أناندا: صاحب المعجزات

لما أرسل بوذا رسله ليدعوا إلى دينه وينشروه في الهند، لم يفته أن يزودهم بالوصايا لهدايتهم، وناشدهم أن يتوخوا الوداعة والتواضع والرحمة والقصد، وأن يخلصوا في بث دعوته، وأمرهم أن لا يأتوا — في حال من الأحوال — بمعجزة.

ويروون أن رسله كانوا يعانون عناءً شديدًا، ويكابدون مصاعب جمة في العمل بأوامره، وأنهم كانوا أحيانًا يخفقون، إلا النهي عن المعجزات، فما خالفوا ذلك قط ولا مرة واحدة، ما خلا أناندا التقي الورع الذي نورد فيما يلي سيرته في العام الأول من رسالته.

ذهب أناندا إلى «مجادا» وشرع يفقه الأهالي في دين بوذا، ولما كان المذهب مقبولًا، وكان هو رطب اللسان، مقنع البيان، فقد أقبل عليه الناس يصغون طائعين، وانصرفوا شيئًا فشيئًا عن البراهمة الذين كانوا يوقرونهم من قبل ويعدونهم هداة مرشدين.

«ألا بارك الله في رسول ينشر الحق بقوة الإقناع والقدوة الحسنة والبيان المشرق لا بالخطأ والدجل والشعوذة كما يفعل أولئك البراهمة التعساء!»

ولم يكد يدور في شدقه هذا الزهو حتى تضاءل جبل فضائله، وهجرته الفصاحة والبراعة والفضيلة، فلما خطب الجمهور مرة أخرى بعد ذلك سخروا منه واستهزءوا به ثم رشقوه بالحجارة.

ولما صار الأمر إلى هذا الحال رفع أناندا عينيه فأبصر عددًا من البراهمة، من طبقة دنيا، حافين بغلام مصروع على الأرض، وكانوا يحاولون عبثًا أن يردوا إليه نفسه بالرقى والعزائم وما إلى ذلك من وسائل الشفاء المقررة، ثم قال أحكمهم: «فلنترك بدن هذا المريض مَسكنًا غير حميد للشيطان، فلعله حينئذ يزهد فيه ويهجره.»

وعلى أثر ذلك شرعوا يكوون الغلام بالحديد المحمي، وينفخون الدخان في منخريه، ويفعلون ما وسعهم غير ذلك لإزعاج الشيطان المتطفل. فكان أول ما خطر لأناندا «أن الغلام مصاب بنوبة صرع.» وكان الخاطر الثاني «أن إنقاذه من معذبيه عملٌ طيب.» والخاطر الثالث «إذا أحسنت التدبير فقد يخرجني هذا من المأزق الذي أنا به، ويعلو به اسم بوذا المقدس.»

ولَانَ للإِغراء، فتقدّم وطرد البراهمة بصوت الآمر المسيطر، ورفعَ وجههُ إلى السماء وتَلاَ أسماء الشياطين السبعة. ولما لم يُحْدث هذا أثرًا تلا أسماء سبعة آخرين، ثم غيرها وغيرها. واتفق أن زالت النوبة من تلقاء نفسها، وانقطع اضطراب الغلام وتلوّيه، وفتح عينيه، فرده أناندا إلى أهله. ولكن الناس صاحوا بأعلى صوت: «معجزة! معجزة!» فلما عاد أناندا يعظهم أصغوا له، واعتنق كثيرون منهم مذهب بوذا. فسر أناندا سرورًا عظيمًا، وأثنى على نفسه لما كان من براعته وحضور ذهنه، وقال: «لا شك أن الغاية تبرر الوسيلة.»

وما كاد ينطق بهذا الكفر حتى تضاءل جبل فضائله ومزاياه، وصار في القدر قرية من قرى النمل، وفقد قيمته ووزنه في عيون القديسين، ما عدا بوذا الرحيم الواسع المغفرة.

