من أجل تأمل فاحص وحوار خصيب

بقلم د. صلاح قنصوة

يمثل هذا الكتاب الحلقة الأخيرة، أو بالأحرى «آخر صيحة» في عالم المصطلحات المثيرة للجدل فيما يُسمى علم المستقبليات الذي استأثر بالاهتمام مع انعطافة القرن، استجابة لما تُثيره الأحداث الراهنة في العالم من مشكلاتٍ وأسئلة، لا تجد حلولها، أو الإجابات عنها في النماذج السابقة، أو النظريات والمذاهب المألوفة والمقبولة حتى وقت قريب.

فالوضع العالمي المعاصر الذي تمثل فيه أمريكا وأوروبا الغربية محركَه وآلتَه يقدم أمام أبصارنا وقائع تثير الحيرة، وتعصف بما استقرت عليه المذاهب والنظريات من تحليل أو تفسير. فلا ريب أننا نواجِهُ لحظة متفردة ليس بوسعنا أن نسلكها في نسق تفسيري قائم، أو نجعلها حادثة مطردة في مسار تاريخي معلوم قابل للتنبؤ. ومن ثم نشأت الحاجة إلى إعادة النظر في مُسلماتنا جميعًا.

ومع تسارع التحولات في عالمنا اليوم، لا يكاد يفيق المرء من تسمية جديدة للعصر، حتى يدهمه وابل غزير من تسمياتٍ أخرى. وربما تسعى تلك المصطلحات الجديدة إلى اختزال كل ما يطرأ من تغيرات متعددة ومتباينة، وحصرها في قبضة مُتغير واحد يُهيمن على سائرها، ليغدو تنظيرًا وتفسيرًا واحدًا لا شريك له. وعلى أية حال، فإن ما يطلق عليه العصر «التكنتروني»، أي التكنولوجي الإلكتروني، والموجة الثالثة، أو تحول القوة، والمعلومات، وما بعد الحداثة، والتفكيكية … إلخ، هي جميعًا استجابات جديدة لمثيرات موضوعية جديدة. وهذا ما يبرر إدراجها في جدول أعمال الحوار الساخن الذي يدور اليوم، ونحن على عتبة عصر أو عالم جديد لم تتحدَّد قسماته بعد.

ولكن سرعان ما تَصَدَّرَ مفهوم «صدام الحضارات» الذي سكَّه «صمويل هنتنجتون» جدول أعمال هذا الحوار الصاخب، بل وما لبث، لأسبابٍ مُعينة سنعرض لها، أن أزاح غيره من مفاهيم وتسمياتٍ ومصطلحاتٍ عن دائرة الاهتمام أو الحوار.

فالصراع في العالم الجديد، كما يقول، لن يكون أيديولوجيًّا أو اقتصاديًّا، بل سيكون الانقسام الكبير بين البشر، والمصدر الغالب للصراع ثقافيًّا.

ولقد سبق أن وضع تسلسلًا لمراحل الصراع في التاريخ. فكان قديمًا بين الملوك والأباطرة، ثم بين الشعوب، ويقصد الدول القومية، ثم بين الأيديولوجيات. ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة سينشب الصراع بين الحضارات مع حلول النظام العالمي الجديد. «فما يهم الناس ليس هو الأيديولوجية أو المصالح الاقتصادية، بل الإيمان، والأسرة، والدم، والعقيدة، فذلك هو ما يجمع الناس، وما يحاربون من أجله، ويموتون في سبيله.» كما يعلن أن «الدين محوري في العالم الحديث، وربما كان القوة المركزية التي تحرك البشر وتحشدهم.» والحضارة عنده هي الكيان الثقافي الأوسع الذي يضم الجماعات الثقافية مثل القبائل والجماعات العرقية والدينية، والأمم. وفيها يعرِّف الناس أنفسهم بالنسب، والدِّين، واللغة، والتاريخ، والقيم، والعادات، والمؤسسات الاجتماعية بدرجات متفاوتة وفقًا للجماعات الثقافية الداخلة تحت حضارة واحدة.

