السرير الرهيب

بعد أن أتممت تحصيلي في الكلية بقليل، اتفق لي أن أقيم في باريس مع صديق إنجليزي. وكنا يومئذ في عنفوان الشباب، وأعترف أننا كنا نسيم سرح اللهو في هذه المدينة البهيجة ونركب الحياة بشبابنا، فحدث ذات ليلة أن كنا نتمشى على مقربة من «الباليه رويال»، وكنا حائرين لا نستقر على رأي فيما نشغل به أنفسنا من لهو، فاقترح صاحبي أن نذهب إلى محل «فراسكاتي» ولكن اقتراحه لم يرقني، فقد كنت أعرفه — كما يقول الفرنسيون — عن ظهر قلب. وقد خسرت وربحت فيه كثيرًا، ابتغاء التسلي، حتى لم يبق فيه لا تسلية ولا تلهية، ومللت مظاهر السَّمت والأبهة لذلك الشذوذ الاجتماعي الذي ينطوي عليه محل مقامرة. وقلت لصاحبي: «نشدتك الله إلا ما ذهبنا إلى حيث نجد قمارًا حقيقيًّا عنيفًا على الرغم من الفاقة، ليس فيه تمويه … لندع فراسكاتي الوجيه إلى مكان لا يأنف أصحابه أن يُدخلوا فيه ذا ثوب خلق لبيس، أو من لا ثوب له، لبيسًا كان أو غير لبيس.» قال صاحبي: «حسن، على أنه لا داعي للإبعاد والخروج من نطاق الباليه رويال، للفوز ببغيتك، هذا هو المحل أمامنا. وإنه، فيما تتواتر به الرواية عنه، لكما تشتهي أن يكون ضعة وخشونة.»

وبلغنا الباب، ودخلنا البيت الذي رسمتَ ظهره.١

وصعدنا بعد أن تركنا القبعتين والعصوين مع البواب، فمضوا بنا إلى قاعة القمار الكبرى، فلم نجد فيها كثيرين، ولكن القليلين الذين كانوا فيها والذين رفعوا رءوسهم لينظروا إلينا ونحن ندخل، كانوا جميعًا نماذج — صادقة دقيقة لسوء الحظ — من طبقاتهم.

لقد جئنا وفي مرجونا أن نرى جماعة من الطغام والهمج، فوقعنا على شر من ذلك، وإن لكل ضرب من الضعة لجانبها الفكاهي المضحك، أما هنا فما تحس النفس سوى المأساة … مأساة خرساء لا فكاك منها ولاحيلة فيها، وكان السكون في الغرفة فظيعًا؛ هنا فتى نحيل متهضم الوجه، طويل الشعر، يرشق بعينيه الغائرتين أوراق اللعب، ولا ينطق بحرف. وهنا آخر مترهل خرج البثرُ بوجهه الغليظ، وهو يخرق ورقة أمامه ليحصي كم مرة كسب الأسود، وكم مرة كسب الأحمر، ولا ينطق بحرف. وها هنا شيخ قذر مغضّن الوجه، له عين الصقر، وعليه ثوب طال ترداده إلى الرفو، وقد خسر آخر فلس، ومع ذلك يأبى إلا أن يراقب اللعب الذي لا يستطيع أن يشترك فيه، ولكنه لا ينطق بحرف! حتى صوت الضريب٢ كان مكتومًا مخنوقًا وغليظ الجرس في جو هذه الغرفة. وقد كان رجائي وأنا أدخل هذا البيت أن أجد فيه ما يضحك، فإذا أمامي منظر يبعث الأسى ويغري بالبكاء. فلم يسعني إلا أن ألتمس معاذًا من هذه الكآبة التي تستولي عليّ بسرعة، وشاء سوء الحظ أن أقبل على أول ما وجدت، فذهبت إلى المائدة وشرعت ألعب. وأبى لي الحظ السيئ، كما سترى، إلا أن أربح … أربح مقادير جسيمة … مقادير يخطئها الحساب، ولا تدخل في عقل عاقل … حتى أحاط بي اللاعبون، وراحوا يحدجون مكاسبي على المائدة بعيون ناطقة بالنهم والروعة، ويتهامسون فيما بينهم بأن الإنجليزي سيخرب «البنك.»

وكان القمار على «الأحمر والأسود» وقد جربت حظي في هذه اللعبة في كل مدينة بأوروبا، ولكن من غير أن أعنى «بنظرية الحظ» التي تعد «حجر الفلاسفة» عند المقامرين. وما كنتُ قط مقامرًا بالمعنى الصحيح، فقد سلمت من هذه الشهوة الجائحة فلعبي للتسلية وتزجية الفراغ، وما أعرفني قامرت بدافع من الحاجة أو الضرورة، لأني لم أعان قلة المال أو النقص فيه. وكنت إذا قامرت لا أعكف حتى أُمنى بخسارة لا قِبَلَ لي باحتمالها، أو أفوز بمكسب يدير رأسي ويخرج بي عن طوري من الاتزان. وأقول بإيجاز إني كنت أختلف إلى أندية القمار كما أختلف إلى المراقص والمسارح لأني أجد فيها تلهية، ولا أدري بأي شيء آخر أشغل نفسي وأزجِّي الفراغ.

ولكن الحال في هذه المرة كان مختلفًا جدًّا، الآن — وللمرة الأولى في حياتي — جربت شهوة القمار الحقيقية وعرفت كيف يكون عصفها بالنفس، واستحواذها على اللبّ. وكانت مكاسبي قد أذهلتني في أول الأمر، ثم أسكرتني، بأدق المعاني الحرفية لهذا اللفظ. ومن الحقائق الغريبة التي يتعذر تصديقها أني كنت لا أخسر إلا حين أحاول أن أقدر فرص الربح والخسارة، وأقامر على مقتضى ما تبين لي من الحساب السابق. أما حين أدع الأمر كله للحظ، وألعب بلا حساب أو تدبر، فالربح لا شك فيه ولا مفر منه على الرغم من كل عامل من عوامل الترجيح لكفة «البنك.» وكان اللاعبون يخاطرون في أول الأمر بمالهم، وهم مطمئنون، على اللون الذي أختاره، ولكني زدت المبالغ التي أقامر بها إلى حد لا يستطيعون أن يجاروني فيه، فكفوا — واحدًا بعد واحد — عن اللعب، واكتفوا بالمشاهدة وأنفاسهم معلقة.