وذاع حديث المعجزة في طول البلاد وعرضها، حتى بلغ مسامع الملك، فدعا به وسأله هل أخرج الشيطان وطرده حقًّا؟

قال: «بلى.»

قال الملك: «هذا يسرني، فإني أريد منك أن تشفي ابني، فقد غشيه سبات لا يفيق منه منذ تسعة وعشرين يومًا.»

فقال أناندا بلهجةٍ وديعة: «وا أسفاه يا مولاي! إن الفضائل التي لا تكاد تكفي لشفاء منبوذ تعس، كيف تجدي في إبراء ابن ملك هو فيل بين أفيال الصيد؟»

فسأله الملك: «وبماذا تُكتَسَب هذه الفضائل؟»

قال أناندا: «بالتكفير عن الذنوب، ورياضة النفس على النسك، وبفضل هذا يستطيع الناسك المتبتّل أن يُركد الرياح، ويُرقد الموج، ويجادل ويقنع النمور، ويحمل القمر في كمه، ويفعل غير ذلك كل ما يُطمع فيه من ساحر متجول.»

فقال الملك: «أما والأمر كما تقول، فإن من الواضح أن عجزك عن شفاء ابني سببه نقص الفضل، والنقص في الفضل سببه نقص في التكفير، لهذا سأكِل أمرك إلى براهمتي ليساعدوك على سد هذا النقص.»

وعبثًا حاول أناندا أن يبين له أن التكفير الذي يعنيه عقلي وروحي ليس إلا. وقد سُر البراهمة أن يقع بين مخالبهم ملحد في رأيهم، فانقضوا عليه وحملوه إلى معبد، وهناك نزعوا عنه ثيابه فأذهلهم أن لا يروا على بدنه أثرًا لجرح من ضربٍ أو كيٍّ. فصرخوا: «يا للفظاعة! هذا رجل يطمع أن يدخل ملكوت السماء بجلد سليم!» وأرادوا أن يصلحوا هذا الخطأ، فبطحوه١ وأهووا عليه بالسوط يجلدونه حتى عفّوا على سلامة جلده البغيضة. ثم انصرفوا عنه على وعد بأن يرجعوا إليه في اليوم التالي ليعيدوا الكرة، وأكدوا له ساخرين أن فضله بعد ذلك لن يكون دون فضل القديس «باجيراتا» أو حتى فيسْوامِترا نفسه.

وبقي أناندا، حيًّا كميت، على أرض المعبد، وإِذا بالهيكل يضيئه شبح باهر اللألاء يقول: «والآن أيها المرتد، هل اقتنعت بحماقتك؟»

فلم يسغ أناندا اتهامه في دينه بالفتون، ولا الطعن في عقله وحكمته، ولكنه مع ذلك تطامن فقال: «معاذ الله أن أندم أو أتبرم بما يصيبني في سبيل ديني وأداء رسالة مولاي.»

– «أتحب أن تبرأ أولًا، ثم تكون أداة لتحويل أهل «مجادا» جميعًا عن دينهم؟»

فسأله أناندا: «وكيف يستطاع ذلك؟»

قال الروح: «باللجاجة في طريق الغش والعصيان.»

فانتفض أناندا وارتاع، ولكنه حرص على الصمت انتظارًا للإِيضاح.

ومضى الروح في كلامه فقال: «اعلم أن ابن الملك سيفيق من سباته في نهاية اليوم الثلاثين، أي ظهر الغد، فليس عليك إلا أن تمضي في الوقت المناسب، إلى السرير الذي يرقد عليه، فتضع يدك على قلبه وتأمره أن ينهض. وسيُعزى شفاؤه إلى قواك السحرية، وسيفضي ذلك إلى تقرير دين بوذا. ولا بد قبل ذلك أن أداوي ظهرك، وما أسهل هذا عليّ، وكل ما أدعوك إليه هو أن لا تنسى أنك في هذا تخالف أوامر مولاك وأنت مدرك لذلك، ومن الواجب أن تعلم أيضًا أن إنقاذك من المأزق الذي أنت فيه الآن سيوقعك في مآزق أخرى أدهى وأمر.»