والحضارات، كما يقول، هي القبائل الإنسانية الكبرى. وصدام الحضارات صراع قبائلي على نطاق عالمي. والفروق الثقافية هي التي تحتل الأساس والمركز في التصنيف والتمييز بين البشر اليوم.

وتتحدد الهوية الثقافية عنده بالتضاد مع الآخرين، وفي الحروب تترسخ الهوية، ويتحقق التماسك الاجتماعي بدلًا من الانقسام الذي يتطلب زواله وجود عدو مشترك.

والزعم بالحضارة العالمية إنما هو في نظره أيديولوجية الغرب في مواجهته للثقافات أو الحضارات غير العربية.

ولذلك يكرس «هنتنجتون» جزءًا كبيرًا من كتابه لتفنيد هذا «الزعم» حتى يحمي القارئ من أن يُغرِّر به الأمل الكاذب في إمكان المشاركة في وفاق إنساني عالمي. فالعالم اليوم متعدِّد الحضارات، متعدد الأقطاب، ويمكن تقسيمه، لسهولة التصنيف في رأيه، إلى عالم غربي واحد، وكثرة من العوالم غير الغربية. أو هو الغرب، و«الباقي» بحسب تعبيره، أي الآخر، إن شئنا تعبيرًا أكثر تهذيبًا. الغرب يمثل عنده حضارة أو ثقافة تميزه عن غيره، وليس ممثلًا لحضارة عالمية يمكن أن تضمَّ سائر أقطار العالم. وذلك لأن حضارة الغرب تمتدُّ جذورها في التاريخ إلى أكثر من ألف عام.

ويرد «هنتنجتون» على الدعوى القائلة بأن حضارة الغرب ينبغي أن تكون حضارة العالم بتفرقته الصارمة بين التحديث والتغريب. فالتحديث هو الذي يمكن أن يشارك فيه العالم غير الغربي، وإن كان الغرب هو تربته الأصلية منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. بينما كان الغرب قبل التحديث غربيًّا منذ زمان بعيد.

ولننظر في السمات الفارقة للغرب، أي الخصائص والأصول التي تميزه في زعمه قبل أن يجري تحديثه. ويُحصيها المؤلف في ثماني خصائص هي:
  • (١)

    التراث الكلاسيكي من الإغريق والرومان.

  • (٢)

    المسيحية الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية مُستبعدًا منها الأرثوذوكسية.

  • (٣)

    اللغات الأوروبية.

  • (٤)

    الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية.

  • (٥)

    حكم القانون.

  • (٦)

    التعددية الاجتماعية والمجتمع المدني.

  • (٧)

    الهيئات التمثيلية.

  • (٨)

    النزعة الفردية.

ويستدرك المؤلف قائلًا بأن الغرب، فيما يتعلق بكل واحدة من تلك السمات، لا ينفرد بها دون سائر الحضارات. ولكن اتحادها معًا في توليفة أو مركب، هو الذي أتاح للغرب تفرده بها.

ولا نختلف مع المؤلف فيما أجمله من سمات مميزة للغرب الآن. إلا أننا نختلف معه إلى أبعد مدى للاختلاف، عندما يجعلها سماتٍ تاريخيةً أو خصائص جوهرية أصيلة في الغرب قبل أن تجري عمليات التحديث.

وقبل أن نناقش تلك السمات «الأزلية» للغرب أرجو أن يلاحظ معي القارئ الكريم تركيزه على مصطلح التحديث «المحايد» لصرف الانتباه عن محتواه أو دلالته الاقتصادية والسياسية الخاصة بسياق تاريخي موضوعي معين، وكأنه معطف خارجي ميسور لأن ترتديه أي أمة أو مجتمع أو دولة في أي زمن تشاء.