وطفقت أزيد المبالغ التي أخاطر بها، وأكسب مع ذلك، فجاشت النفوس وسرت الحمى في الدماء. وصار السكون لا يقطعه إلا التمتمة كلما دُفع الذهب على المائدة إلى ناحيتي. حتى الضريب الرزين رمى بمجرافه على الأرض وقد ثارت نفسه ثورة «فرنسية» من فرط دهشته لنجاحي. ولكن رجلا واحدًا في الغرفة كان يضبط أعصابه ويحتفظ باتزانها. وأعني به صديقي. وقد جاء إليّ، وهمس في أذني بالإنجليزية بالرجاء أن أرحل عن هذا المكان وأن أقنع بما ربحت. وأنصفه فأقول إنه أعاد تحذيره ورجاءه مرات عديدة، ولم يتركني ويخرج إلا بعد أن رفضت نصحه (وكانت سورة القمار قد اشتدت بي) بألفاظ جعلت من المستحيل عليه أن يخاطبني مرة أخرى في تلك الليلة.

وبعد أن خرج صديقي ببرهة، سمعت صوتًا أجش يقول من ورائي: «اسمح لي يا سيدي العزيز، اسمح لي أن أعيد إليك جنيهين سقطا. يا له من حظ يا سيدي! إني أقسم بشرفي، أنا الجندي القديم، أني في تجربتي الطويلة للعب لم أر قط مثل حظك أبدًا. استمر يا سيدي، استمر بجرأة واخرب البنك.»

فأدرت وجهي فرأيت رجلًا مديد القامة في معطف خفيف عليه شارات عسكرية، يهز لي رأسه ويبتسم في أدب جم، ولو أن عقلي لم يعزب، لكان الأرجح أن أشتبه فيه وأستريب به، فقد كانت عيناه جاحظتين وحمراوين كالدم وكان شارباه منفوشين متهدلين وبأنفه أثر من كسر، وكان لصوته نبرات عسكرية، ولكن من أحط طبقة. أما كفّاه فأقذر ما رأيت في حياتي، حتى في فرنسا. ولكن هذه المميزات الشخصية لم يكن لها عندي أي تأثير منفّر فقد تركني الجنون الذي أورثتنيه مكاسبي الهائلة مستعدًّا أن أُؤاخي كل من يشجعني على اللعب. فتقبلت من هذا الجندي القديم مقدار شمة من السعوط، وربتُّ له على كتفه وحلفت أنه خير من دب على الأرض، وأنه أمجد أثر تخلف من «الجيش الكبير»٣، فقال صديقي العسكري وهو يفرقع أصابعه مغتبطًا: «استمر استمر واربح. اخرب البنك. أي نعم يا صديقي الإنجليزي الشهم، اخرب البنك.»

وقد مضيت في اللعب، ولججت فيه حتى صاح الضريب بعد ربع ساعة أخرى: «أيها السادة. إن البنك يكف الآن وينقطع.» وصار كل ما كان في «البنك» من أوراق النقد والذهب كومًا أمامي … رأس مال البيت كله أصبح تحت يدي ينتظر أن أفرغه في جيوبي.

وقال لي الجندي العتيق وأنا أدفع يديّ في كوم الذهب: «ضع المال في منديلك يا سيدي، صُرّه فيه. صره، واجمع أطرافه واعقدها كما كنا نفعل بطعامنا في الجيش الكبير، فإن مكاسبك أثقل من أن يحتملها جيب. هكذا … تمامًا … ضع الورقات والذهب جميعًا … يا له من حظ … انتظر … هذا جنيه آخر على الأرض … والآن يا سيدي نعقد عقدتين متينتين، هكذا، بعد استئذانك، وإذا المال في أمان! تحسس المنديل … تحسسه أيها السعيد المجدود! ناشف، ومستدير كالقنبلة. أما لو أنهم كانوا يطلقون علينا في أوسترلتز٤ قنابل من هذا القبيل …! ليتهم كانوا يفعلون! والآن ماذا بقي علي أن أفعل أنا المدفعيّ القديم والجندي الباسل سابقًا؟! أسألك ماذا أصنع؟ … أتقدم برجائي إلى صديقي الإنجليزي الحميم أن يشرب معي زجاجة من الشمبانيا، لنشرب نخب ربة السعود في قدحين مُزبدين قبل أن نفترق!»

فيا له من جندي باسل! وما أطيبه وأرق حاشيته من مدفعي قديم! فلتدر الشمبانيا علينا، وليهتف الإنجليزي بالجندي الفرنسي القديم! هورا! هورا! ولنهتف مرةً أخرى بربة السعود! هورا! هورا!

وصاح الجندي: «مرحى! وأحبب بالإنجليزي العطوف الكريم الذي يجري في عروقه الدم الفرنسي المرح! أترع الكأس مرةً أخرى! أوه، إن الزجاجة فارغة! لا بأس! فليحيا النبيذ! أنا الجندي القديم آمر أن تدار علينا زجاجة أخرى ومعها نصف رطل من المسَكَّرات!»

فصحت به: «كلا، يا صديقي الباسل! ولا، أيها المدفعي القديم! كانت تلك زجاجتك، والآن هذه زجاجتي! هذه هي! انظر إليها … وتعال نشرب أنخاب الجيش الفرنسي … ونابليون العظيم … وهذا الجمع … والضريب … وزوجته … وبناته، إذا كانت له بنات … والسيدات كافة … وكل امرئ في هذه الدنيا!»