فحدث أناندا نفسه أن روحًا شفافًا ليس له بدن يحلّ فيه لا يستطيع أن يقدر ما يحسه رسول مجلود، وقال للروح: «داوني إذا استطعت، واحتفظ بتحذيرك إلى وقت يكون أنسب من هذا.»

قال الروح: «فليكن ما تريد.» ومد راحته فأمرّها على جسم أناندا، فاكتسى ظهره جلدًا جديدًا، وزال عنه الوجع. واختفى الروح وهو يقول: «إذا احتجت إليّ فليس عليك إلا أن تعزم عليّ بهذه العزيمة «جنو إمداب إنام موا٢» فأظهر لك.»

ومن السهل أن يتصور المرء غضب البراهمة ودهشتهم حين عادوا ومعهم السياط والدّرات الجديدة فألفوا فريستهم سليمًا معافى في بدنه، ولعلهم كانوا خلقاء أن يعتاضوا من السياط حبالًا للشنق لولا أنه كان معهم حاجب من حجّاب الملك، فبوأ أناندا كنفه، وحمله معه إلى القصر فمضوا به من توّتهم إلى مخدع الأمير الصغير حيث كان هناك حشد كبير من الناس، ولما كان وقت الظهر لم يجئ، فقد أخذ أناندا يزجّي الوقت الباقي بالتحدث إليهم عن استحالة المعجزات إلا معجزة يأتي بها أتباع بوذا، ثم نزل عن منبره، وفي اللحظة التي توسطت فيها الشمس كبد السماء وبلغت سمتها، أراح يده على قلب الأمير فانتبه من فوره، وأجرى لسانه ببقية كلام عن لعبة النرد، كان يقوله فقطعه عليه ما انتابه من السبات.

فضج الحضور، واستخف الفرح حاشية الملك، ووجم البراهمة وامتقعت وجوههم. حتى الملك بدا عليه التأثر والاقتناع، وطلب من أناندا أن يزيده تعريفًا بالبوذية، فأجابه أناندا إلى ما طلب، ولكن الأربع والعشرين ساعة الأخيرة كانت قد علمته الحكمة وحسن النظر في عواقب الأمور، فلم ير أن يقول شيئًا عن القواعد الأصلية والأركان الرئيسية للبوذية، ولا أن يشير إلى حقارة الحياة والحاجة إلى الخلاص بالتضحية، والسبيل إلى السعادة، وتحريم إراقة الدم. واكتفى بأن يقول إن كهنة بوذا مقضي عليهم بالفقر الأبدي، وأنه بمقتضى الشريعة الجديدة تؤول كل الأملاك الكنائسية إلى أولي الأمر المدنيين.

فصاح الملك: «أما وحق البقرة المقدسة، إن هذا لدين!»

وما كاد الملك ينطق بذلك حتى أعلن رجال الحاشية اعتناقهم لدين بوذا. وتبعتهم الجماهير واقتدت بهم، وألغيت معابد البراهمة وحُرِمت ما كانت توهب، وارتُكب في يوم واحد باسم الدين الجديد الصافي من الأكدار أكثر مما ارتكب في ظل القديم الفاسد في مائة عام.

وسر أناندا إحساسه بأن في وسعه أن يعفو عن أعدائه، وارتفع قدره في عينيه تبعًا لذلك، وتمت سعادته بأن ضُم إلى القصر ووُكلت إليه تربية الأمير ابن الملك فتولى تعليمه شريعة بوذا على وجه مرضي. وكان هذا أمرًا شاقًّا لأنه كان يتقاضاه صرف الأمير عن ملهاته المحبوبة وهي تعذيب الزواحف الصغيرة.