فالواقع أن كل تلك السمات التي يدعي أنها كانت موجودة قبل ما يُسميه بالتحديث، لم تنشأ قط قبل عصر النهضة، وهو العصر الذي يقرنه المؤرخون بالتحديث. وقد بدأ في القرن الخامس عشر أو السادس عشر في إيطاليا بحيث كان يُسمى «بالشنكويكشنتو» أي الخمسمائة. وتفاوتت أنصبة سائر البلدان الغربية منها، والتي لم تكن تُسمى غربية إلا بعد قرون وعلى مراحل متباعدة. ولكنه لكي يُثبت أصالتها الغربية القديمة استخدم بتوسُّعٍ طريقةً في الاستدلال، والتقاط المعلومات لا يمكن وصفها بأقل من الاستخفاف بعقل القارئ الرشيد. وقد يشفع له في ذلك القصور، أو يدينه على السواء، أنه ليس عالِمًا أو مؤرخًا بقدر ما هو مُخطط استراتيجي سياسي أمني.

ففيما يتعلق بالتراث الإغريقي الروماني كسلفٍ عرقي مزعوم، نجد أن الأوروبيين لم يتذكروه أو بالأحرى، لم يوظفوه إلا عندما أحسوا بالحاجة إلى شعارات جديدة تشجع على الفردية والحرية الشخصية، وتمجيد مملكة الإنسان على الأرض، والرغبة في إعادة اكتشاف العالم والإنسان معًا بعيدًا عن سطوة الشروح الكنسية لسفر التكوين. وتغافل تمامًا عن الحقيقة التاريخية المعروفة وهي أن إحياء التراث الكلاسيكي وما اقترن به من النزعة الإنسانية، والحركة العملية كان تعبيرًا عن قِيَمٍ جديدة مضادة لفكر الإقطاع والكنيسة الكاثوليكية الحامية له آنذاك، واحتجاجًا عليه.

بل إن هذا التراث الكلاسيكي في معظمه كان مدفونًا أو مجهولًا، ونقل إلى الغرب كما يعترف المؤرخون الغربيون، عن طريق الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس. كما فر به بعض البيزنطيين (أي الأرثوذوكس المحرومين من الحضارة الغربية في نظر مؤلفنا) من القسطنطينية إلى بعض مدن إيطاليا عام ١٤٥٣م عندما فتحها العثمانيون. فكانت هذه المخطوطات بين أيدي هؤلاء، ولكنها لم تستثمر أو تستخدم إلا لأنها وجدت تربة فتية جديدة في مدن إيطاليا أو ثغورها البعيدة عن نفوذ الإقطاع، والتي كانت ساحة حوار موضوعي مع الشرق العربي الإسلامي، جرى فيها التبادل بين السلع التجارية والمنجزات الثقافية، مما أدى إلى تغيير علاقة الفئات الاجتماعية بعضها ببعض. وأنشأ فئات بورجوازية جديدة، أي سكان المدن من الطبقة المتوسطة بين النبلاء والفلاحين، اتخذت من العودة إلى ذلك التراث، المضاد للنزعة الكهنوتية، ذريعة وقناعًا يُغلف تمرُّدَها، وتحوُّلَ قيمِها، ووعيها الذاتي الجديد بالإنسان.

لم يكن تراثًا حقيقيًّا تاريخيًّا، بل كان تراثًا مستعارًا لخدمة أهداف جديدة، أو هو أقرب إلى نوع من اختراع التقاليد لتلبية حاجات جديدة للمجتمع الحديث.

ولقد صنع «النازي» فيما بعد ما يماثل ذلك بالتراث الإغريقي عندما فسروا إبداعاته الكلاسيكية بردها إلى الغزاة الأقدمين من القبائل الآرية الجرمانية الذين نزحوا من الشمال واستقروا في بلاد الإغريق. وذلك لكي يزيلوا كل شبهة بتأثر الإغريق بحضارات الشرق والجنوب.

بل إننا لندهش من «هنتنجتون» نفسه عندما يستبعد أحفاد الإغريق المعاصرين، ومن سبقهم، وينزع عنهم عضويتهم في نادي الحضارة الغربية لأنهم ينتمون إلى الأرثوذوكسية. ولا أدري كيف يستقيم الزعم بالجذور الأصيلة التاريخية البعيدة في تراث الإغريق لحضارة الغرب، ثم يطرد منها أحفاد أصحاب التراث؟ إلا أن يكون المقياس قائمًا على وقائع حديثة، وليس على أرومة عنصرية أو جوهر ثابت أصيل.

