أربع مقابلات

رأيتها أربع مرات، ليس إلا. ولكني أتذكرها كأوضح ما تكون؛ فقد وقعت من نفسي وأعجبتني طلاوتها وحسنها، وعددتها نموذجًا بارع الظرف لطراز بعينه. وقد أحزنني نعيها، ولكني أعود فأفكر في الأمر، فلا يسعني إلا أن أتساءل: لماذا يؤسفني ذلك؟ إنها على التحقيق، لم تكن في آخر مرة لقيتها فيها، ولكني سأصف مقابلاتنا على الترتيب.

١

كان أول لقاء لنا، في الريف، على الشاي في حفل صغير، في ليلة مثلوجة، ولا بد أن يكون ذلك منذ سبع عشرة سنة. وكان صديقي «لاتوش» ذاهبًا لقضاء عيد الميلاد مع أمه، فدعاني إلى مرافقته، واحتفت بنا هذه السيدة الطيبة وأرادت أن تكرمنا بهذه الحفلة التي أسلفت الإشارة إليها. وقد أفدتُ من هذه الرحلة متعة حقيقية، فما سبق لي أن أوغلت في «إنجلترا الجديدة» في مثل هذا الوقت. وكانت السماء قد ظلت تثلجنا طول النهار فارتفع ما ألقته على الأرض إلى الرُّكب، ووددت أن أعرف كيف وصل السيدات إلى البيت.

وسألتني السيدة لاتوش عن الصور الشمسية وهل أستحسن أن أعرضها على الفتيات؟ وكانت هذه الصور في محفظتين كبيرتين جاء بهما ابنها الذي عاد مثلي من أوروبا في الأيام الأخيرة. فأدرت عيني في الجمع، فلاحظت أن أكثر الفتيات يشغلهن ما هو أحق بأن يستغرقهن من أية صورة شمسية مهما بلغ من دقتها وإحكامها ووضوحها. ولكن كانت هناك واحدة واقفة على مقربة من الصّفة وهي تجيل عينها في الحجرة، وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة لا توائم، فيما بدا لي، العزلةَ التي آثرتها. فنظرت إليها مليًّا ثم قلت: «إني أحب أن أعرض الصور على هذه الآنسة.»

فقالت السيدة لاتوش: «أي نعم. لقد وُفقت في اختيارك فإنها رَزان.١ لا تعبأ شيئًا بالمغازلة. سأكلمها.»

فأجبت بأنها لا تكون طلبتي إذا كانت لا تميل إلى المغازلة، ولكن السيدة لاتوش كانت قد ذهبت لتعرض عليها الأمر.

وقالت، وقد عادت: «إنها مغتبطة. وهي طلبتك على التحقيق … هادئة وذكية …»

ثم أخبرتني أن اسمها الآنسة كارولين سبنسر، وقدمتني إليها وقامت بواجب التعريف.

ولم تكن الآنسة كارولين سبنسر بارعة الحسن، ولكنها كانت وضيئة رقراقة، ولا بد أن تكون قد ناهزت الثلاثين، غير أنها كانت غضة، ولها محيا الطفل، وكان رأسها دقيقًا جميلًا، وشعرها معقوصًا، على نحو ما يكون في تماثيل الإغريق، وإن كان من المشكوك فيه أن تكون قد رأت في حياتها تمثالًا إغريقيًّا. ووقع في روعي أنها «فنانة» على قدر ما تسمح جريموِنتر بتشجيع الميول والنزعات الفنية. وكان في عينها لين، وفي نظرتها دهشة، وفي شفتيها رقة، ولأسنانها وضاءة وجمال. وكانت تلف جيدها بمنديل تجمع طرفيه بدبوس، رأسه من المرجان، وتحمل في يدها مروحة من القش المضفور يزينها شريط قان. وكان ثوبها القصير من الحرير الأسود. وكانت تتكلم برقة مع الضبط، وتفتح فمها الدقيق، وتفرج شفتيها الرقيقتين، فتكشف عن أسنانها البيضاء اللامعة، وقد بدا عليها السرور، بل التأثر، لرغبتي في عرض الصور عليها. وقد تم ذلك بسهولة بعد أن أخرجت المحفظتين من مكانهما ووضعت كرسيين قريبًا من مصباح. وكانت الصور رسومًا لأشياء أعرفها؛ مناظر من سويسرا، وإيطاليا وإسبانيا، ولقصور وصور وتماثيل شهيرة. وقد أدليت بما وسعني من الشرح، وكانت، وهي تصغي إليَّ، وتنظر إلى الصور التي أرفعها لعينها، ساكنة لا تتحرك وطرف مروحتها على شفتها السفلى. وكانت ربما قالت برقة وأنا أرد إحدى الصور إلى مكانها: «هل رأيت هذا المكان؟» وكان جوابي في الأغلب والأعم أني رأيته مرات عديدة (فقد كنت كثير الأسفار) وكنت أحس بعد أن أقول ذلك أنها تلحظني بعينيها الجميلتين. وقد سألتها في بداية الأمر: هل سافرت إلى أوروبا؟ فكان جوابها «لا، لا» وكان صوتها همسًا خافتًا، كأنما تُسر إليّ شيئًا، ولكنها بعد ذلك لم تكد تقول شيئًا، وإن كانت لم تحول عينها عن الصور، حتى توهمت أنها ضجرت، فلما فرغنا من إحدى المحفظتين اقترحت أن أقصر عن عرض ما بقي، إذا كانت تؤثر ذلك. وشعرتُ أنها لم تسأم، ولكن صمتها حيرني، واشتهيت أن أحملها على الكلام، فأدرت وجهي ونظرت إليها فرأيت على خديها احمرارًا خفيفًا، وكانت تروّح على وجهها ولا تنظر إليَّ، بل تحدج المحفظة الثانية المسندة إلى المنضدة.

وقالت بصوت فيه بعض التهدج والارتعاش: «ألا تريني ما في هذه؟» فكدت أعتقد أنها مضطربة، وقلت: «يسرني ذلك، إذا كنت لم تتعبي.»

قالت: «لا، لست متعبة. إني أحب ذلك.»

وتناولت المحفظة الثانية فأراحت كفها عليها ومسحتها برقة.

وسألتني: «وهل سافرت إلى هذه البلاد أيضًا؟»

وفتحتُ المحفظة فتبين أني سافرت إلى هذه الأقطار، وكان من بين الصور الأولى منظر كبير لقصر شيلون على بحيرة جينيف.

وقلت وأنا أريها هذا: «لقد زرت هذا المكان عدة مرات. أليس جميلًا؟» وأشرت إلى الصور المنعكسة في الماء الصافي الساكن، للصخور الوعرة والصروح الذاهبة في الهواء، فلم تقل: «ما أبدع هذا» ثم تدفعه لترى الرسم الذي يليه، بل تأملته مليًّا ثم سألت: أليس هذا هو المكان الذي حُبس فيه بونيفار على ما جاء في شعر بيرون؟ فقلت: نعم، وحاولت أن أنشدها بعض أبيات بيرون في الموضوع ولكن الذاكرة لم تساعفني كما ينبغي.

فروحت على وجهها لحظة ثم أنشدت الأبيات على الوجه الصحيح بصوت لين مطرد النبرة إلا أنه حسن، واتقد وجهها لما فرغت، فأثنيت عليها وقلت لها إنها مزودة بما يلزم لزيارة سويسرا وإيطاليا، فنظرت إليّ بمؤخر عينها لترى أجاد أنا أم أنا أمزح، فقلت لها: إذا كان المراد أن تعرف المواضع من وصف بيرون لها فإن الواجب أن تعجل بالسفر فإِن أوروبا تحول بسرعة عن العهد بها في أيام بيرون.

فسألتني: «متى ينبغي إذن أن أذهب؟»

قلت: «إني أمهلك عشر سنوات.»

قالت بلهجة متزنة: «أظن أن في وسعي أن أسافر في خلال ذلك.»

قلت: «ستستمتعين بالرحلة جدًّا، وستلقينها حافلة بالمطرب المعجب.»

وعثرت على صورة لركن في مدينة أجنبية كنت كلفًا بها، وكانت لي فيها عهود يحن القلب لذكراها، وأحسبني أفضت في الكلام عنها، وكنت فيما قلت، رطب اللسان، فقد كانت مرهفة الأذنين، وأنفاسها محتبسة.

وسألتني بعد أن أقصرت ببرهة: «هل طال مقامك في البلدان الأجنبية؟»

قلت: «سنين عديدة.»

قالت: «وهل رحلت إلى كل مكان؟»

قلت: «كانت أسفاري كثيرة فإِني كلف بالتجوال. ومن حسن الحظ أني كنت قادرًا على ذلك.»

فنظرت إليَّ مرة أخرى بمؤخر عينها وسألت: «وهل تعرف اللغات الأجنبية؟»

قلت: «إلى حدٍّ ما.»

قالت: «هل في معرفتها والكلام بها مشقة؟»

فقلت: «أعتقد أنك لن تجدي في الأمر صعوبة.»

قالت: «لا يعنيني أن أتكلم أنا، إنما يكون همي أن أنصت.»

