الحكاية الكاملة لمأساة الأستاذ صابر الدقيس!

قال له الملحق الثقافي ذو التغضينات الجميلة على وجهه الثري الناعم الملآن، قال له وهو يقلِّب شهاداته بكفه البيضاء ذات الأصابع النظيفة الشهية، قال وبشفته ابتسامة مراوغة، ظنها الأستاذ صابر في بادئ الأمر نوعًا من مظاهر الثراء التي تعم المكان كله، ولكنه اكتشف بينه وبين نفسه فيما بعد أنها ليست سوى مسحة حزن كان لا بدَّ منها لخلق جوٍّ ملائم لما سيقال، قال له: بصراحة يا أُستاذ شهاداتك الجامعية كلها ممتازة ومدارسنا في حاجة ماسَّة لشخص مثلك يمتلك المؤهل.

ثم صمت قليلًا قبل أن يضيف بصوت خفيض عميق وكأنه يُحدِّث نفسه: ماجستير في التربية، ليسانس لغة عربية بدرجة الامتياز، دبلوم كمبيوتر مع خبرة في التدريس لمدة عشرين عامًا؟ هذا نادرُ الحدوث.

ثم أضاف وبصوت عالٍ ولهجة حادَّة بعض الشيء: ولكن لا رجعة فيما قلته لك! لقد انتهى التقديم! كم هو مؤسف.

ثم صمت ولم يكمل، وكأنه يريد من الأستاذ صابر أن يقاطعه، ولكن الأستاذ صابر والذي يعرف أن السكوت من ذهب، كان يحب أن يحتفظ بذهبه، في الحق ما كان لديه ما يود قوله؛ فقد قال كل شيء للملحق الثقافي والذي استجوبه فيما يقارب نصف الساعة، لم يترك شاردة أو واردة إلا أشبعها سؤالًا؛ بدءًا من عمره وانتهاءً بصحة زوجته. لذا عندما لم يكمل الملحق الثقافي جملته نهض واستأذن أن ينصرف، ولكن الملحق ذا الأصابع البيضاء الشهية أشار إليه بالبقاء.

بعد أن أجرى عدة مكالمات، ابتسم وجهه السمين الثري مُظهرًا أسنانًا منتظمة عليها صفرة فاقعة وقال: أنت رجل محظوظ، ورد للملحقية عقد قبل خمسة دقائق، أي: أثناء وجودك هنا، على هذا المقعد، وطلبت الموثق أن يحضر الآن ويحاورك في شأنه.

قبل أن يجد الأستاذ صابر وقتًا لكي يبتسم، إذ بالموثق يدخل وفي يده حقيبة.

– الموثق أبو يزيد الدينوري.

– الأستاذ صابر الدقيس.

لأبي يزيد الدينوري أيضًا أنامل بيضاء شهية، يجيد التحدث مستخدمًا أصابعه السمينة والتي كثيرًا ما أسهمت فيما بعد في إقناع الأستاذ صابر الدقيس، قال أبو يزيد بعد أن جعل وجهه النظيف يبتسم: إنه ليس عقد تدريس كما كنت ترجو وكما مؤهل له، ولكنه أكثر فائدة ودخله ألف مرة ضعف دخل مدرس مؤهل مثلك أو يزيد، ولكن به إشكالية واحدة هي أنه مستعجل جدًّا وسري، ويجب تنفيذه خلال ساعتين فقط من وصوله القنصلية.

في الحق ملَّ سريعًا الأُستاذ صابر حديثَ أبي يزيد الدينوري حول العقد دون النفاذ إلى نقطة إجرائية سريعة ومفيدة، ولكن بطبع الأستاذ صابر أنه لا يتعجل الأُمور، ولا يحب مقاطعة المتحدث مهما أَمَلَّهُ حديثه. وأخيرًا قال أبو يزيد وهو يعتدل في جلسته السمينة الهادئة، والتي ما كانت في حاجة لأي استعدال: إنه عقد سجين.

صاح الأستاذ صابر الدقيس بصوت أحسَّ فيما بعد أنه كان عاليًا بعض الشيء ولا يناسب الجو الدبلوماسي الذي هو في قلبه: عقد سجين؟

قال أبو يزيد بثقة وعلى فمه ابتسامة ثقيلة باردة: نعم، عقد سجين.

ثم واصل بثقة مفرطة وآلية: ستبقى في السجن نيابة عن أمير، وسيدفع لك مقابل ذلك بسخاء منقطع النظير.

– قال الأستاذ صابر — وقد بدا منفعلًا قليلًا: أنا حياتي كلها لم أدخل الحبس ولا مرة؛ بل لم أقف أمام قاضٍ أو شرطي، فكيف لي أن أدخل السجن؟!