وبعد فترة وجيزة دعي مرة أخرى إلى حضرة الملك فألفى عنده اثنين من أفظع الأشرار أحدهما يحمل فأسا عظيمة وفي يد الآخر كلبتان.٣

وقال الملك: «هذا رئيس الجلّادين، وهذا رئيس المعذِّبين.»

فأعرب أناندا عن اغتباطه بمعرفة هذين الرجلين الكبيري المقام.

ومضى الملك في كلامه فقال: «يجب أن تعلم أيها التقي الورع أن الحاجة قد نشأت مرة أخرى إلى رياضة النفس على الجلد وإنكار الذات من جانبك، فقد غزا العدو بلادي وألحق الهزيمة بجنودي، وكنت خليقًا أن يروعني ذلك ويهولني لولا التعزي بالدين، ولكن اعتمادي إنما هو عليك يا أبي في الروح، ومن المحتم أن نكتسب أعظم مقدار من الفضل في أوجز زمن وأقصر مدة، ولم أستطع أن أستعين على هذه الغاية بالبراهمة أصدقائك القدماء فإنهم الآن، كما تعلم، مغضوب عليهم. ولكني دعوت هذين الخبيرين الموثوق بهما. على أنهما قد اختلفا، فأما رئيس المعذبين فإنه رجل ليِّن رقيق القلب رحيم، ولهذا يرى أنه يكفي في البداية أن نتخذ أخف التدابير كأن نعلقك من رجليك، وندلي رأسك في دخان حطب موقد، ونملأ منخريك بالفلفل الأحمر، أما رئيس الجلادين فإنه على ما يظهر ينظر إلى الأمر نظرة فنية، ويرى أن الأولى أن نلجأ دفعة واحدة إلى الصلب أو الخازوق. ويسرني أن أعرف رأيك في الموضوع.»

فأعرب أناندا — على قدر ما سمح له الرعب بذلك — عن استنكاره الشديد لكلتا الوسيلتين.

فقال الملك بلهجة المذعن لما لا حيلة له فيه: «حسن. إذا كنا لا نستطيع أن نتفق على إحدى الوسيلتين فإنه لا يبقى أمامنا إلا أن نجربهما جميعا. وسنجتمع إذن لهذا الغرض صباح غد في الساعة الثانية. والآن، اذهب بسلام.»

فذهب أناندا، ولكن ليس بسلام، وكان الرعب خليقًا أن يذهب بلبه لولا أنه تذكر ما وعده به منقذه. فلما بلغ مكانًا يأمن فيه العيون نطق بالعزيمة السحرية. وما كاد يفعل حتى ظهر له، لا الروح، بل رجل من أهل النسك والتقشف رأسه معفر بالتراب والرماد وجسمه مدهون بروث البقر.

وقال الفقير: «إن الأمر لا يحتمل التلكؤ، فاتبعني والبس مراقع الفقير.»

فثارت نفس أناندا على هذا، فقد تلقى عن بوذا الحكيم الوديع الاحتقار الذي يستحقه هذا التقشف الفظيع الذي يحيل المرء إلى ما يشبه الجيفة المرمّة. على أن الضرورة لم تدع له حيلة يحتالها، فتبع الفقير إلى مقبرة اختارها الفقير مسكنًا له. وهناك أخذ الفقير ينعي نعومة شعر أناندا وقصر أظافره، ثم دهنه على مثاله، وطلاه بالطين والكلس حتى صار الرسول الوديع لأرق دين، أشبه بنمر من نمور البنغال. ثم زيّن له جيده بعقد من جماجم الأطفال ووضع في إحدى يديه جمجمة شرير، وفي الأخرى عظمة فخذ عرّاف، ومضى به بعد الغروب إلى المقبرة المجاورة حيث أجلسه على رماد جثة محروقة حديثة وأمره أن يقرع الجمجمة بالعظمة كما يفعل الطبّال، وأن يردد التعازيم التي بدأ يطلق الصوت صارخًا بها وهو متجه إلى الغرب. ويظهر أن هذه الرقى والتعازيم كانت فعّالة فقد ثار إعصار شنيع ونزل المطر كالسيل وأثخنت البروق الخاطفة بقلب السحب، وخرجت الذئاب والضباع من أوجرتها تعوي وترغو، وانشقت الأرض عن عفاريت ومَرَدة تمد أذرعتها المعروقة إلى أناندا وتحاول أن تجرّه فأطار لبَّه الفزعُ وراح يقلد صاحبه ويدق، ويضرب، ويصيح، حتى كاد يُشفي على التلف، وإذا بالرياح العاصفة تركد، والأشباح تختفي، بقدرة قادر، وتحل محلها صيحات فرح، ودقات طبول ودفوف، وأصوات معازف، تنبئ بحادث سار في المدينة.