وبالنسبة لما يسميه بالمسيحية الغربية، يُسقط المؤلف من الذاكرة الحروب الطاحنة بين الكاثوليك والبروتستانت وكأنها نوع من المشاجرات أو الخلافات بين الرفاق. ولم يذكر لنا لماذا نشأت البروتستانتية في القرن السادس عشر بالذات، ولماذا ازدهرت في المجتمعات الصناعية الحديثة، بينما سادت الكاثوليكية في الدول الأقل نموًّا في النظام الرأسمالي.

وربما نضيف إلى ذلك أن المسيحية لم تكن ابتكارًا غربيًّا بحيث يمكن أن نجعل منها سمة فارقة للغرب.

أما ما يذكره عن اللغات الأوروبية بوصفها إحدى الخصائص المميزة للغرب، فأمر يبعث على السخرية. فالغرب عنده «يتميز» بتعدد اللغات، أي بعبارة أدق، ليس متميزًا بلغة. وهو منطق طريف لأن ما يعارض فرضه بالتميز، يصبح حجة للتميز!

وإذا ما تأملنا مسألة الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية لوجدنا أنه لم يكن متاحًا إلا بعد صراع عنيف مع السلطات الحاكمة باسم الدين، أو باسم الحق الإلهي للملوك. فمصطلح الحكومة الدينية، أي الثيوقراطية، لا نعرف له أمثلة صريحة إلا في تاريخ العرب في العصور الوسطى. وقد تم الانقلاب عليها لترسيخ الحرية الفردية والعصامية التي اقترنت بالمثل الجديدة للنظام الرأسمالي، أو البورجوازي الوليد. ولعلنا لا ننسى سلطة البابا وتتويجه للملوك والأباطرة، كما لا نستطيع أن نمحو من ذاكرة التاريخ ممارسات محاكم التفتيش، وحرق المناضلة «جان دارك» باسم الدين على سبيل المثال.

وكذلك ما يسميه حكم القانون الذي يزعم المؤلف أنه راسخ عريق في حضارة الغرب، وموروث عند الرومان. وكأن علينا نحن القراء أن نصطنع لأنفسنا ذاكرة جديدة تخلو من حكم الاستبداد في العصور الوسطى الذي جعل الغربيين أنفسهم يطلقون عليها «العصور المظلمة». ولا أحسب أن حكم القانون المزعوم يمكن أن يسري عندما يسود الظلام! فلم يعمل حكم القانون إلا عندما انتزعت البروجوازية الصاعدة الضمانات الملائمة «لحرية العمل والمرور» التي أصبحت فيما بعد شعار الثورة الفرنسية.

أما حكاية «الماجنا كارتا» التي يحرص عليها «هنتنجتون» عنوانًا للأصولية الغربية، فقد أصدرها الملك «جون» الذي اغتال شقيقه الملك «ريتشارد» — قلب الأسد — في طريق عودته إلى إنجلترا بعد أن أبلى بلاءه المعروف في الحروب الصليبية «المقدسة». وكانت «الماجنا كارتا» مجرد بيان لحقوق النبلاء الإقطاعيين إزاء الملك، وليس للشعب أو العامة نصيب فيها.

ويبلغ المؤلف أقصى مدى في الاستخفاف بعقل القارئ عندما يتحدث عن التعددية أو المجتمع المدني، بوصفهما مميزَين للغرب منذ قديم الزمان.

