتقي خطرًا لم أعن به من قبل، ففككت الرافعتين اللتين هما مبعث الحركة، ووضعتهما في جيبي ثم واجهتهم وأنا أفكر في وسيلة للتفاهم.

وتوضحت وجوههم وتأملت معارفها، فظهرت لي خصائص أخرى؛ ذلك أن شعرهم الجعد ينتهي عند خدودهم وأعناقهم لا أثر له على وجوههم. أما آذانهم فدقيقة جدًّا، وأما أفواههم فصغيرة وشفاهها رقيقة حمراء، وأذقانهم مخروطة الشكل، وعيونهم واسعة لينة النظرة، وقد يكون هذا أنانية مني، ولكنه خيل إليّ أنهم لم يبدوا من الاكتراث ما كنت أتوقع.

ولما رأيتهم لا يبذلون جهدًا لمخاطبتي، ولا يزيدون على الابتسام والتناجي فيما بينهم بأصواتهم الرقيقة، وهم وقوف حولي، بدأت الحديث؛ فأشرت إلى آلة الزمان وإلى نفسي، ولم أدر كيف أعبر لهم عن الزمن فأومأت إلى الشمس فرأيت أحدهم — وهو دقيق الخلق جميله، وعليه ثياب قرمزية مخططة وفيها بياض — يتبع إيماءتي وأدهشني منه أنه حكى صوت الرعد.

فدار رأسي لحظة، وإن كان معنى حركته واضحًا، وخطر لي فجأة أن لعلهم بله. وعسير عليكم أن تدركوا ما خامرني من الخوالج. ذلك أني كنت دائمًا أتوقع أن يكون الناس في المقبل من الأجيال أعلم منا وأفهم، وأرقى في كل باب، وإذا بواحد منهم يفاجئني بسؤال طفل من أبنائنا في الخامسة من عمره؛ فقد كان سؤاله أتراني جئت من الشمس على جناح عاصفة؟ … وكنت أصد نفسي عن الحكم عليهم، فأطلقت لها أن تحكم بما تشاء على ثيابهم وعلى أجسامهم الدقيقة الضعيفة، ووجوههم الرقيقة. وأحسست بخيبة الأمل، وخطر لي أني ركبت هذه الآلة عبثًا.

وهززت رأسي أن نعم، وأشرت إلى الشمس، وحكيت لهم صوت الرعد بقوة أفزعتهم، فتراجعوا جميعًا مقدار خطوة وانحنوا … ثم أقبل عليّ واحد يضحك، ومعه قلادة من زهر لا أعرفه وزين بها جيدي، فصفقوا له وذهبوا يعدون في طلب الزهور وارتدوا بها وجعلوا يلقونها علي حتى كدت أختنق. وأنتم لم تروا مشبهًا لهذا؛ فليس في وسعكم أن تتصوروا هذه الزهور العجيبة الرقيقة الغلائل التي أخرجتها العناية بتربيتها سنوات لا يأخذها عد. ثم اقترح أحدهم أن يعرضوا هذه اللعبة — أعني أن يعرضوني — في أقرب منزل، فمضوا بي، ومررنا بأبي الهول الأبيض الذي كان كأنه يراقبني طول الوقت وهو يبتسم لتعجبي، إلى بناء أشهب كبير من الحجر المنقوش. وعادت إليّ، وأنا أسير معهم، ذكرى ما كنت أحلم به، وأنا مطمئن واثق، من أن أبناء الأجيال الآتية سيكونون أعمق منا وأقوى عقولًا وأعظم رزانة.

وكان للبناء مدخل كبير، وهو عظيم في كل شيء، وكان همي الأكبر بطبيعة الحال هذا الجمع المتزايد الذي يحتشد حولي، وهذه البوابات الضخمة المفتوحة التي تتثاءت أمامي وهي غامضة محفوفة بالأسرار. وكان الواقع العام في نفسي من هذا العالم الذي أنظر إليه من فوق رءوس القوم أنه رقعة فسيحة من الرياض والأزهار الجميلة، طال إهمالها ولكنها مع هذا خلت من الحسك.

ورأيت أعوادًا طويلة من زهر أبيض غريب يبلغ طولها نحو قدم، وهي منتثرة كالنبات البري بين الشجيرات، ولكني كما أسلفت، لم أفحصها في ذلك الوقت، وكنت قد تركت آلة الزمان على الحشيش بين الشجيرات.

وكان عقد الباب جميل النقش دقيقه، ولكني لم أدقق في تأمل النقوش وإن كان قد خيل إليّ وأنا أجتازه أن فيه من الفن الفينيقي مشابهًا، وقد بدا لي أن النقوش قد لوحها الجو وأصابها تلف عظيم. ولقيني في الباب كثيرون آخرون من هؤلاء الذين يلبسون الثياب الزاهية. وهكذا دخلنا؛ أنا في ثياب قاتمة من مألوف القرن التاسع عشر، وعليّ طوائف شتى من عقود الزهر، وحولي بحر مائج من الأردية اللامعة، والوجوه البيض المشرقة والضحكات الموسيقية والأصوات العذبة.

وأفضى بنا الباب الكبير إلى ردهة فسيحة وكان السقف مظلمًا، والنوافذ — وجانب منها زجاجه ملون، وجانب لا زجاج فيه — يدخل منها ضوء خافت، والأرض مرصوفة بكتل من معدن أبيض متين — لا بألواح أو بلاط منه، بل بكتل، وكانت قد بلغ من تلفها بكثرة المشي عليها في الأجيال الماضية، أن صارت فيها أخاديد عميقة في المواضع التي طال عليها دب الأرجل. وفي الردهة عدد لا يحصى من المناضد المصنوعة من الحجر المصقول، وهي ترتفع عن الأرض مقدار قدم، وعليها أكوام من الثمار والفواكه، وقد عرفت أن بعضها برتقال وعناب ولكن أكثرها لا عهد لي به.

وكانت الوسائد والمنابذ مطروحة بين المناضد، وعلى هذه جلس القوم وأومئوا إليّ أن أجلس، وشرعوا يأكلون الثمار بأيديهم بلا كلفة، ويلقون بالقشر والأعواد وما إليها في فتحات مستديرة على جوانب المناضد، فقلدتهم، فقد كنت جوعان وظمآن. واستطعت وأنا آكل أن أدير عيني في الحجرة على مهل.

ولعل أقوى ما وقع في نفسي منها منظر البلى والتداعي، فقد كان زجاج النوافذ الملوث محطمًا في مواضع كثيرة، والأستار مثقلة بالتراب، ولاحظت أن زاوية المنضدة التي أمامي مكسورة. ولكنه كان هناك على الرغم من ذلك جمال وبهاء. وكان في البهو حوالي مائتين يأكلون، وكان أكثرهم يراقبونني وهم جالسون بقربي، وعيونهم الصغيرة تومض من فوق الفاكهة التي يقضمون، وكانت ثيابهم جميعًا من ذلك الحرير الرقيق المتين.

وعلى ذكر ذلك أقول إن الفاكهة كل طعامهم، فقد كان أبناء هذا المستقبل البعيد نباتيين، وقد اضطررت أن أكون فاكهيًا مثلهم وأنا بينهم على الرغم من اشتهائي اللحم. وقد عرفت بعد ذلك أن الخيل والأبقار والأغنام والكلاب قد اندثرت. وكانت الفاكهة شهية. وأخص منها بالذكر ثمرة لم أخطئها طول مدة إقامتي هناك، كنت أوثرها على سواها. وقد حيرتني في أول الأمر هذه الفواكه الغريبة، والأزهار العجيبة التي رأيتها، ولكني تبينت بعد ذلك خصائصها ومزاياها.

على أني أحدثكم الآن عن طعامي في المستقبل!

ولما اكتفيت، عزمت أن أتعلم لغة القوم، وكان من الواضح أن هذا أول ما يجب عليّ فعله، فبدا لي أن الفواكه تصلح أن تكون بها البداية، فرفعت بيدي واحدة منها وشرعت أستفسر بالأصوات والإشارات، ولقيت عناءً شديدًا في إفهامهم مرادي، وكانوا في بادئ الأمر ينظرون إليّ مستغربين أو مغرقين في الضحك، ولكن واحدًا منهم جميل الشعر فَهِمَ ونَطَقَ باسم، وصاروا يلغطون فيما بينهم، وكانت محاولاتي الأولى لحكاية أصواتهم تدخل على نفوسهم سرورًا صريحًا وإن خلا من الرعاية لي. على أني كنت أشعر بما يشعر به المدرس بين الأطفال، فواظبت، ودأبت، فما لبثت أن حفظت عنهم نحو عشرين اسمًا، فانتقلت من الأسماء إلى الضمائر وأسماء الإشارة، وعرفت الفعل «أكل» ولكن التقدم كان بطيئًا، ومل هؤلاء الصغار وبدت عليهم الرغبة في الخلاص من أسئلتي، فلم يسعني إلا أن أدعهم يعلمونني قليلًا، قليلًا، كلما آنسوا من أنفسهم ميلًا إلى ذلك. وتالله ما أقل ما رغبوا في تعليمي، فما رأيت قط أشد منهم كسلًا، أو أسرع إلى التعب.

(٦) مغرب الإنسانية

تبينت أمرًا غريبًا في مضيفيّ، وذاك قلة اهتمامهم وضآلة حظهم من الفضول، فقد كانوا يقبلون عليّ صائحين من الدهشة كالأطفال ولكنهم، كالأطفال، لا يلبثون أن يكفوا عن تأملي وفحصي، وينصرفوا عني التماسًا للعبة أخرى غيري، ولما فرغنا من الطعام، وأقصرت عما حاولته من خطابهم لاحظت أن أكثر الذين أحاطوا بي في بداية الأمر قد انصرفوا، ومن الغريب أيضًا أني أنا انتهيت إلى إغفال هؤلاء الصغار، فخرجت إلى العالم المشمس بعد أن أصبت شبعي، وكنت لا أفتأ ألتقي بآخرين من هؤلاء أبناء المستقبل فيتبعونني مسافة، ويلغطون، ويتضاحكون حولي، فأبتسم لهم، وألوح بيدي وأدعهم وأمضي في طريقي إلى ما أنشد.

وكان الجو ساجيًا سجوّ المساء لما خرجت من القاعة الكبيرة، والشمس الغاربة تنشر الضوء والدفء. وكانت الأشياء في أول الأمر تحيرني، فقد كان كل شيء مختلفًا عما عهدت — في عالمي — حتى الزهر. وكان البناء الكبير الذي بارحته قائمًا على منحدر واد عريض يجري فيه نهر، ولكني أظن «التيمز» قد غير مجراه الحالي ونقله مسافة ميل، فاعتزمت أن أصعد إلى قمة مرتفع على بعد ميل ونصف ميل ليتسع أفق النظر إلى هذا الكوكب في سنة ٨٠٢٧٠١ بعد الميلاد، وقد فاتني أن أذكر أن هذا هو التاريخ الذي سجلته آلتي.

وكنت وأنا أمشي، أتلمس كل ما عسى أن يعلل لي حالة البهاء الذاوي الذي أراه، فقد كانت حالة خراب وذوي، ومن آيات ذلك أني وجدت في بعض الطريق الذي أتوقله كومًا عظيمًا من الصفوان مشدودًا بعضه إلى بعض بكتل من الألومنيوم، وتيهًا عظيمًا من الجدران المائلة والأنقاض، وكان واضحًا أن هذه بقايا بناء ضخم لا أعرف لماذا أقيم. وهنا قُسمت لي — فيما بعد — تجربة غريبة أدت بي إلى اكتشاف أغرب، ولكني أرجئ الكلام في هذا حتى يجيء موضعه.

وتلفت حولي، وأنا أستريح هنيهة في شرفة، وقد خطر لي خاطر، فتبينت أنه ليس هناك مساكن صغيرة، فالظاهر أن البيت الصغير المفرد قد اندثر، وعسى أن يكون حُلّاله أيضًا قد لحقوا به، وكنت أرى هنا وها هنا مباني كالقصور ولكن البيت والكوخ — وهما من مألوف المناظر في إنجلترا — اختفيا.

وحدثت نفسي أنها «الشيوعية.»

ودار في نفسي في أعقاب هذا خاطر آخر، فنظرت إلى الستة الصغار الذين تبعوني. فألفيتهم جميعًا يلبسون ثيابًا واحدة، ورأيت أن وجوههم رقيقة لا شعر فيها، وأن أعضاءهم أشبه بأجسام البنات وتكوينهن، وقد يكون مستغربًا أني لم أتنبه لهذا من قبل، ولكن كل شيء كان عجيبًا. أما الآن فقد وضحت لي هذه الحقيقة، ففي الثياب، وفي كل ما يتميز به الآن الجنسان، كان هؤلاء أبناء المستقبل سواء. حتى الأطفال خيل إليّ أنهم صورة مصغرة من آبائهم، وخطر لي أن أطفال ذلك الزمان أنضج من أسنانهم — إذا اعتبرنا أبدانهم على الأقل — وقد وجدت فيما بعد تعزيزًا كثيرًا لرأيي.

وشعرت وأنا أتأمل سهولة العيش والاطمئنان، أن هذا التشابه الشديد بين الجنسين هو المنتظر. ذلك أن قوة الرجل ورقة المرأة ولينها، ونظام الأسرة واختلاف الأعمال والوظائف؛ كل أولئك من الضرورات في عصر القوة المادية أو البدنية، وفي حيثما يكون الناس، كثرًا ومتوازنين، يكون الإسراف في التناسل شرًّا لا خيرًا للدولة، وفي حيثما يندر العنف ويحيا النسل آمنًا، تقل الحاجة — بل تزول — إلى الأسرة القادرة على الاضطلاع بأعبائها، ويمحى الباعث على اختصاص كل من الجنسين بعمل في سبيل الأطفال. ونحن نرى في زماننا بوادر التحول الذي تم في هذا المستقبل، وأحب أن أذكركم أن هذا هو ما جال بخاطري في ذلك الوقت، وقد وجدت بعد ذلك أنه بعيد من الواقع.

وبينما كنت أفكر في هذه الأمور لفت نظري مبنى جميل صغير يشبه بئرًا تحت قبة، فاستغربت أن الآبار لا يزال لها وجود، ثم عدت إلى ما كنت أفكر فيه، وتناولت الخيوط من حيث ألقيتها، ولم تكن ثم مبان كبيرة قرب القمة، ولما كان من الواضح أن قدرتي على الصعود والتوقل خارقة للعادة، فقد تخلف عني الذين كانوا يتبعونني فصرت وحدي للمرة الأولى، فثابرت على الارتقاء في هذا الجبل، وقد شعرت بالرضى عن مغامرتي وأفادتني الحرية سرورًا، وهناك وجدت مقعدًا من معدن أصفر لم أعرفه، وكان قد تآكل في مواضع وعلاه نوع من الصدأ القرمزي وكاد يغطيه العشب، وكانت ذراعاه مصنوعتين على صورة شبيهة برأس الجريفين١ فقعدت وأجلت عيني فيما ترامى أمامي من مناظر هذه الدنيا القديمة كما تبدو في مغرب ذلك اليوم الطويل، وكان المنظر كأجمل وأحلى ما صافح عيني، وكانت الشمس قد مالت وغابت وراء الأفق الغربي فكسته ورسا مذعذعًا تشيع فيه خطوط أرجوانية وقرمزية، وهناك في الوادي نهر التيمز كأنه شريط من المعدن المصقول. وقد أسلفت الإشارة إلى القصور الكبيرة المنتثرة بين الزروع، وبعضها خرائب والبعض عامر بسكانه، وكنت أرى — هنا وهنا — تماثيل فضية في الحدائق المهملة، ورءوس مسلات وقمم قباب، ولم يكن ثم لا سور ولا سياج، ولا ما يشير إلى حق امتلاك، ولا أثر لزراعة، كأنما صارت الأرض كلها حدائق وبساتين.

وشرعت وأنا أتأمل هذه المناظر أستجلي دلالتها، فخطر لي ما يأتي (وقد تبينت فيما بعد أنه نصف الحقيقة، أو لمحة واحدة منها).

خيل إليّ أني أدركت الإنسانية في منحدرها، وأغراني مغرب الشمس بالظن بأن هذا أيضًا مغرب الإنسانية، وأدركت لأول مرة النتائج الغريبة للجهد الاجتماعي الذي نعالجه الآن، وهي نتائج منطقية إذا فكرت فيها فإن القوة نتيجة الحاجة، والأمن يولد الضعف، وقد بلغ العمل على تحسين أحوال الحياة وجعلها أتم أمنًا وأوفى اطمئنانًا، غايته على الأيام. وتوالت انتصارات الإنسانية المتحدة على الطبيعة، وصار ما هو الآن من الأحلام مشروعات تدبر وتعالج وتنفذ. وهذا الذي أراه هو الحصاد.

وما زالت أحوالنا الصحية والزراعية اليوم في مراحلها الأولى، وما غزا العلم في زماننا هذا سوى جانب صغير من ميدان الأمراض الإنسانية وإنه، على هذا، ليوسع نطاق عمله باطراد، ونحن في باب الزراعة والفلاحة نعدم بعض الأعشاب ونستنبت طائفة من الزروع الصالحة، ولكنا ندع أكثرها يكافح في سبيل الحياة على قدر طاقته، ونؤثر بعض النبات والحيوان — وما أقل ذاك — بعنايتنا، ونحسنها شيئًا فشيئًا بالانتخاب، فتارة نخرج خوخة أحلى، وتارة أخرى نخرج عنبًا لا بذر له، وطورًا تثمر جهودنا زهرة أكبر وأجمل، وطورًا آخر أنعامًا أنفع وأصلح. ونحن نرقي هذه وتلك تدريجيًّا لأن غاياتنا غامضة، ووسائلنا تجريبية، ومعارفنا نزرة محدودة، ولأن في الطبيعة خفرًا وسذاجة. وسيجيء يوم يكون فيه التنظيم أوفى وأتم، فإن هذا هو اتجاه التيار على الرغم من خَضْرَبته واضطرابه وموج بعضه في بعض وتراكبه في جريه. وستكون الدنيا كلها ذكية، متعلمة متعاونة، وتكون خطواتنا أسرع فأسرع، في سبيل إخضاع الطبيعة، ويتسنى لنا في النهاية أن ندبر أمور الحيوان والنبات على وجه يكون أوفق لنا وأكفل بقضاء حاجاتنا الإنسانية.

ولا بد أن يكون هذا الإصلاح قد تم على وجه حسن، وأصبح أمره مفروغًا منه في مسافة الزمن التي اجتازتها آلتي، فقد خلا الجو من الدويبات، والأرض من الأعشاب والفطريات، وحفلت بالفواكه اليانعة والأزاهير الزهراء، وخفقت الفراشات الزاهية الألوان هنا وهناك، وبلغ الإنسان غايته من العلاج الوقائي، فلا أدواء ولا أمراض، ولم أر أي أثر لوجود أمراض معدية، في أثناء إقامتي، وسأحدثكم فيما بعد عن الانحلال والفساد وكيف تأثرا بما حدث من التغير.

ووفق الإنسان كذلك، إلى كثير من وجوه الإصلاح الاجتماعي، فرأيت الناس يأوون إلى مساكن فخمة، ويرتدون ثيابًا رائعة، ولم أر أنهم يتعبون ويكدون، فلا أثر لكفاح ولا لنضال اجتماعي أو اقتصادي. واختفى الدكان والإعلان، وانقطعت حركة التجارة التي يقوم عليها عالمنا. وكان من الطبيعي في ذلك المساء الذهبي أن تتمثل لي صورة الفردوس الاجتماعي، فقد عولجت زيادة السكان، على ما بدا لي فكفوا عن الزيادة.