قال أبو يزيد وقد بدا طيبًا ومتسامحًا وخيِّرًا في ذات اللحظة؛ بل مبشرًا عن جنة غامضة، في برود معلوماتي كبرود الكمبيوتر: يا أخي، يا أخي هوِّن على نفسك، السجن عندنا في بلدنا ليس كالسجن عندكم هنا في دولة فقيرة تعاني من عسر خدماتي عام مزمن، أضف إلى ذلك أنك ستُسجن باسم أحد الأمراء المرموقين، أي: أنك ستكون في محل أمير، ممثلًا له متمثلًا فيه، أي: أنت الأمير ذاته في السجن، فتخيل كيف يكون سجنك!

أنت فيما يشبه جناحًا بقصر أميري، حجرات متسعة مكيفة صيفًا وشتاءً وعندك أحدث ما أنتج العقل الياباني من تلفاز ذي شاشة سحرية به الصورة ذات أبعاد ثلاثية وألف قناة عالمية في اشتراك دائم بالقمر الصناعي العربي أراب سات رهن لمسِك جهاز الرموت كنترول، جهاز فيديو وكمبيوتر متصلًا بشبكة الإنترنت يقوم بتسليتك وتزويدك بما تشاء من معلومات وبإمكانك أن تستثمر سنوات سجنك الأربع، في التحضير للدكتوراه، فيما تشاء من جامعات العالم، وكل جامعات العالم رهن مكالمة تلفونية منك لأميرك، لا أكثر، لديك مطبخ مهيأ به كل ما سمعت من أدوات، وما لم تسمع به، وستدهش لرؤيته بأم عينيك بين يديك، ولن أُسمي لك شيئًا لكني سأترك لعنصر المفاجأة مجالًا.

الطعام وما أدراك ما الطعام؟! قبل كل وجبة بساعة يأتيك طباخ السجن بقائمة تحتوي على مائة صنف من الأطعمة، ومائتين من المشروبات، وورقة فارغة لكي تكتب فيها ما تريد أكله، وهو لا يوجد ضمن المائة صنف. تفاحك من لبنان وحيفا، وعنبك من عرائس كروم قبرص، وإذا شئت أن تطعم مما تطبخ زوجك يوميًا، لكان لك ذلك، يا أخي، بالسجن عالم من المفاجآت والدهشة، وكيف لا وأنت أمير؟

الرياضة! القراءة! الجري! تنس الطاولة، ما هي مواهبك؟ بل ما هي أحلامك؟ ماذا تريد في هذه الدنيا؟ ما هواياتك؟، شطرنج؟ هل تلعب الشطرنج بالكمبيوتر؟ لك طبيب خاص، ولك ممرضتان تجدهما قربك وقتما شئت، وبإمكانك اختيارهما من بين أجمل الفتيات المستوردات من شرق آسيا، وأخيرًا أخذت السجون في بلادنا تستورد فتيات من روسيا بعد انهيار الشيوعيين هنالك، بالسجن يا أخي … بالسجن يا أخي …

كان يحكي في برود معلوماتي قاس، أما الأستاذ صابر الدقيس، فقد ذهب بفكره وقلبه بعيدًا، بعيدًا في مجاهل الحلم الواقع، الغد البائس، الأصدقاء.

وداعًا أيها المعلمون، أيها البائسون، حشرات العدس والفول والشاي الماسخ، ديدان الطباشير المنقرضون، يا أحبائي المساكين.

هتفوا بصوت واحد أجوف: فور وصولك أرسل إلينا عقود مساجين، ألف عقد وعقد، اطلب منهم أن يفتحوا سجونًا جديدة، وقل لهم هناك مساجين في انتظار السجن! فمدوا إليهم يد العون والمساعدة، يمد الله في أعماركم مدًّا.

السجن يا أخي في بلادنا، جنة، جنة، جنة على الأرض، يا أخي، وما نقدمه إليك مقابل ذلك مال سخي يدهشك، فحين توقيع العقد، نسلمك شيكًا بمبلغ أربعة ملايين دولار، يمكنك إيداعه بالبنك باسم زوجتك أو أحد أطفالك، شهريًّا سيضاف لرصيدك بإشارة بنكية مبلغ ألف دولار، هذا فضلًا عن نثرياتك ومصروفك الشخصي، أضف إلى ذلك المعاش الوراثي، لحياة آخر فرد من أسرتك، يا أخي، هذه هي فرصة العمر، والعمر فرصة واحدة لا غير، وإن أميرك هذا رجل كريم شهم، وما ألصقت به من تهمة إلا مؤامرة خبيثة دافعها الحسد والغيرة، والذين يعرفونه عن قرب، الملوك والأمراء، يشهدون أنه ليس باستطاعته إيذاء نملة، دعك من ارتكاب جريمة! وكان بإمكانه ألا يمثل أمام القضاء ولا يرضخ لحكمهم، ولكنه يريد للعدالة أن تأخذ مجراها، فنحن ومهما يقول الغرب عنا إلا أننا ديمقراطيون في عمق أخلاقنا وثقافتنا.