وأمسكت ثم قالت: «يقولون إن المسرح الفرنسي بديع.»

قلت: «هو خير ما في العالم في بابه.»

قالت: «هل كثر تردادك إليه؟»

قلت: «لما كنت في باريس كنت أذهب إليه كل ليلة.»

قالت: «كل ليلة!» وفَتحت عينيها الصافيتين جدًّا «إن هذا في رأيي …» وترددت هنيهة «رائع جدًّا» ثم سألت بعد دقائق: «أي البلاد تفضل؟»

قلت: «هناك بلاد أفضلها على كل ما عداها، وما أظن برأيك إلا أنه سيكون كرأيي.»

فنظرت إليّ قليلًا ثم قالت برقة: «إيطاليا؟»

قلت: بمثل رقتها «إيطاليا.» ورشق كل منا صاحبه بلحظه. وكان يُخيل إليَّ وأنا أنظر إلى إشراق محياها ووضاءته وصباحته كأني كنت أغازلها وأبثها حبي، ولم أكن أريها صورًا شمسية. ومما قوى هذا الوهم أن وجهها صبغه الدم فحولته عني. وساد الصمت هنيهة قالت بعدها: «هذا هو المكان الذي كنت أفكر في الذهاب إليه على الخصوص.»

قلت: «أوه … هذا هو … هذا هو.»

وقلبت صورتين أو ثلاثًا في صمت ثم قالت: «يقولون إن النفقة ليست باهظة.»

قلت: «كما هي في بعض البلاد الأخرى؟ نعم، وليس هذا أقل مزاياها.»

– «ولكنها غالية كلها، أليست كذلك؟»

– «تعنين أوروبا؟»

– «السفر والطواف والتنقل … هذه هي الصعوبة إلى الآن، فإن المال عندي قليل. إني مدرّسة.»

قلت: «لا شك أن المال ضروري ولا غنى عنه، ولكن الإنسان يستطيع أن يدبر أموره بمبلغ معتدل.»

قالت: «أظن أن في وسعي ذلك، فقد ادخرت شيئًا، ولا أزال أضيف إليه … لهذا الغرض» وسكتت برهة ثم انطلقت تتكلم بلهفة كأنما كانت مكبوتة، وكأنما كان إخباري بذلك فيه لذة نادرة إلا أنها عسى أن تكون غير بريئة «ليس المال كلَّ ما عاق … كل شيء عاق. كل شيء كان يصد، وقد انتظرت، وانتظرت، فما عدوت حال الذي يبني القصور بخياله في الهواء، وإني لأكاد أخاف أن أتكلم في هذا … وقد خايلني الأمل بالتحقيق مرتين أو ثلاثًا فتكلمت به، فانتسخ الحلم! ألا لقد تكلمت كثيرًا … أكثر مما ينبغي.» قالت ذلك منحية به على نفسها، وكانت تجد في هذا بعض المتعة على ما بدا لي «ولي صديقة عزيزة لا تريد أن تسافر، ولست أمل تكليمها في هذا حتى لأضجرها جدًّا. وقد قالت لي مرة إنها لا تدري ماذا عسى أن يكون مآلي، فإِني خليقة أن يطير عقلي إذا لم أسافر إلى أوروبا، وسيطير عقلي على التحقيق إذا سافرت.»

فقلت: «على كل حال، هذا أنت لم تسافري، ولم يطر عقلك مع ذلك.»

فنظرت إليَّ مليًّا ثم قالت: «لست على يقين من ذلك. فما أراني أفكر في شيء آخر. أفكر في السفر دائمًا، حتى ليمنعني ذلك أن أفكر فيما هو أدنى إليّ — فيما ينبغي أن أُعْنَى به — وهذا ضرب من الجنون.»

قلت: «الدواء أن تسافري.»

قالت: «إن لي ثقة وإيمانًا بأني سأسافر. ولي في أوروبا ابن عم!»

وقلبنا بضع صور أخرى وسألتها هل قضت كل حياتها في «جريمونتر»؟

فقالت: «لا يا سيدي. لقد قضيت ثلاثة وعشرين شهرًا في بوستون.»

فقلت مازحًا: «إنه ما دام الأمر كذلك فإن أوروبا ستخيب أملها على الأرجح.» ولكني لم أزعجها.

وقالت، وعلى فمها ابتسامتها اللطيفة الوديعة: «إني أعرف عن أوروبا أكثر مما تظنني أعرف، أعني بالقراءة عنها. فقد قرأت كثيرًا، ولم أقتصر على بيرون وحده، بل قرأت كتب التاريخ وكتب إرشاد السياح. وأنا واثقة أني سأرضى عن رحلتي حين يتاح لي أن أقوم بها.»

فقلت: «إني أعرف حالتك، وأدرك بواعثها. هو الهوى الذي يلج بنفس الأمريكي … هوى الجمال والروعة. وأحسب أن هذا عندنا مقدم على كل ما عداه، وسابق لكل اختيار وتجربة. فإذا جاءت التجربة لم ترنا إلا ما كنا نحلم به.»

فقالت كارولين سبنسر: «أعتقد أن هذا صحيح. فقد حلمت بكل شيء. وسأعرف كل شيء حين أراه.»

قلت: «أظنك ضيعت وقتًا طويلًا جدًّا.»

قالت: «نعم وهذا شر ذنوبي.»

وكان الذين حولنا قد بدءوا ينصرفون، فنهضت ومدت إليَّ يدها في دعة ورقة ولكن عينها كانت فيها لمعة غريبة.

فقلت وأنا أهز يدها مودعًا: «إني عائد إلى هناك، وسأتطلع إلى لقائك.»

فقالت: «سأخبرك إذا خاب أملي.»

ومضت عني، وعليها أمارات الاضطراب الخفيف، وفي يدها المروحة تتحرك.

٢

عدت إلى أوروبا بعد هذه المقابلة ببضعة شهور، وانقضت ثلاث سنوات. وكنت مقيمًا في باريس، وفي أخريات أكتوبر/تشرين الأول رحلت عنها إلى «الهافر» لأقابل أختي وزوجها. وكانا قد كتبا إليَّ يقولان إنهما يوشك أن يصلا إليها. فلما بلغت الهافر وجدت أن الباخرة قد سبقتني إليها وأني تأخرت حوالي ساعتين؛ فانكفأت إلى الفندق الذي نزل فيه قريباي. وكانت أختي قد أوت إلى فراشها من الإعياء الذي سببه لها ركوب البحر، فقد عانت منه شر ما يصيب الإنسان. وكانت ترغب ألا يزعجها أحد من راحتها أو ينغصها عليها فلم أمكث معها إلا خمس دقائق. ومن أجل هذا اتفقنا على البقاء في الهافر إلى اليوم التالي. وكان زوجها من فرط قلقه عليها لا يريد أن يغادر غرفتها ولكنها أصرت أن يخرج معي ويتمشى لينفي عنه ما يشعر به راكب البحر، ويستعيد إحساسه بالوثاقة والاستقرار. وكنا في الخريف، وكان الصباح دافئًا، منعشًا، وأعجبتنا المناظر وسرتنا ونحن نجتاز الشوارع البهيجة الألوان الغاصة بالناس في هذا المرفأ الفرنسي القديم. وسرنا على أرصفة الميناء المشمسة العالية الضوضاء ثم دخلنا في شارع جميل واسع، بعضه تضيئه الشمس والبعض في الظل، وكان لقدمه، ولما عليه من الصبغة الريفية يبدو للناظر كأنه رسم بالألوان المائية، فهذه مساكن عالية كثيرة الطبقات مغبرَّة اللون، وسقوفها الحمراء الآجر على هيئة المثلث، وعلى نوافذها شبابيك خضراء وفوقها الزخرفة، وفي الشرفات الزهريات، وعلى العتبات النساء وقد لففن رءوسهن بمناديل بيضاء. وقد سرنا في الظل، وكنا نرى هذه المناظر على الجانب المشمس فكأنها صورة. وإذا بنسيبي يقف بغتة ويضغط ذراعي ويحدق! فنظرت إلى حيث ينظر، فرأيت أننا وقفنا على مسافة قصيرة من مقهى رصت أمامه المناضد والكراسي تحت طنف.٢ وكانت النوافذ مفتوحة، وعلى جانبي الباب شجيرات ست مرصوصة في مغارسها، وقد فرش الرصيف بالتبن النظيف. وكان المقهى صغيرًا، عتيقًا، ولكنه هادئ، ورأيت بداخله، في الظلام النسبي، امرأة حسناء سمينة على قبعتها شرائط قرمزية، ووراءها مرآة، وهي تبتسم لشخص متوارٍ عن النظر. على أني لم ألاحظ هذا إلا فيما بعد. أما الذي رأيته أول الأمر فسيدة جالسة وحدها على منضدة من تلك المناضد الرخامية المبعثرة على الرصيف. وكان نسيبي قد وقف لينظر إليها، وكان أمامها شيء على المنضدة، ولكنها كانت مضطجعة، وساعداها مطويان على صدرها، وعينها إلى الناحية الأخرى من الشارع. ولم أر منها سوى لمحة جانبية ومع ذلك كبر في ظني أني رأيتها من قبل.

