سيد الباب

كان «دنيس ده بولييه» دون الثانية والعشرين، ومع ذلك كان يعد نفسه رجلًا مجتمعًا تامًّا، وفارسًا مدربًا أيضًا. وكان الغلمان يخوضون القتال في حداثتهم في ذلك العهد الحافل بالحروب. ومتى اشترك الواحد في وقعة، وبضع غارات، وأردى خصمًا وهو ينازله، وعرف شيئًا عن الناس والحروب، فإِن مما يغتفر له أن يكون في مشيته بعض الاختيال والتبختر. وكان دنيس قد ربط جواده وعلفه، ثم تعشى على مهل، ثم خرج، وهو أتم ما يكون رضى عن الدنيا ليؤدي زيارة في الغسق. ولم يكن هذا من الحكمة فقد كان خيرًا له أن يدّفئ على النار، أو أن يأوي إلى فراشه، فقد كانت البلدة غاصة بجنود برجندي، وإنجلترا تحت قيادة مختلطة. ومع أن دنيس كان يحمل ترخيصًا وتأمينًا، فإن هذا كان خليقًا أن يكون ضئيل الجدوى إذا اعترضه معترض.

كان ذلك في شهر سبتمبر من سنة ١٤٣٩، وكان البرد قارسًا، والرياح الزفزافة١ المتقلبة، المثقلة بالماء تضرب البلدة وتعصف بالأوراق الذاوية في الطرق وكان المرء يرى هنا، وههنا، نافذة ينبعث منها الضوء، وكانت أصوات المقاتلة وهم يتناولون عشاءهم ويشربون، ويسمرون عليه، تسمع متقطعة، وتحملها الرياح ولا تلبث أن تبتلعها. وأظلم الليل بسرعة، وصار علم إنجلترا الخافق يزداد غموضًا وخفاءً مع تكاثف السحب السابحة، حتى صار نقطة سوداء، كأنه العصفور في عماية السماء المطبقة الدَّجن، ومع الليل ثارت الرياح وصارت تصفر تحت العقود، وتزأر بين رءوس الأشجار في الوادي تحت البلدة.
وأغذ دنيس ده بولييه السير، وما لبث أن بلغ بيت صاحبه وقرع بابه وكانت نيته ألا يطيل المكث وأن يبكر في الأوبة، ولكنه وجد من الحفاوة والأنس والإكرام ما أذهله عن الوقت فتقضى من الليل أكثر من نصفه قبل أن يودع صاحبه على عتبة بيته، وكانت الريح قد سكنت في خلال ذلك، ولكن الليل كان أحلك من القبر، فلا نجم يومض، ولا سنا قمر يبدو من خلال السحاب المتبسط. ولم يكن دنيس خبيرًا بمداخل الطرق ومخارجها في «شاتو لاندون.» حتى في النهار كان يجد عناء في سلوك هذه الطرق الألغاز٢ فضل في هذا الظلام الطاغي. على أنه كان على يقين من شيء واحد، هو أن سبيله أن يصعد في الجبل، فقد كان بيت صديقه في الجانب المتطامن من «شاتو لاندون» أما الخان فكان في رأس الجبل، وفي ظل الكنيسة الكبيرة. فمضى — ولا هادي له إلا علمه هذا — يتعثر ويتحسس طريقه، فتخلص أنفاسه تارة في المواضع الرحيبة التي تتسع فوقها رقعة السماء، وتارة أخرى يمشي وراحته على الحائط في المضايق الخانقة. وإنه لمن بواعث الرعب والخشية أن يغرق المرء على هذا النحو في لجة صماء من السواد في مدينة مجهولة، فإن السكون يكون منطويًا على احتمالات مرعبة، وتلمس اليد المتحسسة قضبان الشباك الباردة فكأنما لمست ثعبانًا من ثعابين الماء. وتتعثر الرجل من قلة استواء الطريق فيثب القلب إلى الفم، ويكثف الظلام في موضع فيكون هذا نذيرًا بكمين، أو مدعاة للخوف من الوقوع في فجوة أو حفيرة، وإذا كان الهواء أصفى والسواد أخف، اتخذت المساكن مظاهر غريبة محيرة كأنما تتعمد أن تزيد المرء ضلالا. وكان على دنيس أن يعود إلى الخان من غير أن يلفت إليه الأنظار، وكان معرضًا لخطر جدي فضلًا عما يعانيه من مشقات هذا السُّرى. فكان يمشي محاذرًا مرهف الأذن ولكن في غير وجل، وكان يتمهل عند كل زاوية ومنعطف ليتسمع وينفض الطريق.

وقضى وقتًا ما، يخترق زقاقًا بلغ من ضيقه أن وسعه أن يلمس الجدارين على الجانبين بيديه، وإذا بالزقاق يتفتح ويرحب وينحدر انحدارًا شديدًا صعبًا. فلم يبق عنده شك في أن هذا ليس طريقه إلى الخان، غير أن الرغبة في شيء من النور والوضوح أغرته بالتقدم ليتبين. وكان الزقاق ينتهي بشرفة مسوّرة، كأنها وهي تطل من بين المنازل العالية على الوادي الغامض المظلم تحتها، المرقب في الحصن. وصوب دنيس لحظه إلى الوادي فتبين رءوس بضع أشجار تخفق، ونقطة مضيئة واحدة في حيث يجري ماء النهر عند السد. وكان الجو قد بدأ يصفو، والسماء تُفصح، فبدا رحى السحاب ومستداره في حيثما كان أغلظ، وبانت خطوط الجبال. ورأى دنيس، على هذا الضوء الخافت، منزلًا على يساره ينبغي أن يكون على حظ غير قليل من الفخامة، وكان على مستداره من أعاليه أبراج ومراقب وقد برزت من بنائه مؤخرة مستديرة لمعبد قائم على عمد ذات عقود. أما الباب فتحت طنف مشرفٍ خارجًا عنه وعليه نقوش بارزة ومن فوقه ميزابان طويلان. وكانت نوافذ المعبد يلتمع من خلال زخارفها المعقدة ضوء كأنه منبعث من شموع كثيرة فصارت العمد والسقف الناتئ أشد سوادًا تحت السماء. وكان من الجلي أن هذا بيت أسرة كبيرة من أهل هذه الناحية، فتذكر دنيس بيتًا له في بورج ووقف لحظة ينظر إليه ويقيس براعة المهندسين ومنزلتي الأسرتين.

