في نطاق من الجمد

لما خرج المستر جون أُوكهيرست — المقامر — إلى السكة الرئيسية في «بوكر فلات» صباح اليوم الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني سنة ١٨٥٠ أحس أن جو اليوم غير جو الليلة البارحة، فقد كان هناك اثنان أو ثلاثة يتحادثون، ورءوسهم متدانية، فلما اقترب منهم أمسكوا عن الكلام وتغامزوا وتبادلوا نظرات لا تخلو من دلالة. وكان في الجو هجعة كهجعة «السبت» وهي في حلة لم تألف فتور السبت، لا تكون إلا نذيرًا.

ولم يبد على محياه الوسيم الساكن قلق من جرّاء هذه النذر. أما أنه كان يدرك البواعث على هذا التغيير، فشيء آخر. وقال يناجي نفسه: «أحسبهم يطلبون واحدًا. وعسى أن أكون أنا المطلوب.» وردّ إلى جيبه المنديلَ الذي كان ينفض به التراب عن حذائيه النظيفين، وأعفى نفسه من عناء التخمين.

والواقع أن حلة «بوكر فلات» كانت «تطلب واحدًا» فقد مُنيت أخيرًا بخسارة عدة آلاف من الريالات، وحصانين عتيدين،١ ورجلٍ من أبرز رجالها، فغضبت لهذا، وانتابتها نوبة فضيلة، وثارت نفوسها ثورة جامحة جائحة كالأعمال التي استفزتها وأخرجتها عن طورها. واعتزمت لجنة سرية أن تطهّر الحلة من الطّغام والرذال وغير الصالحين. وقد طهرتها على وجه حاسم من رجلين كانا حينئذ معلقين من جمّيزة في بطن الوادي، ومن آخرين لا ترضى سجاياهم، بالنفي. ويؤسفني أن أقول إن بين هؤلاء المنفيّين نساءً. على أن واجب الإنصاف لهذا الجنس يقتضي أن نذكر أن هؤلاء كن محترفات لما أثار السخط عليهن، وأن حلة «بوكر فلات» ما اجترأت على القعود مقعد الحكم إلا على هؤلاء.

وقد أصاب المستر أُوكهيرست في اعتقاده أنه داخل في هذه الزمرة. وقد ذهب بعض أعضاء اللجنة إلى وجوب شنقه ليعتبر بمصيره غيره، وليستردوا ما غنمه من مالهم في القمار. وقال جيم ويلو في الاحتجاج لذلك: «إنه ليس من العدل أن نسمح لهذا الشاب الذي جاء من «رورن كامب» — فهو غريب — أن يحمل مالنا ويمضي به.» ولكن الشعور بالعدل في نفوس الذين كتب لهم حسن الحظ أن يربحوا من المستر أُوكهيرست تغلب على هذا الهوى والجنف.

وتلقى المستر أوكهيرست الحكم عليه بمثل سكينة الفيلسوف، وخاصة لأنه كان يدرك ما يخالج قضاته من التردد. وقد علمه القمار أن يتقبل ما تجيء به المقادير. ولم تكن حياته إلا لعبة مجهولة العواقب، وما كان يخفى عليه مقدار حظ الموكل بالتوزيع.

ورافقت المنفيين سرية من المسلحين إلى ما وراء حدود الحلة، وكان هناك غير المستر أوكهيرست — الذي كان مشهورًا بأنه مجازف رابط الجأش، والذي أريد إرهابه بهذا الحرس المسلح — امرأة في مقتبل العمر يطلقون عليها اسم «الدوقة» وأخرى تعرف باسم «الأم شبتون» ثم «العم بيللي» وهو سكير مدمن متهم باللصوصية. ولم يثر مرور الركب أية ملاحظة من النظارة، ولا نطق الحرس بكلمة، إلا بعد أن بلغوا بطن الوادي الذي لا تتجاوزه حدود الحلة، فقد تكلم الرئيس بإيجاز وأنذرهم الموت إذا عادوا.