وقال نسيبي: «سيدة الباخرة!»

فسألته: «أكانت على الباخرة معكم؟»

قال: «من الصباح إلى الليل. ولم يصبها الدوار. وكانت تجلس على جانب السفينة وساعداها مطويان كما تراها الآن، وترسل لحظها إلى الأفق الشرقي.»

فسألته: «أتنوي أن تكلمها؟»

قال: «لست أعرفها … لم نتعارف … وكنت سيئ الحال من الدوار، ولكني كنت أراقبها، ولا أدري لماذا كنت معنيًّا بها. وإنها لأمريكية صغيرة رشيقة. وأكبر الظن أنها مدرسة، وأنها في إجازة، وهي تتنزه بما ادخرته من تلاميذها.»

وأدارت في هذه اللحظة خدها قليلًا ونظرت إلى المساكن العالية المغبرة الجدران فقلت: «سأكلمها أنا.»

فقال نسيبي: «لو كنت مكانك لما فعلت فإنها حيِيَّةٌ جدًّا.»

قلت: «يا صديقي العزيز، إني أعرفها. وقد أريتها مرة بضع صور شمسية في حفلة شاي.»

وقصدت إليها، فلفتت وجهها ونظرت إليّ، فأيقنت أنها الآنسة كارولين سبنسر، ولكنها لم تعرفني بمثل هذه السرعة، فقد بدت عليها دهشة المفاجأة، وقلت، وقد سحبت كرسيًّا وقعدت: «أرجو ألا يكون أملك قد خاب.»

فحدقت فيّ، وقد احمر وجهها قليلًا، ثم انتفضت قليلًا انتفاضة المعرفة والإدراك وقالت: «أنت الذي أراني الصور الشمسية في جريمونتر؟»

قلت: «نعم، أنا هو بعينه، هذه مصادفة جميلة فإني أحس كأن عليّ أن أقيم لك استقبالًا وترحيبًا رسميين. فقد كلمتك كثيرًا عن أوروبا.»

فقالت بلهجة رقيقة: «لم تقل أكثر مما يجب. وإني لسعيدة.»

وكانت السعادة بادية عليها، ولم يكن ثمّ ما يدل على أن سنها زادت وأنها صارت أكبر، واحتفظت وسامتها بمزايا الرزانة والوداعة. وإذا كانت قد بدت من قبل زهرة من أزاهير الطهر على عودها الأملود، وببهجة ألوانها الرقيقة، فما كانت نضرة هذه البهجة الرقيقة أقل ظهورًا، الآن، وكان إلى جانبها رجل كهل يحتسي شراب «الأبسنت» ووراءها السيدة ذات القبعة المزدانة بالشرائط القرمزية، تصيح «ألِسبْياد!» «ألِسبْياد!» للخادم ذي الفوطة الطويلة الملفوفة على وسطه، وأخبرت الآنسة سبنسر أن زميلي كان معها على السفينة، وأنه زوج أختي، فتقدم وعرفته بها فنظرت إليه كأنها ما وقعت عليه عينها من قبل، ولا عجب فقد حدثني أنها كانت لا تنفك تنظر إلى الأفق الشرقي، ومن الجلي أنها لم تفطن إلى وجوده على الباخرة. وابتسمت له ابتسامة حييّة ولم تحاول أن تزعم أنها رأته من قبل، وبقيت معها في المقهى، ورجع هو إلى الفندق وزوجته. وقلت للآنسة سبنسر: إن مقابلتي لها بُعَيد نزولها من السفينة اتفاق عجيب جدًّا، ولكني مغتبط بذلك ويسرني أن تخبرني عن وقع السفر في نفسها.

قالت: «لا أدري! ولكني أشعر كأني في حلم. وإن لي هنا لساعة، ولست أريد أن أتحرك. كل شيء جميل. ومن يدري؟ لعل القهوة أسكرتني، والحق أنها كانت لذيذة!»

قلت: «إذا كان هذا مبلغ سرورك بمرفأ الهافر الممل وكنت تفيضين عليه كل هذا الإعجاب، فإنك لا تبقين شيئًا من السرور والإعجاب بما هو خير منه. كلا، لا تنفقي كل ذخرك من الإعجاب في أول يوم. واذكري أن هذه وثيقة الاعتماد الأدبية … تذكري كل البلدان والأشياء الجميلة التي تنتظرك. تذكري إيطاليا الفاتنة!»

فقالت بلهجة الجذل، وعينها على المساكن أمامها: «لست أخشى الإفلاس وإن في وسعي أن أجلس هنا طول النهار، وأقول لنفسي إني صرت ها هنا أخيرًا. كل شيء قاتم، وقديم، ومغاير لمألوفي!»

فسألتها: «على فكرة، كيف اتفق لك أن تقعدي هنا؟ ألم تقصدي إلى فندق من الفنادق؟» فقد استغربت سذاجة القلب التي جعلت هذه المرأة الحسناء الرقيقة تتخذ مكانها في هذه العزلة البارزة على حافة الطريق.

فكان جوابها: «جاء بي ابن عمي إلى هنا. أتذكر أني قلت لك إن لي ابن عم في أوروبا؟ استقبلني هذا الصباح على الباخرة.»

قلت: «لم تكن به حاجة إلى تجشيم نفسه عناء الاستقبال إذا كان سيهجرك بهذه السرعة.»

قالت: «إنما تركني مسافة نصف ساعة. ذهب ليجيء بمالي.»

فسألتها: «وأين مالك؟»

فضحكت ضحكة خفيفة وقالت: «إني أشعر بأن لي شأنًا حين أخبرك أنها كلها أوراق نقد.»

فسألتها: «وأين أوراقك النقدية؟»

قالت: «في جيب ابن عمي.»

قالت هذا بهدوء، ولكن الخبر — لا أدري لماذا؟ — أجرى في بدني قشعريرة البرد، ولو أني سئلت في تلك اللحظة عن الباعث لعجزت عن تعليل هذا الشعور فما كنت أعرف شيئًا عن ابن عمها فالمفروض أن يكون أمينًا، ولكنه أقلقني فجأة أن تكون مواردها القليلة قد انتقلت إلى يديه بعد نصف ساعة من نزولها من السفينة.

وسألتها: «أتراه سيسافر معك؟»

قالت: «إلى باريس فقط. فإنه يدرس الفن فيها. وكنت قد كتبت إليه أني قادمة ولكني لم أكن أتوقع أن يجيء إلى هنا ليستقبلني، ولم أطمع في أكثر من أن يلقاني على المحطة في باريس. وإنها لمروءة منه. ولكنه ذو مروءة، وذكي أيضًا.»

فشعرت برغبة ملحة في أن أرى ابن عمها الذكي الذي يدرس الفن.

وسألتها: «هل ذهب إلى المصرف؟»

قالت: «نعم، إلى المصرف. ذهب بي إلى فندق، مكان صغير غريب ولكنه جميل، وفي وسطه ساحة، تحيط بها من فوقها شرفة تدور بها، وصاحبة الخان سيدة ظريفة تلبس ثوبًا محبوك التفصيل على قدها. وبعد قليل خرجنا لنتمشى إلى المصرف لأنه ليس معي شيء من النقود الفرنسية، ولكني كنت دائرة الرأس من ركوب البحر فاستحسنت أن أقعد، فجاء بي إلى هنا وذهب هو إلى المصرف، وسأنتظر حتى يعود.»

وقد يبدو هذا مني إغراقًا في التخيل، ولكنه مر بخاطري أنه لن يعود أبدًا. فاعتدلت على الكرسي وقد صممت على البقاء إِلى جانبها حتى أرى ما يكون. وكانت دقيقة الملاحظة لا يفوت عينها شيء، مما تعرضه علينا حركة الشارع؛ غرابة الثياب، وأشكال المركبات، والخيل النورماندية الجسيمة، والقساوسة الضخام الأبدان، والكلاب الحليقة. وتحدثنا عن هذه الأشياء، فوجدت متعة من جدة مشاهدتها وكيف كان ذهنها الواسع الاطلاع يدرك الأشياء ويغتبط بها.

وسألتها: «وبعد أن يرجع ابن عمك، ماذا تنوين أن تصنعي؟»

فترددت لحظة ثم قالت: «لا ندري تمامًا.»

قلت: «ومتى تذهبين إلى باريس؟ إذا ركبت قطار الساعة الرابعة فإنه يكون من دواعي سروري أن أكون في خدمتك في هذه الرحلة.»

قالت: «لا أظن أننا سنفعل ذلك فإن ابن عمي يرى أن أبقى هنا بضعة أيام.»