وجاء مع انتقال الأحوال وتغيرها ما لا بد منه من التكيف الذي تتطلبه الأحوال المتغيرة، وما هي علة الذكاء والنشاط، إذا لم يكن علم الحياة كومًا من الأغاليط؟ المعاناة والحرية — أحوال تجعل النشيط، القوي، الحاذق، يبقى، والذي هو أضعف يذهب — أحوال تستوجب التآزر المخلص، بين الأكفاء القادرين، وتقتضي ضبط النفس والجلد والحزم. وقد وجد نظام الأسرة وما ينشئه من العواطف، ويبعثه من الغيرة العنيفة، والحب للنسل، والبر الأبوي، ما يسوغه من الأخطار التي يتعرض لها الصغار. والآن أين هذه الأخطار؟ لقد بدأ الشعور، وسيقوى على الزمن، باستهجان الغيرة والأمومة العنيفة، وكل ضرب من العواطف القوية، وصارت هذه حالات لا ضرورة إليها، حالات تورثنا المتاعب وتجعل منا متخلفات وحشية، وشذوذًا ونشازًا في حياة طيبة مصقولة.

وفكرت في صغر أجسام الناس، وقلة حظهم من الذكاء، وفي هذه البنى الضخمة المهجورة المتداعية، فزدت إيقانًا بأن الطبيعة قُهرت. وبعد المعركة يجيء السكون. وقد كانت الإنسانية قوية نشيطة، واستخدمت حيويتها الزاخرة في تغيير الأحوال، التي تعيش فيها، فالآن حدث رد الفعل الذي يتلو التغير.

وفي هذه الأحوال الجديدة — أحوال الرغد والأمن — ينقلب النشاط المتواصل — وهو مبعث قوة لنا — ضعفًا. وحتى في أيامنا هذه نرى بعض النزعات والأهواء التي كانت لازمة للبقاء، مصدرًا ثابتًا للإخفاق؛ فالشجاعة وحب النضال مثلًا لا يعدان عونًا يستحق الذكر للإنسان المتحضر، وقد يكونان عقبة في سبيله. وحتى صارت الأحوال إلى الاتزان والأمن، فإن القوة — عقلية كانت أو بدنية — لا يبقى لها محل. وقد بدا لي أن سنين لا يأخذها الإحصاء قد انقضت بلا حرب أو خوف من حرب أو عنف، أو خطر من وحش ضار، أو مرض وبيل تحتاج مقاومته إلى قوة بدنية، أو حاجة إلى كد، وفي مثل هذه الحياة يكون من نسميهم الضعفاء مهيئين لها كالأقوياء — بل هم لم يعودوا ضعفاء — ولعلهم أصلح للحياة وأحسن تهيؤًا لها، لأن الأقوياء يعذبهم النشاط الذي لا حاجة إليه ولا متنفس له، وما أشك في أن جمال المباني التي رأيتها كان ثمرة آخر لجب في موج النشاط الإنساني الذي لم يعد لازبًا، قبل أن يوطن الإنسان نفسه على السكون إلى الأحوال الجديدة التي يحيا في ظلها، وقد كان هذا أبدًا مآل النشاط عند الاستقرار، يتحول إلى الفن والجمال، ثم يجيء الفتور، والهمود، والاضمحلال.

وحتى هذا الدافع الفني يزول آخر الأمر، وقد شارف الزوال في الوقت الذي رأيته. فلم يبق من الروح الفني أكثر من الميل إلى التزين بالأزهار، وإلى الرقص والغناء، في ضوء الشمس. وسيظل هذا الميل يفتر، حتى ينقلب جمودًا مرضيًا، وإنا في عصرنا هذا لقائمون على مسن الألم والضرورة، وقد خيل إليّ — في رحلتي — أن هذا المسن البغيض قد تحطم أخيرًا.

وخطر لي، وأنا واقف في الظلام الزاحف، أني اهتديت بهذا التفسير إلى الحل الصحيح لمسألة العالم، ووقفت على سر هؤلاء الناس الظرفاء. ولعل ما ابتدعوه لضبط النسل ومنع الكثرة قد جاوز الحد المنشود، فهم يتناقصون، وعسى أن يكون هذا هو السبب في كثرة المباني المتداعية المهجورة. وإنه لتعليل بسيط، قريب المتناول، ومقبول أيضًا كأكثر النظريات الخاطئة.

(٧) صدمة مباغتة

وبينما كنت واقفًا أفكر في هذا النصر المبين الذي ناله الإنسان طلع القمر باهتًا مقوسًا من فيض ضوء فضي في الشمال الشرقي، فانقطعت الأشخاص الصغيرة المشرقة عن الحركة في الوادي، ومرت بي بومة صامتة، وانتفضت من البرد في قُبُل الليل، فقلت أنحدر وأنظر أين أنا.

وتلفت باحثًا عن البناء الذي كنت فيه، ودارت عيني إلى تمثال أبي الهول الأبيض على قاعدته البرونزية، وقد غمره نور القمر الطالع، ورأيت شجرة التامول الفضية قبالته، وشجيرات الدفلي المتوشجة الأغصان، وقد اكتست السواد في الضوء الخافت، والممشى الضيق، فرجعت بصري إلى الممشى، فخالجني شك غريب وقلت لنفسي: «كلا! ليس هذا بالممشى.»

ولكنه كان الممشى الذي أعرفه، فقد كان وجه التمثال المجذوم إليه، فهل تستطيعون أن تتصوروا ما شعرت به لما عمر صدري هذا اليقين؟ ولكنكم لا تستطيعون. لقد اختفت آلة الزمان!

وخطر لي، بمثل وقع السوط على أديم الوجه، أن من الممكن أن أفقد زمني، وأن أترك بلا حول أو عون في هذا العالم الجديد الغريب. وكان هذا الخاطر يورثني ألمًا بدنيًّا مبرحًا. وإني لأحسه يأخذ بمخنقتي ويحبس أنفاسي، وشاع في نفسي الخوف فانطلقت أعدو بخطوات سريعة واسعة، وعثرت مرة فوقعت على وجهي وجرحته، فلم أضيع الوقت في حبس الدم بل نهضت وذهبت أعدو، والدم الحار يسيل على وجهي ويقطر من ذقني، وكنت، وأنا أجري، أقول لنفسي: «لعلهم زحزحوها قليلًا عن الطريق وألقوا بها بين الشجر.» ولكني مع ذلك كنت أجري بكل ما فيّ من قوة، وقد كبر في وهمي أن هذا الاطمئنان حماقة، وأن الآلة قد أصبحت بعيدة عن متناولي. وكان التنفس يؤلمني، وأحسبني قطعت المسافة من ذروة التل إلى الممشى — وهي ميلان — في عشر دقائق. وإني لكهل، ولكنت ألعن الحظ وأسخط، وأنا أجري، على حماقتي إذ تركت الآلة، ورحت أصيح، ولا مجيب، وأنظر فلا أرى مخلوقًا يبدو في هذا العالم المقمر.

وبلغت الممشى فكان ما خفت أن يكون، ولم أجد أثرًا للآلة، فأحسست بالضعف والبرد وأنا أجيل عيني في هذا الفضاء بين الأشجار السوداء المتشابكة. وقد طفت بها كالمجنون، لعل الآلة تكون مخبأة في ركن، ثم وقفت فجأة ويداي تشدان شعري. وكان أبو الهول يشرف عليّ من فوق قاعدته البرونزية، بوجهه الأبيض المضيء المجذوم، تحت نور القمر الطالع، وكان كأنما يبتسم ساخرًا مما أصابني.

وكنت خليقًا أن أعزي نفسي بالقول بأن هؤلاء الصغار قد حملوا الآلة إلى مكان حريز، ليصونوها لي فيه، لولا أني كنت على يقين من ضعف عقولهم وأبدانهم. وهذا هو الذي أرعبني؛ الشعور بقوة غير مرتقبة اختفت بسببها الآلة التي اخترعتها. على أني كنت واثقًا من أمر واحد؛ ذلك أن الآلة ما كان يمكن أن تتحرك وتنتقل إلا إذا كان عصر آخر قد أخرج مثيلها بلا فرق. وكان نزع القضبان الرافعة يحول دون انطلاقها في الزمان — وسأريكم الطريقة فيما بعد — فهي قد تحركت وانتقلت واختفت، ولكن في الفضاء فقط. فأين يمكن أن تكون؟

وأحسب أنه أصابني مس. وأذكر أني كنت أعدو بلا وعي، فأدخل هنا وأخرج من هنا، بين الأشجار التي يضيئها القمر، حول أبي الهول وأفزع حيوانًا أبيض ظننته في الضوء الخافت غزالًا صغيرًا. وأذكر أيضًا أني كنت في الهزيع الثاني من الليل أضرب الشجيرات بقبضة يديّ، حتى جرحت عقلَهما الأغصانُ المكسورة. ثم رحت أبكي وأهذي من مرارة الألم، وأنا أمشي إلى البناء. وكانت القاعة الكبيرة مظلمة ساكنة مهجورة، فانطرحت على الأرض، فوقعت على إحدى المناضد، وكدت أكسر ساقي، فأشعلت عود ثقاب ومررت بالأستار المعفرة التي حدثتكم عنها.

ووجدت قاعة كبيرة أخرى حافلة بالوسائد التي نام عليها حوالي عشرين من هؤلاء الصغار، وما أشك في أنهم استغربوا ظهوري لهم مرة أخرى، وقد دخلت عليهم فجأة من الظلام الساكن وأنا أتكلم بما لا يفهمون، وفي يدي عود مشتعل، فقد نسوا الكبريت، وشرعت أسألهم: «أين آلتي؟» وأصيح كالطفل المحنق، وأهزهم بيدي ولا بد أنهم تعجبوا لهذا، وقد ضحك بعضهم، وبدا الخوف على البعض الآخر، ولما رأيتهم وقوفًا حولي خطر لي أن أسخف ما أصنع في هذه الحالة هو أن أوقظ في نفوسهم الشعور بالخوف، فقد كان سلوكهم في النهار يدل على أنهم نسوا الخوف.

فرميت عود الكبريت، ودرت لأخرج، فأوقعت أحدهم وأنا أفعل ذلك، وارتددت متعثرًا إلى القاعة الكبيرة ومنها إلى الفضاء. وسمعت صيحات الذعر، ووقع أقدام صغيرة تجري وتتعثر هنا وهناك، ولست أتذكر كل ما فعلت في تلك الليلة المقمرة، وأحسب أن ما منيت به من الخسارة التي لم تكن مرتقبة أطار عقلي، وشعرت بانقطاع صلاتي ببني جنسي، وبأني حيوان غريب في عالم مجهول. ومن المحقق أني كنت أهذي وأنا أروح وأجيء، وأصيح وأسخط على الحظ والمقادير، وأتذكر التعب المبرّح الذي انتابني، في تلك الليلة التي كان ينجاب عني ظلامها ولا ينجاب يأسي فيها، وبحثي في كل مخبأ محتمل أو غير محتمل، وتسللي بين الخرائب ولمسي مخلوقات غريبة في السواد الحالك، وارتمائي على الأرض بقرب التمثال وبكائي من الحزن والغم، حتى الغيظ من جنوني إذ تركت الآلة، ذهب عني كما ذهبت قوتي. ولم يبق لي إلا الكمد. ثم نمت، ولما استيقظت كان النهار قد ارتفع، وكان هناك عصفوران ينطان حولي على الحشيش، على مسافة ذراع.

فجلست، وحاولت أن أتذكر كيف جئت إلى هنا، وما سر هذا الشعور العميق بالقنوط والوحشة، فارتسم أمام عيني ما وقع لي، وجاءت مع النهار الواضح القدرة على التدبر والنظر، فتبينت حماقتي وطيشي البارحة، وشرعت أجادل نفسي فقلت لها لنقدر الأسوأ، ولنفرض أني فقدت الآلة، وأنها تلفت، فإن عليّ أن ألتزم الهدوء، وأصطنع الصبر، وأن أتعلم أساليب هؤلاء الناس، وأن أعرف كيف أصبت بهذه الخسارة، وكيف أحصل على الأدوات والمواد والآلات اللازمة، لأصنع آلة أخرى، فما بقي لي من أمل غير هذا، ولعله أمل ضعيف، غير أنه خير من اليأس، وهذه، بعد كل ما يقال، دنيا جميلة حافلة بالغرائب.

ولكن عسى أن تكون الآلة قد نقلت من مكانها، على كل حال، ينبغي أن أسكن وأصبر، وأن أبحث عنها وأستردها بالقوة أو الحيلة. واستقر عزمي على ذلك فوثبت إلى قدمي، وتلفت، وأنا أتساءل أين أستطيع أن أستحم. وكنت أشعر بالتعب، والتكسر، وأستقذر نفسي، وأغرتني صباحة النهار بنشدان الصباحة، وكنت قد استنفدت شعوري، وبلغت من ذلك مجهودي، حتى لقد صرت، وأنا ماض إلى غايتي، أتعجب لما كان من اضطرابي البارحة فنفضت الأرض، وفحصتها بعناية حول الممشى، وأضعت بعض الوقت عبثًا في الاستفسار العقيم، بما وسعني من وسائل التعبير، ممن كنت ألتقي بهم من هؤلاء الصغار، وكانوا جميعًا لا يفهمون إشاراتي، وكان بعضهم يبدو لي بليدًا جدًّا، والبعض يحسبني أمزح فيضحك، فكنت أعاني جهدًا عظيمًا في كبح نفسي عن لطم وجوههم الجميلة الضاحكة، وكان ما أهم به من ذلك خرقًا، ولكن ما أورثنيه الخوف والغيظ كان لا يزال يحتاج إلى الكبح. وأوحت إلي الأرض خاطرًا، فقد وجدت أخدودًا في منتصف المسافة بين قاعدة التمثال وبين آثار قدمي حين وصلت وعالجت النزول عن الآلة المقلوبة. وكان هناك من الآثار ما يدل على النقل؛ آثار أقدام كالتي يمكن أن يتركها من يمشي مسترخيًا متخاذلًا فلفتني هذا إلى القاعدة، وكانت — كما قلت — من البرونز، ولم تكن كتلة مفرغة، بل محلاة بألواح عميقة ذات إطارات، على الجانبين، فدنوت منها ونقرت عليها، فألفيتها فارغة الجوف، وفحصت الألواح فلم أجدها متصلة بالإطارات، ولم تكن هناك مقابض أو ثقوب، ولكن الألواح — إذا كانت ألواحًا كما خطر لي — ربما كانت تفتح من الداخل. وأصبح من الجلي فيما رأيت، والذي لا يحتاج إلى جهد عقلي كبير، أن آلة الزمان مخزونة في جوف القاعدة. أما كيف دخلت هنا، فمسألة أخرى.

ورأيت اثنين في ثياب برتقالية، مقبلين بين الشجيرات وتحت أشجار التفاح المنورة، فنظرت إليهما وابتسمت، وأومأت إليهما أن أقبلا فجاءا، فأشرت إلى القاعدة وحاولت أن أفهمهما أني أريد فتحها، ولكنهما تنكرا عند أول إشارة مني إلى القاعدة، ولا أدري كيف أصور لكم تعبير وجهيهما — تصوروا أن أحدكم أشار إشارة قبيحة في حضرة سيدة محتشمة — وتصوروا كيف تكون هيئتها وحالتها! وقد مضى الاثنان عني كأنما كنت قد ذهبت في إهانتهما إلى آخر المدى. وجربت دعوة صغير آخر حلو الوجه، فلم تختلف النتيجة. ولا أدري كيف كان هذا، ولكن هيئته أخجلتني من نفسي، ولكني كنت — كما تعلمون — أريد أن أستعيد آلة الزمان، فكررت عليه بالدعوة إلى فتح القاعدة، فلما ولى عني، كما فعل الآخران، غلبني الغضب، فعدوت وراءه، وتناولت ثوبه عند العنق، وجررته معي إلى التمثال، فقرأت في وجهه الاستفظاع والاشمئزاز، فلم يسعني إلا أن أتركه.

غير أني لم أنهزم، وجعلت أدق الألواح بيدي، وخيل إلي أني سمعت حركة من الداخل، وأفصح فأقول إني ظننت أني سمعت صوتًا كالضحك. ولكني كنت ولا شك مخطئًا، ثم تناولت حجرًا من النهر، دققت به اللوح حتى أتلفت رسمًا ومحوته وتساقط الصدأ ناعمًا كالدقيق، ولا شك أن هؤلاء الناس الرقاق الحساسين سمعوا ضجاتي من مسافة، ولكن شيئًا لم يحدث، وقد رأيت لفيفًا منهم على سفح التل يخالسونني النظر، ثم تعبت واستحررت، فقعدت أراقب المكان، غير أن هذا لم يطل لفرط اضطرابي، وإني لغربي لا أطيق طول التربص، وإن في وسعي أن أقضي سنين في علاج مسألة، ولكن الانتظار أربعًا وعشرين ساعة بلا عمل مسألة أخرى.

ونهضت بعد قليل، ورحت أتمشى على غير قصد بين الشجيرات إلى التل مرة أخرى، وناشدت نفسي الصبر، وقلت لها: «إذا أردت أن تسترجعي هذه الآلة، فإن عليك أن تدعي هذا التمثال ولا تقربيه. ولا خير في تحطيم الألواح وإتلافها، وإذا لم يردوه إليك، فستحصلين عليه متى استطعت أن تطلبيه منهم، ومن العبث أن يعالج المرء لغزًا بين كل هذه المجهولات — هذا طريق يفضي إلى الجنون — ومن الواجب أن أواجه هذا العالم وأن أتعلم طرقه وأساليبه وأراقبه، وأن أتجنب التسرع في استكناه كنهه، وسأجد في النهاية المفاتيح لهذه المغاليق.»

وتمثل لي ما ينطوي عليه موقفي من السخر؛ فقد قضيت سنوات في مكتبي أجاهد أن أجد وسيلة أمرق بها إلى هذا المستقبل، وها أنا ذا الآن أجاهد أن أنكفئ مرتدًّا عنه! وما أرى إلا أني نصبت لنفسي فخًّا ليس أشد منه تعقيدًا ولا أدعى إلى اليأس. وإني لواقع فيه ولكنه لم يسعني إلا أن أضحك، فقهقهت.

وبينما كنت أجوس خلال القصر الكبير خيل إليّ أن هؤلاء الناس يتحامونني، وقد يكون هذا وهمًا، ولعل سببه راجع إلى دقي ألواح القاعدة. ولكني كنت على يقين من اتقائهم لي، بيد أني حرصت على أن لا أبدي اكتراثًا، وأن أكف عن تتبعهم. وبعد يوم أو يومين عادت الأمور إلى مجاريها، وتعلمت من اللغة ما وسعني، ولم أقصر في ارتياد الأرض، ولا أدري هل فاتتني دقائق في هذه اللغة، أم هي غاية في البساطة، فليس فيها إلا الأفعال وأسماء المحسوسات؟ فقد خيل إليّ أنه ليس فيها ألفاظ للمعاني ولا مجاز. وكنت أرى جملهم في العادة بسيطة ومكونة من لفظين، ولم أستطع أن أفهمهم أو أفهم عنهم إلا أبسط الأمور، فعزمت أن ألقي بآلة الزمان وسر الأبواب البرونزية تحت التمثال، في زاوية من الذاكرة، على أن تصبح معرفتي أتم وأوفى وأقدر على ردي إلى ذلك من طريق طبيعي.

ولكن إحساسًا خاصًّا تستطيعون أن تدركوه ألزمني نطاقًا من بضعة أميال حول نقطة الوصول.

(٨) شرح

على قدر ما وسعني أن أرى كانت الدنيا كلها تبدي زينتها كوادي التيمز، فكنت أرى من قمة كل تل تلك الكثرة في البنى الرائعة المتنوعة المواد والأساليب، والنبات اليانع المتوشج، والشجر المثقل بالزهر والنوار، وهنا وهناك يجري الماء كالفضة، ويذهب صعيد الأرض مرتفعًا في غير استهواء حتى يغيب في الأفق. ولفت نظري على الخصوص وجود آبار مستديرة، كثير منها عميق جدًّا، وكانت إحداها على طريق الجبل الذي ارتقيت فيه أول مرة، وحافته من البرونز كغيره، وفيها صنعة، وفوقه قبة تقيه المطر. وكنت إذا جلست إلى جانب هذه الآبار ونظرت في أجوافها المظلمة لا أرى بريق ماء، وإذا أشعلت عود كبريت لا أرى لضوئه انعكاسًا. ولكني كنت أسمع من هذه الآبار كلها صوتًا غريبًا كالذي تحدثه حركة آلة كبيرة، وتبينت من اضطراب لهب الكبريت أن هناك تيارًا من الهواء مطردًا يجري في عنقها، وقد ألقيت في إحداها قصاصة من ورق فلم تخفق وتضطرب في سقوطها، بل امتُصت بسرعة وغابت عن العين.