وما كاد الحرس يغيب عن النظر حتى انطلق ما كان محبوسًا من المشاعر فذرفت الدوقة بضع عبرات، وأجرت الأم شبتون لسانها ببضع شتمات، وأطلق العم بيللي سيلًا من اللعنات. أما أوكهيرست الفيلسوف فقد لزم الصمت، وكان يصغي وهو وادع ساكن إلى ما تعرب عنه الأم شبتون من الرغبة في جزّ بعض الرقاب، وإلى ما أبدأت فيه الدوقة وأعادت، من أنها ستموت في بعض الطريق لا محالة، وإلى اللعنات الحرار التي كانت تخرج من فم العم بيللي وهو راكب وكأنها تُطرد من جوفه طردًا، وقد آثر أوكهيرست المساناةَ على عادة أمثاله، فأصر على أن يترك جواده للدوقة ويركب هو بغلها البليد، على أن هذه المجاملة لم تجعل الجماعة أشد تعاطفًا وأوثق مودة، فعدلت الدوقة قبعتها المريشة القذرة بدلال فاتر، ورمت الأم شبتون الجواد بالنظر الشذر، وصب العم بيللي على الجماعة كلها لعنة شاملة.

وكان الطريق إلى «ساندي بار» — وهي حلة لم تمتد إليها عوامل الصلاح من بوكر فلات، فثم أمل في أن يأوي إليها المهاجرون — على جبالٍ وعرة منقادة في الأرض، والمسافة إليها سفر يوم لا هوادة فيه، وما لبث القوم أن جاوزوا الوادي الرطب المعتدل الجو إلى الجبال الجافة الباردة المنعشة الهواء، وكان طريقهم في الجبل ضيقًا كالأنبوب، ووعرًا صعب المرتقى. ولما انتصف النهار تدحرجت الدوقة عن سرجها إلى الأرض وأعلنت أنها لن تنتقل من مكانها، فألقى الجماعة عصا التسيار.

وكان المكان الذي وقفوا فيه موحشًا إلا أنه رائع، فقد كان عبارة عن مدرج من الشجر تحيط به من جهات ثلاث صخور وعرة من الصوان العاري، وينحدر في رفق ولين إلى ذروة نجوة مشرفة على الوادي، وكان هذا بلا شك أصلح مكان للإقامة لو كان ذلك من سداد الرأي. غير أن المستر أوكهيرست كان يعلم أنهم ما قطعوا نصف المسافة إلى «ساندي بار» وأنه ليس معهم من المئونة والعدة ما يسمح بالتلكؤ، وقد نبه رفقاءه إلى هذا بإيجاز وبيّن لهم خطل الكف عن مواصلة «اللعب» قبل الفراغ منه ولكنه كان معهم خمر، وقد نابت الخمر عندهم في ذلك الموقف مناب الطعام والوقود والراحة والعقل وبعد النظر. ولم يمض غير قليل حتى كان الشراب قد فعل فعله على الرغم من اعتراض أوكهيرست وتحذيره. وانتقل العم بيللي بسرعة من حالة الشراسة إلى حالة الخمود. وأخذ الشراب في الدوقة فأصابها منه فُتار،٢ وعلا شخير الأم شبتون. وبقي المستر أوكهيرست وحده معتدل القامة يتكئ على صخرة ويلحظهم بعينه في سكون.
وكان المستر أوكهيرست لا يشرب، لأن الشراب يفسد حرفة٣ تتطلب الاتزان وضبط النفس وحضور الذهن، وكان على قوله لا تسمح له الحال بالمخاطرة بالشراب. وبينما كان ينظر إلى هؤلاء الرقود من رفقائه المنفيين ثقلت على نفسه، لأول مرة، وطأة الشعور بالوحدة والوحشة الناجمتين من حرفة المنبوذين، ومن عادات حياته، وأساليب عيشه، ونقائصه. فجعل يتلهّى بنفض التراب عن ثيابه السود، وغسل يديه ووجهه، وغير ذلك مما اقتضته خصائص طباعه وشدة حرصه على النظافة وحسن السمت، فنسي شَجَنه لحظة. ولم يخطر له أن يهجر رفاقه الضعاف الجديرين بالمرثية أو يخذلهم في محنتهم، إلا أنه لم يسعه إلا أن يشعر بالحاجة إلى القمار الذي يثير نفسه ويبعثها والذي كان — ويا للغرابة — يفضي به إلى السكينة واعتدال المزاج اللذين اشتهر بهما. ومد بصره إلى الصخور التي تذهب في الهواء ألف قدم فوق أشجار الصنوبر المحيطة بالمكان، وصعد طرفه إلى السماء المكفهّرة المنذرة الرُّكام،٤ ثم صوبه إلى الوادي الذي تتكاثف فيه الظلال، وإذا به يسمع اسمه بغتة.