وأحسست، لما فرغت الزجاجة الثانية، كأني أشرب نارًا سائلة. فالتهب دماغي. ولم يسبق لي في حياتي كلها أن كان للشراب مثل هذا الغَوْل والخُمار عندي. فهل هذا الأذى نتيجة لفعل المسكر المنبه في كياني الفائر إلى درجة الحمى؟ أم ترى معدتي على حال من الاضطراب غير معهود؟ أم هذه الشمبانيا قوية الأخذ جدًّا؟

وصحت وبي من النشوة مثل الجنون: «أيها الجندي القديم في الجيش الفرنسي الكبير! إن النار مستعرة في بدني، فكيف حالك أنت! لقد أضرمت فيّ النار، فهل أنت سامع ما أقول يا بطل أوسترلتز؟ فلنشرب زجاجةً ثالثة لنطفئ الحريق ونخمد ألسنة اللهب.»

فهز الجندي القديم رأسه، ودوّم حدقتيه الجاحظتين، حتى لتوقعت أن أراهما تسقطان من محجريهما، ثم لمس جانب أنفه المكسور بإصبعه القذر، وقال: «القهوة!» وذهب يعدو إلى غرفة داخلية.

وقد كان لهذه اللفظة المفردة التي نطق بها ذلك الجندي العتيق الشاذ، من الوقع ما يشبه السحر في الحاضرين، فنهضوا جميعًا دفعةً واحدة لينصرفوا، ولعلهم كانوا يطمعون أن ينالوا شيئًا بفضل ما كسبت، فلما وجدوا صديقي الجديد تأبى له شهامته ومروءة نفسه أن يدعني أسكر حتى لا أعي، ذهب أملهم فيما كانوا يتطلعون إليه من المتعة على حسابي، ومهما تكن البواعث التي حملتهم على الخروج، فإن الواقع أنهم انصرفوا معًا. ولما عاد الجندي وجلس مرةً أخرى إلى المائدة أمامي، كانت الغرفة خالية إلا منا، وكنت بحيث أستطيع أن أرى الضريب فيما يشبه الدهليز، يتناول عشاءه. وصار السكون أعمق وأرهب. وتغيّر الجندي السابق بغتة، واتخذ هيئة الجد الصارم، وصار إذا تكلم لا يزين عبارته أو يؤكدها بالأيمان، أو فرقعة الأصابع، أو الصيحات أو غير ذلك.

وقال لي بلهجة من يفضي إليّ بسر: «اسمع يا سيدي العزيز نصيحة جندي قديم. لقد ذهبت إلى ربة الدار (وهي سيدة ظريفة ونابغة في الطبخ) لأقنعها بوجوب العناية بإعداد قهوة قوية جيدة لنا. فعليك أن تشرب هذه القهوة لتذهب عنك سورةُ الشراب قبل أن تمضي إلى بيتك، لا غنى بك عن ذلك يا صديقي الكريم. فإن عليك أن تحمل كل هذا المال معك إلى بيتك الليلة، ومن واجبك نحو نفسك أن تحتفظ بعقلك. وقد عرف جسامة مكاسبك ناس كثر كانوا هنا الليلة، وهم جديرون بالثقة ولكن الإنسان إنسان، يا سيدي العزيز، فهم لا يخلون من مواطن ضعف، وقد لا يستطيعون أن يقاوموا الفتنة ويصدوا عما يغريهم. فهل أحتاج أن أقول أكثر من ذلك؟ كلا! فإنك تفهم عني وتدرك ما أعني. والآن هذا ما ينبغي أن تفعل: تبعث في طلب مركبة حينما ترى أن نفسك قد ثابت إليك، وأغلق نوافذها كلها عندما تركب، ومُر السائق أن يجتاز بك إلى بيتك الشوارع الكبيرة المضاءة. افعل هذا تسلم ويسلم لك مالك. افعل ما أشير به، وغدًا ستدرك أنك مدين بالشكر لجندي هرم على ما أخلص لك النصح فيه.»

وما كاد الجندي السابق ينتهي من خطبته التي ألقاها بصوت شجي، حتى جاءت القهوة، مصبوبة في فنجانين. وناولني صديقي المحتفي بي أحد الفنجانين وهو ينحني لي. وكان ريقي جافًّا من الظمأ فشربت القهوة دفعةً واحدة. ولم أكد أرد الفنجان إلى مكانه حتى انتابني دوار شديد، وأحسست أني ازددت سكرًا، وصارت الغرفة تدور بي بعنف، وصار الجندي فيما يبدو لي يصعد ويهبط أمامي كأنه كبَّاس آلة بخارية. وأصمّني صوت يدوّي في مسمعي، واستولى عليّ الشعور بالحيرة والذهول، والعجز، والغباء، فنهضت عن الكرسي، وأنا أعتمد على المائدة لأحتفظ بتوازني، وتمتمت أني مريض ثاقل٥ فلست أدري كيف أذهب إلى بيتي.

فقال الجندي، وكان صوته أيضًا فيما يُخيّل إليّ، يضطرب ويعلو ويهبط كبدنه: «يا صديقي العزيز، إن من الجنون أن تذهب إلى بيتك وأنت على هذا الحال. فستفقد مالك على التحقيق. وقد تسرق وتُقتل أيضًا بسهولة. إني أنا سأنام هنا، فنم هنا أيضًا، فإنهم يجيدون إعداد الأسرة وتسويتها في هذا البيت. خذ سريرًا، وأفسد سورة الخمر بالنوم، ثم عد غدًا إلى بيتك، وأنت آمن، ومعك مكاسبك، في وضح النهار.»