– يا أبي، بابا صابر، قل لهم يوفرون لنا حجرتين ملآنتين باللعب والبسكويت.

– وأنا أريد كوكاكولا أيضًا.

– قل لهم يا أبي إنهم لا يرفضون طلبك، وإلا بلغت الأمير ليقوم باللازم.

– هل يسمح لي بزيارتك؟ أنا لا أستطيع البقاء من دونك، ولا أتحمل مسئولية التربية، فأنت تعرف أن الأطفال يفسدون دون رعاية والدهم؟!

ليس بإمكان أحد زيارتك وأنت في السجن؛ لأنك مخفي تحت اسم ولباس أمير ووجهك سيظل مغطًّى بحجاب دائم، مثلك مثل كل السجناء الذين ينحدرون من أُصول عريقة وأُسر لها مكانة اجتماعية أو سياسية كبيرة، فهم لا يحبون أن يميزهم أحد، وماذا تريد من زوجتك، هل ستحتاج إلى زوجتك؟

– هل قالوا لك أربع سنوات؟

ألا تشتاق للمشي في الشوارع المشمسة وأكل التسالي تحت أشجار المهوقني قرب المدرسة؟ ألا تشتاق للصلاة بالزاوية مع الأحباء؟ ألا تشتاق لقهوة الظهر، ونسة العشاء، ألا تشتاق لأطفالك وهم يتواثبون على حجرك، وبأيديهم بقايا حلوى وطبيخ، بصدورهم شيء من الريال، فيلوثون ثيابك ولا تستطيع أن تنهرهم إلا مبتسمًا، ألا تشتاق …؟

– لا يهم، لا يهم، عندما تعود ستعوض كل ذلك وأكثر، ستعود لأطفالك بالمال الوفير، وحينها: سحقًا للملاريا، سحقًا لسوء التغذية، سحقًا للرمد، سحقًا …

– لا تكن عاطفيًّا أكثر من اللازم، السجن يا أخي بالنسبة لك طوق نجاة، وأعرف أنك ستفتقده يوم خروجك منه.

– ومن يعلم، فقد يصدر عفو ملكي عام ويشمل أول ما يشمل أنت، وتكون قد أفدت من العقد كما لو أنك قضيت السنوات الأربع.

– سافر، سافر، سافر، أنت الآن في سجن كبير، فما يهم أن تدخل حجرة منه، هي جنة حقه.

– أمامك ساعتان للتفكير، اجلس في المكتب المجاور واستشرْ نفسك، ولا تشغل نفسك بإجراءات السفر، جوازك، الكشف الطبي، إيصال مصروف أبنائك، أو حضورهم لوداعك، فكر يا أخي؟

– أنت ترفض نعمة الله، سجن … أهذا سجن! الذي أنت فيه الآن، ألست أنا مدير المدرسة، وإنني وريث لمال تعلم أنت قدره، إذا وجدت فرصتك هذه فإنني لن أتردد لحظة واحدة في الموافقة، هذا رزقٌ ساقه الله إليك.

– أقول بصراحة، أنا متشككة في هذا الموضوع؟ هل هناك أمير يسجن؟ إنهم ربما يودون سجنك بدلًا عن تاجر مخدرات ثري، أو أي شخص، المهم الأمر برمته ليس مفهومًا لدي.

– دعيني أقول لك بصراحة أيضًا: إنك امرأة أحادية النظرة دائمًا تنظرين إلى الأُمور من زاوية الظل، الزاوية العمياء، تفاءلي لمرةٍ واحدة في حياتك.

– موافق، موافق، متى السفر، أريد أن أُسافر الآن.

– أقرأ العقد أولًا.

في يوم الثلاثاء الموافق الأول من مايو ١٩٩٧م، وعند العاشرة صباحًا وبينما كانت زوجته، المعلمة بمرحلة الأساس، تستلم حوالة بنكية بمبلغ أربعة ملايين دولار، ولولا أنها كانت مشغولة البال بأسئلة ملحة في رأسها: لماذا لا يخبرني؟ هل كان يظنني سأقف دون سفره؟ هل سأحرمه وأحرم أبنائي كل هذه الثروات؟ لماذا يسافر هكذا فجأة ودون علم أحد؟ وأيضًا، لولا أنها كانت مأخوذة ببريق الدولارات الخضراء، ذلك البريق الفسفوري الآخذ بالألباب، لسمعت صوت المذيع الرخيم يعلن إعدام الأمير حران بن البحر المجيعد بعد محاكمة سريعة وسرية إثر قتله لوالده الشيخ المجيعد، وقد تم إعدامه صبيحة الأمس بالكرسي الكهربائي، ووريت جثته الثرى، بصمت تام.

٢٠٠٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