ونظر فإذا فارس يرتقي في الطريق ببطء، فعرف وجهه الصابح الصريح «توم سيمون» الذي يسمونه «الغرير» في «ساندي بار» وكان قد لقيه قبل بضعة شهور وقامره فقمره، وسلب من هذا الفتى الغرير كل ما يملك — حوالي أربعين ريالًا — وبعد أن نهضا عن المائدة مضى به المستر أوكهيرست إلى ما وراء الباب وقال له: «توم، إنك فتى طيب، ولكنك لا تحسن القمار، ولا أمل لك في حذقه، فلا تحاول ذلك مرة أخرى.» ورد إليه ما ناله، ودفعه فأخرجه من الغرفة، فصار توم سيمون لهذا عبدًا مخلصًا له مدى الحياة.

وكان في الحماسة والطلاقة الصبيانية التي يحيّي بها المستر أوكهيرست ما يَشِي بذكر هذا الجميل، وقال إنه أراد أن يذهب إلى «بوكر فلات» التماسًا للثراء فسأله أوكهيرست: «وحدك؟» فقال الفتى: «لا. لا أعد وحدي. الواقع (وضحك) أني فررت مع «بَيّني وودز.» ألا تعرفها يا مستر أوكهيرست؟ تلك التي كانت تقوم بالخدمة على المائدة في «تمبرنس هوس.» وقد ظللنا خطيبين زمنًا طويلًا، ولكن أباها جاك وودز اعترض ففررنا، وكانت وجهتنا بوكر فلات لنتزوج. وها نحن أولاء قد صرنا هنا! وإنا لمتعبون، وإنه لمن الحظ أن قد وجدنا هذا المكان وهذه الرفقة!»

أفضى «الغرير» بهذا كله بسرعة، ثم برزت «بيني» — وهي فتاة وسيمة بدينة في الخامسة عشر من عمرها — من وراء الشجرة حيث كان وجهها لا يرى أحد اضطرامه من الخجل، ودنت بجوادها فحاذت حبيبها.

وكان المستر أوكهيرست قلما يعنّي نفسه بالعواطف الإنسانية، أو بما يليق وما لا يليق، وما يجب، وما لا يجب، ولكن إحساسًا غامضًا شاع في نفسه بأن الموقف خال مما يسمى حسن الحظ، على أنه كان له من حضور الذهن وسرعة الخاطر ما يكفي لإلهامه أن يرفس العم بيللي الذي كان يهم بكلام، وكان في العم بيللي بقية من الإدراك تجعله يفطن إلى ما وراء هذه الرفسة من القوة التي لا تحتمل العبث ولا تصبر عليه. ثم حاول المستر أوكهيرست، عبثًا، أن يثني توم سيمون عما عزم عليه. ثم أنبأه أنه لا مئونة هناك ولا مأوى ولا وسيلة لمأوى. ولكن الغرير، لسوء الحظ، قابل هذا بأن أكد للقوم أن معه بغلًا مثقلًا بالزاد، وبأن أشار إلى كوخ من الخشب قريب من الطريق. وقال الغرير، وهو يومئ إلى الدوقة: «بَيْني تستطيع أن تكون مع السيدة (المسز) أوكهيرست. أما أنا فأستطيع أن أدبر أمري.»