ولم يبد له أن للشرفة منفذًا غير الزقاق الذي وصل منه إليها، ولم يكن يسعه إلا أن يعود أدراجه من حيث جاء، ولكنه ألم بالمكان فصار في مرجوه أن يهتدي إلى الطريق الأعظم ليبلغ منه خانه. وكان لا يدور في خلده أن سيقع له من الحوادث في ليلته هذه ما يجعلها أبدًا بالذكر بين عينه وقلبه طول حياته؛ ذلك أنه ما كاد يرجع نحو مائة ذراع حتى أبصر ضوءًا مقبلًا عليه وسمع أصواتًا عالية في هذا الزقاق الذي تتجاوب فيه الأصداء. وكان القادمون نفرًا من الحراس يعسُّون ومعهم المشاعل، ولم يخالج دنيس شك في أنهم قد ارتووا من النبيذ، وأنهم ليسوا بحيث يعبئون شيئًا بالرخصة التي يحملها أو يحفلون بأحكام الفروسية وأصول النزال. ومن المحتمل أن يقتلوه كما يُقتل الكلب. وأن يتركوه حيث يقع. وكان الموقف يثير النخوة، ويغري بالإقدام ولكنه يبعث على الاضطراب. وقد خطر له أن مشاعلهم خليقة أن تخفيه عن عيونهم، وأن وقع قدميه حقيق أن يغرق في لجة أصواتهم الفارغة. وإذا ساعفه الحظ فمضى مسرعًا وفي سكون فقد يستطيع أن يفلت من غير أن يتنبهوا.

ولكن من سوء الحظ أنه وهو يدور ليتراجع صادفت قدمه حصاةً فوقع على الحائط، وندت عنه صيحة ورن سيفه على الحجارة، فارتفع صوتان أو ثلاثة تطلب أن تعرف من هناك — بعضها بالفرنسية، والبعض بالإنجليزية — غير أن دنيس لم يجب، وذهب يعدو بأسرع ما يستطيع في الزقاق، حتى إذا بلغ الشرفة وقف ونظر وراءه، وكانوا لا يزالون يصيحون به، وضاعفوا سرعتهم في تعقبه ومطاردته، وكانت قعقعة السلاح، وهم يجرون، عالية، وجلبته عظيمة، والمشاعل تدفع إلى هنا، وههنا، في الزقاق الضيق.

فأجال دنيس لحظه فيما حوله، واندفع إلى ما تحت الطنف، وهناك قد يخطئونه فلا يرونه، أو إذا كان هذا أملًا بعيدًا، فهو في مكان ليس أصلح منه للحوار والدفاع، واطمأن إلى هذا فجرد سيفه وأسند ظهره على الباب. فما راعه إلا أن الباب انفتح وراءه، ومع أنه وقف في مدخله هنيهة إلا أن الباب ظل يضطرب على عقبه المزيت بلا صوت، ثم سكن، وبقي مفتوحًا على المغيّب وراءه في ظلمة الليل. والإنسان حين يسعفه الحظ بمنجى مما يتقيه لا يفكر في الأمر كيف كان، ولماذا كان، بل يعد راحته الشخصية، وإلحاح مطالبه التي لا تحتمل الإرجاء سببًا كافيًا لأغرب الغرائب وأعجب ما تحور إليه الأحوال ليستر ملجأه. ولم يكن أبعد من ذهنه، من أن يوصد الباب، ولكن الذي حدث هو أن الباب، لسبب خفي، عسى أن يكون زنبركًا أو لِزازًا٣ أفلتت كتلته البلوطية من أصابعه وانغلق، وأحدث ضجة عظيمة وضوضاء كالتي يحدثها مزلاج يغلق ويفتح من تلقاء نفسه.

وكان العسس قد بلغوا الشرفة في هذه اللحظة، وراحوا يدعونه إليهم بالصيحات واللعنات. وكان هو يسمعهم يبحثون عنه في الأركان المظلمة، بل لقد اصطدمت صعدة رمح بالباب الذي يحتجب خلفه، غير أنهم كانوا سكارى فلم يطل تلكؤهم، وما عتموا أن انحدروا في طريق ملتو كالبزال لم يفطن إليه دنيس، ثم غابوا عن العين والسمع في المدينة.

فتنفس دنيس الصعداء، وترك دقائق تمضي تفاديًا للحوادث، ثم ذهب يتحسس باحثًا عن وسيلة لفتح الباب والخروج من حيث دخل. وكان سطحه أملس، فلا مقبض، ولا زخرفة، ولا نتوء من أي نوع، وقد أدخل أظافره فيما يلي إطار الباب وشدّ، ولكن الكتلة كانت رازحة لا تتقلقل. وهز الباب فألفاه أثبت وأمتن من الصخرة الصماء، فقطب وصفر صفيرًا خافتًا. وتعجب للباب ما خطبه يا ترى؟ لماذا كان مفتوحًا؟ ثم كيف اتفق أن يوصد بمثل هذه السهولة والإحكام بعد دخوله؟ ولم يرتح دنيس إلى ما بدا له في هذا من الغموض والخفاء والخدعة، وخيل إليه أن هذا شرك، ولكن من الذي يخطر له أن ينصب شركًا في زقاق هادئ كهذا، وبيت ظاهره له مثل هذه الوجاهة والأبهة، وعلى أنه سواء أكان هذا أم لم يكن شركًا، وكان ما حدث قد حدث عفوًا أو عمدًا، فالواقع من الأمر أنه في فخ، وأنه لا يدري كيف يتسنى له النجاة منه. وثقلت وطأة الظلام عليه، فأرهف أذنه. وكان السكون تامًّا في الخارج، أما في الداخل وعلى مقربة منه، فخيل إليه أنه سمع تنهدًا خافتًا وشهيق باكٍ، وحفيفَ ثوب، وحسيسًا خفيفًا كأنما دنا منه أشخاص، يحرصون على السكوت ويحبسون حتى أنفاسهم بحذق وإحكام. وأزعجه هذا الظن، فدار فجأة كأنما يريد أن يدافع عن حياته، فأبصر — لأول مرة — ضوءًا بحيال عينيه، وعلى مسافة في داخل البيت خيطًا أفقيًّا من النور يعرض في نهايته كأنه خارج من فرجة بين سترين مقرنين على باب. ووجد دنيس روحًا وراحة في أن يرى شيئًا ما، فقد كان كالذي يمشي في أرض سبخة نزّازة فخرج منها إلى أرض صلبة، وتعلقت نفسه بهذا الضوء، بلهفة، ووقف شاخصًا يحاول أن يضم أشتات ما يحيط به ويؤلف منه صورة يأنس بها العقل. وكان من الواضح أن هناك سلمًا يبدأ من الرقعة التي هو فيها ويرتقي إلى الباب الذي ينبعث منه الضوء، بل لقد كبر في وهمه أنه يرى شعاعًا آخر من النور، دقيقًا كالإبرة وخافتًا كأنه من جسم مضيء بطبيعته، فمن الممكن أن ينعكس على الخشب المصقول للدرابزين. ولما كان يتوهم أنه ليس وحده فقد جعل قلبه يدق بعنف خانق، ومن أجل ذلك لجت به الرغبة في عمل شيء ما. واعتقد أنه مستهدف لخطر عظيم. وأن حياته مهددة، فمن الطبيعي أن تحدثه نفسه بالصعود على السلم، ورفع الستار أو تنحيته، ومواجهة ما عسى أن يكون وراءه، فيخرج بهذا مما هو فيه من الحيرة والقلق، وأقل ما في هذا من الجدوى أن يصبح أمام شيء محسوس وأن يخلص من الظلام والجهل. ومشى يخطو ببطء، ويداه ممدودتان أمامه حتى ضربت قدمه أولى درجات السلم، فارتقى فيه بسرعة، ثم وقف هنيهة يضبط أعصابه، ثم نحّى الستر ودخل.