فقلت: «أوه» ولبثت خمس دقائق لا أنبس بحرف. وكنت أتعجب لابن عمها هذا ماذا يبغي من وراء ذلك؟ وأدرت عيني في الشارع وأرسلت لحظي فيه إلى آخر مدى البصر، ولكني لم أر أحدًا يمكن أن يعد أمريكيًّا ذكيًّا من طلاب الفنون. وأخيرًا سمحت لنفسي أن ألاحظ أن الهافر ليس بالمكان الذي يختاره من يطوّف في أوروبا ليتلبث فيه ويعجب به. فما هو بأكثر من استراحة، ومعبر ومجاز ينبغي أن ينفذ منه المرء بسرعة، ونصحت لها أن تسافر إلى باريس على قطار العصر، وأن تتسلى في أثناء ذلك بالركوب إلى القلعة القديمة عند مدخل الميناء، ذلك البناء الدائر الجميل الذي يحمل اسم فرنسيس الأول ويبدو للعين كأنه قصر صغير من قصور سنت أنجلو.

وكانت تصغي بعناية، ثم بدا عليها الجد وهي تقول: «أخبرني ابن عمي أنه بعد عودته سيحدثني في أمر خاص، وقال إننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا أو نقرر أمرًا إلا بعد أن أستمع إلى ما عنده، ولكني سأحمله على الإسراع في إخباري، ثم نذهب بعد ذلك إلى القلعة القديمة. ولا داعي للتعجيل بالسفر إلى باريس، فإن الوقت فسيح.»

وكانت تبتسم بشفتيها الرقيقتين الحادتين قليلًا وهي تقول هذا، ولكني كنت أتفرس في وجهها، فلمحت طيفًا من الخوف في عينيها.

وقلت: «لا تقولي إن هذا الرجل التعس سيفضي إليك بأخبار سيئة!»

قالت: «أحسب أنها ستكون سيئة قليلًا، ولكني لا أعتقد أنها سيئة جدًّا. على كل حال لا بد من الاستماع.»

فنظرت إليها هنيهة ثم قلت: «ما أظنك جئت إلى أوروبا لتصغي إليه أو لغيره، إنما جئت لتنظري!»

وأيقنت أن ابن عمها سيعود، ما دام أن لديه أخبارَ سوء يريد أن يطلعها عليها فلا بد أن يرجع. وسألتها عن البلدان التي تنوي أن تزورها، فألفيتها قد رتبت رحلتها على أدق نحو، وسردت لي أسماء البلاد بلهجة الجد، فهي ستذهب من باريس إلى ديجون وأفينيون، ومن ثم إلى مارسيليا وطريق الساحل «الكورنيش» ثم إلى جنوة، وسبيزا، وبيزا، وفلورنسة، ورومية. ويظهر أنه لم يخطر لها قط أن في السفر وحدها وبلا رفيق أيَّ عناء، ولما كان لا رفيق لها؛ فقد حرصت على اجتناب إقلاقها أو إضعاف شعورها بالاطمئنان والثقة.

وأخيرًا جاء ابن عمها. رأيته يخرج علينا من زقاق جانبي، وما كادت عيني تأخذه حتى أيقنت أنه هو الأمريكي الذكي الذي يدرس الفن في باريس. وكان يلبس قبعة ناعمة عريضة الحافة، وسترة لبيسة٣ من المخمل الأسود، رأيت أمثالها كثيرًا في «شارع بونابرت»، وكان قميصه ينفرج عن جانب كبير من عنق لم يبد لي على البعد جميلًا. وكان طويلًا نحيفًا وشعره أحمر، وفي وجههه حَطاط،٤ وقد لاحظت هذا كله وهو يدنو من المقهى ويحدق فيَّ مستغربًا وجودي. ولما صار معنا عرفته بنفسي وقلت إني صديق قديم للآنسة سبنسر، فأحدَّ النظرَ إليَّ بعينيه الضيقتين المحمرتين. ثم انحنى لي على الطريقة الفرنسية ملوّحًا بقبعته العريضة.

وقال: «أكنت على السفينة؟»

قلت: «كلا، لم أكن هناك، فإني في أوروبا منذ ثلاث سنوات.»

فانحنى مرة أخرى بتؤدة وأومأ إليَّ أَن أجلس كما كنت، فقعدت لأراقبه وأفحصه قليلًا، فقد آن لي أن أعود إلى أختي، وبدا لي أن ابن العم هذا غريب، فما خلقه الله في صورة يلائِمها زي بيرون أو روفائيل، ولا كانت سترته المخملية، وعنقه العاري على اتساق مع خصائص وجهه، وكان شعره مقصوصًا إلى قريب من جلدة الرأس، وأذنه عظيمة مقبلة على الوجه، متباعدة عن الرأس. وكان في هيئته فتور، وفي قامته انحناء يناقضان ما في عينه الغريبة اللون من الحدة والشدة. ولعلي كنت متحاملًا عليه، ولكنه خُيل إليَّ أن في عينيه غدرًا. وظل لحظة لا يقول شيئًا، وكان يعتمد بيديه على عصاه ويصعِّد طرفه ويصوِّبه في الشارع، وأخيرًا رفع عصاه ببطء وأشار بها وهو يقول: «هذا حسن.» وكان يُميل رأسه ويُداني بين جفونه وهو ينظر، فوجهت عيني إلى حيث كان يومئ بعصاه، فرأيت خرقة حمراء معلقة من شباك قديم. وقال: «لون حسن.» وحوَّل إليّ لحظه من غير أن يحرك رأسه وقال: «يكون جميلًا في الرسم.» وكان صوته ناشفًا جامدًا خاليًا من الصقل.

فقلت: «أرى أن لك لنظرًا. وقد أخبرتني ابنة عمك أنك تدرس الفن.»

فنظر إليَّ بعينه المغضية ولم يجب، فمضيت في كلامي بلطف متكلف: «أحسبك تعمل مع واحد من هؤلاء العظماء.»

فظل ينظر إليّ ثم قال برقة: «جيروم.»

قلت: «أحسبك مغتبطًا هناك؟»

قال: «هل تعرف الفرنسية؟»

قلت: «إلى حد ما.»

فأبقى عينيه على وجهي ثم قال بالفرنسية: «إني أعبد التصوير.»

فقلت: «أوه. إني أستطيع أن أفهم هذا حين تقوله.»

ووضعت الآنسة سبنسر راحتها على ذراع ابن عمها، وكان في حركتها اضطراب خفيف من السرور، وكأنما أعجبها أن يكون المرء ذرب اللسان في اللغات الأجنبية! ونهضت لأودعهما، وسألت الآنسة سبنسر أين في باريس يتاح لي أن أتشرف بلقائها؟ وإلى أي فندق تنوي أن تقصد؟

فالتفتت إلى ابن عمها مستفسرة، فشرفني مرةً أخرى بنظرة فاترة بمُؤخر عينه وسألني: «أتعرف فندق الأمراء؟»

قلت: «أعرف مكانه.»

قال: «سآخذها إليه.»

فقلت لكارولين سبنسر: «إني أهنئك. فإني أعتقد أن هذا خير فندق في العالم. وإذا اتفق أني استطعت أن أختلس من وقتي هنا لحظة أراك فيها، فأين أجدك؟»

فقالت بلهجة الجذل: «ما أحلاه من اسم … أَلَا بِلْ نورماند!»

ولما غادرتها انحنى لي ابن عمها ملوحًا بقبعته في دائرة واسعة.

٣

تبين أن أختي لم تعد إليها نفسها إلى حد يسمح بأن تغادر الهافر على قطار العصر، فلما كان الغسق ألفيت نفسي في فسحة من الوقت، وأن في وسعي أن أزور فندق «ألا بل نورماند.» ويجب أن أعترف أني قضيت وقتًا طويلًا أفكر فيما عسى أن يكون هذا القريب الرَّذْل لصديقتي الجميلة قد أفضى إليها به من أخبار السوء. وكان «ألا بل نورماند» خانًا صغيرًا في سكة ظليلة مريبة، لا يرتاح المرء حين يتصور أن الآنسة سبنسر لا بد أن تكون قد صادفت فيها كثيرًا من «اللون المحلي»، وكان هناك — في الخان — فناء ضيق يتخذ للسمر، وسلم إلى غرف النوم، دَرَجه على ظاهر الحائط، ونافورة صغيرة يقطر منها الماء وفي وسطها تمثال من الجص، وغلام يلبس طاقية بيضاء ويلف وسطه بفوطة، ينظف بعض الأواني النحاسية في مدخل المطبخ الظاهر، وربة الفندق وهي سيدة ثرثارة، في شفوف نظيفة، ترتب الكمثرى والعنب على هيئة الهرم في طبق قرمزي. فأجلت عيني في المكان فرأيت كارولين سبنسر على دكة خضراء، خارج باب مفتوح كتب عليه: «حجرة الطعام»، وما كادت عيني تأخذها حتى تبينت أن شيئًا حدث بعد أن تركتها في الصباح؛ فقد كانت مضطجعة على الدكة، ويداها متشابكتان في حجرها، وعينها على ربة الخان في الناحية الأخرى من ساحة البيت وهي ترتب الكمثرى.

ولكني أدركت أيضًا أنها لم تكن تفكر في الكمثرى، وإنما كانت تشخص وهي ذاهلة عما حولها، مفكرة في خلافه، ودنوت منها فتبينت أنها حديثة عهد بالبكاء. وقعدت على الدكة إلى جانبها قبل أن تراني، فلما أبصرتني لم تزد على أن تلتفت بلا دهشة، وأن تريح عينها على وجهي. ولا بد أن ما وقع كان غاية في السوء، فقد تغيرت جدًّا.