ولولا ضغطة زاجرة من قدم المستر أوكهيرست لانفجر العم بيللي ضاحكًا مجلجلًا. وعلى أنه، على الرغم من هذا الانتهار، لم يستطع أن يكبح الضحك، فاضطر أن ينهض ويمضي إلى مجرى الوادي حتى يستعيد ضبط أعصابه. وهناك أفضى ببواعث الضحك إلى أشجار الصنوبر وهو يقرع ساقيه بكفيه وينحني بوجهه المغضن، ولا ينسى بذاءاته المألوفة. ولما عاد إلى القوم ألفاهم جلوسًا حول نار، فقد صار البرد قارسًا، وغلظ السحاب وتراكب. وكان الحديث على ما يبدو له وديًّا، وكانت بيني تتحدث على طريقتها الصبيانية الفطرية إلى الدوقة التي كانت تصغي بعناية واهتمام لم تظهر مثلهما في أيام كثيرة. وكان الغرير يتحدث على هذا النحو أيضًا إلى المستر أوكهيرست والأم شبتون، فيُحدث في نفسها مثل ذلك الأثر، حتى لقد ثابت إلى الأم شبتون نفسها فتطلّق وجهها. وقال العم بيللي، عن احتقار كامن، وهو يتأمل الجمع والنار المشبوبة والدواب المشكولة:٥ «أترى هذه نزهة؟» ثم كأنما طافت برأسه المضطرب المخمور فكرة مغرية بالضحك فقد قرع ساقه بكفه ودس قبضته في فمه.

وارتمت الظلال شيئًا فشيئًا على الجبل، فهب النسيم بأشجار الصنوبر فحرك رءوسها وناح بين أغصانها. وأفرد الكوخ للسيدات بعد أن رمّوه وغطوه بأغصان الصنوبر، وافترق الحبيبان — الغرير وصاحبته — فتبادلا قبلة لا تكلف فيها — قبلة صريحة مخلصة من الممكن أن يُسمع صوتها فوق حفيف الشجر المترنّح … قبلة أذهلت بما كشفت عنه من غرارة النفس وطهارة القلب، الدوقة الخوّارة، والأم شبتون اللئيمة، فدارتا ودخلتا الكوخ بلا كلام. وأُلقي الحطب في النار، ورقد الرجال أمام الباب، وما لبثوا أن ناموا.

وكان المستر أوكهيرست خفيف النوم، فقبل أن ينبلج الصبح استيقظ مقرورًا، وبجسمه خدر، وحرك النار المشفية على الخمود، فحملت الريح القوية إلى وجهه ما امتص الدمَ منه؛ الثلجَ!

فوثب إلى قدميه وفي عزمه أن يوقظ النائمين، فما بقي وقت يُضاع. والتفت إلى حيث كان العم بيللي مستلقيًا فلم يجده، فاختلج الشك في صدره، وجرى لسانه بلعنة، وذهب يعدو إلى حيث كانت الدواب مربوطة فلم يجدها! وكان الثلج المتساقط يطمس الآثار بسرعة.

ورجع المستر أوكهيرست، بعد هذا الاضطراب الوقتي، وهو ساكن كعادته. ولم يوقظ النائمين. وكان الغرير ينام نومًا هادئًا وعلى محياه ابتسامة، وكانت بيني العذراء راقدة إلى جانب صاحبتيها الطامحتي الطرف، وكأن عليها من الأملاك حفظةً أمناء. وسحب المستر أوكهيرست غطاءه على كتفيه وراح ينتظر انبثاق الفجر، فطلع ومعه رَهَج٦ من الثلج تَسْفِره الريح، فيزوغ البصر. وتغير ما كان باديًا من وجه الأرض كأنما مرت عليه عصا ساحر، فنظر إلى الوادي ولخص الحاضر والمستقبل في أربع كلمات «في نطاق من الجَمَد.»