وقال الفقير: «مات الملك العدو، وتفرق جيشه، وسيعزى هذا إلى تعازيمك وهم الآن قادمون في طلبك. فوداعًا حتى تفتقر إلى معونتي مرة أخرى.»

واختفى الفقير، ودنا الموكب، وأصبح دبّ الأقدام مسموعًا، ثم ظهرت المشاعل الخافتة النور في الفجر المطلول، وترجل الملك عن فيله وألقى وجهه على الأرض بين يدي أناندا وقال: «أيها الرجل الفذ، لماذا لم تقل إنك فقير؟ لن يساورني الخوف بعد اليوم من أعدائي ما دمت مقيمًا بهذه المقبرة!»

وطردوا جماعة من أبناء آوى من قبر مهجور أفردوه لأناندا ليسكنه. ولم يسمح الملك بأدنى تغيير في هيئته ولباسه، وحرص على أن يخلو الطعام الذي يقدم له من كل ما عسى أن يفقده القداسة التي بلغ مظهرها غاية ما يطمع فيه الطامع في أقصر وقت، فتلبد شعره واختلط به الوحل، وطالت أظافره، وإذا بزائر جديد من لدن الملك ينبئه أن الراجا أصيب فجأة بمرض خطير خفي، وأن الملك على يقين من أن أناندا سيخف إلى نجدته بالرقى والعزائم.

فتناول أناندا، عظمة الساقة والجمجمة، وهو كاره لذلك، وراح يقرع هذه بتلك، وينتظر ما سيكون، ولكن العزيمة فقدت مزيتها على ما يظهر فما أخذت عينه سوى وطواط؛ فبدأ أناندا يحدث نفسه بأن الأحجى به أن يكف، وإذا برجلٍ مديد القامة له سمت ووقار، وعليه ثياب سود، وفي يده صولجان، يبدو له ويقف إلى جانبه كأنما خرج من جوف الأرض.

وقال الرجل الغريب: «إن المرجل مهيَّأ.»

فسأله أناندا: «أي مرجل؟»

قال: «الذي سيُلقى بك فيه.»

قال أناندا: «أنا يُلقى بي في مرجل؟ ولماذا؟»

قال الغريب: «لأن تعزيماتك عجزت عن إفادة جلالته. ولما كانت جدواها في مرة سابقة لا تسمح بأن يظن أحد بها العقم، فقد انتهى به الأمر إلى الاعتقاد بأن تأثيرها السيئ هو الذي ضاعف الألم الذي يعانيه. وقد عززت له رأيه ذهابًا مني إلى أنه من مصلحة العلم أن يحل غضب الملك بمشعوذ دجال مثلك لا بطبيب عالم حاذق مثلي. ومن أجل ذلك أمر جلالته بأن توقد النار تحت المرجل الأكبر طول الليل، على أن يلقي بك في مائه عن الصباح ما لم تفده عزائمك قبل ذلك.»

فصاح أناندا: «يا إلٰهي! أين المفر؟»

فقال الطبيب: «إنه لا مهرب لك من هذه المقبرة … فإن عليها نطاقًا من حرس الملك.»