وبعد قليل بدا لي أن هناك اتصالًا بين الآبار وبين الحصون العالية القائمة على السفوح، فقد كان الهواء فوقها يرف كما يحدث عادة في يوم قائظ على الشاطئ، فخطر لي أن هناك نظامًا واسعًا للتهوية تحت الأرض تعذر عليّ تصور الغرض منه، وقد ظننت في أول الأمر أن له علاقة بالنظام الصحي، ولكني كنت مخطئًا.

وهنا الموضع الذي ينبغي أن أذكر فيه أني لم أكد أر شيئًا من المصارف ووسائل النقل، وما إلى ذلك في أثناء مقامي في ذلك المستقبل الحقيقي، وقد قرأت تفاصيل مسهبة عن المباني والنظم الاجتماعية، وما هو من ذلك بسبيل في الكتب التي حلم فيها أصحابها بالمثل العليا للجماعات الإنسانية وتخيلوا فيها صور المستقبل، وهي تفاصيل يقرب منالها حينما يكون العالم كله منطويًا في خيال الإنسان، ولكنها لا سبيل إليها حين ينشدها الرحالة بين الحقائق كما وجدت بالتجربة. وتصوروا ماذا عسى أن يقص زنجي من أواسط أفريقيا بعد أن يعود إلى قبيلته من زيارة للندن! فماذا عسى أن يعرف عن شركات السكك الحديدية والحركات الاجتماعية، وأسلاك التليفون والتلغراف، وشركة تسليم الطرود، وأذون البريد وما يجري هذا المجرى؟ ولكنا نحن على الأقل نكون على استعداد لشرح هذه الأمور له. وإذا عرف الزنجي شيئًا فما مبلغ ما يصدق من وصفه صاحبُه الذي لم يسافر ولم يرحل؟ والشقة ضيقة مع ذلك بين الزنجي والرجل الأبيض في زماننا هذا، ولكنها واسعة مترامية متقاذفة، بيني وبين أبناء ذلك العصر الذهبي. وقد كنت أحس بكثير مما لا أرى، وإن كان من عوامل الراحة وأسباب الرغد، ولست أستطيع أن أنقل لكم أكثر من الوقع العام في نفسي لنظام يعمل من تلقاء نفسه.

وأضرب مثلًا بالمقابر فما رأيت شيئًا يدل على وجودها أو يشير إلى وجود محارق للجثث. وقد خطر لي أنه لعل هناك محارق أو مدافن وراء ما ارتَدْتُّ من الأرض.

وقد ألقيت هذا السؤال على نفسي فلم أفز في أول الأمر بطائل، وحيرني الأمر، وأفضى بي ذلك إلى ملاحظة أخرى زادتني حيرة، فما رأيت بين هؤلاء الناس كهولًا أو عجزة أو مدنفين.

ولا يسعني إلا أن أعترف بأن رضاي لم يطل عن نظرياتي الأولى عن المدنية اللدنية والإنسانية المنحلة. ولكنه أعياني التماس نظرية أخرى، ويحسن بي أن أعرض عليكم المصاعب التي واجهتني، ذلك أن القصور الكبيرة العديدة التي ارتدتها لم تكن سوى مساكن ليس إلا، أي قاعات كبيرة للطعام وحجرات للنوم، ولم أجد آلات ولا أجهزة من أي نوع، ومع ذلك رأيت الناس يرتدون ثيابًا حسنة النسج، ولا بد من تجديدها على الأيام، وكانت أحذيتهم أو صندلاتهم٢ على الأصح نماذج معقدة وإن كانت غير محلاة. وهذه أشياء لا بد من صنعها، ولم أر بين هؤلاء الناس مظهرًا يشير إلى النزعة الإنشائية، فلا دكاكين،٣ ولا مصانع ولا أثر لواردات، وكانوا يقضون وقتهم في اللعب برفق، وفي الاستحمام في النهر، وفي المغازلة التي تشبه اللعب، وفي أكل الفاكهة، وفي النوم. وأعياني أن أعرف كيف تسير الأمور.

وثم أيضًا الحادثة التي وقعت لآلة الزمان، فقد حُملت، لا أدري كيف، إلى جوف القاعة التي يقوم عليها أبو الهول فلماذا؟ لا أعلم ولا أستطيع أن أتصور باعثًا أو طريقة. وهذه الآبار أيضًا، وهذه التيارات الهوائية، وقد أحسست وأنا أتدبر ذلك كله أنه ينقصني الاهتداء إلى مفتاح السر. وشعرت — كيف أقول؟ — لنفرض أنكم عثرتم على نقش، فيه جمل هنا وهنا بالإنجليزية الفصحى وبينها كلمات أو حتى حروف لا علم لكم بها ولا عهد؟ هذه هي الصورة التي بدت لي عليها الدنيا في اليوم الثالث من زيارتي لها في عام ٨٠٢٧٠١.

وفي ذلك اليوم صار لي صديق. وشرح ذلك أني كنت أرقب بعضهم وهم يسبحون في الماء، فرأيت أحدهم قد تصلبت عضلاته وشرع يغطس، وكان التيار قويًّا، ولكنه ليس أقوى من سابح متوسط القوة، وهذا يريكم مبلغ النقص والضعف اللذين لحقا بهؤلاء الناس، ويزيد الأمر بيانًا أن أحدًا منهم لم يحاول أن ينقذ الصائح المستنجد الذي يغرق، فلما رأيت ذلك خلعت ثيابي وخضت الماء إلى حيث كانت الفتاة، وجررتها سالمة إلى الشاطئ، ودلكت لها أعضاءها قليلًا فأفاقت وسرني أنها كانت بخير حين تركتها، وقد بلغ من سوء رأيي في قومها، أني لم أتوقع منها شكرًا، ولكني كنت مخطئًا.

حدث هذا في الصباح. وبعد الظهر التقيت بهذه المرأة الصغيرة، بينما كنت عائدًا من ارتيادي، إلى مركزي، فاستقبلتني بصيحات الفرح وقدمت لي باقة كبيرة من الزهر — كان من الواضح أنها جمعتها لي — لي وحدي — فوقع ذلك من نفسي، وحرك خيالي، وأحسبني كنت أشعر بوحشة. ومهما يكن من ذاك فقد حاولت جهدي أن أظهر لها اغتباطي بهديتها، وجلسنا معًا ورحنا نتحدث، بالابتسام على الأكثر. وكان تأثير مودتها في نفسي هو التأثير الذي يحدثه الطفل. وتبادلنا الأزهار، ولثمت يديّ، فلثمت يديها، ثم عالجت الكلام فعرفت أن اسمها «وينا» وبدا لي أنه اسم موافق وإن كنت لا أدري ما معناه، وكانت هذه فاتحة صداقة عجيبة ظلت أسبوعًا، ثم انتهت على ما سأحدثكم به.

وكانت كالطفل في كل شيء، وكانت تحب أن تكون معي أبدًا ولا تفارقني، فهي تتبعني إلى حيث أذهب، فلما رحت أرتاد الأرض بعد ذلك آلمني أن أرهقها وأتركها أخيرًا منهوكة القوى تناديني وفي صوتها نبرات الأسف والتوجع، ولكنه كان لا بد لي من الوقوف على ما أنشد الوقوف عليه من أمور الدنيا، وحدثت نفسي أني لم أجئ إلى هذا المستقبل لأغازل فتاة مثلها، على أن حزنها لما خلفتها كان شديدًا، وكان بثها عند الفراق شديدًا، وأحسب أن تعلقها بي أتعبني بقدر ما سرني. غير أنها كانت لي رَوحًا وريحانًا، وقد حسبت أن الحب الصبياني هو الذي أغراها بي، ولم أفطن إلا بعد الأوان إلى ما كلفتها لما تركتها، بل لم أدرك — إلا بعد الأوان — منزلتها عندي، فقد كانت تبدو محبة وامقة لي، وكانت تظهر لي بطريقتها العقيمة أنها معنية بي، فلم تلبث هذه اللعبة الصغيرة أن أكسبت عودتي إلى التمثال وما حوله، ما يشعر به المرء حين يرجع إلى بيته، فصرت أتطلع وأتشوف باحثًا عن جسمها الدقيق كلما رجعت من الجبل.

ومنها أيضًا عرفت أن الخوف لم يزايل العالم، وكانت لا تهاب شيئًا في النهار، وكانت ثقتها بي أتم ما يكون، وقد غضبت مرة فتوعدتها بإشارة، فضحكت، ولكنها كانت تخاف الظلمة، وتخشى الظلال، وتفزعها الأشياء السوداء، وكان الظلام أشد ما يرعبها، وكان خوفها هذا من القوة بحيث أغراني بالتفكير والملاحظة، فوجدت أن هؤلاء القوم يتجمعون في البيوت الكبيرة بعد دخول الليل وينامون زرافات وأسرابًا. وكان مجرد الدخول عليهم بغير ضوء يزعجهم ويخيفهم، وما رأيت قط أحدًا منهم خارج الأبواب في الليل، أو نائمًا وحده في البيت، ولكني كنت أغبى من أن أفقه درس هذا الخوف، وأصررت على الرغم من حزن وينا على النوم وحدي بمعزل عن هذه الجماعات الراقدة.

وكان هذا مني يزعجها ويقلقها، ولكن حبها لي تغلب آخر الأمر على خوفها، فكانت في الليالي الخمس التي ترافقنا فيها — وفي جملتها الليلة الأخيرة — تنام إلى جانبي متخذة من ذراعي وسادة. ولكني أراني أستطرد عن الموضوع في الليلة التي سبقت إنقاذها، استيقظت في الفجر وكنت مضطربًا، أحلم بأني غرقت وأن شقائق الماء تمسح وجهي بغلائلها ونواراتها الرقيقة، فقمت من النوم فزعًا وقد خيل إليّ أن حيوانًا انطلق خارجًا من الغرفة، وعالجت النوم مرة أخرى، ولكني كنت قلقًا لا استقرار لي ولا راحة، وكانت تلك هي الساعة التي تزحف فيها الأشياء خارجة من الظلام، ولا لون لها ولا حقيقة وإن كانت واضحة المعالم، فنهضت ومضيت إلى القاعة الكبيرة ومنها إلى المقاعد الحجرية أمام البيت، وخطر لي أن أتخذ من الضرورة مزية فأشهد طلوع الشمس.

وكان القمر يغيب، وسواد الليل يختلط ببياض النهار، وكانت الأشجار سوداء كالحبر، والأرض عليها الظلال، والسماء لا لون لها ولا بهجة، وخيل إلي، وأنا فوق التل، أني أرى أشباحًا، ووقعت عيني ثلاث مرات، وأنا أديرها فيما حولي، على أشخاص بيض، وبدا لي — مرتين — أني رأيت مخلوقًا أبيض على هيئة القرد يصعد في الجبل بسرعة، وبصرت مرة بعدد منهم يحملون جسمًا مظلمًا، وكانوا يغذون الخطى، ولا أدري أين ذهبوا به فقد اختفوا بين الأشجار، ولم تكن الظلمة قد انجابت، ولا النهار طلع، وأحسست بالبرد والقلق وغير ذلك مما يشعر به المرء في البكرة الندية. وشككت في قدرة عيني على الرؤية.

وانبلج الفجر، وطلع النهار، وأفاض نوره على الدنيا مرة أخرى فرميت ما حولي بنظرة فاحصة، غير أني لم أر أثرًا للأشخاص البيض، فما كانوا إلا من مخلوقات الخيال في الطفل، وحدثت نفسي أن هؤلاء لا بد أن يكونوا أشباحًا، وتمنيت لو دريت من أين جاءت ومن أي عصر خرجت؟ وخطرت لي فكرة لجرانت اللّان فقد قال: إذا كان كل جيل يموت يترك في الدنيا أشباحه، فإن الدنيا خليقة أن تكتظ بهم، وعلى هذا الحساب يكون عددهم قد صار لا يحصى بعد ثمان مائة ألف سنة، فغير مستغرب أن أرى أربعة منهم في وقت معًا، ولكن هذا المزاح لم يرقني، فظللت أفكر في هذه الأشخاص طول الصباح حتى أنسانيهم إنقاذي للفتاة وينا. وخطر لي أن لعل لهم صلة بذلك الحيوان الأبيض الذي أزعجته في أول بحثي عن آلة الزمان. وكانت وينا نعم العوض عن هؤلاء، ولكنهم، على هذا، كان مقسومًا لي أن يستولوا على نفسي ويستحوذوا على خاطري.

وأظن أني قلت لكم إن الجو في هذا العصر الذهبي أدفأ من جونا، وأشد حرارة، ولا أستطيع أن أعلل ذلك، فلعل الشمس كانت أحمى، أو الأرض قد صارت أدنى إلى الشمس، ونحن قد ألفنا السكون إلى الرأي القائل بأن الشمس ستقل حرارتها باطراد في المستقبل، ولكن الذين لا اطلاع لهم على نظريات رجال من أمثال داروين الصغير ينسون أن الكواكب لا بد أن ترجع في آخر الأمر إلى أمها ومصدرها، ومتى حدثت هذه الكوارث زادت الشمس إشراقًا وتوهجًا بما يضاف إليها ويتجدد منها، ولا يبعد أن يكون أحد الكواكب قد صار إلى هذا المصير، ومهما يكن من ذاك فإن الحقيقة باقية، وهي أن الشمس في هذا المستقبل البعيد أحمى منها في زماننا.

ففي صباح يوم قائظ — اليوم الرابع فيما أظن — كنت أنشد ظلًّا أتفيؤه من وقدة الحر في خرابة ضخمة قريبة من البيت الذي آكل فيه وأنام، فوقع لي حادث غريب؛ ذلك أني كنت أخطو فوق أكوام الأنقاض فوجدت دهليزًا ضيقًا سدت نهايته ونوافذه الجانبية كتل الأحجار الواقعة، وكان الظلام في هذا الدهليز لا تنفذ فيه العين في أول الأمر بالقياس إلى النور الساطع في الخارج، فكنت أتحسس طريقي لأن الانتقال من النور إلى الظلمة جعل ومضات خافقة من النور تسبح أمام عيني، ثم وقفت فجأة وقد أذهلني ما رأيت فقد كانت هناك عينان براقتان تراقباني.

وخامرني الخوف الغريزي القديم من الوحوش، فتقبضت كفاي ورحت أحدق في هاتين العينين اللامعتين. وكنت أخاف أن أدور على عقبي، ثم خطر لي أن الإنسان في هذا العصر يعيش في ظل الأمن المطلق، ثم عدت فتذكرت فزع القوم من الظلام، واستطعت أن أغالب خوفي وأن أقهره إلى حد ما، فتقدمت خطوة وتكلمت، وأعترف أن صوتي كان أجش، وغير متزن، ودفعت يدي فلمست شيئًا طريًّا، فتحولت نظرة العينين وصارت عن عرض، وانطلق جسم أبيض يعدو إلى جانبي، فدرت وقلبي في فمي، فرأيت مخلوقًا غريبًا كالقردة، ورأسه مثنيٌّ على صدره، يجري ويقطع المسافة التي كان عليها الضوء، وتعثر واصطدم بحجر، وتطرح ثم اختفى في ظل كوم من الأنقاض.

ولم يتسع الوقت لتأمله، ولكني أذكر أن بياضه لم يكن ناصعًا، بل أقرب إلى السمرة، وأن عينيه كانتا حمراوين داكنتين، وعلى رأسه وظهره شعر كالكتان. ولكنه، كما قلت، كان أسرع من أن يتسنى لي تدبره فلست أستطيع حتى أن اقول إنه كان يجري على أربع، أو على اثنتين فقط، وبعد أن وقفت لحظة التمسته بين الأنقاض التي اختفى في ظلها، فأخطأته في أول الأمر ولكني بعد قليل وقعت على ما يشبه فوهة بئر من هذه الآبار التي حدثتكم عنها وقد سد نصفها عمود وقع عليها، فدار بنفسي أن لعل الحيوان انحدر من فوهة البئر، فأشعلت عود الكبريت وصوبت عيني إلى عنق البئر فرأيت حيوانًا أبيض يتحرك، وعيناه البراقتان تنظران إليّ وهو يتقهقر. فسرت في بدني رعدة، فقد كان منظره أشبه بعنكبوت بشري. وكان ينزل على جدار البئر، فرأيت لأول مرة مواضع للقدم واليد على جدار البئر كأنها درجات سلم. ولسعت نار الكبريت إصبعي فسقط ما بقي من العود وانطفأ، فلما أشعلت عودًا آخر كان الحيوان قد اختفى.

ولا أدري كم من الوقت قضيت وأنا أحدق في هذه البئر. وظللت وقتًا لا أستطيع أن أقنع نفسي بأن هذا المخلوق الذي أبصرته، آدمي. غير أن الحقيقة ما لبثت أن طالعتني؛ لم يعد الإنسان نوعًا واحدًا، بل صار نوعين، وحيوانين متميزين، فهؤلاء الأطفال الرشيقون الذين رأيتهم ليسوا النسل الوحيد لجيلنا، فإن هذا المخلوق القذر الذي يأوي إلى الظلام والذي لمع كخطف البرق أمامي، وارث كل العصور أيضًا.

وعاد بي التفكير إلى نظرية التهوية تحت الأرض، وبدا لي أني اهتديت إلى الصواب، ويا ترى ما محل هذا الحيوان في النظام التام الاتزان والتكافؤ الذي ذهبت إلى وجوده؟ وما صلته بجمال أبناء الدنيا الآخرين الذين يعيشون عيشة الكسل؟ وماذا تخبئ هذه الآبار؟ وقعدت على فوهة البئر وقلت لنفسي إنه ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف، وأن النزول في البئر هو وحده الذي يحل لي المعضلات. ولكني مع ذلك كنت أتهيب الإقدام على ذلك! وبينما كنت أتردد، وأقدم رجلًا وأؤخر أخرى، أقبل اثنان من أبناء الأرض الفوقية يعدوان من النور إلى الظل وهما يلعبان ويتغازلان، وكان الذكر يجري وراء الأنثى ويرميها بالزهر.

وبدا عليهما الامتعاض لما رأياني، وأبصرا ذراعي على العمود المقلوب وعيني تحدق في جوف البئر، والظاهر أنه ليس من اللائق عندهم أن يجعل المرء باله إلى هذه الآبار. فقد أشرت إلى البئر وحاولت أن ألقي عليهما سؤالًا يلفتهما فازداد امتعاضهما وأولياني ظهرهما. ولكنه سرهما أن يريا عود الكبريت يشتعل، فأشعلت لهما بضعة عيدان لأسرهما، وحاولت مرة أخرى أن أسألهما عن البئر، فأخفقت ثانية، فتركتهما وفي نيتي أن أجد وينا وأن أرى ماذا أستطيع أن أستخلصه منها، وكان عقلي يدور ويدور، وظنوني وآرائي تنزلق وتتحول إلى اتجاه جديد، فقد صار عندي الآن مفتاح لسر هذه الآبار ولأبراج التهوية، وللأشباح التي تراءت لي، فضلًا عن دلالة الألواح البرونزية ومصير آلة الزمان. وبدأ يدور في نفسي شرح للمسألة الاقتصادية التي حيرتني.