ودلَّ الفحص الدقيق للزاد الموجود — وكان لحسن الحظ موضوعًا في الكوخ، فنجا من العم بيللي — على أنه مع الحرص والحكمة يكفي عشرة أيام. وقال المستر أوكهيرست للغرير: «هذا إذا كنت ترضى أن تضيفنا وتطعمنا، أما إذا أبيت — وخير لك أن تأبى — فإن في وسعك أن تنتظر حتى يعود العم بيللي بالمئونة.» فقد عجز المستر أوكهيرست لسبب خفي أن يفضح العم بيللي ويظهر نذالته، ولهذا زعم أن العم بيللي خرج فنفّر الدواب عفوًا، وحذّر الدوقة والأم شبتون، وكانتا قد عرفتا الحقيقة. وقال لهما: «سيعرفان حقيقة أمرنا جميعًا، متى عرفا شيئًا. ولا خير في إرعابهما الآن!»

ولم يكتف توم سيمون بأن يجعل كل ما معه من زاد ومئونة رهن مشيئة المستر أوكهيرست، بل أظهر السرور والاستمتاع بهذه العزلة الاضطرارية، وراح يقول: «سنبقى أسبوعًا، ثم يذوب الثلج، فنعود جميعًا معًا.» وأَعْدَتْ القومَ بشاشةُ الشاب وسكينةُ المستر أوكهيرست. واستطاع الغرير، بفضل أفرع الصنوبر أن يصنع سقفًا للكوخ، وتولت الدوقة إرشاد بيني في ترتيب الحجرة، وأظهرت في ذلك من الذوق والفطنة ما فتح عيني هذه الغادة الريفية الساذجة، فقالت: «أحسبك ألفت في حياتك مناعم العيش في بوكر فلات.» فأدارت الدوقة وجهها بسرعة، لتخفي الدم القاني الذي صبغ وجهها تحت دهانه المألوف. وتقدمت الأم شبتون إلى الفتاة بالرجاء أن لا «تثرثر» ولما عاد المستر أوكهيرست بعد طول الكد والعناء في البحث عن الطريق الذي ضاع أثره، سمع أصوات الضحك ترجعه الصخور المتجاوبة به، فوقف وقد ارتاع، ووثب به الخاطر أولًا إلى الويسكي الذي حرص على أن يخبئه، ولكنه عاد فقال: «ولكن هذه الأصوات ليست من فعل الويسكي.» ولم يطمئن قلبه إلا بعد أن أبصر النار المستعرة من خلال العاصفة الثائرة، ورأى الجالسين حولها.

ولا أعلم هل خبأ المستر أوكهيرست، أو أهمل أن يخبئ أوراق اللعب أيضًا، حتى لا يجعلها في متناول الجماعة، ولكن المحقق أنه — كما قالت الأم شبتون — لم يجر لسانه بذكر الورق ولا مرة واحدة في تلك الليلة، وزُجي الفراغ بقيثارة أخرجها توم سيمون من أحرازه وهو مباه بها. واستطاعت بيني على الرغم من بعض الصعوبات أن تخرج من هذه الآلة بعض الأصوات، وكان الغرير يصحبها بصنجين يضرب أحدهما على الآخر، غير أن هذه الحفلة لم تبلغ ذررتها إلا حين رفع الحبيبان الصوت عاليًا بنشيد ديني ساذج، ويداهما متشابكتان. وأعْدَيا غيرهما، فانضموا إليهما وأنشدوا معهما: «إني فخور بأن أحيا في خدمة الرب، وأن أموت في جيشه.»