وألفى نفسه في حجرة كبيرة مصقولة الجدران، ولها ثلاثة أبواب، لكل حائط باب، وعلى الأبواب أستارها، أما الحائط الرابع ففيه نافذتان كبيرتان وموقد من الحجر نقش عليها شعار «آل مالتروا.» وعرف دنيس الشعار وسره أنه في بيت قوم من ذوي المحتد والأرومة الكريمة، وكان الضوء في الحجرة قويًّا، ولم يكن فيها من الأثاث والمتاع سوى مائدة ثقيلة وكرسي أو كرسيين. ولم يكن في الموقد نار، وكان على البلاط قليل من القش، من الواضح أنه ألقي منذ بضعة أيام.

ورأى دنيس أمامه، وهو يدخل، رجلًا هرمًا ضيئل الجسم متلفعًا بالفرو على كرسي عال بجانب الموقد، وكانت إحدى ساقيه على الأخرى وإحدى يديه على الأخرى في حجره، وعلى صفة للجدار، قريبًا من كوعه، كأس من النبيذ، أما وجهه فكانت معارفه كأنها مصبوبة في قالب حاد يطالعك منه، لا ما تراه في محيا آدمي، بل ما يطالعك من وجه ثور أو جدي، أو خنزير أليف، وتقرأ فيه معاني الخِب، والغدر، والنهم، والقسوة، والفتك. وكانت الشفة العليا غليظة جدًّا، كأن بها ورمًا من ضربة أو وجع في الأسنان، وكانت ابتسامته وحاجباه المحددان، وعيناه الضيقتان القويتان، ناطقة بالشر. وكان شعره الأبيض الجميل يسيل فينسدل حول رأسه، كشعر القديس ويلتوي عند التقائه بالفرو، وكانت لحيته وشارباه تكسبه جلالًا وتفيض على محياه عذوبة ملطفة، ولم تترك الشيخوخة على راحتيه أثرًا، وعسى أن يكون ذلك من الدقة في تحري القصد، والتزام الاعتدال في المعيشة. وكانت «يد» آل مالتروا مشهورة، ومن العسير أن يتصور المرء كفًّا كثيرة اللحم ودقيقة الخلق في آن معًا، كهذه. وقد كانت الأصابع الطرية تنتهي بأنامل كرأس الشمعة فكأنها أصابع امرأة مما صور ليوناردو، وكان الإبهام حين ينطوي تبرز عظمته جدًّا، والأظافر بارعة الشكل وشديدة البياض، وقد زاد في جلال منظره وعمق وقعه في النفس أن تكون له هاتان الكفان وأن يريح إحداهما على الأخرى في حجره، كأنه ضحية بكر، وأن يكون لمحياه هذا التعبير الحاد المزعج، ويجلس صامتًا يتأمل الناس بعين لا تطرف كأنه رب من الأرباب أو تمثاله. وكان سكوته هذا يبدو كأنه من السخر والغدر، فما يلائم ما ينطق به وجهه.

وكان هذا هو «ألين» كبير آل مالتروا.

ومضت ثانية أو اثنتان، وكل من الرجلين يرشق الآخر بلحظه.

ثم قال السيد مالتروا: «تفضل بالدخول. لقد كنت أنتظر مقدمك طول هذا المساء.»

ولم ينهض وهو يدعوه، ولكنه شفع دعوته بابتسامة، وحنى رأسه قليلًا على سبيل التلطف. فشعر دنيس بقشعريرة قوية من المقت والتقزز تسري في عظامه، وكان هذا وقع الابتسامة وفعل تمتمة غريبة مهد بها الرجل لكلامه. وقد كاد دنيس، لما عراه من اضطراب الذهن، وما جاشت به نفسه من بغض الرجل، لا يجد كلامًا يقوله في جواب ما سمع.

ثم وجد لسانه فقال: «أظن أن خطأ مزدوجًا قد وقع، فإني لست من تتوهمني. ويظهر أنك كنت ترتقب زائرًا، ولكني أؤكد لك أن هذا التطفل مني لم يكن يجري لي في خاطر، ولا كانت تدفعني إليه رغبة.»

فقال الرجل بلهجة المتسامح: «حسن. حسن. هذا أنت هنا، وهذا هو المهم. اقعد يا صاحبي، واسترح. وسنرتب ما بيننا من الأمور التافهة حالًا.»

ورأى دنيس أن الغلط لا يزال يعقد الأمر فأراد أن يمضي في بيانه وقال: «إن بابك …»

فرفع الرجل حاجبيه المحددين وقال: «بابي؟ إنه آية صغيرة من آيات الذكاء والبراعة.» وهز كتفيه «هوى لي في الكرم! وقد قلت إنك لم تكن راغبًا في لقائي ومعرفتي. ونحن الشيوخ نعرف هذا الزهد فينا والعزوف عنا أحيانًا، وإذا مس ذلك شرفنا التمسنا وجوه الحيلة للتغلب عليه. لقد جئت غير مدعو، ولكن صدقني حين أقول إني أرحب بك.»

فقال دنيس: «إِنك تلج في الخطأ يا سيدي، فما ثم أي شأن بيني وبينك وإني لغريب في هذه البلدة. واسمي دنيس ده بولييه. وإذا كنت تراني الآن في بيتك فذاك …»

فقاطعه الرجل: «يا صاحبي أرجو أن تسمح لي برأيي في هذا الموضوع وأحسبه يخالف رأيك في اللحظة الحاضرة» ثم أضاف بضحكة: «وستظهر الأيام أينا كان المصيب وأينا المخطئ.»

فأيقن دنيس أن هذا الرجل مخبول ملتاث العقل، وهز كتفيه وقعد، وقد راض نفسه على الصبر حتى يرى ختام الأمر. وتلت ذلك فترة صمت خيل إليه في أثنائها أنه سمع همهمة كهمهمة الصلاة وراء الستر المقابل له. وكانت حرارة الصوت على الرغم من خفوضه تشي بالعجلة الشديدة أو الألم الوجيع. وخطر له أن هذا الستر يحجب مدخل المعبد الذي رآه من الزقاق.

وكان الرجل في أثناء ذلك يلحظ دنيس ويقيسه من رأسه إلى قدمه، وهو يبتسم، وكان من حين إلى حين يخرج أصواتًا كأصوات الطير أو الجرذان تدل على الرضى والارتياح. وصارت الحالة بسرعة مما لا يطاق، وأراد دنيس أن يضع حدًّا لها فقال بتلطف: إن الرياح قد سكنت.