ولم أتوان في مصارحتها برأيي فقلت: «إن ابن عمك قد أبلغك خبرًا سيئًا فإني أراك في كرب شديد.»

فلبثت لحظة لا تقول شيئًا، وخيل إليَّ أنها تخشى أن تتكلم لأن الدموع تتحير في عينيها. ولكني ما لبثت أن تبينت أنها أراقت كل عبرة في الفترة الوجيزة التي غبت عنها فيها، وأنها استرجعت، واستردت جلدها وسكينتها.

وقالت أخيرًا: «إن ابن عمي المسكين مكروب، وقد كان ما أبلغنيه سيئًا.» وترددت قليلًا ثم قالت: «كانت حاجته شديدة إلى المال.»

فقلت: «تعنين حاجته إلى مالك؟»

قالت: «إلى أي مال يمكن أن يحصل عليه، بطريقة شريفة! وكان مالي كل ماله إلى وسيلة.»

فسألتها: «وأخذ ما معك؟»

فترددت مرة أخرى، وكانت عينها تتوسل إليَّ وتضرع، ثم قالت: «أعطيته ما عندي.»

وما زلت أذكر نبرة صوتها وهي تنطق بهذه الكلمات، وما فتئت أعدها أشبه ما سمعت، بأصوات الملائكة، ولكني حين سكت أذني هذه الألفاظ انتفضت قائمًا كأنما أصابتني مساءة شخصية وقلت: «يا لله! هل تسمين هذا حصولًا على المال بوسيلة شريفة؟»

وكان هذا شططًا مني، فقد اتقد محياها وقالت: «دع الكلام في هذا؟»

فقلت وأنا أقعد ثانية: «بل يجب أن نتكلم في هذا! إني صديقك، ويخيل إليَّ أن بك حاجة إلى صديق. فما خطب ابن عمك؟ ماذا دهاه؟»

قالت: «إنه مدين.»

قلت: «لا شك، ولكن ماذا يجعل من حقه أن تؤدي عنه دينه؟»

قالت: «قص علي قصته كلها، وأنا آسفة جدًّا له.»

قلت: «وأنا مثلك، ولكني أرجو أن يردّ إليك مالك.»

قالت: «لا شك في ذلك … متى وسعه أن يفعل.»

فسألتها: «ومتى يكون هذا؟»

قالت: «بعد أن يُتم رسم الصورة العظيمة التي يعمل فيها الآن.»

فصحت: «يا سيدتي العزيزة، لعنة الله على صورته العظيمة! أين ابن العم السادر هذا؟»

فترددت ترددًا واضحًا ثم قالت: «يتعشى.»

فتلفت ونظرت من الباب المفتوح في «حجرة الطعام»، فأبصرت ذلك الشاب الذكي، طالب الفنون في باريس، وموضع عطف الآنسة سبنسر، قاعدًا إلى طرف مائدة طويلة. وكان مقبلًا على الطعام فلم يرني في بادئ الأمر، ولكنه — وهو يضع على المائدة قدحًا أفرغ ما كان فيه من النبيذ في جوفه — لاحظ أني أراقبه. فتوقف عن الأكل، وأمال رأسه إلى ناحية، ورشقني بلحظه كما أرشقه، وفكاه يتحركان ببطء. ثم مرت بنا ربة الخان وعلى يديها طبق الكمثرى.

فقلت: «وهذه الفاكهة اللذيذة له؟»

فنظرت إلى الطبق برقة وقالت: «إنهم يحسنون تقديم ما عندهم.»

فسخطت وأحسست أنه لم تبق لي حيلة، وقلت: «تعالي، تعالي! هل توافقين على أن يأخذ منك هذا الشاب الطويل القوي مالك؟»

فحولت وجهها عني، وكان من الواضح أني أؤلمها. وخامرني اليأس، فما من شك في أن هذا الشاب الطويل القوي «يعنيها.»

وقلت: «اغفري لي أن أتكلم عنه بلا كلفة. ولكنك أسخى يدًا مما ينبغي أن تكوني، وهو أقل تعفّفًا مما يجب. لقد جرّ على نفسه الدين، فحقيق به أن يؤديه ويرده بنفسه ومن موارده.»

فقالت: «لقد كان أحمق. أعرف ذلك، فقد قص عليّ كل شيء. وطال حديثنا في هذا صباح اليوم. وقد قصد إليّ في حاجته. فقد وقّع سندات بمبالغ جسيمة.»

قلت: «ما أعظم حماقته!»

قالت: «إنه يعاني همًّا ثقيلًا. وليس الأمر بقاصر عليه وحده، فإن هناك أيضًا زوجته المسكينة.»

قلت: «آه! أَوَله زوجة مسكينة؟»

قالت: «لم أكن أعرف هذا حتى أقرَّ لي به. تزوجها منذ سنتين سرًّا.»

وتلفتت كارولين سبنسر حولها كأنما كانت تخشى أن يسترق السمع أحد، ثم قالت برقة، وبنبرة مؤثرة: «لقد كانت كونتيسة.»

فسألتها: «أواثقة أنت من ذلك؟»

قالت: «لقد كتبت إليَّ رسالة ما أجملها!»

قلت: «تطلب منك فيها قرضًا حسنًا؟»

قالت: «بل تلتمس الثقة والعطف، فقد حرمها أبوها حقوقها. وقد خبرني ابن عمي بقصتها، وفصلتها هي لي في رسالتها. إنها أشبه بالقصص القديمة. فقد رفض أبوها أن يوافق على هذا الزواج، ولما عرف أنها خالفت أمه سرًّا رمى بها. الحقيقة أنها حادثة مؤثرة. وأسرتها أعرق الأسر في مقاطعة بروفنس.»

وكنت أنظر وأصغي وأنا أتعجب. وبدا لي أن هذه المسكينة تجد لذة حقيقية في هذه الرواية التي تدور وقائعها على كونتيسة منبوذة يتزوجها ابن عمها، وقد بلغ من استغراق هذه الرواية لها أن صرفتها عن التدبر في أمرها وفيما يجره عليها ضياع مالها.

وقلت: «يا سيدتي العزيزة، هل تريدين أن تخربي في سبيل الخيال؟»

قالت: «لن أخرب! وسأعود بعد قليل لأقيم معهما. فإن الكونتيسة تلح في ذلك وتصر عليه.»

فسألت: «تعودين؟ هل تعنين أنك راجعة إلى بلادك؟»

فغضت طرفها هنيهة، ثم قالت وهي تجاهد أن تخفي اضطراب صوتها: «ليس معي مال للسياحة.»

قلت: «أَوَأعطيته كل ما معك؟»

قالت: «احتفظت بما يكفي للإياب.»

فتوجعت من الغيظ، وفي هذه اللحظة خرج من غرفة الطعام ابن عمها السعيد الذي استحوذ على مدخرها، وعلى يد الكونتيسة أيضًا! ووقف لحظة على العتبة، يقشر كمثراة، ثم دسها في فمه، وتركها فيه ملتذًّا بها، وجعل ينظر إلينا وساقاه متباعدتان، ويداه في جيبي سترته. فنهضت الآنسة سبنسر، ورمت إليه نظرة لم تفتني، واشية بالاستسلام والافتتان، بل بالنشوة. وقد كان هذا الشاب قبيحًا، وسوقيًّا، ودعيًّا خائنًا، في رأيي، ولكنه استطاع أن يخلب لبها ويسحر خيالها. وقد كان حنقي عليه شديدًا، وتقززي منه عظيمًا، ولكنه لم يكن لي حق في الدخول في الأمر، وعلى أنه لم يغب عني أن الدخول في هذا عبث لا طائل تحته.

ولوَّح الشاب بيده تلويحًا مسرحيًّا وقال: «ساحة جميلة. ومكان طيب. هذه الآجرة لونها حسن. وهذا السلم الملتوي أيضًا!»

فنفد صبري، ولم تعد لي طاقة على الاحتمال، ومددت يدي إلى كارولين سبنسر من غير أن أرد على ابن عمها، فنظرت إليّ بوجهها الدقيق وعينيها الواسعتين وبدت لي أسنانها، كأنما أرادت أن تبتسم وقالت: «لا تأسف من أجلي، فإني واثقة أني سأرى شيئًا من هذه القارة العتيقة يومًا ما.»

فقلت لها إني لا أودعها، وإني سأعود إليها في صباح الغد. وكان ابن عمها قد لبس قبعته العريضة، فنزعها ولوَّح لي بها على سبيل التحية، فانصرفت.

ورجعت في صباح اليوم التالي إلى الخان حيث التقيت بربته، وكانت أقل عناية بثيابها مما كانت في المساء، فلما سألتها عن الآنسة سبنسر قالت: «سافرت يا سيدي. غادرتنا في الساعة العاشرة البارحة مع … مع … إنه ليس زوجها، هه؟ على كل حال مع السيد … وذهبا إلى الباخرة الأمريكية.»