فبدلًا من مفهومها الواضح الذي نشأ فقط في المجتمع الرأسمالي تعبيرًا عن الهيئات والمنظمات غير الحكومية، يضعها عنوانًا على كل الطوائف والجماعات مثل نظم الرهبنة والأديرة، وطبقة النبلاء الأرستقراطية، وطبقة الفلاحين، وطوائف الحرفيين … إلخ. وكأن المجتمعات الأخرى ليس فيها مثل تلك الجماعات أو ما يقابلها. فكل مجتمع، بحكم التعريف، يضمُّ عديدًا من الجماعات والهيئات والتخصصات ولكنه لم يقل لنا، لكي يتميز مجتمع عن آخر، أو حضارة عن أخرى، مَن كان يسيطر على مَن في هذه الكوكبة المتعددة من الجماعات أو الفئات أو الطوائف. وما علاقات الصراع، أو الاحتواء، أو التحالف بين القوى المختلفة. ولكنه قنع بجمعها أو جردها جنبًا إلى جنب، دون إشارة إلى الخلاف أو التغير، أو نوع الصلة بين هذه التجمعات وبين السلطة أو الدولة. وأصدق مثال يفضح خفته وسطحيته قوله بأن الهند لديها مثل الغرب نظام للطبقات. فهل يا ترى يشبه ذلك نظام الطبقات المغلقة في الهند، وهو الذي ينضوي تحته «المنبوذون»!

ويرتب «هنتنجتون» على تصوره الشائن للمجتمع المدني نتيجةً هي وجود الهيئات التمثيلية للفئات والطبقات السابقة. ويستخلص منها ببساطة نشأة مؤسسات الديمقراطية الحديثة من برلمانات وأحزاب.

وهذا مفهوم شاذ عن الديمقراطية يجعل منها مجرد وجود فئات متجاورة يعبر كل منها عن مصالحه. فهو لا يذكر لنا كيف تُعبر عن نفسها، هل سرًّا، أم علانيةً، وهل تلجأ إلى الإرهاب أم إلى الحوار، إلى الانتخاب أم القهر. كما لا يفصح عن طريقة ممارستها لسلطتها أو تحقيق مصالحها، أو كيف يتم ترشيح فئة ما للاستيلاء على السلطة، أو تنظيم العلاقات بين هذه الفئات.

ويختم سماته الفارقة للغرب بقوله إن النزعة الفردية هي العلامة المحورية المميزة لحضارته. ولم يذكر، كعادته، متى حدث ذلك في الغرب، وكأنها سمة أزلية للغرب منذ فجر التاريخ. وكلنا يذكر أن الفردية لم تكن شيئًا مذكورًا قبل استقرار النظام الرأسمالي في الغرب. ولعل احتجاج «مارتن لوثر» على وساطة الكهنة في فهم النص المقدس، وإعلانه لضرورة «الفحص الحر للكتاب المقدس» علامة صريحة وجديدة بطبيعة الحال، على إعلاء شأن الفرد.

وموجز القول في كل ذلك، أن تلك السمات أو الملامح السابقة تنتسب جميعًا إلى مرحلة تاريخية هي عصر النهضة وما تلاه، وهو الذي كان محصلة لتفاعلات، وتبادلات، وصراعات دامية بين الإمبراطورية الإسلامية في الشرق عبر البحر المتوسط، والدويلات العربية في الغرب على حدود فرنسا من جهة، والإمبراطورية الرومانية «المقدسة»، وما انفرط عنها من إمارات ودوقيات وممالك مُتناحِرة من جهة أخرى. ولم يبدأ الشعور بما يُسمى «الغرب» إلا بعد فترة طويلة من ازدهار النظام الرأسمالي، وما أدى إليه من استعمار لبلدان الشرق.

ويتبين من أسلوب استخلاصه للسمات السابقة وقوفه عند النتائج والأعراض والمظاهر متخذًا منها العناصر التي تشكل الهوية وكأنها، أي النتائج، هي الأسباب العميقة التي تميز الغرب ككيانٍ حضاري مُستقل مُتفرد، بصرف النظر عن الظروف والأوضاع التاريخية التي كان من الممكن لو تحققت في مكانٍ آخر لأدت إلى تخليق تلك السمات. بعبارة أخرى، لا يفرق «هنتنجتون» بين الأسباب وبين النتائج، أو بين العلل الفعلية وبين الأعراض. ويواصل مؤلفنا أسلوبه في عرضه لمسلسل مراحل الصراع في التاريخ. فقد كان الصراع عنده قديمًا بين الملوك والأباطرة، ثم بين الشعوب، ثم بين الأيديولوجيات في الحرب الباردة، ثم يُنذرنا بأن الصراع الآن هو الصدام بين الحضارات.