ولم يبق في رأسي سوى خاطرين؛ الأول: أن لا أدع الصرّة المحشوة بالمال تفلت من يدي. والثاني: أنه يجب أن أرقد حالًا وأنام لأرتاح مما أعانيه، ومن أجل هذا قبلت ما اقترحه الجندي من النوم هنا، وتناولت ذراعه، وحملت الصرة بيدي الأخرى. وتقدمَنا الضريب فاجتزنا بعض الممرات وصعدنا درجات إلى الغرفة التي سأنام فيها. وهز الجندي يدي مصافحًا بحرارة، واقترح أن نفطر صباح غد معًا، ثم خرج يتبعه الضريب.

فأسرعت إلى حوض الغسيل، وشربت بعض ما في القلة من الماء، وصببت الباقي في الحوض ووضعت وجهي فيه، ثم قعدت على كرسي وحاولت أن أستعيد وثاقة حالي. فسرعان ما أحسست أني أفيق وأن قوتي ترجع إلي، وقد كان الانتقال من الجو الفاسد في حجرة القمار إلى الهواء البارد في هذه الغرفة، ومن نور مصابيح الغاز الوهاجة إلى ضوء الشمعة الخافت الهادئ مما قوى الانتعاش الذي أفادنيه الماء البارد، فزال عني الدوار وبدأت أشعر أني قاربت حالة الأصحاء العقلاء. وكان أول ما جرى ببالي هو الخطر الذي يستهدف له من ينام الليل كله في بيتٍ من بيوت القمار، وكان الذي جرى ببالي بعد ذلك هو الخطر الأكبر الذي يتعرض له من يحاول الخروج من البيت بعد أن يوصد بابه، والذهاب إلى البيت وحده في الليل، مخترقًا شوارع باريس ومعه مبلغ ضخم من المال. ولقد نمت في شر من هذا البيت خلال أسفاري العديدة. ولذلك صح عزمي على أن أسكَّ الباب وأُضَبِّبَهُ٦ وأترسه، وفي الصباح أرى ما يجيء به الحظ.
وهكذا اتقيت التطفل علي، ثم نظرت تحت السرير، وفي الصوان٧ واختبرت مشابك النافذة، ولما اقتنعت بأني لم أقصر في الحيطة خلعت ثيابي الفوقية، ووضعت الشمعة على الموقد بين رماد الخشب، ورقدت على السرير، ودسست صرتي تحت المخدة.

وما لبثت أن تبينت أن النوم لن يؤاتيني، وأني لن أستطيع حتى أن أغمض جفوني، فقد كنت تام التنبه وفيما يقارب الحمى، وكان كل عرق في بدني ينبض، وكل حاسة من حواسي مرهفة، فجعلت أتقلب، وأجرب كل رقدة، وألتمس المواضع الباردة من الفراش، ولكن بلا فائدة، وكنت تارةً أريح ذراعي على ظهارة الفراش، وتارةً تحتها، وتارةً أدفع رجليّ وأمدهما إلى آخر السرير، وطورًا آخر أطويهما إلى قريب من ذقني، ومرة أهز المخدة وأقلبها على الوجه الآخر، وأسويها وأرقد على ظهري، ومرة أثنيها وأقيمها على حدها وأسندها إلى ظهر السرير وأحاول أن أنام وأنا راقد كقاعد. ولكن هذا كله كان عبثًا فتوجعت وسخطت وأدركت أن أمامي ليلة طويلة سأقضيها مسهدًا.

وماذا أستطيع أن أصنع؟ لم يكن معي كتاب فأتسلى بالقراءة، وإذا لم أهتد إلى ما أشغل به نفسي وألهي به عقلي فإن من المحقق أن يفضي بي ذلك إلى حال أتوهم فيه كل ضرب من المخاوف والأهوال، وأتصور كل ممكن وكل مستحيل من المخاطر، أي أن أقضي الليلة وأنا أقاسي كل أنواع الفزع العصبي.

واتكأت على مرفقي وأجلت عيني في الغرفة، وكان القمر يريق عليها ضوءه اللين من النافذة، وفي مأمولي أن أجد صورة أو حلية أتأملها. وتذكرت وأنا أدور بعيني من جدار إلى جدار، ذلك الكتاب الممتع «رحلة في غرفتي» فاعتزمت أن أحذو حذو الأديب الفرنسي، وأن أنشد من التسلية ما يخفف آلام السهاد وسآمته، وذلك أن أحصي — في رأسي — كل ما أستطيع أن أرى من متاع الغرفة وأثاثها وأن أتتبع إلى مصادرها جمهرة الذكريات التي لا يعجز عن إثارتها حتى كرسي أو مائدة أو حوض.

على أن اضطراب أعصابي جعل الإحصاء أسهل عليّ من التفكير، فما لبثت أن يئست من قدرتي على انتهاج الطريق الذي ضرب فيه صاحب «رحلة في غرفتي»، لا، بل من القدرة على أي تفكير، فأدرت عيني في الغرفة، ونظرت إلى قطع الأثاث المختلفة، ولم أزد على ذلك.

وكان هناك، أولًا، السرير الذي أرقد عليه، وله عمد أربعة، وذاك آخر ما كنت أتوقع أن أجد في باريس؛ سرير إنجليزي الطراز ذو أربع قوائم، يحيط به من فوق، سِجف منقوش، وينسدل عليه ستران مقرونان خانقان، تذكرت أني لما دخلت الغرفة رددت كل شق منهما إلى القائمة من غير أن أجعل بالي إلى السرير نفسه. وكان هناك أيضًا حوض من الرخام للغسل، هو الذي صببت فيه الماء بلا تحرز أو أناة، ولا تزال بقية مما أريق على حافته يقطر ببطء على الأرض. وثم أيضًا كرسيان صغيران ألقيت عليهما ما خلعت من ثيابي، وكرسي آخر كبير ذو ذراع، وقد طرحوا عليه حِبسًا٨ أبيض إلا أنه قذر، وعلى ظهره بنيقتي وربطة رقبتي، وصوّان له أدراج، مقابض بعضها منزوعة، ودواة من الصيني مزخرفة ولكنها مكسورة موضوعة على ظهر الصوان كأنها حلية، ومنضدة للزينة، عليها مرآة صغيرة جدًّا، ومدبسة كبيرة جدًّا، ثم الشباك وهو أكبر من المألوف، وكانت هناك أيضًا صورة قاتمة قديمة رأيتها على ضوء الشمعة، وهي صورة رجل على رأسه قبعة إسبانية عالية مزدانة بالريش، ووجهه وجه شرير نذل، وعيناه تنظران إلى فوق، ويده على حاجبه كأنه يستشرف، وكان يحدّق فيما فوق، فلعله كان يرمق مشنقة عالية يوشك أن يتدلى منها. ومهما يكن من ذلك، فلا شك أن هيئته كانت هيئة رجل يستحق هذا المصير بلا جدال.