فانصرفت. فيا لها من مسكينة! لم تقض في أوروبا إلا حوالي ثلاث عشرة ساعة!

٤

وكنت أسعد حظًّا منها فقضيت في أوروبا حوالي خمس سنوات. وفي هذه المدة فقدت صديقي لاتوش، فقد أصيب بحمى الملاريا أثناء رحلة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، فقضى نحبه. وكان أول ما صنعت بعد عودتي إلى أمريكا أن قصدت إلى بلدة «جريمونتر» لأعزي أمه المسكينة، وكانت شديدة الحزن، فجلست معها الصباح كله (وكنت قد وصلت في ساعة متأخرة من الليلة السابقة) أصغي لحديثها الباكي، وأتغنى بسجايا صديقي. ولم يكن لنا كلام في غير ذلك، ولم يقطع حديثنا إلا وصول سيدة صغيرة خفيفة تسوق مركبتها، وقد رأيتها ترمي الأعنة على ظهر الجواد بمثل سرعة النائم أفزعه شيء فرمى الغطاء ونهض. ووثبت من المركبة، ودخلت الغرفة وثبًا من فرط النشاط في حركتها والخفة فيها. وعرفت أنها زوجة القسيس، وأنها «راوية» البلدة، وكان يبدو عليها أن لديها نخبة متخيرة من الأحاديث تتلهف على الإفضاء بها، وكنت على يقين من هذا، كيقيني من أن السيدة لاتوش لا يمنعها جزعها على وحيدها وثكلها له أن تصغي إلى صاحبتها. ورأيت أن الانصراف أكيس فقلت: إني سأذهب لأتمشى قبل الغداء، وسألت قبل الخروج: «وعلى فكرة، إذا استطعت أن تدليني على بيت الآنسة سبنسر، ذهبت إليها.»

فردت زوجة القسيس وأخبرتني أن الآنسة سبنسر تسكن في البيت الرابع بعد الكنيسة، وهي على اليمين، وفوق بابها طَنَف محمول على عمودين، تراه هي أشبه بإطار السرير.

وقالت السيدة لاتوش: «نعم، اذهب وزر كارولين المسكينة، فسيرد إليها نفسها أن ترى وجهًا غريبًا.»

وقالت زوجة القسيس: «أحسبها رأت فوق الكفاية من الوجوه الغريبة!»

فأصلحت السيدة لاتوش العبارة وقالت: «إنما أعني أن ترى زائرًا.»

فعادت صاحبتها تقول: «وأحسبها شبعت من الزوار! ولكنك أنت لا تنوي أن تبقى عشر سنين؟»

فقلت وأنا متحير: «أَوَعندها زائر من هذا الضرب؟»

قالت: «سترى ضربه. ومن السهل أن ترى زائرتها، فإنها تجلس عادة في الساحة المقدمة أمام البيت، وعليك أن تكون لبقًا وشديد الحذر في كلامك، وتوخ الأدب على الخصوص.»

فقلت: «آه، حساسة جدًّا، أليست كذلك؟»

فوثبت زوجة القسيس إلى قدميها، وانحنت لي، انحناء سخر وتهكم، وقالت: «هي كما تقول، من فضلك، فإنها كونتيسة!»

ونطقت اللفظ بلهجة لاذعة، حتى لخيل إليّ أنها تضحك ساخرة، في وجه الكونتيسة، فوقفت لحظة أحدّق، وأتعجب، وأتذكر.

ثم قلت: «أوه … سأكون مؤدبًا جدًّا.» وتناولت قبعتي وعصاي، وانصرفت.

ولم أجد مشقة في الاهتداء إلى بيت الآنسة سبنسر، فقد عرفت الكنيسة بلا جهد، وكان البيت الصغير الحائل البياض، ذو المدخنة الكبرى والنباتات الزاحفة، أخلق مسكن بعانس مقتصدة لها ذوق وخيال.

وتباطأت لما دنوت من البيت، فقد سمعت أن بعضهم لا يفتأ جالسًا في الساحة المقدمة، فأحببت أن أستطلع وأتبين أولًا، ورفعت رأسي محاذرًا ونظرت من فوق السور الأبيض الواطئ الذي يفصل الحديقة الصغيرة عن الطريق، ولكني لم أر كونتيسة أو سواها، وكان هناك ممر مستقيم يؤدي إلى عتبة الباب وعلى الجانبين رقعة صغيرة من الحشيش حولها إطار من شجيرات العنب الجافة وفي وسط الرقعة — في كلا الجانبين — شجرة كبيرة، حافلة بمظاهر الشظف والقفول.٥ وتحت إحدى الشجرتين منضدة صغيرة، وكرسيان. وعلى المنضدة شقة من النسيج لم ينته العمل فيها، وكتابان أو ثلاثة مجلدة بورق زاهي الألوان. فدخلت من البوابة، ووقفت في منتصف الممر، ونقضت المكان عسى أن أبصر ما يدل على حال ساكنته التي ترددتُ فجأة، بلا داع أعرفه، أن أقدم نفسي إليها. ثم خطر لي أن البيت رث، وأنه ليس من حقي أن أتطفل، فقد كان الشوق إلى استطلاع طلعها هو كل باعثي، ولكن هذه الرغبة بدت لي الآن غير لائقة. وبينما كنت مترددًا ظهرت سيدة في مدخل الباب ووقفت تنظر إليّ، فعرفت أنها كارولين سبنسر، ولكنها هي كانت تنظر إليّ كأنها ما رأتني قط من قبل، فتقدمت بتؤدة وإشفاق إلى الباب، ثم قلت وأنا أتكلف اللهجة الودية: «لقد انتظرت هناك عودتك ولكنك لم تجيئي أبدًا.»

فقالت برقة، وقد زادت عيناها اتساعًا: «انتظرت أين يا سيدي؟»

لقد كبرت، وظهر عليها التعب، والتلف.

وقلت: «انتظرت في الهافر.»

فحدّقت فيّ، ثم عرفتني، وتبسمت، واحمر وجهها، وضمت راحتيها وقالت: «الآن تذكرتك، وتذكرت ذلك اليوم.» ولكنها ظلت واقفة، لا تخرج إليّ، ولا تدعوني أن أدخل، وكانت مرتبكة.

وكنت أنا أيضًا مرتبكًا. فغرزت عصاي في الأرض وقلت: «ظللت أترقب مجيئك عامًا بعد عام.»

فهمست: «أتعني في أوروبا؟»

قلت: «في أوروبا، طبعًا. أما هنا فإن من السهل أن يهتدي إليك المرء، على ما يظهر.»

فأراحت رأسها على جانب الباب غير المدهون، ونظرت إليّ لحظة بلا كلام، وخيل إليّ، أني اجتليت في وجهها ما يرتسم على وجه المرأة حين تشفى على البكاء، وإذا بها فجأة تخطو إلى الحجرة أمام العتبة، وتغلق الباب وراءها، ثم بدأت تتبسم، وقد بقيت أسنانها كأجمل ما عهدتها، ولكنه كان هناك دموع أيضًا، ولا شك.

وسألت بصوت كالهمس: «أَوَكنت هناك طول الوقت منذ ذلك اليوم؟»

قلت: «عدت منذ ثلاثة أسابيع، وأنت؟ ألم تذهبي قط؟»

وكانت تنظر إليّ، وعلى ثغرها ابتسامتها الثابتة، ثم مدت يدها من خلفها وفتحت الباب وقالت: «إني أهمل واجب الضيافة، ألا تدخل؟»

قلت: «أخشى الإثقال عليك وإزعاجك.»

قالت: «كلا» وهي تبتسم، ودفعت الباب، وأومأت إليّ أن أدخل.

فدخلت وتبعتها، فمضت بي إلى غرفة صغيرة على يسار الردهة الضيقة، أحسبها غرفتها، وإن كانت في الناحية الخلفية، ومررنا بباب غرفة أخرى، موصد، تطل، فيما قدرت، على رقعة الحشيش والشجرة، وكانت الغرفة التي دخلناها تشرف على خص من الخشب، ودجاجتين تصيحان، وكانت الغرفة جميلة جدًّا، ولكن ما فيها مما يكسبها معنى الأناقة والرشاقة، ينبئ بشدة التدبير ودقة الاقتصاد، وقد زاد هذا في حسنها، فما رأيت من قبل أثاثًا باهتًا، وصورًا قديمة في إطارات من أوراق الخريف المموهة، مرتبة على خير من هذا النظام أو آنق وأحلى. وقعدت الآنسة سبنسر على حرف الأريكة، ويداها متشابكتان في حجرها. وكانت تبدو أسن بعشر سنين، ولو قلت إنها وسيمة لكان هذا القول الآن غير سائغ، ولكنها كانت في عيني وسيمة، أو على الأقل لهيئتها وقع في النفس. وكانت مضطربة، فحاولت أن أتكلف الإغضاء ولكني قلت لها فجأة وبلا أدنى تدبر، وبدافع لا يقاوم من ذكرى صداقتنا في الهافر: «إني أثقل عليك، فإنك مهمومة.»