ففي المرحلة الأولى يتحدث المؤلف كما لو كان التاريخ حكاية أو قصة مُسلية تلعب فيها أهواء الحكام وأمزجتهم الشخصية الدور الرئيسي دون أدنى اعتبار لمتغيرات التطور في السياق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي التي تعبر عنها النخب الحاكمة، وتحدد اتجاه الصراع ونوعيته. وبالنسبة إلى المرحلة الثانية، صراع القوميات أو الشعوب أو الدول، فلم يحدث مصادفة أو تبعًا لخطة خفية لمسار التاريخ كشف الوحي عنها لمؤلفنا، وجعله يمضي من مرحلة إلى أخرى حتى يصل إلى محطته الأخيرة عند صراع الحضارات. فنشأة القوميات، أو الدول القومية، كما يدرسها الطلاب، كانت إحدى النتائج الرئيسية لسيطرة الفئات التجارية والصناعية التي كانت في حاجة إلى إطار محدد، بعيدًا عن الإقطاعيات المنقسمة، والإمبراطوريات المترهلة، للمنافسة على الأسواق في العالم، والاستيلاء على المواد الخام، وتشغيل الأيدي العاملة الرخيصة. ولذلك لم يشهد العالم حروبًا شاملةً إلا بين الدول الرأسمالية كما حدث في الحربين الأولى والثانية. وهي التي حشدت فيها الجنود من الفئات الدنيا من الشعب للدفاع عن أصحاب المصالح الذين نفخوا في الجنود، وألهبوا مشاعرهم القومية.

وأما ما يُسميه «هنتنجتون» بحروب الأيديولوجيا، فلم يكن كذلك في الواقع، بل استمرارًا للمرحلة الرأسمالية، ولا ينبغي أن ننسى أن الحرب العالمية الثانية، وهي التي تنتمي عند «هنتنجتون» إلى المرحلة السابقة على الحروب أو الصراعات الأيديولوجية، بحسب تصنيفه لمراحل الصراع، لا ينبغي أن ننسى أنها لم تنشب إلا بعد اثنين وعشرين عامًا من قيام الخصم الأيديولوجي للغرب وهو الاتحاد السوفيتي.

ولم تكن خطورة الماركسية السوفيتية في نظر الغرب تهديدًا أيديولوجيًّا، فلقد كانت أقوى الأحزاب الشيوعية نشطة في الكثير من بلدان الغرب. بل كانت تهديدًا بإمكان أو احتمال ظهور دول تنافسها على أسواق العالم. فلقد كان الاتحاد السوفيتي بعد «لينين» نوعًا من «رأسمالية الدولة» التي تحكمها طبقة بورجوازية بيروقراطية لا تملك أدوات الإنتاج، على مستوى الشركات الخاصة، ولكنها كانت «تملك» اتخاذ القرار في أدوات الإنتاج. واستفحل خطرها عند تشجيعها لبعض قادة أو شعوب العالم الثالث على الخروج عن طاعة الغرب، مما يؤدي إلى التقليل الفادح من مكاسبه بعد إخراج ألمانيا وإيطاليا واليابان من حلبة المنافسة الدموية بعد الحرب الثانية. ولم يكن من قبيل المصادفة في تلك الحروب الأيديولوجية المزعومة، أن الدول التي كانت على صلات وثيقة مع الاتحاد السوفيتي مثل مصر، والعراق، وسوريا، وليبيا، وغيرها من دول العالم الثالث، لم يكن يحظى فيها الشيوعيون المنظِّمون إلا بالسجون والمعتقلات. فالمسألة إذن لم تكن نزاعًا أيديولوجيًّا. وما يُسمى بالحرب الباردة لا يصلح مفهومًا دقيقًا إلا إذا كان يعني الحرب العالمية، لأن ما كان حادثًا كان حروبًا ساخنة تنشب هنا وهناك في العالم الثالث «بالوكالة» عن القوى العظمى العالمية. فلم تكن حربًا باردة، بل حروبًا ساخنة بالوكالة، إن أبيح ذلك التعبير!