فسأله أناندا: «إذن كيف السبيل إلى النجاة؟»

فقال الطبيب: «في هذه الزجاجة؛ إن فيها سمًّا زعافًا. فاطلب أن تشخص أمام الملك، وقل إنك تلقيت دواءً شافيًا من أرواح خيرة، فيتجرعه ويموت ويجزيك خلفه خير جزاء.»

فصاح أناندا، وقد استشاط غضبًا، ورمى الزجاجة: «اذهب عني أيها الشيطان الموسوس! إني أتحداك وأعوذ مرة أخرى بمنقذي … جنو إمداب إنام موا.»

ولكن العزيمة لم تحدث أثرًا، ولم يبد لعينيه مخلوق أو شبح سوى الطبيب الذي كان ينظر إليه نظرة الأسف والمرثية، وهو يضم طيلسانه، ويختفي في الظلام الشامل.

وبقي أناندا وحده يجادل نفسه، وقد هم مرات لا عداد لها أن ينادي الطبيب ويتوسل إليه أن يجيئه بزجاجة سم كالتي رماها، ولكنه كان كلما همّ بذلك شعر بشيء يصعد إلى حلقه ويحبس صوته، حتى أضناه الاضطراب، وأعياه فنام ورأى هذا الحلم.

رأى، فيما يرى النائم، أنه واقف عند مدخل «بتالا»٤ الشاسع المظلم، وكان هذا المكان الموحش يبدو كأنما فيه احتفال شيطاني، فقد كانت هناك جموع من الشياطين على كل صورة، ومن كل حجم، تتدافع في المدخل لتنظر إلى ما خُيل إليه أنه زينة تقام، وكانت مئات من العفاريت والأمساخ تنظم المصابيح الملونة عقودًا وأكاليل، وهي تقفز، وتُضَوْضي، وتلجلج، وتقهقه، وتتدلى من أذنابها وتتطوح في الهواء، كالقردة، وكان العمل يديره من تحت هؤلاء، شياطين كبار عليهم سمت ولهم أبهة، وفي أيديهم صولجانات تدل على منازلهم ومراتبهم يشع من أطرافها لهبٌ أصفر كانوا يلسعون به أذناب العفاريت إذا رأوا أن النظام يوجب ذلك. فلم يستطع أناندا أن يكبح نفسه عن السؤال عن الداعي إلى هذه الاستعدادات للاحتفال.

فقال الشيطان الذي تلقى سؤاله: «هذا احتفال بتكريم أناندا الورع، أحد رسل الرب بوذا ونحن ننتظر حضوره بيننا بلهفة وارتياح.»

وبعد جهد شديد استطاع أناندا المرتاع أن يجمع قواه الخائرة، ويسأل لماذا يجب أن يتخذ الرسول المذكور — يعني نفسه — مقامه في مناطق الجحيم؟

فقال الشيطان المسئول بإيجاز: «من أجل السم.»

فهمّ أناندا أن يطلب منه الإيضاح، ولكنه شُغل بجدال عنيف بين اثنين من الشياطين المشرفة على العمل.

وكان أحدهما يقول: «كاموراجا، بالطبع.»

فيقول الثاني: «بل دامبورانانا ولا شك.»

فالتفت أناندا إلى الشيطان الذي كان يكلمه وقال: «هل تسمح لي أن أستفسر عن كاموراجا ودامبورانانا، ما هما؟»

فقال الشيطان: «هما جحيمان، ففي كاموراجا يغمس النازل في القار المذاب ويطعم الرصاص المصهور، وأما في دامبورانانا، فهو يغمس في الرصاص المصهور ويطعم ذوب القار، وزميلاي هذان اللذان تسمعهما يتحاوران، يتجادلان في أي الجحيمين أولى بخطايا ضيفنا أناندا.»