وهذا هو الرأي الجديد، هذا النوع الثاني من الإنسان يسكن باطن الأرض، وقد مالت بي ثلاثة أمور على الخصوص إلى الاعتقاد بأن ندرة ظهوره فوق ظهر الأرض نتيجة لطول اعتياده الحياة في جوفها. وأول هذه الأمور تلك النظرة المعهودة في أكثر الحيوانات التي تعيش في الظلام مثل السمكة البيضاء في كهوف كنتكي. وثانيها كبر العين واتساع حدقتها وقدرتها على عكس الضوء، وهي من خصائص الحياة في الظلام؛ تأملوا القط والبومة مثلًا. وآخرها ذلك الاضطراب الذي يعرو الحيوان في ضوء الشمس، والارتباك والمبادرة إلى الهرب إلى سواد الظل، وثني الرأس حين يكون في النور؛ كل أولئك أقنعني بأن الحدقة حساسة جدًّا.

فلا بد أن تكون الأرض تحتي حافلة بالسراديب التي صارت مألوف النوع الإنساني الجديد، وكفى بوجود الآبار وأساطين التهوية على سفوح التلال — وفي كل مكان إلى جانبي النهر — دليلًا على تشعب هذه السراديب وشيوعها، ومن الطبيعي إذن أن يفترض المرء أنه في هذه الدنيا التحتية الصناعية يؤدي كل عمل يحتاج إليه النوع الذي يعيش في النور. وقد أخذت بهذا الرأي الذي بدا لي أنه معقول وذهبت بعد ذلك أتصور كيف تم انقسام النوع الإنساني، وأحسبكم قد فطنتم إلى نظريتي وإن كنت أنا نفسي ما لبثت أن رأيتها أبعد ما تكون من الصواب.

وقد بدا لي في أول الأمر أن من الواضح أن اتساع مسافة الخلف الاجتماعي والوقتي بين الرأسماليين والعمال في عصرنا هذا هو مفتاح السر في هذا الذي انتهى إليه الأمر. وأنتم حريون أن تسخروا من ذلك وتنكروه وتأبوا تصديقه، ولكنه حتى في عصرنا هذا يوجد من الأحوال ما يشير إلى هذا الاتجاه، فإن هناك ميلًا إلى استخدام جوف الأرض فيما لا يدخل في باب الزينة من مظاهر المدنية، فهناك الخط الحديدي الذي يجري تحت الأرض في لندن، وثم أيضًا خطوط حديدية كهربائية، وطرق، وحجرات للعمل، ومطاعم، وهي تزداد وتتعدد. وقد خطر لي أن هذا الميل إلى الانتفاع بباطن الأرض قد قوي على الأيام حتى فقدت الصناعة مكانها تحت قبة السماء وانطوت في جوف الأرض. وأعني أنها انتقلت إلى باطن الأرض وتغلغلت فيه إلى أن انتهى الأمر بأن … حتى الآن في عصرنا هذا ألسنا نرى العامل في الحي الشرقي من لندن يشتغل في أحوال تكاد تحول بينه وبين سطح الأرض؟

وتأملوا بعد ذلك نزعة الأغنياء — وهي راجعة ولا ريب إلى زيادة الصقل في تربيتهم، واتساع المسافة بينهم وبين خشونة الفقراء وعنجهيتهم — فإنهم يسوّرون مساحات عظيمة من الأرض ليصدوا عنها غيرهم. فحول لندن، مثلًا، نرى حوالي النصف من رقعة الأرض الجميلة مقصورة على أصحابها لا يدخلها سواهم، وهذا الجون الذي يزداد اتساعًا — وهو يرجع إلى طول ما يستغرقه التعليم العالي من الزمن وكثرة ما يتطلبه من نفقات، وسهولة ما تغري به عادات الترف — أقول إن هذا الجون يقلل التبادل بين طبقة وطبقة، ويعطل ارتقاء الواحد منها إلى الأخرى بالتزاوج، ويجعله أندر. وأخلق أن ينتهي الأمر بأن يعيش فوق ظهر الأرض المالكون، وأن يطلبوا اللذة والراحة والجمال، وأن يقنع بباطن الأرض المعدمون، وأن يتكيف العمال شيئًا فشيئًا على مقتضى الأحوال التي يعملون فيها، ومتى صاروا في جوف الأرض، فسيكون عليهم بلا شك أن يؤدوا أجرًا — غير قليل — في مقابلة التهوية لكهوفهم وغيرانهم، فإذا أبوا أُميتوا جوعًا أو اختناقًا بما تأخر عليهم من الأجر، وأخلق بالتعساء والمتمردين منهم أن يموتوا، ثم يعتدل الميزان، ويألف الباقون أحوال المعيشة تحت الأرض وينعمون بها كما يألف الآخرون المعيشة فوقها. ومن أجل هذا كان الجمال المصقول، والشحوب والكمدة٤ من النتائج الطبيعية فيما أرى.

وصار لانتصار الإنسانية العظيم الذي كنت أحلم به صورة أخرى عندي، فما كان فوزًا للتربية الأخلاقية والتعاون العام كما كنت أتخيل، بل رأيت بدلًا من ذلك أرستقراطية حقيقية مسلحة بالعلم، وصلت بالنظام الصناعي الحاضر إلى غايته المنطقية، ولم يكن هذا انتصارًا على الطبيعة وحدها، بل عليها وعلى الإنسان معها. ويجب أن أذكر أن هذه كانت نظريتي في ذلك الوقت، فما كان لي مرشد يدلني ويهديني، وعسى أن أكون مخطئًا، ولكني ما زلت أعتقد أني مصيب. وحتى إذا سلمنا بهذا الرأي وأخذنا به، فإن من الجلي أن هذه المدنية المتوازنة قد جاوزت الذروة من زمان طويل، وذهبت في الانحدار مسافة طويلة. فقد أفضى الأمن التام بالأعلين إلى الانحطاط البطيء فتضاءلت أجسامهم وقواهم، وذكاؤهم، وكان هذا من أوضح ما شهدت، أما ما كان من أمر الأسفلين فقد كان ينقصني أن أعرفه، على أن ما رأيته من هؤلاء المورلوخ — وهذا هو الاسم الذي يطلق عليهم — حملني على القول بأن تطورهم كان أعمق من تطور النوع العلوي، ذلك النوع الجميل الذي عرفته.

ثم ساورتني الشكوك المتعبة: لماذا أخذ المورلوخ آلة الزمان؟ فقد كنت واثقًا من أنهم هم الذين أخذوها. ولماذا لا يستطيع «العلويون» — إذا كانوا هم السادة — أن يردوا عليّ آلتي؟ وما سر خوفهم الشديد من الظلام؟ وذهبت أستفسر من «وينا» عن هذا العالم السفلي، فخاب أملي، ذلك أنها لم تفهم أسئلتي في بداية الأمر، فلما فهمتها أبت أن تجيبني. وراحت تنتفض وترعد، كأن الموضوع مما لا يحتمل، فلما ألححت عليها بكت — وكانت دموعها بعد دموعي هي الوحيدة التي رأيت عينًا تذرفها في ذلك العصر الذهبي — فكففت عن السؤال عن السفليين، وصار همي أن أزجر عينها عن البكاء، وأن أعفيها من مظاهر ميراثها الإنساني، فما لبثت أن ضحكت وصفقت، بينما كنت أنا أشعل عود كبريت.

(٩) المورلوخ — أو — السفليون

قد تستغربون أني تركت يومين يمضيان قبل أن أقتفي الأثر الجديد، بالطريقة الصحيحة، ولكن الحقيقة أني كنت أنفر من هذه الأجسام الشاحبة؛ فقد كان لها ذلك اللون المربد الكميد الذي نراه في الديدان والأجسام المحفوظة في الكحول في متاحف الحيوان. يضاف إلى ذلك أنها كانت باردة الملمس قذرة، وعسى أن يكون نفوري منها راجعًا في الأكثر إلى لطف تأثير العلويين، الذين بدأت أدرك دواعي اشمئزازهم من السفليين.

ولم يكن نومي هنيئًا في الليلة التالية، ولعل ذلك لاضطراب صحتي، وقد ألحت عليّ الحيرة والشكوك، وخامرني — مرة أو مرتين — خوف شديد لا أعرف له باعثًا، وأذكر أني تسللت بلا صوت، إلى القاعة الكبرى التي كان العلويون الصغار نائمين فيها في ضوء القمر — وكانت وينا في تلك الليلة بينهم — وقد اطمأن قلبي بوجودهم. وخطر لي حتى في ذلك الحين أن القمر سيدخل في المحاق بعد بضعة أيام، فتسود الليالي، وتعم الظلمة، وتبرز هذه المخلوقات السفلية الكريهة. وكنت في هذين اليومين أكابد من القلق ما يكابده من يعالج أن يدفع واجبًا لا مهرب منه، وكنت على يقين من أنه لا سبيل إلى استرداد آلة الزمان إلا بالإقدام على كشف الأسرار المحجوبة في جوف الأرض. ويا ليتني كان معي رفيق! إذن لاختلف الحال جدًّا، ولكني كنت مستفردًا مستوحشًا، وكان يهولني أن أنحدر إلى ظلام هذه السراديب. وقد تستطيعون أن تفهموا شعوري، أو لا تستطيعون، ولكني أعترف لكم بأني ما كنت أشعر بالأمن والطمأنينة.

وكان هذا القلق وقلة الاطمئنان هما الباعث، على الأرجح، على الإبعاد في طوافي لارتياد ما حولي، وقد مضيت جنوبًا بغرب إلى الهضبة التي تسمى الآن «كوم وود» فأبصرت على مسافة بعيدة، وفي اتجاه «بانستيد» مبنى ضخمًا أخضر لا يشبه شيئًا مما رأيته إلى الآن، فقد كان أكبر من أكبر القصور أو الخرائب التي عرفتها، وكانت واجهته شرقية الطراز، تشبه في لمعتها ولونها الأخضر الباهت بعض المواعين «الصينية»، فأوحى إلي اختلاف المنظر أنه مجعول لغاية أخرى مختلفة، ونازعتني نفسي أن أمضي على سنني حتى أتبين ولكن المغيب كان قد دنا، وكنت قد بلغت هذا الموضع الذي أرى منه البناء بعد لفة طويلة مضنية، فعزمت أن أرجئ الارتياد إلى اليوم التالي وعدت إلى وينا الصغيرة وحفاوتها بي، وملاطفاتها لي، غير أني في الصباح أدركت على أوضح صورة أن شوقي إلى استطلاع كنه هذا القصر «قصر الصيني الأخضر» ليس إلا مظهرًا لمغالطة النفس وصرفها، يومًا آخر، عما أتهيب الإقدام عليه، فآليت لأنزلن إلى السراديب بلا تلكؤ، وذهبت إلى بئر قديمة من خرائب الصوان والألومنيوم.

وكانت وينا تعدو معي، وترقص إلى جانبي حتى بلغت البئر، فلما رأتني أنحني على فوهتها وأنظر فيها اضطربت، فقلت لها: «وداعًا يا وينا الصغيرة.» ثم وضعتها على الأرض، وشرعت أتحسس جوانب الفوهة باحثًا عن خطاطيف السلم. وأعترف أني كنت أفعل ذلك بسرعة، فقد كنت أخشى أن ينضب معين شجاعتي، وكانت وينا في أول الأمر ترقبني وهي ذاهلة، ثم أطلقت صيحة جزع وأقبلت علي تجذبني بيديها الصغيرتين، وما أظن إلا أن اعتراضها سبيلي قواني، وجعل عزمي أصح على المضي، فنفضتها عني بشيء من العنف، وبعد لحظة كنت في عنق البئر، وقد رأيت وجهها وما ارتسم عليه من الجزع والألم، ولكنها تبسمت لي تطمئنني. ثم اضطررت أن أصوب عيني إلى ما تحتي لأرى مواقع رجلي على السلم القلق الذي تعلقت به.

وقد انحدرت مسافة مائتي ذراع تقريبًا. وكان ذلك بواسطة قضبان معدنية ناتئة من جوانب البئر، ولما كانت هذه مجعولة لمن هم أدق أجسامًا، وأخف وزنًا، فقد أتعبني النزول، ولم يقتصر الأمر على التعب، فقد انثنى أحد القضبان فجأة تحت ثقلي، فكاد ذلك يلقيني في الهوة السوداء، وقد تعلقت لحظة بإحدى يدي، ولم أعد أجترئ بعد هذه التجربة على التماس الراحة وأنا أنزل، وآلمني ظهري وذراعي جدًّا، ولكني تجلدت وثابرت على الهبوط بأسرع ما أستطيع، وصعدت طرفي فرأيت الفوهة، ورقعة صغيرة من السماء الزرقاء ونجمًا فيها، وكان رأس وينا الدقيق يبدو كأنه نتوء أسود مستدير، وصار صوت آلة تدور في ناحية ما أعلى وأقوى، وأثقل على النفس، وكان كل شيء ما خلا تلك الرقعة الصغيرة في السماء حالك السواد، فلما صعدت عيني مرةً أخرى كانت وينا قد اختفت.

وكنت في عذابٍ غليظ من قلة الراحة، وطاف برأسي أن أصعد وأترك هذا العالم السفلي، ولكني كنت وأنا أفكر في هذا أواصل النزول. وأخيرًا رأيت — وتشهدت حين فعلت — إلى اليمين، وعلى بعد قدم واحدة، فجوة صغيرة في الحائط، فدخلت فيها فألفيتها تفضي إلى سرداب ضيق أستطيع أن أنطرح فيه وأستريح، ففعلت ولما أكد، فقد ألح الألم الذي في ظهري، وصار ظهري يوجعني، وكنت أرعش من طول الخوف من السقوط، زيدوا على ذلك أن الظلمة الطاغية التي لا ينسخها شيء أورثت عيني وجعًا شديدًا، وكان الجو يدوي فيه ضربان الآلة التي تمص الهواء من عنق البئر.

ولا أدري كم بقيت هكذا، ولكن الذي أدريه أني أفقت على يد طرية تلمس وجهي، فنهضت جالسًا في الظلام، ودفعت يدي إلى حيث الكبريت، وأشعلت عودًا فرأيت ثلاثة من السفليين — على صورة الذي رأيته في الخرابة من قبل — حانين عليّ، فلما أضاء النور ذهبوا يتراجعون أمامه بسرعة، وكانت عيونهم لطول ما ألفوا العيش في هذه السواد الحالك كبيرة حساسة، تعكس الضوء. ولم يخالجني شك في أنهم كانوا يرونني في هذا الظلام الذي لا ينفذ إليه شعاع واحد من النور، ولم يكن يبدو عليهم أنهم يخشون مني شيئًا سوى هذا النور، وما كدت أشعل عودًا حتى لاذوا بالفرار وولوا الأدبار إلى السراديب المظلمة التي كانت عيونهم تطالعني منها بالوميض الغريب.

وحاولت أن أدعوهم إلي، لكن لغتهم كانت، على ما يظهر، غير لغة العلويين، فتركني هذا بغير عون يرجى منهم، فجرى ببالي أن أهرب وأرتد إلى حيث كنت ولا أُعَنِّي نفسي بالارتياد، ولكني قلت لنفسي «لا بد مما ليس منه بد» وتحسست طريقي في السرداب، فصار صوت الآلة أعلى، ثم تباعدت الجدران فدخلت في رقعة فسيحة، وأشعلت عودًا، فإذا بي في كهف واسع ذي عقود، يغيب آخره في ظلام لا يخففه النور الضئيل الذي معي، فلم أر منه إلا بقدر ما يضيء العود.

ولا أحتاج أن أقول إن ما أذكره قليل الوضوح، فقد كانت تتمثل لي صور ضخمة غامضة لآلات كبيرة، وتلقي ظلالًا سودًا عظيمة كانت تلوذ بها أشباح السفليين من وهج الضوء. وكان المكان محبوس الهواء ثقيل الوطأة على الصدر، وكنت أشم رائحة خفيفة لدم مراق حديثًا، وكان في الوسط منضدة صغيرة من معدن أبيض وعليها طعام. ومهما يكن من أمر السفليين فإنهم على كل حال من أكلة اللحوم! وحتى في ذلك الوقت أتذكر أني سألت نفسي يا ترى أي حيوان كبير هذا الذي اقتطع منه هذا الفخذ الأحمر الذي أراه؟ وكان كل شيء غامضًا؛ الرائحة الثقيلة، والصور الكبيرة التي لا يتضح لها معنى، والأشباح القذرة التي تلوذ بالظلام وتتربص بي! ثم فني العود، فلسع أصابعي، وسقطت بقيته المضطرمة في الظلام.

وقد تمثلت لي، بعد ذلك، ضآلة عدتي لمثل هذه التجربة، فقد ركبت آلة الزمان، وأنا أعتقد أن أبناء المستقبل لا بد أن يكونوا قد تقدمونا جدًّا في كل باب، فرحلت بغير سلاح، وبدون دواء، وبلا سجاير — ولشد ما افتقدت الطباق! — بل حتى بغير الكفاية من الكبريت. أما لو كانت معي آلة تصوير (كوداك)؟ إذن لوسعني أن ألقط صورًا للعالم السفلي في ثانية، ثم أتدبرها وأفحصها فيما بعد على مهل. ولكنه لم يكن معي هناك من السلاح والقوة إلا ما حبتني الطبيعة — اليدان، والقدمان، والأسنان — وأربعة عيدان من الكبريت كانت باقية معي.

وكنت أخاف أن أمضي في طريقي بين كل هذه الآلات في الظلام، وأشفت ذخيرتي من الكبريت على النفاد، ولم يخطر لي قط من قبل أن بي حاجة إلى الاقتصاد فيها، فبددت نصف علبة لأدهش العلويين الذين لا يعرفون النار. والآن صار كل ما بقي معي أربع علب. وبينما كنت واقفًا في الظلام لمستني يد، وتحسست وجهي أصابع نحيفة، وشممت رائحةً كريهة، وخيل إليّ أني أسمع تنفس جمهرة من هذه المخلوقات الفظيعة حولي، وأحسست أن علبة الكبريت التي في يدي تنزع مني برفق، وأن أيديًا أخرى ورائي تجذب ثيابي. ولم يكن أثقل على نفسي من الشعور بأن هذه المخلوقات المحجوبة تفحصني وتجسني، وراعني أني أجهل أساليب تفكيرهم وعملهم، فصحت بهم بأقوى صوت، ففزعوا وتفرقوا عني، ثم شرعوا يقتربون مرةً أخرى، وزادوا جرأة في اللمس والتحسس وراحوا يتهامسون فيما بينهم بأصوات منكرة فسرت في بدني رعدة، وصرخت فيهم مرةً ثانية، فلم يذعروا هذه المرة كذعرهم من قبل، ولم يجفلوا، بل ندت عنهم أصوات غريبة وأقبلوا عليّ، وأعترف أني خفت، وعزمت أن أشعل عودًا وأن ألوذ بالفرار على ضوئه. وأشعلت العود، وووقيت لهبه برقعة أخرجتها من جيبي، وانكفأت إلى السرداب الضيق، وما كدت أبلغه حتى انطفأ العود، فسمعت السفليين في الظلام يعدون ورائي، ولهم مثل صوت الريح بين الشجر ووقع المطر على الأرض.

وقبضت عليّ أيدٍ كثيرة، ولم يخالجني شك في أنهم يريدون أن يردوني إلى حيث كنت، فأشعلت عودًا آخر وحركته أمام وجوههم المروعة، ولا أكاد أتصور مبلغ خلوها من السمات الإنسانية — هذه الوجوه الشاحبة التي ليس على عوارضها شعر، ولا لعيونها الواسعة جفون — وهي تحدق فيّ مذهولة وقد أعماها النور. ولكني لم أتلكأ أو أتمهل، بل تقهقرت مرةً أخرى، ولما انطفأ العود الثاني أشعلت ثالثًا وكاد ينتهي حين بلغت المنفذ إلى عنق البئر، فانطرحت على الحافة لأن صوت الآلة الماصة أدار رأسي، ثم دفعت يدي باحثًا عن خطاطيف السلم، وإذا بالقوم يتناولون رجلي ويجذبونني بشدة، فأشعلت آخر عود معي، فانطفأ … ولكن يدي كانت على القضبان الآن، فرقت بعنف، وتخلصت من قبضة هؤلاء السفليين، وذهبت أصعد بسرعة وهم ينظرون إليّ، ما خلا واحدًا منهم تبعني مسافة وكاد يسلبني حذائي ويعود به غنيمة له!