فعرت الرجل نوبة من الضحك الصامت، طالت واشتدت حتى لقد اتّقد منها وجهه. فوثب دنيس إلى قدميه ووضع قبعته على رأسه ملوحًا بها وقال: «سيدي، إذا كان عقلك في رأسك فإنك تكون قد امتهنتني جدًّا، وإذا كان عقلك عازبًا عنك فإني أحسب أن في وسعي أن أجد شيئًا آخر أشغل به نفسي غير الكلام مع المجانين. إن ضميري مرتاح. وقد هزئت بي من أول لحظة، ورفضت أن تصغي إلى بياني وإيضاحي، فالآن لا توجد قوة غير قوة الله تضطرني أن أبقى هنا، وإذا لم أستطع أن أخرج على نحو آخر يكون أكرم وأمثل، فسأقطع بابك وأحطمه بسيفي.» فرفع الرجل يمناه لدنيس وحركها وكانت السبابة والخنصر والبنصر ممدودة دون البقية.

وقال: «اجلس يا ابن أخي العزيز.»

فصاح دنيس: «ابن أخيك؟ إنك كاذب.» وفرقع أصابعه في وجهه.

فصاح به الرجل بصوت حاد كنباح الكلب: «اجلس أيها الوغد! أتظن أني لما نصبت هذا الباب، اجتزأت به واقتصرت عليه؟ إذا كنت تفضل أن تقيد يداك ورجلاك حتى تشتكي عظامُك التوصيم فانهض وحاول أن تخرج! أما إذا كنت تؤثر أن تظل حرًّا وأن تحادث شيخًا كبيرًا فاقعد حيث أنت في سلام، وليكن الله معك!»

فسأله دنيس: «أتعني أني هنا سجين؟»

فقال الرجل: «إنما أسرد الحقائق. وأرى أن أترك لك أن تستخلص مدلولها.»

فقعد دنيس مرة أخرى، وحاول أن يكون في الظاهر هادئًا ساكن الطائر أما باطنه فقد كان جائشًا، فتارة تفور نقمته وحنقه، وتارة أخرى تشيع في بدنه رعدة من الحذر. وتزعزع يقينه بأنه يخاطب مجنونًا. ولكن إذا كان الرجل سليم العقل، فماذا يتوقع؟ وما هذه الحادثة الفاجعة أو السخيفة التي وقعت له؟ وبماذا ينبغي له أن يواجه الموقف؟

وبينما كان يفكر في هذا غير مسرور به أو مرتاح إليه، رفع السجف المرخى على باب المعبد ودخل قسيس طويل القامة عليه مسوح الكهنة، ورمى دنيس بنظرة طويلة حادة ثم قال شيئًا بصوت خفيض للشيخ.

فسأله هذا: «أَوَصارت أسلس وألين؟»

فقال القسيس: «إنها أكثر استسلامًا.»

فقال الشيخ متهكمًا: «كان الله في عونها فإن مرضاتها عسيرة. شاب وجيه وسيم، وليس بوضيع الأصل، فماذا تبغي الفاجرة أكثر من هذا؟»

فقال القسيس: «إن الموقف غير مألوف، ومخجل لفتاة خفرة.»

فقال الشيخ: «كان عليها أن تتدبر هذا وتنظر في العواقب قبل أن تقدم على هذه الرقصة! وما كنت أنا الذي اختار لها هذا علم الله. ولكن لما كانت قد دخلت في هذا، فوَحَقّ العذراء لتمضين في الأمر إلى ختامه.»

ثم التفت إلى دنيس وقال يخاطبه: «هل لي أن أقدمك إلى ابنة أخي يا سيد ده بولييه؟ لقد كانت تنتظر قدومك بصبر أنفد من صبري.»

وكان دنيس قد أسلم أمره لقضاء الحظ فيه، فكل ما كان يبتغي هو أن يعرف آخر الأمر بأسرع ما يستطاع. ولهذا نهض من توته وانحنى موافقًا. واحتذى كبير آل مالتروا مثاله وسار يعرج متكئًا على ذراع القسيس، إلى باب المعبد، فنحى القسيس السجف، ودخل الثلاثة. وكان المكان على حظ وافر من جمال الهندسة وبراعتها. وكان عقد القبة محمولا على ستة عمد متينة، وقد تدلى مصباحان في حفل من الزينة. وكان المعبد في نهايته — وراء الهيكل — مستديرًا مفرط الزخرف، وله نوافذ صغيرة على صور النجوم وأوراق الشجر والعجلات، ولم يكن زجاج النوافذ سليمًا كله، فكان هواء الليل يتخلل المكان، وكانت الشموع المضاءة على الهيكل لا تقل عن خمسين، وكان الهواء ينفخها بلا رحمة، فينتقل النور من السَّفَر والالتماع إلى ما يشبه الكسوف. وكانت هناك فتاة في ثياب عرس تركع على درجة أمام الهيكل. فأحس دنيس بالبرد في بدنه لما رأى ثيابها، وجاهد مجاهدة اليائس أن ينفي الخاطر الذي يأبى إلا أن يدور في نفسه. فما يمكن أن يكون الأمر كما يخشى، ولا ينبغي أن يحدث هذا.

وقال الشيخ بأعذب أصواته: «بلانش! لقد جئت بصديق ليراك يا فتاتي الصغيرة. فأولنا وجهك ومدي إليه يدك الجميلة. حسن أن يكون المرء ورعًا تقيًّا ولكن من الواجب أن يكون مهذبًا مؤدبا يا ابنة الأخ.»

فنهضت الفتاة إلى قدميها ودارت فواجهت القادمين. وكان جسمها يتحرك كله معًا. وكان الخجل والإعياء باديين على كل خط من خطوط جسمها البض الصابح، وكانت مطرقة، وعينها على الأرض وهي تخطو على مهل، وأبصرت — وهي تتقدم — رجليّ دنيس، وكان فخورًا بقدميه بحق، وشديد العناية برشاقة حذائيه حتى حين يكون على سفر، فوقفت — انتفضت كأنما كان حذاءاه الأصفران قد أوحيا إليها بمعنى مفزع — ورفعت عينها بغتة إلى وجه دنيس. فالتقت عيونهما، فحل الجزع والفزع في عينيها محل الخجل، واصفرت شفتاها، وندت عن صدرها صرخة عالية وغطت وجهها بيديها وهوت إلى الأرض.

وصاحت: «هذا رجل آخر، يا عمي، هذا رجل آخر.»

فقال الشيخ بلهجة الراضي: «بالطبع لا … لقد كنت أتوقع هذا … من سوء الحظ أنك لم تستطيعي أن تتذكري اسمه.»

فعادت تصيح: «صدقني. صدقني. ما رأيت قط وجه هذا الرجل إلا الساعة — لم تقع عيني عليه من قبل — ولست أريد أن أراه مرة أخرى.»

والتفتت إلى دنيس وقالت: «سيدي. إذا كنت رجلًا شريفًا فليس يسعك إلا أن تشهد لي، فهل رأيتك قط؟ هل رأيتني قط؟ قبل هذه الساعة المشئومة!»