فرفعت يديها إلى وجهها، وأبقته مدفونًا فيهما لحظة، ثم ردتهما وقالت: «ذاك لأنك تذكرني …»

قلت: «أتعنين أني أذكرك بذلك اليوم المشئوم في الهافر؟»

فهزت رأسها وقالت: «لم يكن مشئومًا؛ كان حسنًا.»

فقلت: «لم أُصدم قط كما صُدمت ساعة ذهبت إلى الخان في صبيحة اليوم التالي لأسأل عنك فإذا بك قد سافرت.»

فلبثت قليلًا لا ترد، ثم قالت: «أرجو أن تعفيني من الكلام في هذا.»

فسألتها: «هل عدت إلى هنا مباشرة؟»

قالت: «عدت إلى هذه البلدة بعد ثلاثين يومًا ليس إلا من سفري منها.»

– «وبقيت هنا بعد ذلك دائما؟»

فقالت برقة: «نعم.»

– «ومتى تذهبين إلى أوروبا كرة أخرى؟»

وكان السؤال عن هذا لا يخلو من قسوة وإيلام، ولكن طراوة استسلامها استفزتني، وأغرتني بأن أنتزع منها عبارة تدل على الملل والتبرم.

فصوبت عينها إلى دائرة ضيقة من نور الشمس على السجادة، ثم نهضت وأرخت الشباك قليلًا لترد هذا النور، وقالت، بلهجتها اللينة، ردًّا على سؤالي: «لن أذهب أبدًا.»

– «عسى أن يكون ابن عمك قد رد إليك مالك؟»

فحولت وجهها عني وهي تقول: «لست أبالي هذا الآن.»

– «ألا تحفلين بمالك؟»

– «للسفر إلى أوروبا.»

– «أتعنين أنك لن تذهبي ولو قدرت على السفر؟»

فقالت: «لا أقدر — لا أقدر — انتهى الأمر … ولست أفكر في هذا أبدًا.»

فقلت: «إذن لم يرد إليك مالك؟»

فبدأت تقول: «أرجو … أرجو …»

ثم أمسكت، وكانت تنظر إلى الباب، فقد تأدى إلينا من ورائه حفيف ثوب، ووقع قدم.

ونظرت مثلها إلى الباب، وكان مفتوحًا؛ فظهرت فيه سيدة أخرى على عتبته، وجاء وراءها شاب، وأحدّت السيدة النظر إليّ جدًّا، وطال لحظها حتى وسعني أن أنقش صورتها على لوح صدري، ثم التفتت إلى كارولين سبنسر، وقالت بنبرة أجنبية واضحة: «اغتفري لي تطفلي، لم أكن أعرف أن معك أحدًا؛ فقد دخل السيد في سكون تام.»

وردت إليّ لحظها مرة أخرى.

وكانت غريبة حقًّا. ومع ذلك كان أول ما وقع في نفسي أني رأيتها من قبل، ثم أدركت أني إنما رأيت سيدات يشبهنها، ولكني رأيتهن بعيدًا جدًّا من جريمونتر، فأحدثت لي رؤيتها هنا إحساسًا غريبًا، فإلى أين يحملني مرآها؟ إلى باب مفتوح على غرفة مقدمة قذرة، وإلى سيدة تميل على درابزين وعلى ذراعها مشملة باهتة الألوان، وهي تصيح بالخادمة أن تصعد إليها بالقهوة.

وكان ضيفة الآنسة سبنسر سيدة ضخمة، جاوزت ميعة الشباب، ووجهها السمين في مثل صفرة الموت، وشعرها مسرح إلى الخلف على الطريقة الصينية، وعينها صغيرة، ولكن نظرتها حادة نافذة، ولها ما يسميه الفرنسيون ابتسامة مرضية، وكانت ترتدي طيلسانًا قديمًا قرمزيًّا من الكشمير موشى بنقوش بيض. وكانت — كالصورة التي رفعتها ذاكرتي لعيني — تضم طرفيه أمامها بذراع عارية مستديرة، ويد بضة كثيرة الحطاط.

وقالت للآنسة سبنسر: «إنما جئت لأذكرك بقهوتي، فإني أرجو أن ترسل إليّ في الحديقة تحت الشجرة الصغيرة.»

وكان الشاب الذي خلفها قد دخل الغرفة ووقف ينظر إليّ، مثلها، وهو شاب جميل المحيا، وعليه سيما الريفي المتأنق، وله أنف دقيق معتدل القصبة، وذقن صغيرة حادة، وقدمان لم أر أصغر منهما أو أدق، وكان ينظر إليّ كالأبله وفمه مفتوح.

وقالت الآنسة سبنسر وعلى خديها جمرتان طافئتان: «ستجيئك القهوة.»

وقالت السيدة ذات الطيلسان: «حسن» والتفتت إلى الشاب وقالت: «هات كتابك.»

فأدار عينه في الغرفة وقال بصوت من لا حيلة له: «أتعنين أجروميتي؟»

وكانت السيدة ترشقني بلحظها متعجبة، وتضم طرفي كسائها بذراعها البيضاء وتقول: «هات كتابك يا صديقي.»

فقال وهو يرميني بعينه: «هل تعنين ديوان الشعر؟»

فقالت صاحبته: «لا بأس! دع الكلام، ولنتمش اليوم. وسنتحدث. ولكنه لا ينبغي لنا أن نقطع عليهما حديثهما، تعال.» واستدارت وهي تقول للآنسة سبنسر على سبيل التذكير: «تحت الشجرة الصغيرة.»

ورمت إليّ ما يشبه التحية، وكلمتي «أيها السيد» وانصرفت، والشاب في إثرها.

ووقفت كارولين سبنسر وعينها على الأرض.

فسألتها: «من هذه؟»

– «الكونتيسة، زوجة ابن عمي.»

– «ومن هذا الشاب؟»

– «تلميذها، المستر مِكستَر.»

فأغراني وصف العلاقة بين هذين الشخصين اللذين غادرا الغرفة، بالضحك، فنظرت إليّ الآنسة سبنسر بجد وقالت: «إنها تدرس اللغة الفرنسية، فقد فقدت ثروتها.»

قلت: «يظهر أنها مصممة على ألا تكون حميلة على أحد، وهذا هو الواجب.»

فصوبت كارولين عينها إلى الأرض مرة أخرى وقالت: «يجب أن أذهب لأعد لها القهوة.»

فسألتها: «هل لها تلاميذ كثيرون؟»

قالت: «المستر مكستر تلميذها الوحيد، وهي تهبه وقتها كله.»

ولم أستطع أن أضحك من هذا، وإن كنت قد أحسست بالاستفزاز، فقد كانت الآنسة سبنسر جادة جدًّا، وما لبثت أن قالت ببساطة: «إنه يدفع أجرًا حسنًا، فهو غني جدًّا، ورقيق وعطوف جدًّا، يخرج بها في مركبته للتنزه.»

وهمت بأن تمضي فسألتها: «أذاهبة أنت لإعداد قهوة الكونتيسة؟»

– «إذا أذنت لي … بضع دقائق.»

– «أليس هنا أحد غيرك يستطيع أن يعدّها لها؟»

فرمت إليّ نظرة عذبة السكون وقالت: «ليس لي خدم.»

فسألتها: «ألا تستطيع أن تخدم نفسها؟»

– «لم تتعود هذا.»

فقلت بأرق لهجة أقدر عليها: «مفهوم. ولكن قبل أن تذهبي، خبريني من هذه السيدة؟»

– «لقد أخبرتك من قبل، في ذلك اليوم. زوجة ابن عمي الذي رأيته.»

– «السيدة التي نبذتها أسرتها على إثر زواجها؟»

– «نعم. ولم ترها أسرتها بعد ذلك أبدًا. نبذتها كل النبذ.»

– «وأين زوجها؟»

– «مات»

– «وأين مالك؟»

فانتفضت المسكينة من حز الألم، فقد كانت أسئلتي واضحة السياق، جلية الغاية. وقالت بضجر وتعب: «لا أدري.»

وألححت في خطتي فسألتها: «وبعد أن مات زوجها جاءت السيدة إلى هنا؟»

– «نعم، جاءت ذات يوم.»

– «وكم لها هنا؟»

– «سنتان.»

– «وبقيت مذ جاءت؟»

– «طول الوقت.»

– «وكيف رضاها عن مقامها هنا؟»

– «ليست راضية.»

– «وكيف رضاك أنت؟»

فأخفت وجهها بين كفيها لحظة، كما فعلت قبل عشر دقائق، ثم خرجت مسرعة لتعد قهوة الكونتيسة.

وبقيت وحدي في الغرفة، فقد أردت أن أرى فوق ما رأيت، وأن أعرف أكثر مما عرفت. وبعد خمس دقائق أقبل الشاب الذي قالت الآنسة سبنسر إنه تلميذ الكونتيسة، ووقف ينظر إليّ وشفتاه متباعدتان، فلم يخالجني شك في أنه شاب غرير جدًّا.

وأخيرًا قال: «إنها تريد أن تعلم هل تحب أن تخرج إليها؟»

– «من هو الذي يريد أن يعلم؟»

– «الكونتيسة … تلك السيدة الفرنسية.»