وتمايلت أشجار الصنوبر، وهاجت العاصفة، وزفزفت الرياح، ودارت فوق هؤلاء التعساء، ووثبت ألسنة النار في هذا «المعبد» نحو السماء كأنها شهود على هذا العهد.

وخفت العاصفة حوالي منتصف الليل، وتفرقت السحب المتراكمة، وتلاحمت النجوم الخفّاقة اللمعان فوق النوام. وكان المستر أوكهيرست قد تركته عادات حرفته (القمار) قليل النوم خفيفه، فلما اقتسم مع توم سيمون واجب الحراسة، استطاع بطريقةٍ ما، أن يختص نفسه بالنصيب الأوفر منها، وكان مما أقنع به الغرير قوله إنه كثيرًا ما كان يقضي أسبوعًا كاملًا بلا نوم، فسأله توم: «وماذا كنت تصنع؟» فقال أوكهيرست: «ألعب البوكر … متى وقع المرء على حظه فإن التعب لا يعتوره … وما أقوى الحظ وأعجب حاله! كل ما نعرفه عنه على وجه التحقيق هو أنه لا بد أن يتغير ويتقلب، وإدراك المرء أن الحظ يوشك أن يتحول هو الذي يسعده. ولقد وقعنا على حظ سيئ بعد أن غادرنا بوكر فلات، وإذا بك تجيء وتقع معنا! وأنت بخيرٍ ما وسعك أن تصبر لأني (قال المقامر هذا بلا مناسبة؛ ولكنه كان واضح البشر) لأني فخور بأن أحيا في خدمة الرب، وأن أموت في جيشه.»

وطلع اليوم الثالث، وأطلت الشمس من خلال الغمام الأبيض، على الطُرَدَاء وهم يقتسمون بعض ما بقي من زادهم المتناقص، لطعام الإفطار، وكان من خصائص هذا الإقليم الجبلي أن أشعة الشمس تنشر فيه الدفء على وجوهه الشاتية، كأنما تعرب بذلك عن عطفها وأسفها لما مضى وفات، ولكنها كشفت عن طبقة فوقها طبقة من الثلج المتراكب المتعالي حول الكوخ، عن بحر مجهول لا طريق فيه، ولا درب له، ولا أمل لسالكه، من الثلج المتراكم تحت الشطئان الصخرية التي يتعلق بها هؤلاء المقذوف بهم عليها. وكان الجو عجيبًا في صفائه، حتى لكانوا يرون الدخان المتصاعد من حلة بوكر فلات على مسافة أميال وأميال، وقد رأته الأم شبتون فقذفت الحلة، من ذروة معقلها الصخري، بلعنة أخيرة. وكانت هذه آخر بذاءاتها، ولعلها لهذا السبب كانت على حظ من الجلال. وقد أخبرت الدوقة أن هذه اللعنة التي أطلقتها نفعتها وشفت نفسها، ودعتها أن تحذو حذوها قائلة: «اخرجي إلى هناك، والعني، ثم انظري.» ثم رجعت إلى واجب تسلية «الطفلة» كما كانت هي والدوقة تسميان الفتاة «بيني»، ولم تكن بيني ضعيفة، ولكنه كان يسر هاتين المرأتين أن تعداها كذلك، لأنها كانت لا بذيّةً صخّابة، ولا عَسُوسًا فاجرة.