فقال دنيس: «أما عن نفسي فأقول إنه لم يكتب لي هذا الشرف من قبل. وهذه أول مرة يا سيدي التقيت فيها بابنة أخيك الجميلة.»

فهز الشيخ كتفيه وقال: «يحزنني أن أسمع هذا. ولكن الابتداء لا يضيع وقته ولا تذهب فرصته مهما تأخر. وما كانت معرفتي بزوجتي التي توفيت أوثق من معرفتكما — قبل زواجنا — وهذا يثبت أن الزواج المرتجل كثيرًا ما يسفر عن تفاهم بديع على العموم. ولما كان الزوج يجب أن يكون له رأي في الموضوع، فسأدعه ساعتين ليعوض ما فات من الوقت قبل أن نمضي بالمراسم إلى غايتها.»

واتجه إلى الباب والقسيس وراءه.

فنهضت الفتاة على قدميها بسرعة وصاحت: «عمي! لا يمكن أن تكون جادًّا. إني أقسم أمام الله أني أوثر أن أقتل نفسي على أن أرمى على هذا الرجل؛ إن النفس تثور على هذا. الله يحرم مثل هذا الزواج، وأنت تلوث شعرك الأبيض، وتجر عليه العار. عمي! ارحمني. ما من امرأة في العالم إلا وهي تفضل الموت على مثل هذا الزواج. هل من الممكن (باضطراب وتردد) هل من الممكن أن لا تصدقني … هل يمكن أن تظل تعتقد (وأشارت إلى دنيس وهي ترعد من الغضب والاحتقار) أن تظل تعتقد أن «هذا» هو الرجل؟»

فقال الشيخ وهو واقف على العتبة: «أقول لك الحق. نعم، ولكن دعيني أبين لك، يا بلانش ده مالتروا، أسلوب تفكيري في هذا الموضوع. لما نزا بك الطيش، فلوثت كرامة أسرتي والاسم الذي أحمله في السلم والحرب منذ ستين سنة، أسقطت بذلك حقك في مجادلتك فيما أصنع، بل في أن تنظري إلى وجهي. ولو كان أبوك حيًّا لبصق عليك وطردك. فقد كانت يده من حديد ومن واجبك أن تشكري الله لأن يدي من المخمل يا آنسة! لقد كان واجبي أن أزوجك بلا تلكؤ، ودفعني طيب القلب وحسن النية فبحثت لك عن حبيبك وأعتقد أني وفقت. وأقسم بالله وملائكته أني لا أعبأ شيئًا إذا كنت لم أوفق يا بلانش ده مالتروا. لهذا أنصح لك بأن تكوني مؤدبة مع صاحبنا الشاب. إذ من يدري!؟ قد يكون الذي يليه أقل لياقة!»

وخرج، والقسيس في أثره. وانسدل الستر عليهما.

وواجهت الفتاة دنيس بعينين تقدحان شررًا وسألته: «ماذا يمكن أن يكون معنى هذا يا سيدي؟»

فقال دنيس باكتئاب: «الله وحده هو العليم، إني سجين في هذا البيت الغاص بالمجانين على ما يظهر. ولست أعرف أكثر من هذا ولا أنا فاهم شيئًا.»

فسألته: «وكيف جئت إلى هنا، من فضلك؟»

فأخبرها بأوجز ما يستطيع ثم قال: «وقد يكون الأصوب أن تحتذي مثالي وتحلي لي هذه الألغاز، وتقولي لي ما آخر هذا؟»

فوقفت برهة وهي صامتة، وكان دنيس يرى شفتيها ترتجفان، وعينها التي جمدت فيها الدموع، تتقد وتومض بنار الحمى، ثم أراحت جبينها على كفيها وقالت بفتور وتعب:

– «وا أسفاه! لشد ما يَوْجعني رأسي! بله قلبي! ولكن من حقك أن تعرف قصتي وإن كانت تبدو غير لائقة. اسمي بلانش ده مالترو. وأنا يتيمة — لا أُم ولا أب — منذ — أوه … مذ صرت أعرف شيئًا. وكنت، وما زلت، شقية طول عمري. ومنذ ثلاثة شهور، بدأ ضابط شاب يقف إلى جانبي كل يوم في الكنيسة. وتبينت أنه يحبني. وإني لملومة، ولكنه سرني أن أجد إنسانًا يحبني. ودس في يدي رقعة، فحملتها معي إلى البيت وقرأتها وأنا فرحة. وقد كتب إليّ رقعًا كثيرة بعد ذلك. وكان يتلهف على محادثتي — مسكين — وجعل يلح عليّ أن أدع الباب مفتوحًا في بعض الليالي لنتبادل كلمتين على درج السلم، فقد كان يعرف مبلغ ثقة عمي بي.»

وشهقت وهي تقول ذلك، ولم تستطع أن تستأنف الكلام إلا بعد لحظة. «وعمي رجل قاس. ولكنه ذكي حاذق. وقد أبلى بلاء حسنا في الحروب وكان ذا حظوة ومقام في بلاط الملك، وكانت الملكة إيزابو تثق به في الأيام السالفة. ولا أدري كيف استراب بي وشك في أمري، غير أن من الصعب أن يخفي الإنسان عنه شيئًا. وفي الصباح، ونحن عائدون من صلاتنا وضع يدي في يده، وأكرهني على فتحها، وقرأ الرقعة التي كتبها الضابط. وكان يقرأ وهو يمشي، ولما أتم القراءة ردها إليّ بلطف. وكان الرقعة رجاء جديدًا أن أدع الباب مفتوحًا. فكان في هذا خرابنا جميعًا. فقد أبقاني عمي في غرفتي وحرص على أن لا أبرحها حتى دخل الليل ثم أمرني أن ألبس هذه الثياب التي تراها عليَّ — فيا لها من سخرية بفتاة مثلي! أليس هذا رأيك؟ وأحسبه لما عجز عن حملي على الإفضاء باسم الضابط، نصب هذا الفخ له، فوقعت أنت فيه، ويا للأسف! وقد توقعت ارتباكًا كثيرًا إذ من أدراني أنه يقبل أن يتخذني زوجة بهذه الشروط؟ ولعله كان يلهو غير جاد من أول الأمر، وعسى أن أكون أرخصت نفسي في عينه. ولكني لم أكن أتوقع مثل هذه العقوبة الفاضحة! ولم يكن يخطر لي أن الله يأذن أن يعصب رأس فتاة بالعار على هذا النحو أمام شاب. والآن انتهت قصتي. ولست أجرؤ أن أرجو ألا تحتقرني.»

فانحنى لها دنيس احترامًا وقال: «سيدتي. لقد شرفتني بثقتك بي ومصارحتك لي، وقد بقي عليّ أن أثبت لك أني لست غير أهل لهذا الشرف. فهل السيد ده مالتروا قريب من هنا؟»

قالت «أظنه ينتظر في الحجرة الأخرى.»