– «هل طلبت منك أن تجيئها بي؟»

فقال بضعف وهو يتأمل قامتي الطويلة: «نعم يا سيدي.»

فخرجت معه فألفينا الكونتيسة جالسة في ظل شجرة من الأشجار الصغيرة المغروسة أمام البيت. وكانت تعمل بالإبرة في رقعة النسيج التي كانت على المنضدة، وتلطفت فأومأت إليّ أن أقعد على الكرسي إلى جانبها، ففعلت. وتلفت المستر مكستر ثم قعد على الحشيش عند قدميها. ورفع عينه، وراح ينقلها من وجه الكونتيسة إلى وجهي.

وقالت الكونتيسة وهي ترشقني بعينيها الصغيرتين البراقتين: «إني واثقة أنك تتكلم الفرنسية.»

فقلت بالفرنسية: «نعم يا سيدتي إلى حد ما.»

فصاحت: «أرأيت! لقد فطنت إلى ذلك من أول نظرة؛ لا شك أنك أقمت في بلادي.»

– «زمنًا طويلا.»

– «وتعرف باريس؟»

«أتم معرفة يا سيدتي.» وتعمدت أن أنظر إليها، في عينيها.

فما لبثت أن حولت عينيها وصوبتهما إلى تلميذها المستر مكستر، وسألته: «في أي شيء كنا نتكلم؟»

فرفع ركبتيه، وقلع بعض الحشيش، واضطرم وجهه وهو يقول: «إنكما تتكلمان بالفرنسية.»

فقالت الكونتيسة: «لي عشرة أشهر وأنا أدرس له. لا تخف أن تقول إنه أبله، فلن يفهم.»

فقلت: «أرجو أن يكون تلاميذك الآخرون أبعث على رضاك.»

– «ليس لي تلميذ غيره، فإنهم لا يعرفون ما اللغة الفرنسية، ولا يحفلونها هنا ولا يريدون أن يعرفوها، ففي مقدورك أن تتصور سروري بلقاء من يتكلمها مثلك.»

فأجبت بأن سروري ليس دون سرورها، وأقبلت على النسيج تعمل فيه إبرتها وخنصرها مثني، وكانت كل بضع دقائق تدني عينها مما تصنع على نحو ما يفعل قصيرو النظر. فوقع في نفسي منها أنها شخص بغيض، فقد كانت خشنة غير مصقولة، ومتكلفة خائنة، وليست كونتيسة ولا شيئًا من هذا القبيل، كما أني أنا لست خليفة.

وقالت: «حدثني عن باريس. فإن ذكر اسمها بمجرده يحرك نفسي. كم لك مذ تركتها؟»

– «شهران.»

– «ما أسعدك! حدثني عنها. قل لي ماذا يصنعون هناك؟ إيه ما أشوقني إلى ساعة واحدة في البوليفار؟»

– «إنهم يصنعون ما لا يزالون يصنعون، يتسلون على قدر ما يسعهم!»

فتنهدت وقالت: «في المسارح؟ وفي المراقص؟ وحول المناضد الصغيرة أمام الأبواب؟ يا لها من حياة! إنك تعرف أني باريسية من رأسي إلى قدمي.»

فتشجعت وقلت: «إذن كانت الآنسة سبنسر مخطئة حين قالت لي: إنك من بروفنس.»

فحدقت أمامها لحظة ثم دست أنفها فيما تنسج، وقالت: «أنا من بروفنس مولدًا، ولكني باريسية هوى.»

فقلت: «وتجربة أيضًا فيما أظن؟»

فتفرست هنيهة في وجهي بعينيها الحادتين وقالت: «التجربة! في وسعي أن أتحدث عن التجربة إذا شئت، فما كنت أتوقع مثلًا أن تدخر لي التجربة هذا»، وأشارت بكوعها العاري وبهزة من رأسها إشارة تشمل كل ما يحيط بها البيت الصغير، والشجرة، والسياج، والمستر مكستر أيضًا.

فقلت بابتسامة: «إنك في منفى.»

– «يمكنك أن تتصور أي منفى هو! السنتان اللتان قضيتهما هنا عشتهما ساعة فساعة، والمرء يعتاد الأشياء والحالات، ويخيل إِليّ أحيانًا أني ألفت هذا. ولكن هناك أشياء ولا تزال تبدأ من جديد، قهوتي مثلًا.»

فسألتها: «أتشربين القهوة دائمًا في هذه الساعة؟»

فرمت رأسها إلى الوراء وراحت تفحصني وتزنني.

وقالت: «في أية ساعة تفضل أن أشرب قهوتي؟ إنه لا بد لي من فنجان قهوة بعد الإفطار.»

– «آه! الإفطار في هذه الساعة؟»

– «في منتصف النهار، هنا يفطرون بعد الساعة السابعة بربع ساعة … وقت ظريف!»

فقلت بلهجة العطف: «ولكنك كنت تحدثينني عن قهوتك؟»

فقالت: «إنها (تعني كارولين) لا تؤمن بها، ولا تستطيع أن تفهمها. هي فتاة رائعة، ولكن فنجان القهوة وعليها قطرة من الكونياك، في هذه الساعة، هذا يتجاوز نطاق فهمها وإدراكها، فأنا مضطرة أن أنبهها كل يوم، وأنت ترى ما يستغرقه من الوقت صنع هذه القهوة، ووصولها إليّ، وعندما تصل … آه يا سيدي، لا تلمني إذا لم أقدم لك شيئًا منها، فإِني أعرف أنك شربتها في البوليفار …»

فحز في نفسي هذا التحقير لمروءة كارولين سبنسر وكرمها، ولكني اتقيت أن أقول شيئًا اجتنابًا لإساءة الأدب، ونظرت إلى المستر مكستر الذي طوق ركبتيه بساعديه، وقعد يرقب حركات الكونتيسة وهو مفتون، ولاحظت هي أني أتأمله، وألقت إليّ نظرة وابتسامة تفسيرية جريئة، وقالت: «إنك ترى أنه يعبدني.» ودست أنفها ثانية فيما تطرز، فأعربت لها عن تصديقي لذلك، واقتناعي به، ومضت في كلامها فقالت: «إنه يحلم بأن يكون عشيقي. نعم، هذا حلمه. وقد قرأ رواية فرنسية … من عمره ستة شهور … وما زال منذ ذلك الوقت، يتوهم أنه هو البطل وأنا البطلة.»

وكان من الجلي أن المستر مكستر لم يخطر له أنه موضوع كلامها، فقد كان ذاهلًا عن ذلك بما هو فيه من نشوة التأمل. وفي هذه اللحظة برزت كارولين سبنسر من البيت تحمل إبريق القهوة على صحن صغير، ولاحظت أنها وهي تقطع المسافة من الباب إلى المنضدة، ألقت إليّ نظرة خاطفة، نظرة توسل غامض. ولم أدر ماذا تعني بها، وحسبت أن المراد أنها اشتاقت، وهي واجفة الفؤاد، أن تعرف رأي خبير بالحياة عاش في فرنسا مثلي، في الكونتيسة، ولم أسترح إلى هذا الظن، فما كان يسعني أن أقول لها إن الكونتيسة ليست على الأرجح سوى زوجة حلاق فرّت منه. وقد حاولت على العكس أن أبدي لها الاحترام والتوقير. ولكني نهضت. ولم أعد أطيق أن أبقى. وساءني أن أرى كارولين سبنسر واقفة كأنها خادمة!

وقلت للكونتيسة: «هل تتوقعين أن تبقي زمنًا آخر في جريمونتر؟»

فهزت كتفيها هزة عنيفة وقالت: «من يدري؟ ربما أقمت هنا سنين، وسنين. متى كان المرء بائسًا …» والتفتت إلى الآنسة سبنسر وقالت: «يا عزيزتي لقد نسيت الكونياك.»

واستبقيت كارولين سبنسر حين همت، بعد أن ألقت نظرة صامتة على المنضدة الصغيرة، بأن تذهب لتجيء بالشراب الناقص. ومددت إليها يدي في سكون، مودعًا. وكان التعب باديًا عليها، ولكنه كان على وجهها الصغير الوديع لمحة غريبة من ذخيرة الجلد والصبر. وكبر في وهمي أن انصرافي يسرها. وكان المستر مكستر قد نهض وأقبل على إبريق القهوة يصب منه في الفنجان. وخطر لي وأنا أمر في عودتي بالكنيسة أن الآنسة سبنسر المسكينة كانت موفقة حين قالت لي في الهافر إنها سترى «شيئًا» من أوروبا العتيقة!

هوامش

(١) الرزان: العاقلة اللازمة لمقعدها.
(٢) ما أشرف خارجًا عن البناء.
(٣) اللبيس: ما طال لبسه فأخلق.
(٤) الحطاط: بثر صغير يظهر في الوجه ويقبح اللون ولا يقرح.
(٥) الشظف: في الشجرة أن لا تجد ريها فتخشن وتذهب ندوتها، والقفول: أن تجف الجفوف كله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