وكان الصعود، فيما أحس، لا ينتهي، وجشأت نفسي ونهضَتْ في المرحلة الأخيرة، وكابدت عناءً شديدًا، وكاد يعييني أن أظل قابضًا بيدي على القضبان ولم آل جهدًا في مقاومة اضطراب النفس وضعفها، وكانت رأسي تدور ويعتريني الإحساس بالسقوط. وأخيرًا خرجت من البئر وتطرحت بين الأنقاض إلى نور الشمس. وارتميت على وجهي. وكانت رائحة الأرض جميلة نظيفة، وأتذكر أن وينا أقبلت عليّ، تلثم راحتيّ وأذنيّ، وكنت أسمع أصوات أناس غيرها من العلويين، ولكني غبت عن وعيي لحظة.

(١٠) في الليل

صار خطبي فيما أرى أدهى، فقد كنت من قبل — فيما خلا ما أورثنيه فقد آلة الزمان من الألم — أتشبث بالرجاء في النجاة آخر الأمر، ولكن ما وقفت عليه رجني وزعزع أملي. وكان ظني أنه لا يعوقني غير السذاجة الصبيانية التي رأيتها في هؤلاء القضاف٥ وأن تخطي الموانع لا يكلفني إلا أن أعرف ما أجهل من العوامل، ولكن هؤلاء السفليين عنصر جديد لم يكن لي في حساب، عنصر سوء وشر ليس فيه شيء من صفات الإنسانية، فأحسست لهم بالمقت. وكنت أشعر بما يشعر به المرء إذا وقع في جب، وكان همي هذا الجب وكيف أخرج منه. أما الآن فقد صرت كالحيوان الذي وقع في شرك، وسرعان ما يخف إليه صائده.
وقد يدهشكم العدو الذي خفته، فما كان إلا ظلام الليلة الأولى من الشهر الجديد٦ وكانت وينا هي التي أوحت إليّ هذا الخوف بما قالته — وإن كنت لم أفهمه — عن الليالي المظلمة. ولم يكن من العسير علي الآن أن أخمن ما عسى أن تجيء به الليالي السوداء. وكان القمر يدخل في المحاق، فالعتمة في كل ليلة تجيء، أطول. وقد فهمت إلى حد ما سبب الخوف الذي يعتري هؤلاء العلويين الصغار من الظلام. وتمنيت لو عرفت ماذا عسى أن يرتكب هؤلاء السفليون من الخسة والأسواء في مطلع الشهر الجديد. وصرت موقنًا أن نظريتي الثانية خطأ في خطأ. ولعل العلويين كانوا فيما مضى هم السادة والطبقة الأرستقراطية المفضلة، على حين كان السفليون خدمهم وخولهم. ولكن هذا عهد مضى وانقضى وصار النوعان اللذان أثمرهما تطور الإنسان على الأدهار يمضيان — أو عسى أن يكونا قد انتهيا — إلى حال جديدة وعلاقة أخرى، فالعلويون قد انحطوا فصاروا عبثًا جميلًا ليس إلا، وما زال لهم ملك الأرض، ولكن على التسامح، لأن السفليين الذين ألفوا باطن الأرض من أحقاب مديدة أصبحوا لا يطيقون ظهرها المضيء، وقد استخلصت أن السفليين يصنعون لهم ثيابهم، ويمدونهم بحاجاتهم المألوفة، ولعلهم يجرون على ذلك بحكم العادة القديمة كما يضرب الجواد الأرض بحافره، أو كما يلتذ الإنسان قتل الطريدة حين يخرج للصيد، لأن ضرورات عتيقة تركت أثرها في كيان المخلوق. ولكن النظام قد انقلب، وأخذ يوم الحساب والعقاب يدلف من هؤلاء الصغار الرقاق. ولقد استطاع الإنسان قبل آلاف من الأجيال أن يدفع أخاه الإنسان عن نور الشمس ونعيم العيش. فالآن يرتد هذا الأخ المدفوع، وقد تغير، ولقد شرع العلويون يتعلمون من جديد درسًا قديمًا، فقد بدأوا يعرفون الخوف مرةً أخرى. وطافت برأسي فجأة وأنا أفكر في هذا ذكرى اللحم الذي رأيته في العالم السفلي، وكان من المستغرب أن أتذكر ذلك، فما أثاره تداعي الخواطر، ولا أدى إليه تيار التفكير، بل خطر الأمر كأنه سؤال يلقى علي من الخارج، فحاولت أن أتذكر صورة اللحم، وخُيل إليّ أن فيه شيئًا مألوفًا، ولكني لم أستطع أن أعرف في ذلك الوقت ماذا هو.

ومهما يكن من أمر هؤلاء الصغار وعجزهم حيال ما يخافون فإن شأني غير شأنهم، وأنا ابن عصري، وثمرة شباب الإنسانية، فالخوف لا يشل المرء، والأسرار الخفية لا تفزع. وأنا، على الأقل، سأدافع عن نفسي. ولم أضيع وقتًا، فعزمت أن أصنع لنفسي أسلحة، وأن أتخذ حصنًا أنام فيه. ومتى صار الحصن قاعدةً لي فإنه يسعني أن أواجه هذا العالم العجيب بشيءٍ من الاطمئنان الذي أفقدنيه إدراكي لأي ضرب من الخلائق أتعرض ليلةً بعد ليلة. وشعرت أن من العسير أن أنام بعد ذلك ما لم أكن في أمان منهم. وارتعدت وأنا أذكر كيف فحصوني.

وذهبت بعد الظهر أتمشى في وادي التيمز، فلم أجد شيئًا يصلح في رأيي أن يكون معقلًا، فقد كانت المباني والأشجار كلها لا تعيي متسلقين حذاقًا كهؤلاء السفليين، وكفى بآبارهم شاهدًا. ثم تذكرت البروج العالية في قصر الصيني الأخضر وجدرانه المصقولة اللامعة، فلما كان المساء حملت وينا على كتفي كما يُحمل الطفل، وذهبت أصعد في التل في اتجاه غربي جنوبي. وكانت المسافة — فيما أقدر — سبعة أميال أو ثمانية، ولكني وجدتها أقرب إلى ثمانية عشرة. وكنت قد رأيت القصر أول مرة في المساء والضباب، فالأبعاد تخدع. وكان عقب حذائي قد تخلخل. وكان في النعل مسمار، فصرت أظلع. فلما صرت على مرأى من القصر كان النهار قد ولى، فصار القصر أسود أمام الشفق.

وكانت وينا قد سرها جدًّا أني حملتها، ولكنها بعد قليل طلبت أن أحطها عن كاهلي، وراحت تجري بجانبي، وتعرج يمينًا وشمالًا، لتقطف لي أزهارًا تدسها في جيوبي. وكانت جيوبي هذه مبعث حيرة لوينا، وأخيرًا هداها التفكير إلي أنها نوع شاذ من الزهريات، أو هي، على الأقل، صارت تتخذها لوضع الزهر فيها. وهذا يذكرني … فقد وجدت وأنا أغير سترتي …

(وأمسك الرحالة في الزمن، ودس يده في جيبه، وأخرج زهرتين ذابلتين وضعهما، بلا كلام، على المائدة. ثم وصل ما انقطع من حديثه.)

وسكن الليل، وواصلنا الإصعاد في التل في اتجاه وملبدن فتعبت وينا، وأرادت العودة. ولكني أشرت إلى بروج القصر وأفهمتها بطريقة ما أننا سنجد فيه معاذًا مما يخيفها. وأحسبكم تعرفون ذلك السكون الذي يشمل الدنيا قبل الغسق؟ حتى النسيم يقف، في الشجر، وما زلت أرى في هذا السكون معنى الانتظار، وكانت قبة السماء صافية، بعيدة، فارغة، فيما خلا بضعة خطوط أفقية في حيث غربت الشمس، وقد اكتسى ما أتوقع في تلك الليلة، ثوب الخوف والحذار، فصارت حواسي في ذلك السكون المظلم مرهفة، وكان يخيل إلي أني أحس أن الأرض التي أطؤها بقدمي، مجوفة، محفورة، بل أكاد أرى من خلال قشرتها هؤلاء السفليين يذهبون ها هنا وها هنا متربصين، حتى يجيء الظلام، وخيل إلي أنهم سيعدون تطفلي عليهم في سراديبهم بمثابة إعلان للحرب عليهم. ولماذا أخذوا آلة الزمان؟!

وهكذا مضينا في هذا السكون، وانتقلنا من الشفق إلى العشوة، وغابت الزرقة الصافية، وبرزت النجوم واحدًا بعد واحد، وخفيت معالم الأرض، واحلولكت الأشجار، وزادت مخاوف وينا، وتحلل بها التعب، فحملتها بين ذراعي، وذهبت أحدثها وألاطفها، فلما طخطخ الظلام طوقت عنقي بذراعيها، وأغمضت عينيها، وأراحت خدها على كتفي، وانحدرنا، ونحن هكذا إلى واد،ٍ وجئنا إلى جدول صغير خضته إلى الناحية الأخرى من الوادي، مارين بعددٍ من المساكن وتمثال بلا رأس، وكانت هناك أشجار سنط، ولم أر أحدًا من السفليين ولكنا ما زلنا في أول الليل، وأمامنا ساعات حالكة قبل أن يطلع القمر القديم.

ورأيت من ذروة التل التالي غابة كثيفة، فترددت فما بدا لي آخر لها، إلى اليمين أو إلى اليسار. وأحسست بالتعب — وبالحفى في قدمي خاصة — فأنزلت وينا عن كتفي، وقعدت على الخضرة. وكنت لا أرى القصر من مكاني فشككت في النهج الذي أنا ناهجه، أهو مستقيم أم أعوج؟ ونظرت إلى الغابة الملتبسة، وفكرت فيما عسى أن يكون مخبوءًا فيها، ومتى دخل المرء تحت هذه الغصون المتوشجة، فإن النجوم تغيب عنه، وحتى لو أنه لا خطر كامن فيها — خطر أبيت أن أطلق لخيالي العنان فيه — فإنه يبقى التعثر بالأعواد والاصطدام بالشجر، وكنت قد تعبت جدًّا بعد الذي تجشمته في النهار فقلت أتقي الغابة، وأقضي الليل على التل.

وسرني أن وينا كانت مستغرقة في النوم، فلففت عليها سترتي وجلست إلى جانبها أنتظر طلوع القمر، وكان جانب التل ساكنًا مهجورًا. ولكني كنت من حين إلى حين أحس بحركة من ناحية الغابة. وكانت النجوم تومض وتتلامح فوقي، فقد كان الليل ساجيًا، والسماء صافية، فكنت أجد في ذلك أنسًا وروحًا، على أن العقود القديمة قد ولت، وأعادت نظمها في صور جديدة تلك الحركة البطيئة التي لا تحس في مائة عمر إنساني، ولكن نهر المجرة بقي على العهد به فيما بد لي. ورأيت في ناحية الجنوب — فيما رجحت — نجمًا أحمر مشرقًا لا أعرفه، وهو أبهر من الشعرى. وكان هناك بين هذه الأضواء البراقة كوكب ثابت النور رقيقه، كأنه وجه صديق قديم.

وقد تضاءلت همومي، وأنا أنظر إلى هذه النجوم، وخفت أثقال الحياة الأرضية، وفكرت في الأبعاد المهولة لهذه النجوم، وفي دلوفها البطيء من الماضي المجهول إلى المستقبل المجهول، وفي دورة الاستقبال التي يصنعها القطب الأرضي، وكيف أن هذه الدورة الصامتة لم تحدث سوى أربعين مرة في كل هذه السنين التي قطعتها، وفي خلال هذه الدورات القليلة زال وامحي من الوجود كل النشاط، وكل التقاليد، والنظم المعقدة، والأمم واللغات والآداب والآمال، بل زالت ذكرى الإنسان كما عرفته. وجاء هؤلاء الضعاف الذين نسوا أسلافهم الأماجد، وهذه المخلوقات البيضاء التي أمشي منها على حذر. ثم فكرت في الفزع الذي يفصل ما بين النوعين، فتبينت لأول مرة معنى اللحم الذي رأيته، فسرت في بدني رعدة، ونظرت إلى وينا الراقدة بجانبي، ومحياها الأبيض، وكأنه النجم تحت النجوم، فجاهدت حتى نفيت هذا الخاطر من رأسي.

وظللت ذلك الليل الطويل أصرف ذهني عن التفكير في السفليين على قدر ما يسعني ذلك، وأتسلى بأن أحاول أن أتصور أني أرى ما يدل على وجود العقود والمنظومات القديمة في الاضطراب السماوي الجديد، وقد ظلت السماء صافية، ولم يغشها إلا سحابة رقيقة. ولا شك أني كنت أغفي من حين إلى حين، ولما تقضى الليل إلا أقله، ظهر غشاش في الأفق الشرقي، كأنه انعكاس نار لا لون لها، وطلع القمر هزيلًا مقوسًا، وفي بياضه كدرة، ومن ورائه بلجة الفجر. وكان شاحبًا في أول الأمر ثم احمر وسطع. ولم يقترب منا أحد من السفليين، ولم أر منهم واحدًا فوق التل في تلك الليلة، وأعاد اليوم الجديد ما كان ضاع من الاطمئنان والثقة، فخيل إلي أن مخاوفي لم يكن لها موجب، فنهضت فإذا قدمي الذي انفصل كعب حذائها قد ورم رسغها، وصار عقبها يؤلمني، فقعدت ثانيةً، وخلعت حذائي ورميته.

وأيقظت وينا، وانحدرنا إلى الغابة التي صارت خضراء زهراء، بعد أن كانت في الليل سوداء مخوفة. ووجدنا ثمارًا أفطرنا عليها، وما لبثنا أن التقينا بكثير من العلويين يضحكون ويرقصون في نور الشمس، كأنما لم يعد لليل في هذه الحياة وجود، ففكرت مرةً أخرى في اللحم الذي رأيته ولم يبق عندي شك في أمره، وأدركني العطف القوي على هذا الجدول الآخر الضعيف من فيض الإنسانية العظيم. ولا شك أنه حدث في الماضي السحيق من عهد انحطاط الإنسان أن عانى السفليون القحط، وعسى أن يكونوا قد اقتاتوا الجرذان وما إليها، وحتى في عصرنا هذا نرى الإنسان أقل عناية بطعامه واقتصارًا على لون واحد من أي قرد، وليس كرهه للحم البشري براجع إلى غريزة عميقة القرار وهكذا صار أبناء الإنسان الذين فقدوا الصبغة والصفات الإنسانية … وحاولت أن أنظر إلى الأمر نظرةً علمية، وهم على كل حال أقل إنسانية وأنأى من أجدادنا المستوحشين الذين عاشوا قبل ثلاثة آلاف من السنين أو أربعة آلاف وقد ذهب الذكاء الذي كان خليقًا أن يحيل هذه الحالة عذابًا غليظًا، ولماذا أعني نفسي؟ إنما هؤلاء العلويون أنعام مسمنة، يتحفظ بها، ويفترسها السفليون، ولعلهم يعنون بتربيتها وتوليدها، وهذه وينا ترقص إلى جانبي!

وحاولت أن أقي نفسي ما يهجم عليها من الاستفظاع، بأن أعد هذا جزاءً وفاقًا للأثرة الإنسانية، فقد كان الإنسان راضيًا قانعًا بأن يعيش في رغد وهناءة بفضل العمل الذي يتجشمه أخوه الإنسان، وقد اتخذ من «الضرورة» كلمة سر وعذرًا، فالآن تدور الدائرة عليه، ويلزمه «أخوه» حكم الضرورة! وقد حاولت أن أتكلف مثل احتقار «كارليل» للأرستقراطية المتداعية التعيسة، ولكن هذه النظرة كانت مستحيلة.

فمهما يكن مبلغ الانحطاط العقلي الذي صار إليه العلويون، فإن مسحتهم الإنسانية التي احتفظوا بها تستدر عطفي وتجعلني شريكًا في انحطاطهم وفي خوفهم.

ولم أكن في ذلك الوقت على بينة من النهج الذي أنهجه، وكان همي الأول أن أجد ملجأ أحتمي به، وأن أصنع ما يسعني صنعه من السلاح؛ من المعدن أو الحجر. وكان هذا أمرًا لا يحتمل الإرجاء، وكنت أرجو أن أهتدي إلى وسيلة أوقد بها نارًا ليكون في يدي هذا السلاح، فليس أمضى منه في مكافحة السفليين. وكنت أرى أيضًا أن أدبر وسيلة لكسر ألواح البرونز تحت قاعدة التمثال. وخطر لي المنجنيق، وكنت مقتنعًا بأني حري إذا اقتحمت هذه الألواح ومعي نور أن أجد آلة الزمان وأنجو. ولم أستطع أن أتصور أن يكون السفليون من القوة ومتانة الأسر بحيث يسعهم أن يبعدوا بآلة الزمان، أما وينا فآليت أن أكر بها راجعًا إلى زماننا. وقد أدرت هذه الخواطر في نفسي، وأنا أمضي على سنني إلى القصر الذي آثرت أن ألجأ إليه وأعوذ به.

(١١) قصر الصيني الأخضر

وجدت قصر الصيني الأخضر — لما شارفته حوالي الظهر — مهجورًا متهدمًا. ليس في نوافذه إلا بقايا زجاج، وقد سقطت ألواح كبيرة من الواجهة الخضراء فظهر إطارها المعدني المتآكل. وهو يذهب في الهواء فوق مرج، وأدهشني — وأنا أتأمله قبل الدخول — أن أرى خليجًا أو خورًا حيث أظن أن «وندسورث» و«بترسي» كانتا فيما مضى. ففكرت — وإن كنت لم أتتبع هذا الأمر — فيما عسى أن يكون قد حدث أو ما لعله يحدث للأحياء المائية.

وتبينت بعد الفحص أن المادة التي صنع منها القصر هي «الصيني» ورأيت على ظاهرها كتابة بلغة مجهولة، وخطر لي — لجهلي — أن وينا ربما استطاعت أن تترجم لي هذا، فإذا «الكتابة» لم تجر لها قط في بال! وكانت تبدو لي دائمًا أجزل حظًّا من الإنسانية مما كانت، وأحسب أن هذا راجع إلى أن عاطفتها إنسانية.

ووجدنا وراء مصراعي الباب — الذي كان مفتوحًا ومحطمًا — بدلًا من القاعة المألوفة، دهليزًا طويلًا يدخل إليه النور من نوافذ عديدة على الجانبين، فأذكرتني النظرة الأولى بالمتاحف، وكان البلاط مغطى بطبقة من التراب، وكذلك ما كان هناك من الأشياء. ثم رأيت النصف الأسفل من هيكل عظمي كبير قائمًا في وسط القاعة، وأدركت من هيئة القدمين المنحرفتين أنهما لمخلوق منقرض، وكانت الجمجمة والعظام العليا ملقاة في التراب الكثيف، وقد أتى ماء المطر الذي رشح من السقف على بعضها. ورأيت في موضع آخر من الدهليز هيكلًا ضخمًا للبرونتوسوروس فصح عندي أن هذا متحف، فملت إلى جانب، فألفيت ما خيل إلي أنه رفوف مائلة، فأزلت عنها التراب فوجدت الصناديق الزجاجية المألوفة في زماننا، ومن الواضح أنها محكمة لا ينفذ إليها الهواء فقد كان بعض محتوياتها سليمًا.