فسألها دنيس وهو يعرض عليها ذراعه بأقصى ما يسعه من التلطف: «هل تسمحين لي أن أمضي بك إليه؟»

فقبلت، فخرجا من المعبد؛ بلانش مكتئبة خجلة، ودنيس يخطر وهو معتز بغايته وثقته الصبيانية بقدرته على تحقيقها وسلامة شرفه بذلك.

ونهض السيد ده مالتروا لاستقبالهما، وانحنى لهما ساخرًا.

وقال دنيس بأقصى ما يسعه من الشموخ: «سيدي. إني أعتقد أنه سمح لي بإبداء رأي في هذا الزواج، فلأقل بلا تلكؤ، إني لن أكون شريكًا في إرغام هذه السيدة. ولو أن الأمر عرض عليّ، بغير إكراه، لكان من دواعي الشرف لي أن أقبل يدها. فإنها لنبيلة بقدر ما هي جميلة، فأما والأمر كما هو فإن لي الشرف يا سيدي أن أرفض.»

فنظرت إليه بلانش شاكرة، أما الشيخ فابتسم، وظل يبتسم حتى صارت ابتسامته تغثي نفس دنيس.

وقال الشيخ: «أعتقد يا سيد ده بولييه أنك لا تدرك حق الإدراك ما أعرضه عليك من الخيار. فأرجو أن تتبعني إلى هذه النافذة.» ومضى أمامه إلى إحدى النوافذ الكبيرة المفتوحة على ظلام الليل وقال: «ترى أن في البناء من فوق حلقة من الحديد، فيها حبل متين. والآن أصغ إليّ: إذا وجدت أن زهدك في ابنة أخي لا يُغالب ولا يفتر، فسأشنقك بهذا قبل طلوع الشمس. ولن أفعل ذلك حين أضطر إليه إلا وأنا شديد الأسف، لو صدقت، فليس موتك طلبتي، وإنما مبتغاي كفالة المستقبل لابنة أخي. ولكنه لا حيلة لي سوى هذا إذا عاندت. إن أسرتك يا سيدي ده بولييه كريمة، ولكن لو أنك كنت من نسل شرلمان، لما كان لك أن ترفض يد سيدة من آل مالتروا وأنت آمن — حتى ولو كانت مبتذلة كطريق باريس — حتى ولو كانت دميمة كالميزاب الذي على بابي. وليس لابنة أخي، ولا لك، ولا لإحساسي الخاص، شأن أو دخل في هذا الموضوع، وإنما تعرض شرف بيتي لما يخدشه. وإني أعتقد أنك الذي اجترح هذا الإثم، وأنت على الأقل أصبحت عارفًا بالسر ومطلعًا عليه، فليس لك أن تتعجب إذا طلبتُ منك أن تمحو هذه الوصمة، وإذا لم تفعل فإِن دمك يكون على رأسك، وتكون أنت الجاني على نفسك. ولن يكون من بواعث اغتباطي أن أرى جثمانك يضطرب في الهواء، تحت نوافذي. ولكن نصف الرغيف خير من لا خبز، وإذا لم يسعني أن أمحو الوصمة فسأخنق على الأقل، الفضيحة.»

وكان صمت.

ثم قال دنيس: «أعتقد أن هناك طرقًا أخرى لفض النزاع بين الرجال ذوي الشرف والكرامة. وإن معك لسيفًا وقد سمعت أنك استعملته بحذق.»

فأومأ سيد ده مالتروا إلى القسيس فقطع أرض الحجرة بخطى واسعة صامتة ونحى السجف عن ثالث الأبواب، وبعد هنيهة أرخاه كما كان، ولكن دنيس وسعه أن يرى أن الدهليز المظلم غاص بالرجال المدججين بالسلاح.

وقال سيد ده مالتروا: «لما كنت أصغر قليلًا، كان يسرني أن أشرّفك يا سيد ده بولييه ولكني الآن أسن من أن أفعل ذلك. والأتباع الأوفياء هم عضلات الشيخوخة وزنودهم، ولا معدى لي عن استعمال ما لدي من قوة. وهذا من أشق ما يضطر المرء إلى احتماله كلما علت به السن، ولكن بقليل من الصبر يصبح الأمر عادة. وأنت وابنة أخي تفضلان على ما يظهر أن تقضيا في هذه الحجرة ما بقي لكما من الساعتين المضروبتين أجلًا، ولست أحب أن أعترض لكما طريق رغبة، لذلك أخلي لكما الحجرة مسرورًا!»

ورأى نظرة خطرة في عيني دنيس فرفع يده زاجرًا وقال: «لا تتسرع! إذا كانت نفسك تثور على الشنق فإنه لا يزال أمامك ساعتان تلقي بعدهما نفسك من النافذة، أو تلقيها على حراب أتباعي. والساعتان من العمر هما دائمًا ساعتان، وقد يحدث كثيرًا مما ليس في الحسبان حتى في مسافة وجيزة من الزمن كهذه. وإذا كانت فراستي لم تخني، فإنه يبدو لي أن ابنة أخي تريد أن تحدثك بشيء ولا أحسبك ترضى أن تشوه ما بقي لك من العمر بسوء الأدب مع سيدة!»

فنظر دنيس إلى بلانش، فأومأت إليه متوسلة ضارعة.

ويظهر أن الشيخ الهرم سره جدًّا هذا الفهم، فقد ابتسم لهما وقال بلهجة لينة: «إذا بذلت لي وعدًا بشرفك يا سيدي بولييه أن تنتظر عودتي عند انقضاء الساعتين، قبل أن تخاطر بشيء، فإني مستعد أن أصرف أتباعي وأن أدعك تتكلم مع الآنسة وأنت آمن أن يسمعك أحد.»

فنظر دنيس مرة أخرى إلى الفتاة، فألفاها تتوسل إليه بعينها أن يقبل.

فقال: «أعدك بشرفي.»

فانحنى السيد ده مالتروا ومضى يظلع على أرض الغرفة ويتنحنح ويخرج تلك الأصوات التي استك منها مسمع دنيس. وتناول أولًا أوراقًا كانت ملقاة على المائدة ثم قصد إلى مدخل الدهليز وأمر الذين وراء الستر بشيء، ثم خرج من الباب الذي دخل منه دنيس، بعد أن وقف على العتبة ليلقي ابتسامة أخيرة إليهما، وتبعه القسيس وفي يده مصباح.

فلما صارا وحدهما دنت بلانش من دنيس ويداها ممدودتان، وكان وجهها مضطرمًا، وعيناها تلمع فيهما العبرات.

وقالت: «لن تموت. يجب أن تتزوجني.»

فقال دنيس: «يظهر يا سيدتي أنك تحسبين أني أخاف الموت.»

فقالت: «لا لا لا … فإني أرى أنك لست بالجبان. وإنما أدعوك إلى هذا من أجلي أنا، فما أطيق أن أدعك تذبح لهذا.»

فقال دنيس: «أظن يا سيدتي أنك تبالغين في الاستخفاف بالصعوبة، فإن ما تكونين أنت أكرم من أن ترفضيه، قد أكون أنا أشد كبرًا من أن أقبله. وإنك ليغمرك الآن شعور كريم، فأنت تنسين ما أنت به مدينة لآخرين.»