وكأنما أعدتني الصورة فرحت أصعد بصري إلى ما فوق، إلى سقف السرير. ولكن منظره كان كريهًا؛ فحولت عيني إلى الصورة، ورحت أعد الريشات التي تزدان بها القبعة، فإذا هي ثلاث بيضاء، وثلاث خضراء، وتأملت قمة القبعة فألفيتها مخروطية الشكل، من الطراز الذي كان يميل إليه ويؤثره «جيدو فوكس»، وتساءلت عما ينظر إليه هذا الرجل المرسوم! لا يمكن أن تكون النجوم همه، فإن شريرًا مثله لا يكون فلكيًّا ولا منجمًا، فلا بد أن تكون عينه على المشنقة العالية التي سيرفع إليها ويتدلى منها بعد قليل! فهل يرث الجلاد قبعته العالية المريشة؟ وأحصيت الريش مرةً أخرى فألفيته كما كان؛ ثلاث ريشات بيضاء، وثلاث ريشات خضراء!

وبينما كنت أتشاغل بهذا شردت خواطري، وأذكرني ضوء القمر في الغرفة ليلة مقمرة في إنجلترا، بعد رحلة للنزهة في وادٍ ببلاد ويلز. وتمثل لخاطري كل ما شاهدته وأنا عائد مع رفاقي من هذه الرحلة؛ من المناظر الجميلة التي زادها القمر جمالًا، وأكسبها فتنة لا تكون لها بغيره، ومن العجيب أني كنت نسيت هذه الرحلة ولم أفكر فيها كل هذه السنوات الطويلة، ولو أني حاولت أن أتذكرها لكان المحقق أن لا أستعيد إلا قليلًا من مشاهدها. فيا لهذه الذاكرة التي لا تزال تعيننا على الاعتقاد بأنا خالدون على الرغم من الفناء المادي! ها أنا ذا في بيت مريب لا عهد لي به، وفي موقف قلق لا يخلو من خطر من شأنه أن ينفي التفكير الهادئ، ومع ذلك أراني أتذكر، عفوًا وبلا جهد مني، أماكن وأشخاصًا، وأحاديث ودقائق من كل ضرب، كنت أظنها قد طويت طيًّا ليس له من نشر، وما كان من الممكن أن أتذكر ذلك بإرادتي حتى في أحسن الأحوال. وما الذي أثار هذه الذكرى في لحظةٍ واحدة، وأحدث هذا الأثر العجيب المعقد الخفي السر؟ لا شيء سوى أشعة القمر الداخلة من نافذة غرفتي!

وكنت لا أزال أفكر في تلك الرحلة، وفي مرحنا ونحن عائدون منها، وفي السيدة الشابة التي تأبى إلا أن تنشد أبياتًا من قصيدة «تشايلد هارولد» — بيرون — لأن القمر كان يضيء الدنيا، وردتني هذه المناظر والملاهي المنسية إليها واستولت علي، وإذا بالخيط الذي تعلقت به ذكرياتي ينبتّ في ثانية واحدة، وإذا بي أُرد إلى الحاضر الذي أنا فيه بقوة، وإذا بي ألفي نفسي — لا أدري لماذا؟ — أنظر بحدة إلى الصورة المعلقة مرة أخرى!

أنظر باحثًا عن أي شيء.

يا إلٰهي! لقد شد الرجل المرسوم قبعته على حاجبيه! كلا! بل اختفت القبعة كلها! أين ذهبت القبعة المخروطية الشكل؟! وأين الريشات الست؛ الثلاث البيضاء، والأخر الخضراء؟! لم يبق لها وجود! وما هذا الذي يحجب جبينه الآن وعينيه ويده المرفوعة إلى ما فوق !حاجبيه؟

أفي السرير شيء يتحرك؟

انقلبت على ظهري، وحدقت. أتراني جننت؟ أما أنا سكران؟ أم هو حلم؟ أم عاودني الدوار؟ أم سقف السرير يهبط ببطء، ولكن باطراد، وفي سكون؟ يهبط كله شيئًا فشيئًا، بطوله وعرضه، ويدنو مني قليلًا فقليلًا وأنا راقد تحته؟

وأحسست كأنما جمد الدم في عروقي، وابترد جسمي وسرى مثل الشلل في بدني، وأنا أقلب خدي على الوسادة، أنظر إلى الرجل المرسوم في الصورة وأرى هل يهبط سقف السرير حقًّا أو هو ثابت لا يتحرك؟

وكانت نظرة واحدة إلى الصورة حسبي، فقد كان السجف المنقوش المحيط بجوانب السرير من سقفه محاذيًا لخصر الرجل! وظللت أنظر وقد احتبست أنفاسي، ورأيت الصورة المرسومة تختفي، والإطار من تحتها يغيب، والسقف يهبط ببطء، وفي اطراد، وبلا صوت!

وأنا لا جبان، ولا ضعيف القلب. وقد تعرضت للمخاطر والمهالك أكثر من مرة في حياتي، ولم أفقد عقلي لحظة واحدة، ولكني لما أيقنت أن سقف السرير يتحرك وأنه يهبط عليَّ، نظرت إليه وأنا أرعد، وقد فاجأني الروع فلا حيلة لي تحت هذه الأداة القاتلة الشنيعة التي تقترب مني لتخنقني وأنا أرقد.