نحن إذن بين آثار عهد متأخر من عهود كنسنجتون الجنوبية، وهذا هو قسم المتحجرات، ولا شك أنه كان فيه معرض بديع من البقايا العضوية المتحجرة، وإن كان الفساد الذي أرجئ زمنًا ما، والذي فقد — بفضل انقراض الجراثيم وما إليها — تسعة وتسعين في المائة من قوته، قد أخذ يدب في هذه الكنوز مرةً أخرى، ببطءٍ شديد، ووجدت هنا وهنا، آثارًا من هؤلاء الأناسي الصغار في صورة بقايا عظام مكسرة أو منظومة في خيوط على أعواد. وقد نُقِلَت الصناديق جملة في بعض الحالات — نقلها السفليون في رأيي — وكان المكان ساكنًا، والتراب الكثيف يمنع أن يكون لخطواتنا صوت، وكانت وينا تدحرج على رف الزجاج المائل، حيوانًا بحريًّا، ثم ارتدت إلي وأنا أجيل عيني فيما حولي، وتناولت يدي في سكون، ووقفت إلى جانبي.

وأدهشني في أول الأمر هذا الأثر القديم المتخلف من عصر مثقف، فلم أفكر في الاحتمالات التي يعرضها علي عقلي، بل لقد فتر اشتغال بالي بآلة الزمان.

وكانت ضخامة القصر توقع فيّ الروع أنه أكثر من متحف للبقايا العضوية ولعل فيه متاحف تاريخية، بل ربما كانت فيه مكتبة، وكان هذا — في الأحوال الحاضرة — أمتع لي وأولى بعنايتي فذهبت أرود المكان فوجدت دهليزًا آخر قصيرًا، وكان هذا مقصورًا، على ما يظهر، على المعادن، وكانت فيه كتلة من معدن الكبريت أخطرت البارود ببالي، ولكني لم أجد ملح البارود، ولا نترات من أي ضرب. ولا شك أنها ذابت من زمانٍ طويل، ولكن معدن الكبريت تشبث بعقلي، وأغراني بفكرة، أما سائر ما كان في هذا القسم من المتحف، فلم أعبأ به، وإن كان — بالقياس إلى غيره — في حالةٍ جيدة. ولست إخصائيًا في المعادن، فانحدرت إلى جناح خرب محاذ للدهليز الأول وكان هذا مفردًا، على ما يظهر، للتاريخ الطبيعي، ولكن كل ما فيه كان قد زالت معارفه، وكانت هناك آثار قليلة مما كان؛ حيوانات محنطة محشوة، وأعضاء جافة في أوعية كان فيها كحول، وتراب نباتات عفى عليها الزمن، وهذا كل ما بقي! وقد أسفني هذا فقد كان يسرني أن أتتبع المراحل البطيئة المتعاقبة التي انتهت إلى التغلب على الطبيعة الحية. ثم انتقلنا إلى قاعة مهولة الأبعاد ولكن الضوء فيها كأسوأ ما يكون، وكانت أرضها مائلة قليلة، وكنت أرى كرات مدلاة من السقف — كثير منها محطم — فالمكان إذن كان يضاء بالكهرباء أو ما إليها، وكانت هذه القاعة أقرب إلى نفسي، وأشبه بمألوفي، فقد وجدت فيها على الجانبين آلات كبيرة، وكانت كلها متآكلة، وكثير منها مكسر، ولكن البعض على جانب من السلامة. وأنتم تعرفون كلفي بالآلات، وقد نازعتني نفسي أن أتلكأ هنا، وشوقني إلى البقاء أن هذه الآلات لها متعة الألغاز والأحاجي، وإن كنت لا أستطيع أكثر من تخمين الغرض منها وما كانت مجعولة له. وخُيل إليّ أني لو استطعت أن أحل هذه الألغاز فإني حري أن أفيد قوة تنفعني في مغالبة السفليين.

ولصقت بي وينا فجأةً حتى لأفزعتني، ولولاها لما فطنت إلى أن أرض القاعة منحدرة، وكان الطرف الذي دخلت منه فوق سطح الأرض، وكان الضوء يؤدي إليه من روازن، وكلما تقدمت في الردهة علت الأرض وظهرت من النوافذ، حتى لا ينفذ من الضوء إلا خيط ضئيل. فسرت على مهل وأنا أعالج ألغاز الآلات، واستغرقني التفكير فلم ألاحظ أن الضوء يقل شيئًا فشيئًا، حتى لفتني خوف وينا، فرأيت عندئذٍ أن الردهة تُلف من طرفها هذا في ظلامٍ دامس فترددت، ثم أدرت عيني، فرأيت أن التراب أخف، وأن سطح الأرض أقل استواءً. ورأيت أمامي آثار أقدام صغيرة فتجدد شعوري بقرب السفليين مني، ودار بنفسي أني أضيع وقتي بهذا الفحص العلمي للآلات، وذكرت نفسي بأن العصر قريب، وأنا ما زلنا بغير سلاح أو مأوى، وأنه ليس عندنا ما نوقد به نارًا. وإذا بي أسمع من ناحية الظلام البعيد نفس الأصوات التي سمعتها في البئر والسرداب.

فتناولت يد وينا، ثم خطر لي خاطر، فتركتها وقصدت إلى آلة يبرز منها قضيب شبيه بما يكون في صناديق الإشارة، ووثبت إلى الدرجة، وتناولت القضيب بكلتا يدي، وملت عليه بكل ما في من قوة. ورأت وينا أنها صارت وحدها في وسط الردهة فأنشأت تنشج، وكان تقديري لقوة القضيب دقيقًا، فما لبث أن نزع من مكانه، فعدت إلى وينا ومعي حديدة هي فوق الكفاية لفلق يافوخ من عسى أن ألاقي من السفليين، وأقول الحق إني كنت أشتهي قتل بعضهم، وقد تذهبون إلى أن مما ينافي الإنسانية أن يشتهي المرء قتل نسله! ولكنه كان من المستحيل أن يخالج المرء شعور إنساني فيما يتعلق بهؤلاء. وما صدني عن مواصلة السير في الردهة وقتل هؤلاء الوحوش الذين سمعت أصواتهم إلا كراهتي لترك وينا، وأن آلة الزمان قد يصيبها تلف إذا ذهبت أشفي غليلي وأروي ظمئي من دماء هؤلاء.

خرجت من هذه الردهة، والحديدة في يد، ووينا في اليد الأخرى، إلى ردهةٍ أخرى أكبر منها، أذكرتني النظرة الأولى إليها معرضًا عسكريًّا علقت على جدرانه أعلام مهلهلة، وعرفت من الخرق والرقع الحائلة أنها بقايا كتب. وكانت قد فسدت من زمانٍ طويل وتمزقت وتخرقت وامحى منها كل أثر للكتابة، ولكنه كان هنا وهنا ألواح معوجة، ومشابك معدنية مكسورة، تقص على الناظر إليها قصتها، ولو كنت أديبًا لفكرت في عبث الطموح، ولكن الذي كان له أعمق وقع في نفسي هو ما يشهد به هذا الورق الذي عاث فيه الفساد وشاع، من العبث الشديد. وأعترف أني كنت أفكر في ذلك الوقت على الأكثر في «العمليات الفلسفية» وفي رسائلي السبع عشرة عن البصريات الطبيعية.

وارتقينا في سلم عريض فبلغنا ما لعله كان متحفًا للكيمياء ولم أكن أرجو أن أعثر على شيءٍ نافع. وكان المتحف سليمًا فيما خلا جانبًا منه انقض عليه سقفه فدرت بكل صندوق سليم، وأخيرًا وجدت في صندوق محكم علبة كبريت! فجربتها، فألفيتها لا تزال صالحة، وليس بها أثر للرطوبة، فالتفت إلى وينا وصحت بها بلغتها «ارقصي!» فقد صار معي سلاح ماض أقاوم به هؤلاء السفليين الذين نخافهم. وهكذا — في ذلك المتحف المهجور، وعلى بساط التراب الكثيف — رحت أرقص وأغني وأدخل على نفس وينا سرورًا عظيمًا، وكانت الرقصة خليطًا من رقصات شتى، ولكن بعضها مبتكر، فإني كما تعلمون، نزاع إلى الاختراع.

وما زلت أرى أن نجاة هذه العلبة من الكبريت من الفساد على الرغم من بقائها ما لا يحصى من السنين، كان من أغرب ما رأيت، ومن أسعد ما وقع لي. على أني عثرت على مادة كان بقاؤها أضأل في الاحتمال وأبعد في الإمكان — وأعني بها الكافور — وجدته في وعاء مختوم وقد ظننت في أول الأمر أنه شمع البارافين فكسرت الوعاء، ولكن رائحة الكافور لا سبيل إلى الغلط فيها أو خلطها بسواها. وقد استطاعت هذه المادة الطيارة أن تبقى وسط هذا الفساد العام عدة آلاف من القرون، وقد هممت أن أرميها، ولكني تذكرت أنها سريعة الاحتراق وأن لهبها قوي صاف — فهي تصلح أن تكون شمعة بديعة — فدسستها في جيبي، ولكني لم أجد مفرقعات، ولا شيء غيرها أستطيع به تحطيم الألواح البرونزية في قاعدة التمثال. وكانت الحديدة التي معي أنفع ما وقعت عليه إلى الآن، غير أني مع ذلك غادرت هذه القاعة مسرورًا.

ولا أستطيع أن أسرد عليكم كل ما كان في ذلك المساء، فإن ذلك يتقاضاني جهدًا كبيرًا لتذكر طوافي في هذا القصر كما حدث، وأتذكر أني دخلت دهليزًا طويلًا فيه أسلحة شتى صدئة، فترددت بين الحديدة التي معي، وبين فأس أو سيف، وكنت لا أستطيع أن أحمل آلتين، فآثرت الحديدة لأنها فيما رجوت أخلق بأن تكون أجدى علي حين أعالج بها ألواح البرونز. وكان هناك عدد من المدافع والمسدسات والبنادق، وأكثرها عبارة عن كتل من الصدأ، ولكن كثيرًا منها مصنوع من ضرب من المعدن جديد، وفي حالة جيدة، غير أن الرصاص أو البارود الذي لعله كان هناك قد صار ترابًا. ورأيت ركنًا مسودًّا مهدمًا، من جراء انفجار، على ما بدا لي، من بعض هذه النماذج. ورأيت في مكانٍ آخر معرضًا كبيرًا للأصنام، من بولينزيا والمكسيك وفينيقيا واليونان، ومن كل قطر على الأرض فيما أرى. ولم أستطع أن أكبح نفسي فكتبت اسمي على أنف صنم من أمريكا الجنوبية راقني على الخصوص.

وقل اهتمامي بهذه المتاحف مع انحدار الشمس إلى المغيب، وكنت أنتقل من متحفٍ إلى آخر، وما فيها إلا ما هو معفر صامت، وخرب في الأغلب، والآثار فيه كوم من الصدأ والفحم، وفي بعضها رأيت على كثب مني نموذج منجم قصدير، وإذا بي أعثر في صندوق محكم القفل على قطعتين من الديناميت، فصحت: «وجدتها!» وكسرت الصندوق وبي من السرور ما لا يوصف. ثم خالجني شك فترددت، ثم اخترت قاعة صغيرة وقمت بتجربة. وما أعرفني منيت قط بمثل هذه الخيبة في أملٍ لي، وأنا أنتظر خمس دقائق، ثم عشرًا، ثم خمس عشرة، أن يحدث الانفجار الذي يأبى أن يحدث! وقد كان ينبغي أن أدرك أنها زائفة، ولو كانت صحيحة لكان الأرجح فيما أعتقد أن أندفع إلى التمثال وأنسفه هو وقاعدته وألواح البرونز التي عليها، وأملي أيضًا — كما ظهر — في الوصول إلى آلة الزمان، فأمحو كل ذلك محوًا.

وبعد ذلك — على ما أذكر — وصلنا إلى صحن داخل القصر فاسترحنا وأنعشنا أنفسنا، ولما قاربنا المغرب شرعت أفكر في أمرنا، وكان الليل يزحف علينا، وما زلت أنشد ملجأ أتحصن فيه، ولكن هذا لم يعد يقلقني فقد كان معي أمضى سلاح أدافع به عن نفسي؛ الكبريت! وكان معي الكافور أيضًا إذا احتاج الأمر إلى نار تشعل، ورأيت أن خير ما نصنع هو أن نقضي الليل في الهواء الطلق على ضوء نار، وفي الصباح أحاول استرداد آلة الزمان. وما كان معي ما أستعين به على ذلك غير قضيب الحديد، ولكني زدت معرفة فاختلف شعوري بهذه الأبواب البرونزية، وكنت إلى الآن أتقي أن أقتحمها عنوة، من أجل ما عسى أن يكون مخبوءًا وراءها. ولم تكن الأبواب فيما أحس متينة جدًّا، فرجوت أن يكون القضيب الذي معي وافيًا بالحاجة.

(١٢) في الظلام

خرجنا من القصر، وما زال جانب من قرص الشمس فوق الأفق الغربي وكنت قد آليت أن أكون عند التمثال في فجر اليوم التالي، وأن أجتاز الغابة التي صدتني البارحة، قبل الغسق، وكانت خطتي، أن أغذ السير فأقطع أكثر ما يسعني قطعه في تلك الليلة ثم أوقد نارًا وأنام في حمى وهجها، ومن أجل ذلك جمعت وأنا أسير ما وجدت من الأعواد والحطب والعشب الجاف فصار على ذراعي حملٌ كبير من ذلك، فصار سيري أبطأ مما كنت أتوقع لثقل ما أحمل، وكانت وينا قد أدركها التعب، وكنت أنا أيضًا أشعر بالحاجة إلى النوم، وأعاني تفتيرها للجسد، فجنح الليل قبل أن نبلغ الغابة، وكانت وينا تؤثر أن تبقى على السفح المعشوشب لخوفها من مواجهة العَتَمة، ولكن شعورًا غريبًا بكارثة يوشك أن تحل بنا — وكان ذلك ينبغي أن يكون نذيرًا لي — دفعني إلى المضي في السير، وكنت لم أذق النوم ليلة ونهارين، فكنت لهذا محمومًا مضطربًا، وأحسست بالنوم يهجم عليّ، ومعه السفليون.

وبينما كنت مترددًا رأيت بين الشجيرات السوداء وراءنا ثلاثة أشخاص رابضين، ولكنهم غير واضحين في هذا السواد، وكان العشب مرتفعًا حولنا، فلم آمن زحفهم علينا وقتلهم لنا، وقدرت أن يكون بيننا وبين الغابة دون الميل، فإذا استطعنا أن نجتازها إلى التل العلوي وراءها فإن الأرجح أن نكون هناك في أمان من المخاوف، وحدثت نفسي أن في وسعي أن أنير طريقي في الغابة بما معي من الكبريت والكافور، ولكني أضطر إلى التخلي عما جمعت من الحطب إذا أنا ذهبت ألوح بعيدان الكبريت المشعلة، فوضعت حملي عن ساعديّ، وخطر لي أن أذهل متعقبيّ بإيقاد النار، وقد تبينت فيما بعد مبلغ جنوني في هذا العمل ولكنه بدا لي في وقته حركةً ذكية لستر رجوعنا.

وأحسبكم لم تفكروا قط في ندرة النار في مكان معتدل الجو وليس فيه إنسان، فإن حرارة الشمس يندر أن تكون من القوة بحيث تحرق، حتى ولو جمعتها قطرات الندى كما يحدث أحيانًا في الأقاليم الاستوائية. وقد يصعق البرق ويسود ولكنه قلما يحدث حريقًا، وقد يدخن النبات الفاسد من حرارة ما به من التخمر، ولكن هذا قلما يحدث لهبًا، وقد أدى الانحطاط إلى نسيان فن إيقاد النار على الأرض، فلما أضرمتها كانت الألسنة الحمراء التي ارتفعت إلى كوم الحطب شيئًا جديدًا غريبًا في نظر وينا.

وقد أرادت أن تذهب إليها وتلعب بها، وأعتقد أنها كانت خليقة أن ترمي نفسها عليها وتلقي بها فيها لولا أن رددتها وكبحتها. وقد تناولتها فحملتها، ومضيت على سنني إلى الغابة، على الرغم من مقاومتها، وكان وهج النار يضيء لي الطريق مسافة، ورجعت البصر فرأيت من خلال الشجر أن اللهيب امتد من كوم الحطب إلى بعض الشجيرات القريبة، وأن خطًّا متقوسًا من النار يزحف إلى الحشيش على التل، فضحكت ورددت لحظي إلى الأشجار السوداء أمامي، وكان السواد حالكًا فلصقت وينا بي، ولكنني بعد أن ألفت الظلام استطعت أن أرى طريقي بين الشجر، وكانت الظلمة طاغية فوق رأسي إلا في حيث كانت تبدو رقع من السماء الزرقاء هنا وهنا، ولم أشعل كبريتًا لأن يدي كانتا مشغولتين، فقد كنت أحمل وينا على ساعدي الأيسر، وكان في يمناي قضيب الحديد.

وظللت شيئًا لا أسمع إلا صوت تقصف الأعواد تحت قدمي، وخشخشة الشجر إذ يصافحه النسيم، وإلا أنفاسي ونبض عروقي في أذني، ثم خيل إليّ أني أسمع وقع أقدام حولي، فواصلت السير غير عابئ، وزاد الصوت وضوحًا وسمعت نفس الأصوات الغريبة التي كنت سمعتها في السراديب، فلم يبق شك في أن حولي كثيرين من السفليين وأنهم يطبقون علي، وشعرت بعد دقيقة بشيء يجذب سترتي، ثم ذراعي، فسرت الرعدة في بدن وينا، ثم قرت وسكنت.

وكان هذا هو وقت الكبريت، ولكن إشعاله يضطرني أن أضع وينا ففعلت، ودفعت يدي في جيبي، فشعرت بعراك عند ركبتي، وكانت وينا صامتة، لا تنبس، وكان السفليون يلغطون، وذهبت أيديهم الصغيرة الطرية تتحسس ظهري وتلمس عنقي، ثم اشتعل العود، فمددت به يدي، ورأيت ظهورهم البيضاء وهم يعدون بين الشجر، وأسرعت فأخرجت شيئًا من الكافور وتهيأت لإضرام النار فيه حين يشفي العود على الخمود. ثم صوبت عيني إلى وينا وكانت ممسكةً بساقي، لا تتحرك، ووجهها إلى الأرض، ففزعت، وانحنيت عليها، وكانت لا تكاد تتنفس، فأشعلت النار في الكافور ورميت به على الأرض، فما تناثر وارتفع لهبه، ورد السفليين، ونسخ الظلال، ركعت ورفعت وينا، وكانت الغابة حولي كأن فيها همسًا وحركة من جمهور كبير.

وكانت وينا كالمغمى عليها، فحملتها على كتفي برفق ونهضت لأمضي، وإذا بي أفطن إلى حقيقة مزعجة. ذلك أني وأنا أعالج الكبريت ووينا، درت عدة مرات فلم أعد أدري في أي اتجاه أنا ماض، وعسى أن أكون منكفئًا إلى القصر، فتصببت عرقًا، وكان يجب أن أفكر بسرعة وأن أستقر على رأي فيما ينبغي أن أصنع، فعزمت أن أوقد نارًا وأن أبقى حيث أنا، فوضعت وينا — وكانت لا تزال مغشيًّا عليها — وشرعت أجمع العيدان وأوراق الشجر قبل أن يخمد الكافور، وكانت عيون السفليين تومض، من هنا وهنا، في الظلام المحيط بي، كالعقيق أو الجمر.

وهب لسان النار من الكافور ثم همدت، فأشعلت عودًا وبينما كنت أفعل ذلك فر اثنان كانا يدنوان من وينا، وأعمى أحدهما النور حتى لقد ارتمى عليّ، فأحسست بعظامه تُطحن من قوة اللكمة التي سددتها إليه، فشهق شهقة جزع، وتطرّح قليلًا ثم خر على الأرض. فأشعلت بعض الكافور وذهبت أجمع الحطب. ولاحظت أن الشجر جاف، فما نزل شيءٌ من المطر مذ قدمت على آلة الزمان، فعدلت عن البحث عن الأعواد ورحت أثب وأنط وأشد الأغصان وأكسرها، فما لبثت أن أوقدت نارًا ذات يَحْموم خانق، وصار في وسعي أن أدخر ما بقي معي من الكافور، ثم التفتُّ إلى وينا وكانت راقدةً إلى جانب حديدتي وحاولت أن أرد إليها نفسها ولكنها ظلت كالميتة، حتى لقد أعياني أن أتبين أنفاسها ألا تزال تتردد أم انقطعت.