وكان كيسًا فكانت عينه على الأرض وهو يقول ذلك، وظل كذلك بعد أن فرغ من الكلام، حتى لا يرى اضطرابها. وبقيت هي صامتة لحظة ثم مضت عنه وهوت على كرسي عمها وانفجرت تبكي وتنتحب، فبلغ الاضطراب والارتباك بدنيس غايتهما، وتلفت كأنما يستلهم ما حوله، ورأى مقعدًا فهوى عليه، فقد كان لا بد له أن يصنع شيئًا. وهكذا جلس يعبث بمقبض سيفه. ويتمنى لو أنه كان قد مات ألف ميتة ودفن في أقذر مزبلة في فرنسا! وكانت عينه تدور في الحجرة، ولكن لحظه لم يستوقفه شيء، وكانت المسافات بعيدة بين قطع الأثاث والضوء يقع منحرفًا على كل شيء وهواء الليل خارج الغرفة يدخل من نافذتها باردًا، فخيل إليه أنه لم ير أرحب من هذه الكنيسة، ولا قبرًا أسود وأقتم من هذا. وكانت شهقات بلانش ده مالتروا منتظمة كدقات الساعة. وقرأ دنيس الشعار الذي على الترس مرة أخرى. وثانية، وثالثة، حتى زاغ بصره، وحدق في الأركان المعتمة حتى بدت له كأن هوامًا فظيعة تسرح فيها وتمرح. وكان من حين إلى حين، يتنبه فزعًا فيتذكر أن الساعتين تنقضيان، وأن الموت يزحف. وكثر، مع كر الوقت، لحظانه الفتاة نفسها. وكانت مطرقة، ويداها على وجهها، وكان شهاق الحزن يهزها آنًا بعد آن. ولكن هذا لم يفقدها جمالها، ولم يجعل العين أقل استراحة إلى النظر إلى بضاضتها وحسنها، وسمرة بشرتها الحارة، وإلى أجمل ما رأت عين دنيس من الشعر في عالم النساء. وكانت يداها كيدي عمها، ولكنهما كانتا أليق بذراعيها الطويلين وأنطق بالرقة والحنو. وتذكر كيف كانت عيناها الزرقاوان تومضان وهي تنظر بهما إليه، وفيهما الغضب والعطف والطهر. وصار كلما أوسع محاسنها نظرًا وتأملها ازداد نفورًا من الموت وزهدًا فيه، وندمًا وأسفًا لأنه يطيل بكاءها. وكان يحس تارة أنه ما من إنسان تؤاتيه الشجاعة فيترك دنيا فيها مثل هذا الجمال، وتارة أخرى يود لو أن أربعين دقيقة انتقصت من ساعته الأخيرة، وأنه لم يقل لها ما قال.

وصافحت مسامعها فجأة صيحة ديك من الوادي المظلم تحت النافذة، فكانت هذه الضوضاء التي مزقت حجاب السكون كالنور ينبثق في الظلمة، فهزهما ذلك وردهما عما كان يستغرقهما من الفكر.

وقالت وهي ترفع إليه وجهها: «وا اسفاه! أما من شيء أستطيع أن أساعدك به؟»

فقال بلا مناسبة من كلامها: «سيدتي، إذا كان فيما قلته، ما جرحك فثقي أنه كان من أجلك، وفي سبيلك، لا من أجلي.»

فشكرته بعين مغرورقة بالدموع.

ومضى في كلامه فقال: «إني أدرك أوجع إدراك ما في مركزك من الحرج. لقد قست عليك الدنيا قسوة مرة. وإن عمك لوصمة لبني الإنسان. وصدقيني يا سيدتي، حين أقول إنه ما من شاب في فرنسا إلا وهو يرحب بفرصتي، ويسره أن يموت ليؤدي لك خدمة وقتية.»

فقالت: «إني أعرف أن في وسعك أن تكون شجاعًا كريمًا. والذي أريد أن أعرفه هو هل أستطيع أن أخدمك، الآن أو فيما بعده.» وارتعش صوتها وهي تنطق بالكلمات الأخيرة.

فأجابها بابتسام: «على التحقيق. ودعيني أقعد إلى جانبك كما يفعل الصديق، وكأني لست ذلك المتطفل الأحمق. ولتنسي ما ينطوي عليه موقفنا — بعضنا حيال بعض — من الحرج. دعي لحظاتي الأخيرة تمر حميدة. وبهذا تؤدين لي خير خدمة ممكنة.»

فقالت بصوت ينم على ازدياد حزنها: «إنك شهم باسل … شهم جدًّا … وهذا يؤلمني لسبب ما … ولكن ادن مني من فضلك وإذا وجدت كلامًا تقوله لي فإن في وسعك على الأقل أن تكون على يقين من ود المصغي إليك. آه يا سيد ده بولييه! كيف أقوى على النظر إلى وجهك؟»

وعادت تنتحب مرة أخرى وتبكي بأربع.

فتناول دنيس يدها وجعلها بين يديه وقال: «سيدتي، فكري في الوقت القصير الباقي لي، وفي الألم المر الذي يحدثه لي حزنك. أعفني في لحظاتي الأخيرة من رؤية ما لا أستطيع أن أداوي حتى ببذل حياتي.»

فقالت بلانش: «إني شديدة الأنانية. ولكني سأتشجع يا سيد ده بولييه من أجلك، ولكن فكر فيما أستطيع أن أصنعه في سبيلك في المستقبل، أليس لك إخوان أحمل إليهم وداعك؟ احمل عليّ بما تشاء! كلفني كل ما يخطر لك، فإن كل عبء سيخفف قليلًا ألم ما أنا مدينة به لك. اجعل في وسعي أن أصنع شيئًا من أجلك أكثر من البكاء.»

فقال دنيس: «لقد تزوجت أمي ثانية، ولها أسرة صغيرة تُعنى بها، وسيرث أخي جيشار إقطاعاتي، وإذا كنت غير مخطئ فسيعزيه هذا كثيرًا عن موتي. إن الحياة أنفاس تذهب على ما يقول لنا رجال الدين. والمرء حين يكون على منهاج السعادة، وتتفتح أبواب الحياة أمامه، يتوهم أنه شيء عظيم الخطر في الدنيا. حصانه يصهل له، والنفير ينفخ، فتطل الغانيات من النوافذ لتراه وهو يتقدم فرقته، ويتلقى مواثيق عديدة، بعضها بالبريد، كتابة، وبعضها باللسان، والعين في العين، ويهوى على عنقه الرجال ذوو المنازل الملحوظة، ثم يموت، فما أسرع ما يُنسى ولو كان أشجع من هرقل وأحكم من سليمان. منذ أقل من عشر سنوات قتل أبي في معركة عنيفة وقتل معه كثيرون من الفرسان ولست أظن اسم أحد منهم، أو حتى اسم الواقعة، يذكر الآن! لا لا لا، يا سيدتي كلما اقترب المرء من الموت ألفى أنه ركن مظلم معفر، يدخل منه الرجل إلى قبره ويوصد عليه الباب إلى يوم الحساب. وإن أصدقائي الآن قليلون، وبعد أن أموت لا يكون لي صديق.»