خذلني الرشد، وخانني اللسان، وتعلقت أنفاسي وأنا أنظر، وكانت الشمعة قد نفدت فانطفأت، ولكن القمر كان يضيء الغرفة. وكان السقف يهبط بلا توقف، ولا صوت، وأنا من الفزع كأنما شددت إلى المرتبة، وبلغ من دنو السقف مني أن شممت رائحة التراب الذي في السجف المحيط به.

وفي هذه اللحظة الأخيرة تنبهت غريزة المحافظة على الذات، وأنقذتني من الذهول الذي استولى عليّ فتحركت، ولما أكد، فما كان هناك من المسافة بين المرتبة والسقف أكثر مما يسمح بالانقلاب على جنبي والتدحرج عن السرير. وبينما كنت أهوي إلى الأرض بلا ضجة أو ضوضاء لمست بكتفي سجف هذا السقف القاتل.

ولم أنتظر حتى تنتظم أنفاسي، ويثوب إليَّ جسمي، ولم أعن بأن أمسح العرق البارد الذي تصبب من وجهي، بل أسرعت فنهضت على ركبتي لأرى سقف السرير من سطحه. وأعترف أني سُحرت فسُمرت في مكاني، فلو أني سمعت حينئذ وقع أقدام خلفي لما استطعت أن أدور أو أتلفت، ولو أن وسيلة للنجاة أتيحت لي بمعجزة لما وسعني أن أتحرك لأنتفع بها، فقد صار كل ما فيَّ من قوة وحياة مركزًا في عينيّ.

ظل السقف كله يهبط، ومعه السجف الذي يدور به، حتى لم يبق بينه وبين المرتبة ما يكفي لدس إصبع، فمددت يدي وتحسست جوانب السقف، فإذا الذي كنت أحسبه، وأنا راقد، سقفًا عاديًا لسرير ذي قوائم أربعة، مرتبة سميكة عريضة يحجبها السجف ويسترها من تحتها الكلة، فصعدت طرفي فأبصرت القوائم الأربعة عارية. وفي وسط السقف الهابط بِزال٩ عظيم خارج من سقف الغرفة، وهو ولا شك الذي نزل بالسرير، على نحو ما تفعل المكابس. وكانت هذه الأدوات الضاغطة الرهيبة تتحرك من غير أن تحدث أخفت صوت. فما سمعت شيئًا وأنا راقد، ولا كان هناك أدنى جرس من الغرفة التي فوقي. وفي هذا السكوت المروّع، وفي القرن التاسع عشر، وفي عاصمة فرنسا المتحضرة، رأيت أداة للقتل خنقًا، مثلها لعله كان موجودًا في أحلك أيام محكمة التفتيش، أو في الفنادق النائية المنقطعة في جبال الهارتز أو في محاكم وستفاليا السرية. وكنت، وأنا أتأملها، لا أزال عاجزًا عن الحركة، ولا أكاد أستطيع أن أتنفس، ولكني استعدت قدرتي على التفكير فتجسدت لي المؤامرة التي دبرت لهلاكي في أفظع صورها.

لقد كانت القهوة التي قدمت لي، فيها مخدر، ولكنه كان أقوى مما يجب فأنجاني من الموت اختناقًا أني تناولت فوق الكفاية من المخدر، ولشد ما كنت أتبرم وأسخط على الأرق الذي أنقذني! ولشد ما وثقت بالوغدين اللذين قاداني إلى هذه الحجرة، وقد اعتزما أن يقضيا على حياتي ليظفرا بمكاسبي! وما أكثر الذين ربحوا مثلي، وناموا مطمئنين، كما كنت أحب أن أنام، على هذا السرير ثم لم يرهم، ولا سمع بهم أحد بعد ذلك! وسرت في بدني الرعدة وأنا أتصور هذا المصير الذي كنت صائرًا إليه.

وتعطل كل تفكير، مرة أخرى، حينما رأيت أداة الهلاك تتحرك مرة أخرى فبعد أن لبثت جاثمة على المرتبة حوالي عشر دقائق — على قدر ما استطعت التخمين — بدأت ترتفع، ولا شك أن الأوغاد الذين كانوا يحركونها من فوق اعتقدوا أنهم بلغوا غايتهم وحققوا مأربهم. وكما كانت تهبط في بطء وسكون كذلك أخذت تصعد إلى مكانها الأول، فلما بلغت أطراف القوائم الأربع للسرير كانت قد بلغت السقف أيضًا، واختفى الثقب والبزال جميعًا، وعاد السرير — كما كان يبدو للعين — سريرًا عاديًّا، وسقفه السقف المألوف الذي لا يبعث على أي استرابة.

ووسعني الآن — لأول مرة — أن أتحرك، وأن أنهض عن ركبتي وأرتدي ثيابي وأفكر في النجاة والتماس الطريق إليها. وكنت أدرك أن علي أن أتقي أن أحدث صوتًا يدل على أن الذين حاولوا خنقي أخفقوا، وإلا قتلوني على التحقيق. فهل تراني أحدثت صوتًا؟ أرهفت أذني، وجعلت عيني على الباب لأتبين … كلا. لم أسمع وقع قدم في الدهليز، ولا صوتًا، لا خفيضًا ولا عاليًا من الغرفة التي فوقي. وكان السكون تامًّا في كل مكان، وكنت قد حرصت قبل الرقاد على السرير، على إيصاد الباب وتضبيبه، ولم يكفني ذلك فوضعت خلفه صندوقًا قديمًا من الخشب وجدته تحت السرير، فاتخذت منه مترسًا. وكان من المستحيل نقل هذا الصندوق الآن من موضعه وراء الباب بلا ضجة (وقد اقشعر بدني وأنا أفكر فيما عسى أن يكون مخبأ فيه!) كذلك كان من الجنون أن أفكر في الخروج من البيت من بابه الموصد. فلم يبق لي إلا النافذة، فمشيت إليها على أطراف أصابعي.