وقبل أن يتدبر أناندا هذا النبأ انحدر عفريت شاب من فوق، ببراعة وخفة، وتقدم من الشياطين اللذين يتجادلان وانحنى لهما وقال: «أيها الشيطانان الجليلان، هل تسمحان لعفريت ضئيل الشأن أن يقول إن كل تكريم مهما عظم، دون ما يجب لضيفنا أناندا إذ كان هو الوحيد الذي يحتمل أن نحظى بعشرته من بين رسل بوذا أجمعين؟ لهذا أجترئ على القول بأنه لا جحيم كاموراجا تصلح مقامًا له، ولا جحيم دامبورانانا تليق به، بل يجب أن تُجمع محاسن كل جحيم من الأربع والأربعين ألفًا والمائتي ألف، وأن تُحشد جميعًا في جحيم واحدة جديدة تقام لاستقباله خاصة.»

فتعجبت الشياطين الكبار لذكاء العفريت الصغير وقالوا: «أما إنك لعفريت صغير ممتاز حقًّا؟» ثم انصرفوا ليعدوا الجحيم الجديدة ويجهزوها بما يليق بمقام الضيف الكريم.

واستيقظ أناندا وهو يرعد من الفزع ويصيح: «لماذا كنت رسولا؟ إيه يا بوذا! ما أوعر طريق الهدى والقداسة! وما أسهل أن يعثر المرء ويضل وإن حسنت نيته! وما أسخف الزهو وأحمق صاحبه!»

فناداه صوت عذب رقيق: «أَوَأدركت هذا يا بني؟»

فأدار وجهه فألفى أمامه بوذا في هالة من النور اللين، وخُيل إليه أن سحابة تقشعت عن عينه، فأدرك أن مولاه هو الروح، والفقير، والطبيب جميعًا، وأنه كان يتراءى له في هذه الصور المختلفة.

فقال وهو شديد الاضطراب: «أيها المعلم المقدس، إلى أين أذهب؟ إن خطاياي تنهاني عن الدنوّ منك.»

فقال بوذا: «إن خطاياك ليست هي التي تصدك عن الاقتراب مني يا بني، بل ما ورطك فيه العصيان والشعوذة، وقد ظهرتُ لك لأذكرك بأن رسلي يجتمعون اليوم على جبل فنديا ليؤدوا الحساب عن رسالتهم، وأنا أسألك هل أؤدي عنك الحساب أو تؤديه أنت بنفسك؟»

فقال أناندا: «بل أؤديه أنا بنفسي، ومن العدل والحق أن أحتمل ذلة الاعتراف بحماقتي وطيشي.»

فقال بوذا: «أحسنت يا بني، ولهذا أسمح لك أن تنضوي عنك مراقع الفقير، وأن تظهر في الاجتماع في الطيلسان الأصفر الذي هو رداء الرسل. بل إني لأتجاوز عن بعض قواعدي، لأجلك، وفي سبيلك، وآتي بمعجزة غير هينة فأنقلك الآن إلى قمة الجبل حيث بدأ الرسل يفدون. ذلك أنك، بغير ذلك، تتعرض لبوار محقق وهلاك مؤكد فيمزقك الجمهور المقترب الذي شرع يقتلع ديانتي بإيعاز الملك الجديد تلميذك المرجو الغد. فقد مات الملك الهرم، سمه البراهمة!»

فبكى أناندا، بأربع، وجعل يقول وهو ينتحب: «مولاي! مولاي! وهل ضاع كل شيء؟ بخطئي، وحماقتي؟»

فقال بوذا: «إن ما يبنى على الغش والدجل لا بقاء له ولا ثبات، وهذا هو الحق، ولا تحزن، فستدعو إلى ديني، وتوفق، في بلاد أخرى. إن الحساب الذي ستؤديه عن رسالتك حسابُ سوء، ولكنك تستطيع أن تقول، وأنت صادق، إنك أطعت أمري مبنى لا معنى، فما يسع أحدًا أن يزعم أنك أتيت بأية معجزة.»

هوامش

(١) بطحه ألقاه على وجهه.
(٢) عزيمة البوذيين، وهي هنا مقلوبة.
(٣) ما يأخذ به الحداد الحديد المحمي.
(٤) مجمع الشياطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