وكان الدخان يميل عليّ، فثقل رأسي فجأة، وكانت رائحة الكافور في الجو أيضًا، ولم تكن بالنار حاجة إلى تذكية أو تقوية قبل ساعة أو نحوها، وشعرت بالتعب، بعد الجهد الذي تجشمته، فقعدت على الأرض. وكان في الغابة همس منوّم لم أفهمه. وخيل إليّ أن رأسي خفق، ففتحت عيني، وكان الظلام شاملًا، وأيدي السفليين عليّ، فدفعت أيديهم عني، ودسست كفي في جيبي طلبًا لعلبة الكبريت، وإذا بها قد ذهبت! وارتد إليّ السفليون وتناولوني وأطبقوا عليّ، فأدركت ما حدث. فقد نمت، وهمدت النار، فغمرت نفسي مرارةُ الموت. وكانت الغابة تسطع فيها رائحة الحطب المحروق، وأخذ السفليون بعنقي وشعري وذراعي، وجذبوني إلى الأرض، وكان من أبشع البشاعة في هذا الظلام أن أشعر بهؤلاء في بدني، وأحسست كأني في نسيج عنكبوت جبار، وغلبوني، فهويت إلى الأرض، وشعرت بأسنان دقيقة على عنقي فتمرغت، فلمست يدي قضيب الحديد، فقواني هذا، وجاهدت أن أنهض، وطرحت عني هذه الجرذان البشرية، وضربت بالقضيب في حيث قدرت أن تكون وجوههم. وكنت أشعر بانعصار اللحم وانطحان العظم تحت ضرباتي، فنجوت إلى حين.

وغمرتني النشوة التي يحدثها الكفاح الشديد. وكنت أعلم أني أنا ووينا مقضيّ علينا، ولكني آليت ليؤدين السفليون ثمن هذا اللحم، فأسندت ظهري إلى شجرة وذهبت ألوح بالقضيب أمامي، وكانت صيحاتهم وحركاتهم تملأ الغابة. ومضت دقيقة، ولكن أحدًا منهم لم يقترب. فوقفت أحدق في الظلام، ثم تجدد الأمل فجأةً. فلعل السفليين خائفون، وحدث شيءٌ غريب في عقب هذا، فقد خيل إلي أن الظلام يشف وينجلي، وبدأت أرى، في غير وضوح، السفليين حولي — وكان ثلاثة منهم يدقون قدمي — ورأيت، وأنا في دهشة أن الباقين يجرون — في خطٍّ متصل غير منقطع — خارجين من ورائي وذاهبين في جوف الغابة أمامي، وصارت ظهورهم حمراء لا بيضاء. وبينما كنت واقفًا وفمي فاغر رأيت شعلة صغيرة تخترق بين الأغصان وتختفي، فعرفت من أين جاءت رائحة الحطب المحترق، والصوت المنوم الذي صار الآن زئيرًا ورعدًا، والوهج الأحمر، وفرار السفليين.

وخرجت من تحت الشجرة ورددت البصر فرأيت من بين الأشجار القريبة لهيب الغابة المحترقة. هي ناري التي أوقدتها تتبعني إذن! وتلفت باحثًا عن وينا، فلم أجدها. وكان زفير النار وكصيص العيدان ورائي، وفرقعة الشجر كلما اندلعت فيه النار، لا يدع لي وقتًا للتفكير، فتبعت السفليين وفي يدي قضيب الحديد، وكان سباقًا شديدًا، وقد اندلعت النار مرة في الحشيش بسرعة على يميني وأنا أجري حتى لأخذت عليّ طريقي، فملت يسرة، ولكني خرجت أخيرًا إلى فضاء، فرأيت واحدًا من السفليين يتطرح ويمضي عني إلى النار!

وكتب عليّ أن أرى أفظع ما شهدت في ذلك العصر المستقبل. وكانت هذه البقعة كلها مضيئة كأننا في النهار بما ينعكس عليها من وقدة النار. وكان في الوسط كثيب تحيط به عضاة أذواها حر اللهب، ووراء ذلك جانب آخر من الغابة المحترقة يتصاعد منها أوار يحيط المكان بسور من الضرم. وكان على جانب التل ثلاثون أو أربعون من السفليين وقد أعماهم النور والحر، وهم يتخبطون من حيرتهم، ولم أفطن أول الأمر إلى عماهم فأهويت عليهم بالقضيب أضرب فيهم بلا رحمة، وبي فزع من اقترابهم مني، فقتلت واحدًا وأقعدت كثيرين، ولكني لما لاحظت حركات واحد منهم وهو يتحسس تحت النبات، والسماء من فوقه متلظية، وسمعت أنينهم، أيقنت أنهم لا حول لهم ولا طول، فكففت عن ضربهم.

ولكن بعضهم كانوا من حين إلى حين يقبلون عليّ، فتسري في بدني رعدة من الاستبشاع فأتنحى عن طريقهم، وخفت حدة النار لحظة، فخفت أن يستطيع هؤلاء القذرون أن يروني، وحدثت نفسي أن أبدأ المعركة بقتل بعضهم قبل أن يتسنى لهم أن يهجموا عليّ، ولكن ألسنة النيران ارتفعت مرةً أخرى، فرددت يدي عنهم، ورحت أمشي على التل وأجنبهم، وأبحث عن وينا، ولكن وينا ذهبت!

وأخيرًا قعدت على ذروة الكثيب، ورحت أراقب هؤلاء العميان وهم يتخبطون، ويتلاغطون، في النورالذي أعشاهم، وكان الدخان المتلوي يرتفع إلى السماء، وكانت النجوم الصغيرة تومض من خلال هذا الستر الأحمر كأنها في عالمٍ آخر. واندفع نحوي اثنان أو ثلاثة من السفليين فدفعتهم عني باللكمات، وأنا أنتفض.

وظللت طول تلك الليلة أعتقد أن هذا كابوس، فعضضت نفسي وصحت لأستيقظ. وضربت الأرض بيدي، ونهضت واقفًا وقعدت، وذهبت هنا وهنا، ثم قعدت مرةً أخرى، ثم فركت عيني ودعوت الله أن يوقظني. ورأيت السفليين ثلاث مرات، يحنون رءوسهم من الألم ويندفعون إلى النار، وأخيرًا طلع النهار فوق اللظى الذي مال إلى الخمود، وكتل الدخان الأسود المتموجة، وبقايا الأشجار.

وبحثت مرة أخرى عن وينا، ولكني لم أعثر لها على أثر، وكان من الجلي أنهم تركوا المسكينة في الغابة، ولا أستطيع أن أصف لكم شعور الارتياح إلى أنها نجت من المصير الذي كان مقدورًا لها، وكدت وأنا أفكر في هذا أنهض لتقتيل هؤلاء الأمساخ، ولكني كبحت نفسي، وكان الكثيب كالجزيرة في الغابة، وكنت أستطيع من قمته أن أرى قصر الصيني الأخضر من خلال سحب الدخان، وبهذا وسعني أن أعرف وجهتي إلى التمثال. وهكذا تركت بقية هؤلاء الملاعين يذهبون ويجيئون ويتأوهون ويأنون، في النهار المرتفع، وربطت شيئًا من الحشيش على قدمي، وذهبت أظلع فوق الرماد وبين الأعواد السوداء التي كانت النار ما زالت تخفق في جوفها، إلى مخبأ آلة الزمان، وكنت أمشي على مهل فقد كنت منهوك القوة، وكنت أعرج أيضًا، وكنت أشد ما أكون أسى على مصرع وينا، وبدا لي هذا كأنه كارثة. وأن الأمر ليبدو لي الآن في غرفتي المألوفة أشبه بأسى الحلم منه بالخسارة الحقيقية، ولكن موتها أورثني في ذلك الصباح وحشة شديدة، فرحت أفكر في بيتي هذا، وفي هذه النار التي ندفأ بها وفيكم، فصبوت إلى حياتي هذه صبوة كلها ألم.

ولكني اكتشفت شيئًا، وأنا أمشي فوق الرماد تحت السماء الصافية، فقد وجدت في جيب البنطلون عيدان كبريت! فيظهر أن العلبة انكسرت قبل أن أفقدها.

(١٣) معلاق٧ التمثال

حوالي الساعة الثامنة أو التاسعة صباحًا، كنت على نفس المقعد المصنوع من المعدن الأصفر الذي أشرفت منه على العالم ليلة وصولي، فلم يسعني إلا أن أفكر فيما تسرعت بالذهاب إليه من الآراء في ذلك المساء، وإلا أن أضحك ضحكًا كله مرارة وسخط، من ثقتي واغتراري. هنا نفس المنظر الجميل الذي صافح عيني ليلتئذ، والأرض المحوارة٨ المنوّرة، والقصور البديعة، والخرائب الرائعة، والنهر الفضي بين شاطئيه الخصيبين، والثياب الزاهية، على هؤلاء الأناسي اللطاف الحسان وهم يمشون بين الشجر. وكان بعضهم يستحم، في حيث أنقذت وينا من الغرق، وقد أورثتني هذه الذكرى شكة أليمة. وكانت القباب على أفواه الآبار إلى السراديب، كاللوثة على جمال الأرض. وتبدى لي، وأنا أراها، ما يحجبه جمال هذه الدنيا العلوية، وكان يوم هؤلاء العلويين سجسجًا، كيوم الأنعام في مراعيها، وكانوا هم كالأنعام، لا يدرون أن لهم عداة، ولا يدبرون شيئًا يقضون به حاجاتهم ويدفعون به المضرة عنهم، وما أظن مصيرهم إلا أنه كمصير الأنعام!

وأحزنني أن أفكر في قصر الحلم الذي حلم به العقل الإنساني، فقد انتحر؛ ذلك أنه ألح في طلب الرغد والراحة، واعتدل حال الجماعة في ظل الأمن والثبات. وقد بلغ ما اشتهى فكان مصيره هذا! ولا بد أن الحياة والمال كانا في وقت ما في أمان تام، فاطمأن أن الغنى إلى ما هو فيه من اليسر والنعيم، وسكن العامل المكدود إلى حياة العمل، ولا شك أنه لم يكن في ذلك العالم الفاضل مشاكل للبطالة وما إليها من المعضلات الاجتماعية، فساد السكون.

ومن سنن الطبيعة التي نغضي عنها أن خصب العقل هو جزاء التغير والخطر والمشقة، والحيوان الذي يكون على حال من المطابقة التامة لبيئته يعود آلة ليس إلا، والطبيعة لا تبعث العقل وتوقظه إلا إذا صارت العادة والغريزة عديمتي الجدوى. ولن تجد ذكاء حيث لا تغير ولا حاجة إلى التغير، وما يفيد الذكاء إلا علاج الحاجات والمخاطر المتنوعة.

وهكذا — كما بدا لي — دلف الإنسان العلوي إلى الجمال الضعيف، والإنسان السفلي إلى العمل الآلي. ولكن هذه الدنيا الكاملة أعوزها شيء واحد لتبلغ حالتُها الآلية الكمال — أعني الثبات والدوام — والظاهر أنه على مر الأيام، اضطرب إحساس العالم السفلي، وعادت الضرورة تفعل فعلها بعد احتجابها بضعة آلاف من السنين، ولما كان العالم السفلي محتكًّا بالآلات التي تحوج مهما بلغ من كمالها إلى شيء من التفكير خارج نطاق العادة، فقد احتفظ بحظ من الاقتدار والجرأة، دون العالم العلوي، ولما أعوزه لحم الحيوان طلب ما كانت العادة القديمة تحرمه، هذا ما بدا لي، وأنا أودع العالم الذي سيقوم في سنة ٧٠١–٨٠٢، وعسى أن أكون قد ركبت من الخطأ والشطط شر ما يُركب، ولكن هذه هي الصورة التي طالعتني، وها أنا ذا أنقلها إليكم كما رأيتها.

وكان هذا المقعد، والسكينة والدفء من أمتع ما نعمت به، بعد المشقات والمثيرات والمفزعات التي كابدتها في الأيام الأخيرة. وكنت مكدودًا، وكان النعاس يغالبني، فأغفيت، ثم انطرحت على العشب ونمت نومًا طويلًا منعشًا.

واستيقظت قبل المغرب بقليل، وكنت أشعر أني في أمان من السفليين وأنا راقد، فتمطيت، وانحدرت عن التل إلى التمثال الأبيض، وكان قضيب الحديد في يدي، ويدي الأخرى في جيبي تعبث بعيدان الكبريت.

ولما دنوت من قاعدة التمثال لم يرعني إلا أن أرى الألواح البرونزية مفتوحة! فقد نزلت في مجارٍ لها.

رأيت ذلك فوقفت مترددًا محجمًا عن الدخول.

وكان في جوف القاعدة غرفة صغيرة، وفي ركن منها على ارتفاع قليل آلة الزمان. وكان معي، في جيبي، الرافعتان، فبعد كل ما اتخذته من الأهبة والعدة لمحاصرة التمثال الأبيض واقتحامه يجيء هذا الاستسلام! فرميت القضيب وأنا آسف لأني لم أستعمله. وطاف برأسي خاطر مباغت وأنا أنحني لأدخل، فقد أدركت على الأقل أسلوب التفكير الذي يجري عليه هؤلاء السفليون. وغالبني الضحك ولكني كتمته ودخلت من الفتحة إلى حيث آلة الزمان، فأدهشني أني وجدتها مزينةً منظفة! وقد كبر في ظني بعد ذلك أن السفليين فكوا بعض أجزائها وهم يحاولون أن يعرفوا ما هي وما الغرض منها.

وبينما كنت واقفًا أفحص الآلة، وأنعم بلمسها بمجردها، حدث ما توقعت أن يحدث، وصعدت الألواح فجأة واستوت في إطارها ووقعتُ، فيما توهم السفليون، في الفخ، فضحكت مسرورًا.

وسمعت همهمات ضحكهم وهم يقبلون عليّ، فحاولت أن أشعل عود كبريت، ولم يكن عليّ إلا أن أضع الرافعتين في مكانهما ثم أختفي كالشبح؟ ولكني غفلت عن أمر، ذلك أن الكبريت كان من النوع البغيض الذي لا يشعله إلا الاحتكاك بطبته!

وفي وسعكم أن تتصوروا كيف عصف ذلك بسكينتي. وكان هؤلاء الوحوش الصغار قد دنوا مني، ولمسني أحدهم فأهويت عليهم في الظلام بالرافعتين، وشعرت أمتطي سرج الآلة. وامتدت إليّ يد أخرى ثم ثالثة ورابعة. واضطررت أن أدافعهم لأقصي أصابعهم الملحة، عن الرافعتين، وأتحسس في الوقت ذاته مكانهما لأثبتهما، وكادوا ينزعون مني إحداهما. وأحسست بها تخرج من يدي فدفعت رأسي في الظلام لاستردادها، فسمعت صوت جمجمة ترن من صدمة رأسي بها. وكانت هذه المعركة شرًّا من التي دارت في الغابة، ولكني ثبت الرافعة، وجذبتها، فذهبت عني الأيدي المتعلقة بي، وانتسخ الظلام، وألفيت نفسي في الضوء الخافت الذي أسلفت وصفه.

(١٤) امتداد البصر

وقد حدثتكم من قبل عما يعاني المطوف في الزمن من الدوار والاضطراب، وكنت في هذه المرة غير مستقر في سرجي، فلبثت زمنًا متشبثًا بالآلة وهي تترنح وتهتز، وكنت لا أبالي كيف أذهب، فلما ألقيت نظرة على العدادات أذهلني ما وصلت إليه. وكان أحدها يعد الأيام والثاني يعد آلافها، والثالث يعد ملايينها، والرابع يعد آلاف الملايين. وكنت بدلًا من دفع الرافعتين وضغطهما قد جذبتهما لأمضي في المستقبل، فلما نظرت إلى هذه العقارب المشيرة وجدت عقرب الآلاف يدور بمثل السرعة التي يدور بها عقرب الثواني على وجه الساعة — في المستقبل — وبينما كنت أمضي تغير وجه الأشياء، تحول الطفَل إلى غشاش فَعتمة، وكنت ماضيًا بسرعة عظيمة، فرأيت الليل والنهار يتعاقبان، وهذا دليل البطء، وقد صار هذا أوضح، فتعجبت أول الأمر، فقد صار توالي الليل والنهار أبطأ فأبطأ، وكذلك اجتياز الشمس قبة السماء حتى لخيل إليّ أن مسافة الزمن تمتد حتى لتصبح قرونًا، وأخيرًا لُفت الأرض في سواد شامل لا يضيء فيه إلا ما يتهاوى من الشهب، فقد غاب واختفى ذلك الطوق المنير الذي كان يدل على الشمس، لأن الشمس كفت عن المغيب، وأصبحت تطلع وتغرب في الغرب، وتزداد إلى هذا جرمًا وتوهجًا، وامّحى كل أثر للقمر، وحلت نقط من الضوء محل الكواكب الدوارة التي ازدادت بطأ في سيرها، وقبل أن أقف، وقفت الشمس في الأفق، وكانت قبة عظيمة من نار كابية، يعتريها الهمود لحظة من حين إلى حين، وقد عادت مرة فتلظت جمرتها، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى سكونها، وأدركت من هذا البطء في الطلوع والغروب أن الزمان قد فعل فعله، وكانت الأرض قد صارت بأحد وجهيها إلى الشمس، كما يواجه القمر في زماننا، الأرض، فشرعت، بحذرٍ شديد — فما نسيت وقعتي السابقة — أعكس اتجاهي، وأتحول عنه، فصارت العقارب الدائرة أبطأ فأبطأ، حتى بدا عقرب الآلاف كالثابت، ولم يعد عقرب اليوم كالضباب على وجه العداد، وزاد البطء حتى وضح لعيني ساحل مهجور.

فوقفت برفق، واعتدلت في سرجي، وأدرت عيني حولي، فرأيت السماء قد زايلتها زرقتها، وغدا الأفق الشرقي أسود كالحبر، وكانت النجوم الباهتة تومض فيه، أما ما فوقي من قبة السماء فكان أحمر ولا نجوم فيه، وأما جنوبًا بشرق فكان الوَهَر يزداد حيث دارة الشمس حمراء لا حراك بها، وكانت الصخور التي حولي حمراء وفيها وعورة، وكل ما رأيته من مظاهر الحياة هو نضارة الخضرة التي تكسو كل بارز على وجه الأرض في هذه الناحية.

وكانت الآلة واقفة على ساحل مائل، والبحر يمتد جنوبًا بغرب ويرتفع عند الأفق في رأي العين، فيختلط بالسماء الشاحبة، ولم تكن فيه أمواج تعتلج، فقد كان الهواء راكدًا، لولا رائحة زيتية تجيء وتروح كالنفس المتردد، لما أدرك الإنسان أن البحر لا يزال حيًّا يتحرك، وعلى الساحل حيث تتكسر المياه أحيانًا، طبقة سميكة من الملح تبدو قرمزية تحت السماء المصفرة. وكنت أحس برأسي مثقلًا، وأنفاسي سريعة، فأذكرني ذلك المرة الوحيدة التي جربت فيها التوقل في الجبال، وعرفت من هذا أن الهواء أصفى مما هو الآن.

وسمعت صرخة من فوق المرتفع، ورأيت شيئًا كأنه فراشة عظيمة تخفق وتذهب صاعدة في الهواء، وتدور وتغيب وراء بعض الكثبان، وقد سرت لصوتها رعدةً في بدني، فاعتدلت في سرجي على الآلة، وأدرت عيني فإذا الذي حسبته كتلة من الصخر الأحمر يتحرك ببطء ويدلف نحوي، وتبينت أنه مخلوق هائل يشبه سرطان الماء. وتصوروا سرطانًا في مثل حجم هذه المائدة، وأيديه العديدة تتحرك ببطء واضطراب، وأظافره العظيمة تضطرب، ومجساته الطويلة كالسياط تهتز وتتحسس، وعيناه تلمعان وهما تحدجانك على جانبي وجهه المعدني! وكان ظهره مغضنًا ومحلى بعقد كثيرة، وعليه في مواضع شتى طبقات خضراء، وكنت أرى ألسنته العديدة وفمه المعقد، وهو يتحسس ويجس إذ يتحرك.