وأقبل الليل مرة أخرى، فعادت ألحان القيثارة تعلو وتهبط متقطعة، وبعد فترات طويلة، حول النار الموقدة، غير أن أصوات الموسيقى لم تستطع أن تملأ الفراغ الوجيع الذي أحدثته قلة الكفاية في الطعام، فاقترحت بيني ملهاة جديدة هي أن يقص كل واحد قصته. ولم يكن لا المستر أوكهيرست ولا رفيقتاه على استعداد لذكر شيء من سِيَرهم أو تجاربهم الشخصية، فكاد الاقتراح يحبط، لولا الغرير، فقد عثر قبل بضعة شهور على نسخة من ترجمة المستر بوب (الشاعر) لإلياذة هومر، فرأى أن يقص حوادثها الكبرى باللهجة الدارجة في حلة ساندي بار، فقد نسي عبارة الشاعر وألفاظه، وإن كانت الحوادث منقوشة على صدره. وهكذا عاد أبطال هومر وأربابه فمشوا على الأرض مرة أخرى في تلك الليلة، وكان زفيف الريح كأنما يمثل صراع الطرواديين الصخابين، والأغارقة الماكرين، وكأنما كانت أشجار الصنوبر العظيمة تنحني أمام غضب ابن بلياس.

وكان المستر أوكهيرست ينصت وهو راض ساكن، وقد اهتم على الخصوص بمصير أخيل.

وهكذا — بقليل من الطعام، وكثير من هومر والقيثارة — انقضى أسبوع على هؤلاء الطرداء. وخذلتهم الشمس مرة أخرى، فاحتجبت عنهم، وألقت السماء المدجنة، رقائقَ من الثلج المنخول، على الأرض. وأخذ نطاق الثلج يزداد كل يوم ضيقًا حتى صاروا ينظرون من سجنهم إلى جدران من الجليد اللماع، ترتفع مقدار عشرين قدمًا فوق رءوسهم. وتعذر شيئًا فشيئًا تقويةُ النار بإلقاء الحطب عليها حتى من الأشجار المنقصفة القريبة التي اختفى نصفها في الجمد. ومع ذلك لم يَشْكُ منهم أحد، فكان الحبيبان ينصرفان بوجهيهما عن هذا المنظر الجهم، وينظر كل منهما في عين صاحبه فيسعد، ووطن المستر أوكهيرست نفسه على السكون إلى هذه اللعبة الخاسرة، وتولت الدوقة التي صارت أكثر بشاشة وطلاقة مما كانت من قبل، العناية ببيني، أما الأم شبتون التي كانت أقوى الجميع، فقد بدأت تفتر، وتعتل، وتدنف، وفي منتصف ليلة اليوم العاشر دعت المستر أوكهيرست إلى جانبها، وقالت له بصوت الساخط على الضعف: «سأقضي نحبي، ولكن لا تقل شيئًا، ولا توقظ الطفلين، وخذ الحزمة التي تحت رأسي وافتحها.» ففعل المستر أوكهيرست كما أمرت، فألفى نصيبها من الزاد طول الأسبوع، لم تمسه يدها. وقالت، وهي تومئ إلى بيني: «أعطه للطفلة.» فقال المقامر: «لقد أَمَتِّ نفسك من الجوع.» فقالت المرأة بضجر: «كذلك يقولون.» واستلقت، ثم أدارت وجهها إلى الحائط، ولفظت النفس الأخير في سلام.

وأُهملت القيثارة والصنج في ذلك اليوم، ونُسي هومر، وبعد أن دفنوا رفات الأم شبتون في الثلج، انتحى المستر أوكهيرست بالغرير ناحية وأراه حذاءين للسير على الثلج صنعهما من سرج قديم، وقال: «هناك فرصة — واحد في المائة — لإنقاذها.» وأشار إلى بيني، ثم إلى ناحية بوكر فلات وقال: «إذا استطعت أن تصل إلى هناك في يومين، فإنها تنجو.»

فسأله توم سيمون: «وأنت؟»

فكان الجواب الموجز: «سأبقى هنا.»

وافترق الحبيبان بعد عناق طويل، ونظرت الدوقة إلى المستر أوكهيرست، فخيل إليها أنه ينتظر ليصحب توم، فسألت: «أأنت ذاهب كذلك؟» فقال: «إلى مجرى الوادي فقط.» والتفت إليها فجأة، وقبلها، وترك وجهها الشاحب مضطرمًا، وأعضاءها المضطربة متصلبة من فرط الذهول.