وكانت غرفتي في الطابق الأول فوق كُنَّة، وهي تطل على الشارع الخلفي الذي خططته في رسمك، فرفعت يدي لأفتح النافذة وأنا أعلم أن سبيل النجاة رهنٌ بهذا؛ فإن بيتًا كهذا يقتل فيه الناس لا بد أن يكون عليه حُراس لا ينامون، وإني لجدير بأن أقضي نحبي على نحوٍ ما، إذا أَطَّ الشباك أو صوّت نجرانه.١٠ وقد قضيت خمس دقائق — في حساب الزمن — وخمس ساعات فيما كنت أحس، في فتح هذا الشباك، ووفقني الله إلى فتحه في سكون، كما كان يمكن أن يفعل أمهر اللصوص وأحذقهم، ثم أشرفت على الشارع وأدرت عيني فيه، فوجدت أن إلقاء نفسي من النافذة، يكون فيه هلاكي المحقق، فأجلت طرفي في جوانب البيت، فرأيت على الجانب الأيسر منه أنبوبة الماء الغليظة التي رسمتَها، وكانت قريبة من الشباك، وما كدت أراها حتى أيقنت من النجاة، فخلصت أنفاسي لأول مرة مذ رأيت سقف السرير يهبط عليّ!

وقد يرى بعض الناس أن وسيلة النجاة التي اهتديت إليها خطرة، ولكن انزلاقي على الأنبوبة إلى الطريق، لم يتمثل لي فيه أي خطر، فقد استطعت بالمواظبة على الرياضة البدنية أن أحتفظ بقدرتي على التسلق وبراعتي فيه، وكنت واثقًا أن رأسي ويديَّ ورجليَّ لن تخونني. لهذا لم أتردد في الإقدام، فركبت حافة النافذة، ولكني تذكرت صرة المكاسب المدسوسة تحت الوسادة، وكان في وسعي أن أدعها، ولكني آليت ألا أترك لأشرار هذا البيت ما كانوا يمنّون النفس باستلابه، ولهذا عدت إلى السرير، وربطت الصرة الثقيلة برباط رقبتي، وألقيتها على ظهري.

وخيل إليَّ، بعد أن فرغت من ذلك، أني سمعت حسيس أنفاس وراء الباب، فسرت رعدة الفزع في بدني مرةً أخرى، وأنا أنصت وأتسمّع. كلا! لا ركز، ولا شيء غير السكون في الدهليز، وإنما كان ما سمعته هسيس الهواء الداخل في الغرفة، ولم أضع وقتًا، فوثبت إلى حافة النافذة، ومن ثم تعلقت بأنبوبة الماء بيديَّ وركبتيَّ.

وانحدرت إلى الشارع بسهولة وبغير ضجة، كما كنت أتوقع، وذهبت أعدو بأقصى ما يسعني من السرعة إلى مركز الشرطة، وكنت أعرف أنه في جوار هذا الحي. وكان هناك ضابط وبعض الجنود يحكمون تدبير خطة، على ما أعتقد، للاهتداء إلى من ارتكب جريمة خفية كانت باريس كلها تلغط بها يومئذ، فلما شرعت أقص قصتي، بسرعة، وبلغة فرنسية محطمة، كان من الجلي أن الضابط يحسبني إنجليزيًّا مخمورًا سطا على بعضهم وسرقه، ولكن سرعان ما غير رأيه بعد أن مضيت في قصتي، وقبل أن أتمها كان قد دس ما أمامه من الأوراق في درج، ولبس قبعته، وأعارني قبعة (فقد كنت عاري الرأس) وأمر صفًّا من العسكر أن يستعدوا، وطلب من الصناع أن يهيئوا كل ضروب الآلات اللازمة لفتح الأبواب عنوة ورفع بلاط الأرض، وتناول ذراعي كأني صديق حميم، وخرج بي. وأجازف فأقول إن الضابط، لما كان طفلًا صغيرًا، وحمله أهله أول مرة إلى الملعب لم يكن فرحه بذلك كفرحه الآن بما يتوقع أن يجد في البيت الذي هربت منه.

واجتزنا الشوارع والضابط يستجوبني ويهنئني في وقت معًا ونحن سائران على رأس القوة التي صحبتنا، ولما بلغنا البيت وضع الحراس أمامه وخلفه ثم أهوى على الباب يدقه ويقرعه فظهر نور في نافذة، فأمرني أن أتوارى وراء الشرطة، وتلت ذلك قرعات أخرى أشد وأقوى، وصيحة «افتحوا باسم القانون.» فانفتحت المزاليج والمغاليق أمام هذه الصيحة المرعبة، وما كاد المصراع يتحرك حتى كان الضابط في الدهليز يواجه خادمًا ممتقع اللون في نصف ثيابه فدار بينهما هذا الحوار الوجيز:

– «نريد أن نرى الإنجليزي النائم في هذا البيت.»

– «قد خرج منذ ساعات.»

– «لم يفعل شيئًا من ذلك، انصرف صاحبه وبقي هو. فاذهب بنا إلى غرفته.»

– «إني أقسم لك يا سيدي الضابط أنه ليس هنا … إنه …»

– «إني أقسم لك يا سيدي الخادم إنه هنا. نام هنا ثم لم يجد سريركم مريحًا فجاء إلينا يشكو — هذا هو بين رجالي، وهذا أنا جئت لأبحث عن هناة أو اثنتين في سريركم! يا رينو دان (أحد أعوانه) شد وثاق هذا الرجل واربط يديه وراء ظهره. والآن فلنصعد.»