وبينما كنت أنظر إلى هذا الوحش الزاحف نحوي شعرت بشيء على خدي كأنما حطت عليه ذبابة، فذبيتها عني بيدي، ولكنها عادت، وعاد غيرها أيضًا، قريبًا من أذني، فأهويت عليها بيدي، فعلق بها شيء كالخيط، ولكنها انتُزعت من يدي، فالتفت مذعورًا، فعلمت أني إنما أمسكت جساسة سرطان آخر ورائي، وكانت عيناه البشعتان تهتزان على جذعيهما، وفمه يتحلب عليّ، وأظافره العظيمة الملوثة تهبط عليّ، فأسرعت إلى الرافعة أضغطها، وجعلت بيني وبين هذه الوحوش مسافة شهر، ولكني كنت ما زلت على هذا الشاطئ، فلما وقفت كنت أراهما كأوضح ما يكونان، وكانت عشرات منها تزحف هنا وهنا في الضوء الخافت بين النبات المتوشج.

ولست أستطيع أن أنقل إليكم الإحساس بما كان يغمر الدنيا من وحشة ودروس، فهذا الأفق الشرقي المتوهج، والعتمة الشمالية، والبحر الملح الميت، والشاطئ الصخري الحافل بهذه الزواحف القذرة البطيئة، وهذه الخضرة السامة — في رأي العين — لنبات البحر، والهواء الرقيق الذي يتعب الرئتين ويؤذيهما، كل أولئك كان وقعه مروّعًا. وقد قطعت مائة عام فلم يتغير المنظر، وبقيت الشمس الحمراء — وكانت أكبر بقليل، وأدنى إلى الهمود — والبحر الميت، والهواء الرقيق والزواحف بين الأعشاب والصخور الحمراء، ورأيت في الغرب خطًّا متقوسًا باهتًا كأنه قمر جديد كبير.

وهكذا ظللت أرحل وأقف، بعد فترات تبلغ ألف عام وزيادة، ومصير العالم يجتذبني، وأرقب الشمس تكبر وتخمد، وحياة هذه الأرض العتيقة تنضب، وأخيرًا — بعد أكثر من ثلاثين مليونًا من السنين — صار قرص الشمس الكبير الأحمر يحجب نحو عشر السماء المظلمة، فوقفت مرةً أخرى، فقد غابت الزواحف وصار الشاطئ الأحمر، فيما خلا نباته، لا حياة فيه، وبدت فيه نقط بيضاء، وأصابني برد قارس، وكانت رقائق بيض تتساقط من حين إلى حين، وكان الثلج في الشمال الشرقي يلمع تحت ضوء النجوم الخفاقة في السماء السوداء، وقد رأيت هضبة متموجة بيضاء قرمزية، وكان على شاطئ البحر هوامش من الثلج، أما عباب هذا البحر الملح المخضب بالغروب الأبدي فلم يتجمد بعد.

وتلفت باحثًا عن أثر لحياة الحيوان، وكانت بقية من الحذار تلزمني البقاء في سرجي، ولكني لم أر شيئًا يتحرك على الأرض ولا في السماء أو البحر، وكان الطحلب على الصخور هو كل ما يدل على أن للحياة بقية لم تندثر، ورأيت كثيبًا ناتئًا من البحر الذي انحسر عنه، وخيل إليّ أني أرى شيئًا أسود يتحرك عليه، ولكنه جمد لما نظرت إليه، فاعتقدت أن عيني خدعتني وأن هذا الجرم الأسود صخرة، وكانت نجوم السماء ناصعة الضوء، ولكن ضوءها فيما بدا لي لم يكن خفاق اللمعان.

ورأيت فجأة أن نطاق الشمس الغربي تغير، وأن فجوة ظهرت في قوسه، وأخذت تزداد وتتسع، فحملقت مذهولًا من هذا السواد الذي يزحف على النهار، ثم أدركت أن الشمس تدخل في الكسوف، وأن القمر أو المشتري يمر أمام قرص الشمس، وكان طبيعيًّا أن أحسبه القمر، في أول الأمر، ولكن هناك ما يحملني على الاعتقاد بأن كوكبًا آخر كان يمر على مقربة من الأرض.

وأخذ الظلام يشتد، وهبت ريح صرصر من الشرق، وكثرت الثلوج في الجو، وارتفعت من ناحية البحر همسة وحركة، وكانت الدنيا فيما خلا ذلك ساكنة. أأقول ساكنة؟ إن من العسير أن أصور لكم سكونها ووقعه، فما بقي شيء من أصوات الإنسان والحيوان والطير والحشرات والهوام، أو من الحركة المألوفة في حياتنا، وجعل الثلج المتساقط يزداد مع الظلام، ويأتي من كل أَوْبٍ، واشتد البرد وهرأني واختفت أخيرًا القمم البيضاء للتلال النائية، ولفها الليل في سواده، وصارت الرياح تنوح وتهجهج، ورأيت غبرة الكسوف تدنو مني، ولم يبق ما يُرى غير النجوم الشواحب، واحلولكت السماء فما يلمع فيها شعاع واحد.

وثقلت على نفسي وطأة الظلام الكثيف، واشتد عليّ البرد وقفَّ منه جلدي، وتعذر التنفس فانتفضت، وعانيت من ذلك كربًا شديدًا، ثم ظهر قوس الشمس، فنزلت عن السرج حتى تثوب نفسي إليّ، فقد كان رأسي يدور وكنت أحس أني غير قادر على رحلة الإياب، ورأيت وأنا واقف ذلك الشيء الذي لاحظت حركته على الشاطئ، ولم يبق عندي شك في أنه جرم يتحرك، فقد كان احمرار الماء يُبدي حركته. وكان كالكرة وفي حجمها، أو أكبر، وله خيوط تمتد منه وتذهب في الأرض، وكان أسود اللون بالقياس إلى لون الماء المضطرم، وكان ينط، فشعرت بالإغماء، ولكن الفزع من الارتماء هنا بلا حيلة ولا حول في هذا الغسق البعيد الفظيع قواني، فامتطيت الآلة وقعدت على السرج.

(١٥) أوبة الرحالة

وهكذا عدت. وأحسب أني فقدت وعيي زمنًا طويلًا. وقد عاد الليل والنهار يخطفان وهما يتعاقبان، وارتد إلى الشمس وهجها الذهبي، وإلى السماء زرقتها، وخلصت أنفاسي، وصارت معارف الأرض في مد وجزر، وراحت عقارب العدادات ترجع، وبدت لي في غموض صور المساكن ودلائل انحطاط الإنسانية. ثم تغيرت هذه المناظر أيضًا وولت. ولما بلغ عداد الملايين الصفر قللت السرعة وبدأت أرى مبانينا الصغيرة المألوفة، ورجع عقرب الآلاف إلى المبتدأ فصار تعاقب الليل والنهار أبطأ فأبطأ، ثم أحاطت بي جدران المعمل، فخفضت حركة الآلة برفق.

ورأيت شيئًا استغربته. وأذكر أني قلت لكم إني لما بدأت رحلتي، وقبل أن تعظم سرعتي، رأيت السيدة «واتشيت» تقطع الغرفة كالشهاب، فلما عدت اجتزت الدقيقة التي كانت تقطع فيها المعمل مرةً أخرى. ولكنه خيل إليّ الآن أن كل حركة لها نقيض حركاتها السابقة، فقد انفتح الباب، وانسابت منه في المعمل، مرتدة بظهرها واختفت من الباب الذي رأيتها تدخل منه. وقبل ذلك خُيل إليّ أني أرى «هيليار» ولكنه كان كومض البرق.

ثم وقفت الآلة، ورأيت حولي مرةً أخرى معملي القديم المألوف، وآلاتي ومعداتي كما تركتها، فترجلت عن السرج خائر القوى، وقعدت على دكتي، وظللت عدة دقائق أرعد وأنتفض، ثم هدأت، ونظرت فرأيت حولي معملي كعهدي به، وكأني كنت قائمًا وكأنما كل ما بدا لي لم يكن سوى حلم.

ولكن لا! لقد بدأت رحلتي وكانت الآلة في الجنوب الغربي من المعمل، وهي الآن قائمة في الشمال الغربي، إلى جانب الحائط حيث رأيتموها. وهذه هي المسافة من الممشى إلى قاعدة التمثال حيث خبأ السفليون آلتي.

وركد ذهني لحظة، ثم نهضت وقطعت الدهليز إلى هنا، وكنت أظلع لأن قدمي تؤلمني، وقد رأيت جريدة «البول مول غازيت» على المنضدة بجانب الباب، وألفيت تاريخها هو تاريخ اليوم، فصعدت عيني إلى الساعة فوجدتها الثامنة تقريبًا. وسمعت أصواتكم وأنتم تأكلون، فترددت، فقد كنت مضنى. ثم شممت رائحة اللحم الشهي ففتحت عليكم الباب. والباقي تعرفونه. اغتسلت، وأكلت، وقصصت عليكم القصة.»

(١٦) بعد القصة

وقال بعد لحظة صمت: «إني أعلم أن هذا كله لا يحتمل التصديق. ولكن الشيء الوحيد الذي لا أكاد أصدقه أنا هو أني هنا في هذه الليلة، في هذه الغرفة القديمة المعهودة، أنظر إلى وجوه أصدقائي وأقص عليهم غرائب ما وقع لي.» ونظر إلى رجل الطب وقال: «كلا! لست أتوقع منك أن تصدق. فاعتبر الحكاية من الخيال، أو عدها نبوءة. أو قل إني حلمت بها في المعمل، أو ازعم أني كنت أفكر في مصائر جنسنا حتى تجسدت لي هذه الأسطورة، وقل إن تأكيدي صحتها أسلوب فني لزيادة قيمتها ووقعها، فعلى اعتبار أنها قصة، ما رأيك فيها؟»

وتناول بيبته، وشرع على عادته ينقر بها نقرًا مضطربًا على قضبان الموقد، وكانت فترة صمت، ثم بدأت الكراسي تتحرك، والأقدام تمسح السجادة، فحولت عيني عن الرحالة في الزمن إلى السامعين، وكانوا في الظلام وكان رجل الطب يتأمل مضيفنا وقد استغرقه ذلك. والمحرر يحدق في عقب سيجارته — السادسة — والصحفي ينشد ساعته، أما الباقون فكانوا — على ما أذكر — بلا حراك.

ونهض المحرر واقفًا وهو يتنهد وقال: «ليتك كنت كاتب قصص!» وأراح يده على كتف الرحالة في الزمن.

– «ألا تصدق؟»

– «إن …»

– «ظاهر.»

والتفت إلينا الرحالة وقال: «أين الكبريت؟» وأشعل عودًا وقال وهو يدني البيبة من شفتيه: «الحق أقول إني أنا لا أكاد أصدق … ومع ذلك …»

وصوب عينيه في صمت، إلى الأزاهير الذابلة على المنضدة، ثم بسط يده التي فيها البيبة، فرأيته ينظر إلى جروح على عقل أصابعه لم يتم التئامها.

ونهض رجل الطب، ودنا من المصباح، وفحص الأزاهير وقال: إن بعضها غريب، فانحنى النفساني لينظر، وهو يمد يده طالبًا واحدة منها.

وقال الصحفي: «لقد صارت الساعة الأولى إلا ربعًا. فكيف نذهب إلى بيوتنا؟»

فقال النفساني: «المركبات كثيرة عند المحطة.»

وقال رجل الطب: «غريب! ولكني لا أعرف الترتيب الطبيعي لهذه الأزهار، فهل تسمح لي بها؟»

فتردد الرحالة في الزمن ثم قال فجأة.

– «كلا!»

فسأله رجل الطب: «من أين جئت بها؟»

فرفع الرحالة يده إلى رأسه، وقال وكأنه يحاول أن يمسك فكرة تحاوره وتتفلت منه: «لقد وضعتها وينا في جيبي لما رحلت إلى المستقبل» وأدار عينه في الغرفة، وقال: «أرى كل شيء يتسرب من ذهني … هذه الغرفة … وأنتم … والجو العادي … أكثر مما تحتمل ذاكرتي … أحق أني صنعت آلة للزمان؟ أو نموذجًا لآلة زمان؟ أم ترى كل هذا حلم ليس إلا؟ يقولون إن الحياة حلم — حلم سقيم في بعض الأحيان — ولكني لا أقوى على حلم آخر لا يستقيم مع سواه. جنون! ومن أين جاء هذا الحلم؟ يجب أن أرى هذه الآلة … إذا كان هناك آلة …!»

ورفع المصباح بسرعة وحمله وخرج به من الباب إلى الدهليز، ونحن في أثره، فإذا الآلة تطالعنا في ضوء المصباح المضطرب، وهي رابضة ماثلة دميمة المنظر، وكلها صلب وعاج وأبنوس وحجر لماع شفاف، ولكنها متينة فقد لمحتها، وعليها أقذار، وعلى عاجها لوثات، وقد علق بأسافلها بعض الحشائش، وأحد قضبانها ملتو.

ووضع الرحالة المصباح على الدكة وأمرّ يده على القضيب المعوج وقال:

– «الآن أيقنت أن القصة التي رويتها لكم صحيحة، وإني لآسف لتعريضكم هنا للبرد.»

وتناول المصباح، وعدنا في صمت تام إلى غرفة التدخين. وخرج معنا إلى الردهة وساعد المحرر على ارتداء معطفه ونظر إليه رجل الطب نظرة المتردد، وقال له: إن الإفراط في العمل أرهق أعصابه، فضحك. وما زلت أراه بعين الذاكرة واقفًا بالباب يودعنا ويتمنى لنا ليلةً طيبة.

وركبت مع المحرر الذي قال لي إن القصة «أكذوبة منمقة» أما أنا فلم أستطع أن أستقر على رأي في الأمر، فقد كانت القصة غير قابلة للتصديق لفرط غرابتها، ولكن أسلوبه في روايتها معقول ورزين متزن، وقد أرقت أكثر الليل من جهد التفكير فيها، فعزمت أن أزور الرحالة في اليوم التالي، فقيل لي، لما زرته، إنه في المعمل، ولما كنت من الأصدقاء فقد صعدت إليه فوجدت المعمل خاليًا، فحدقت هنيهة في آلة الزمان، ومددت يدي فلمست الرافعة، فترنحت هذه الكتلة المتينة ترنح العود عصفت به الرياح، فأفزعني اضطرابها وتذكرت ما كانوا ينهونني عنه في طفولتي من الدخول فيما لا يعنيني. وخرجت من الدهليز فالتقيت بالرحالة في غرفة التدخين، وكانت معه آلة تصوير صغيرة وحقيبة، فضحك لما رآني، وأدنى مني كتفه على سبيل التحية، وقال: «إني مشغول جدًّا بهذه الآلة.»

فسألته: «أليست إذن خدعة؟ أتراك حقيقة تطوّف في الزمن؟»

فقال: «نعم، حقًّا وصدقًا.» ورماني بنظرة صريحة، ثم تردد، ودارت عينه في الغرفة، وقال: «إن بي حاجة إلى نصف ساعة. وأنا أعرف ما جاء بك وأشكرك وهناك بعض المجلات، فإذا بقيت للغداء، فإني أستطيع أن أثبت لك أن الطواف في الزمن حقيقة — بالنماذج وما إليها — فهل تأذن لي في الانصراف عنك الآن؟»

فقبلت، وأنا لا أكاد أدرك ما تنطوي عليه كلماته من المعاني، وهز رأسه ومشى في الدهليز. وسمعت باب المعمل يغلق، فقعدت على كرسي وتناولت صحيفة يومية، ترى ماذا عساه يريد أن يصنع قبل الغداء؟ ثم تذكرت فجأة أني وعدت أن أقابل ريتشاردسون الناشر في الساعة الثانية، فنظرت في ساعتي فوجدت أن الوقت أزف، فنهضت ومشيت في الدهليز لأعتذر للرحالة.

ولما تناولت يد الباب سمعت صوتًا، وحركة ودبّة، ومرت بي نسمة من الهواء وأنا أفتح الباب وسمعت من داخل الحجرة صوت تكسر الزجاج على الأرض، ولم أجد الرحالة. وخيل إلي أني أرى شبحًا غامضًا في كتلة دائرة من السواد والبياض، وكان هذا الشبح شفافًا حتى لكنت أرى الدكة وما عليها من خلاله بوضوح ولكن هذا الشبح غاب لما فركت عيني، واختفت الآلة، ولم يبق في هذه الناحية من المعمل سوى التراب الذي يستقر.

وأذهلني ذلك، وكنت أدرك أن شيئًا عجيبًا قد حدث، ولكن ما هو؟ لا أدري! وإني لواقف أحدق إذ فتح الباب ودخل الخادم.

فتبادلنا النظرات، ثم بدأت الخواطر تجري ببالي فسألته: «هل خرج المستر من هنا؟»

قال: «لا يا سيدي. لم يخرج أحد من هذه الناحية، وقد كنت أتوقع أن أجده هنا.»

ففهمت، وخاطرت بإغضاب ريتشاردسون، وبقيت انتظارًا لعودة الرحالة ولقصته الثانية التي لعلها تكون أغرب، ولما عسى أن يعود به من النماذج والصور. ولكني بدأت أعتقد أني سأضطر إلا الانتظار عمرًا كاملًا، فقد ذهب الرحالة في الزمن منذ ثلاث سنوات، وكل إنسان يعرف الآن، أنه لم يعد.

الخاتمة

لا يسع الإنسان إلا أن يتساءل: أتراه يعود يومًا ما؟ وعسى أن يكون قد كر راجعًا إلى الماضي، فوقع على أهل العصر الحجري، المستوحشين شاربي الدماء، أو في أعماق بحر الكلس، أو بين الزواحف المهولة أو … أو … أم تراه قد مضى إلى المستقبل، واختار عصورًا أقرب إلينا وأدنى منا، عصورًا سيظل الرجال فيها رجالًا ولكنهم يكونون قد حلوا ألغاز زماننا ومعضلاتنا المضنية؟ أي إلى عصر الرجولة المكتملة في الجنس الإنساني؟ فما أعتقد أن هذه الأيام الأخيرة — أيام التجارب الضعيفة، والنظريات الجزئية، والخلاف المتبادل هي غاية ما يصل إليه الإنسان — أقول فيما أعتقد أنا. أما هو فإني أعرف — فقد تجادلنا في هذا قبل أن يصنع آلة الزمان — أنه لم يكن عظيم التفاؤل بتقدم الإنسان، وكان يرى في تضخم كوم المدنية تكدسًا سخيفًا ينتهي بأن يقع على الرءوس ويحطمها ويسحقها. فإذا كان هذا هكذا، فإن علينا أن نحيا كأن الأمر ليس كذلك، ولكن المستقبل فيما أرى لا يزال أسود وفارغًا، جهل عظيم تلطفه في بعض المواضع ذكرى قصته. وإلى جانبي، للتعزي والتأسي، زهرتان غريبتان — وقد ذبلتا — تشهدان بأنه حتى بعد أن يزول العقل وتذهب القوة، يبقى العرفان والرقة في قلب الإنسان.

هوامش

(١) حيوان خرافي له رأس نسر وجناحاه، وجسم سبع.
(٢) الصندلة صحيح.
(٣) الدكان صحيح اللفظ.
(٤) تغيير اللون وذهاب صفائه.
(٥) القضافة: دقة في الجسم من خلق لا من هزال.
(٦) الشهر القمري.
(٧) المعلاق بالعين المهملة، للباب ما يفتح به بغير مفتاح.
(٨) احوارّت الأرض، بتشديد الراء: اختلطت ألوان الزهر بسواد الخضرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