فقالت: «آه يا سيد ده بولييه، إنك ينسى بلانش ده مالتروا.»

فقال: «إن أخلاقك كريمة يا سيدتي، وقد شئت أن تبالغي في قيمة عمل صغير.»

فقالت: «ليس هذا ما أعني. وإنك لتخطئ إذا كنت تظن أني متأثرة بما يعنيني. إنما أقول ذلك لأنك أنبل وأشرف رجل رأيته، لأني أرى لك روحًا لو حلت في بدن واحد من حثالة الناس لرفعته وجعلت له شأنًا في الأرض.»

قال: «ومع ذلك هذا أنا أقضي نحبي في مصيدة جرذان، بلا ضجة أكثر من صيحاتي.»

فبان في محياها الألم، وسكتت لحظة، ثم أضاءت عينها، وقالت بابتسام: «لا أستطيع أن أسمح لفارسي أن يحقّر نفسه ويسخر منها. إن كل من يبذل حياته فداء لحياة أخرى، تستقبله في الجنة ملائكة الله بالترحيب. ومع ذلك لا داعي لأن تُشنق إذ … إذ … من فضلك أتراني جميلة؟»

واصطبغ وجهها بالدم القاني.

فقال: «إنك يا سيدتي جميلة حقًّا.»

فقالت من قلبها: «إني فرحة بهذا. فهل تظن أن في فرنسا كثيرين من الرجال خطبتهم لنفسها عذراء جميلة؛ بلسانها، فرفضوها، وردوها، في وجهها؟ وإني لأعرف أنكم معشر الرجال تحتقرون مثل هذا النصر، ولكن صدقني، إننا نحن النساء أعرف بما له قيمة في الحب. وما من شيء أحق من هذا بأن يرفع مقام المرء في عينه، ونحن النساء لا نرى أنفس من هذا ولا أحق بالضن به.»

فقال: «إنك رقيقة القلب جدًّا، ولكنك لا تستطيعين أن تُنسيني أن هذه الرغبة صادرة عن العطف عليّ، لا الحب لي.»

فقالت وهي مغضية: «لست على يقين من أن هذا هكذا. اسمع كلامي إلى ختامه يا سيد ده بولييه. إني أعرف أنه لا يسعك إلا أن تحتقرني، وأنا أشعر أنك على حق في هذا، وإني لمخلوقة مسكينة لا تستحق أن تشغل بها خاطرًا واحدًا وإن كنت لا بد أن تموت مع الأسف من أجلها في الصباح! ولكني إنما رجوت منك أن تتزوجني، لأني احترمتك وأعجبت بك، وأحببتك من أعماق قلبي منذ اللحظة التي انتصرت فيها لي على عمي. ولو أنك كنت ترى نفسك ساعتئذ وأن تبصر نبل مظهرك، لأدركت العطف عليّ بدلًا من أن تحتقرني.» والآن (وأسرعت في الكلام، وصدته بكفها عن مقاطعتها) «وقد نبذت كل تحفظ، وأفضيت إليك بالكثير، فتذكر أني أعرف شعورك نحوي، وثق أني — وقد انحدرت من أصل شريف — لن أضجرك بالإلحاح عليك أن تقبل، فإن لي أنا أيضًا لكرامة، وإني لأعلن أمام الله أنك لو رجعت فيما قلت، لما تزوجتك كما لن أتزوج خادم عمي.»

فابتسم دنيس ابتسامة لا تخلو من مرارة وقال: «إنه حب صغير ذلك الذي يعفى عليه شعور عارض بالغضاضة.»

فلم تجب، وإن كانت خواطرها تدور في نفسها.

وقال وهو يتنهد: «تعالي هنا، إلى النافذة … هذا هو الفجر يطلع.»

وكان الفجر قد بدأ يتنفس، وامتلأ عنان٤ السماء بالضوء الصافي الذي لا لون له. وفاض على الوادي ما انعكس منه، وبقي شيء من السديم٥ على الغابة أو فوق مجرى النهر المتعرج. وكان المنظر عجيبًا في سكونه الذي لم يكد يقطعه صياح الديكة، ولعل الديك الذي أطلق في الظلام قبل نصف ساعة صيحته المنكرة، هو بعينه الذي صاح بالتحية المرحة للصباح الجديد. وهب النسيم بالأشجار تحت النوافذ، ومضى الصبح يغمر الدنيا بالنور من المشرق الذي ما لبث أن توهج ثم أطلع قرص الشمس المضطرم.

ونظر دنيس إلى هذا كله، وبه ارتعاش خفيف، وكان قد تناول يد بلانش وأبقاها في يده، وهو لا يكاد يعي.

وسألته: «أَوَطلع النهار؟»، ثم بلا مبالاة بالمنطق: «لقد كان الليل طويلًا وا أسفاه ماذا نقول لعمي حين يعود؟»

فقال: «ما تشاءين.»

وضغط أصابعها بأصابعه.

فلم تقل شيئًا.

وقال هو، مندفعًا في الكلام، وصادرًا فيه عن عاطفة جياشة: «بلانش، لقد رأيت هل أخاف الموت أو لا أخافه، ولا شك أنك تعرفين أنه آثر عندي أن أثب من هذه النافذة وأرمي بنفسي مسرورًا في هذا الهواء الفارغ، من أن ألمسك بإصبعي بغير رضاك. ولكن إذا كنت تعبئين بي شيئًا، فلا تدعيني أفقد حياتي من أجل خطأ. فإني أحبك، وإنك لأعز علي من كل ما في الدنيا، وإني لمستعد أن أفديك بنفسي، وأموت في سبيلك وأنا قرير العين، ولكنه يكون الجنة ونعيمها، ورضوان الخلد أن أحيا في خدمتك.»

وسكت، فسمعا ناقوسًا يُقرع في داخل البيت، وقعقعة سلاح في الدهليز تدل على أن الأتباع يعودون إلى مراكزهم، وأن الساعتين انقضتا، فهمست وهي تميل عليه بشفتيها وعينيها: «بعد كل الذي سمعته؟»

فأجابها: «لم أسمع شيئًا.»

فقالت في أذنه: «إن اسم الضابط فلوريمون ده شانديفير.»

فقال: «لم أسمع شيئًا.»

وطوق جسمها الرخص بذراعيه، وأهوى بالقبل على محياها الذي بللته الدموع.

وسمعا صوتًا عذبًا وراءهما تلته ضحكة حلوة، وتمنى السيد ده مالتروا لنسيبه الجديد صباحًا سعيدًا!

هوامش

(١) التي لها صوت.
(٢) الألغاز: الطرق التي تلتوي وتشكل على سالكها.
(٣) خشبة يشد بها الباب.
(٤) ما عن لك منها إذا نظرت.
(٥) الضباب الرقيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