وقبضوا على كل رجلٍ وكل امرأة في البيت، وفي طليعتهم ذلك «الجندي القديم» وأريتهم السرير الذي رقدت عليه ثم صعدنا إلى الغرفة التي فوقه. فلم نر أي شيء فيها يمكن أن يستغرب أو يلفت النظر، فأجال الضابط عينه فيها وأمر الحاضرين أن يلزموا الصمت وضرب الأرض برجله مرتين ودعا بشمعة.

وفحص الموضع الذي ضربه برجله، وأمر بأن ينزع البلاط، فكان ما أراد في أوجز وقت، وجيء بالأنوار الكافية فرأينا فجوة عميقة مدعمة بالخشب بين أرض الغرفة وسقف الغرفة التي تحتها، وفي هذه الفجوة صندوق قائم من الحديد عليه شحم كثير وفي جوفه البزال المتصل بسقف السرير، ووجدنا عدا ذلك ضروبًا أخرى من البزال حديثة التزييت، وروافع مكسوة بالمخمل، وكل ما تركب منه آلة ضاغطة ثقيلة، وهي جميعًا مصنوعة بحيث يسهل وصلها بما أُعد في الغرفة التحتية، وبحيث تفك وتوضع في أضيق مكان. وبعد قليل من العناء استطاع الضابط أن يركب هذه الآلة، ثم ترك رجاله ليديروها وانحدر هو إلى الغرفة التي فيها السرير، وأُنزل السقف الخانق ولكن نزوله أحدث صوتًا لم أسمعه وأنا راقد، وقد ذكرت هذا للضابط فكان جوابه العظيم الدلالة: «إن رجالي يستعملون هذه الآلة للمرة الأولى، أما الذين ربحت مالهم فإن خبرتهم أطول ومرانتهم أوفى.»

وغادرنا البيت في حراسة اثنين من رجال الشرطة فقد نقل كل من كان فيه إلى السجن. وبعد أن دون الضابط أقوالي في مكتبه ذهب معي إلى فندقي ليرى جواز سفري. وقد سألته وأنا أقدمه له: «أتظن أن أحدًا خنق حقيقة على هذا السرير كما حاولوا أن يخنقوني؟»

فقال: «لقد رأيت عشرات من جثث الغرقى في معرض المجهولين، وقد وجدت معهم إقرارات بأنهم انتحروا في نهر السين لأنهم خسروا مالهم على مائدة القمار. ومن أدراني أنهم لم يدخلوا البيت الذي دخلته؟ وربحوا كما ربحت؟ وناموا حيث رقدت؟ واختنقوا فيه؟ ثم ألقوا بهم في النهر وفي ثيابهم إقرار كتبه القتلة؟ إنه ما من أحد يستطيع أن يقول كم لقوا الحتف الذي نجوت أنت منه.

وقد كتم أهل هذا البيت سر آلتهم عنا نحن الشرطة، وتكفل الموتى بكتمان باقي السر. والآن عم مساءً، أو على الأصح عم صباحًا يا سيد فولكنر. وأرجو أن تعود في الساعة التاسعة، وإلى الملتقى!»

ولم يبق من قصتي إلا قليل، سئلت مرة وأخرى، وفتش كل مكان في البيت، واسْتُجْوِبَ المقبوضُ عليهم، كل واحد منهم بمفرده، واعترف اثنان منهم. وتبينت أنا أن «الجندي القديم» هو صاحب بيت القمار، وأظهر التحقيق أنه طرد من الجيش من سنين لسوء سيرته، وأنه اقترف كل ضروب الآثام بعد ذلك، وأن عنده مسروقات شتى عرفها أصحابها، وأنه هو والضريب وشريك آخر والمرأة التي وضعت لي المخدر في القهوة، يعرفون جميعًا سر السرير، وكان هناك شك في أن غيرهم ممن يعملون في هذا البيت يعرفون شيئًا عن الأداة الخانقة المركبة فيه، فانتفعوا بهذا الشك، وعدهم القضاء لصوصًا ومتشردين. أما الجندي القديم وشريكاه فحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة، وأما المرأة فكان نصيبها السجن سنواتٍ نسيت عددها. وعُد الذين يختلفون إلى هذا البيت بانتظام «مشتبهًا فيهم» ووضعوا تحت المراقبة ولبثت أسبوعًا كاملًا (ما كان أطوله!) وأنا أبرز رجل في المجتمع الباريسي. واتخذ ثلاثة من مشاهير الروائيين، حادثتي موضوعًا لقصصهم المسرحية، ولكنها لم تر الضوء ولم تمثل منها واحدة لأن الرقابة منعت أن تظهر على المسرح صورة صادقة لهذا السرير.

على أن الحادثة أثمرت خيرًا لا شك أن أية «رقابة» لا يسعها إلا أن تحمده. ذلك أنها شفتني وزهدتني في لعبة «الأحمر والأسود» وبغضت إليّ التسلي بها، وسيظل منظر الغطاء الأخضر، وعليه أوراق اللعب، وأكوام الفلوس، مقرونًا عندي بمنظر سقف سرير يهبط عليّ ليخنقني في ظلام الليل وسكونه.

هوامش

(١) المفروض أن صاحب الحادثة يقص القصة على المصور الذي يرسمه.
(٢) الضريب هو: الموكل بالقداح في الميسر (موظف نادي القمار)، وقد رأيت أن أترجم بها كلمة Croupier.
(٣) جيش نابليون.
(٤) موقعة انتصر فيها نابليون في ألمانيا.
(٥) الثاقل: الذي أثقله المرض.
(٦) السك والتضبيب، لفظان صحيحان ومعناهما معروف (إغلاق الباب بشدة)، والمترس ما يوضع خلف الباب.
(٧) ما تصان فيه الثياب.
(٨) الحِبس: مفرش السرير.
(٩) البزال: البريمة.
(١٠) النجران: ما يدور عليه الباب أو الشباك، والأطيط صوت الخشب أو الجلد وما أشبههما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