وجاء الليل، ولكن المستر أوكهيرست لم يجئ، وثارت العاصفة مرة أخرى، وراحت الرياح الدائرة تلقي الثلج، وأججت الدوقة النار، ووجدت أن بعضهم ترك إلى جانبها كومًا من الحطب يكفي بضعة أيام؛ فاغرورقت عينها بالدموع، ولكنها أخفتها عن بيني.

وصارت الفتاة والدوقة لا تنامان إلا غرارًا. ولما أصبح الصباح قرأت كل منهما مصيرها في وجه صاحبتها. ولم تنطق إحداهما بكلمة، ولكن بيني نحلت نفسها حقَّ الذي هو أقوى، فدنت من الدوقة، وأحاطت خصرها بذراعها، وظلتا هكذا بقية النهار. وبلغت العاصفة في تلك الليلة أعنف ثوراتها. فمزقت أشجار الصنوبر التي كانت كالوقاء للكوخ، واقتحمته عليهما.

وقبيل الصبح وجدتا أنهما عاجزتان عن تقوية النار، فما لبثت أن خمدت، وبينما كانت الجمرات تسودّ، والذُّكوات تهمد اقتربت الدوقة من بيني، وخرجت من الصمت الذي ظل ساعات، وقالت: «بيني، هل تستطيعين أن تصلي؟» فقالت بيني ببساطة: «كلا، يا عزيزتي.» فأحست الدوقة لسبب ما، أن عبئًا انحط عن صدرها، وأراحت رأسها على كتف بيني، ولم تقل شيئًا بعد ذلك، وغلبهما النوم وهما على هذا الحال، صغراهما وأطهرهما، تحمل على صدرها البكرِ العفّ، رأسَ رفيقتها الملوثة.

وهدأت الريح، كأنما أشفقت أن توقظهما. ونفضت أغصان الصنوبر الطويلة ثلجها، فطار كالريش، وخفق كالحمائم البيضاء، ثم هبط عليهما وهما نائمتان. وأطل القمر من خلل السحاب الممزق على المكان. ولكن كل لوثة، كل أثر من آثار الجهد والكد على الأرض، انطوى تحت هذا الستر الناصع النقي الذي ألقته رحمة السماء!

ونامتا طول ذلك اليوم، واليوم التالي، ولم تستيقظا لما عصفت أصوات القادمين بالسكون. وامتدت الأصابع الرحيمة، فنحت الثلج عن الوجهين، غير أنه ما كان يسع أحدًا أن يقول، وهو ينظر إليهما، أيهما كانت المخطئة، حتى أهل بوكر فلات، بقانونهم الصارم، أدركوا هذا، فمضوا عنهما وتركوهما في عناقهما. ولكنهم، على رأس الوادي، وعند شجرة من أضخم أشجار الصنوبر، وجدوا ورقة من أوراق اللعب مسمّرة إلى الجذع بمدية، وعليها ما يأتي، مكتوبًا بالقلم الرصاص، وبيدٍ ثابتة:

تحت هذه الشجرة يرقد جثمان جون أوكهيرست الذي عثر به الحظ في الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني سنة ١٨٥٠ وقد أسلم أمره لقضاء الحظ فيه في السابع من ديسمبر/كانون الأول سنة ١٨٥٠.

ووجدوا هذا الذي كان أقوى المنفيين من بوكر فلات، وأضعفهم في آن معًا، راقدًا تحت الثلج، وقد انقطع النبض وابترد الجسم، وإلى جانبه مسدس، وفي قلبه رصاصة!

هوامش

(١) العتيد الشديد المعد للعمل والجري.
(٢) نشوة وفتور.
(٣) يريد المقامرة.
(٤) الركام: السحاب ركب بعضُه بعضًا.
(٥) شكل الدابة ربط قوائمها بالشكال أي الحبل.
(٦) الرهج: السحاب الرقيق كأنه غبار، وتسفره تلقيه وتحمله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