وفرض اختفاء المنافس العنيد، وهو الاتحاد السوفيتي، نفسه كحادث جديد على الساحة العالمية بما أثار ردود أفعالٍ متباينة يسعى كل منها إلى الإسراع قبل غيره لشغل ذلك الفراغ المتاح للجميع، كل بحسب مصالحه السياسية، أو توجهاته النظرية. ومن ثم صيغ مصطلح النظام العالمي الجديد، الذي يعني إجرائيًّا «السطوة العالمية المنفردة الجديدة». وكتابات «هنتنجتون» تفضح ذلك صراحة.

ولسنا في حاجة إلى ترديد ما تعلَّمناه من تاريخ تطور العلم من أن الوقائع الجديدة تفرض علينا البحث عن تفسير جديد يُلائمها، مما من شأنه أن يصرفنا عن التفتيش في دفاترنا أو نظرياتنا القديمة، كما صنع «هنتنجتون» في اختياره لصدام الحضارات مفسرًا لما يحدث الآن، وكما سبقه «فوكوياما» في تصوره لنهاية التاريخ بانتصار وغلبة الليبرالية الرأسمالية الديموقراطية على كل شئون العالم بعد سقوط حائط برلين عام ١٩٨٩.

فما يُسمى ﺑ «العولمة»، وهو أمر جديد لا يمكن إنكاره، إنما يُرد إلى سيادة الشركات العابرة للقارات التي ستفضي في النهاية إلى تحطيم قدرات الدولة القومية، ومنها أمريكا نفسها، وإلى تعظيم النزاعات الداخلية في نطاق الدولة الواحدة لإضعاف مقاومتها لسيادة السوق العالمي. ولم يكن سقوط الاتحاد السوفيتي سببًا في استفحال العولمة، فقد انعقد في طوكيو مؤتمر السياسات النقدية والمالية العالمية، قبل ذلك بسنوات. وأصبح الهيكل العالمي الاقتصادي ناميًا بمعدل يفوق نمو الاقتصاد القومي الأمريكي الذي تراجعت نسبته من ٤٢٪ إلى ٢٥٪ في الأعوام الأخيرة من معدل الناتج الإجمالي العالمي. ولم يعُد الإنتاج رأسيًّا داخل المصنع في دولة واحدة، بل توزعت أجزاء السلع إلى أنصبة مختلفة تنتجها دول متعددة. ويمكن القول على سبيل الإيجاز، بأن العولمة تعني مصنعًا عالميًّا واحدًا، وسوقًا عالميًّا واحدًا تهيمن عليه تلك الشركات الهائلة العابرة للقارات. وما يُسمى بالقرية العالمية هو قرية مالية تفتقد علاقات القرية وتقاليدها الإنسانية.

ومن الأعراض أو النتائج الثانوية لسيادة العولمة المالية، وتفكك الدول القومية ارتفاع أصوات النزاعات الطائفية والثقافية. ففي ظلِّ هذه الأوضاع الجديدة يشتدُّ حنين الإنسان إلى خصوصية صميمة وهو يحيا في بيئة مُتشابكة مُربكة تُنذِر بزوال قضيته العامة، أو خصوصيته القومية.

فالعولمة إذن هي غياب البُعد الوطني أو القومي كفاعلٍ مؤثر كما كان الحال في الرأسمالية السابقة. فالمؤسسات أو الشركات العابرة للقارات تخترق وحدة الدول القومية. وتقوم بتحطيم قدرات الدول على مواجهة الغزو الجديد الناتج عن قوانين السوق، وتضخيم الصراعات والنزاعات المناوئة للدولة، مثل المشكلات العنصرية والدينية لصالح تفكيك الدول، وتحويلها إلى دويلات عاجزة أمام سيادة السوق العالمية. وهنا تتفاقم مظاهر الفوضى والسيولة، وانعدام اليقين. ولا بد أن يؤدي هذا إلى استجاباتٍ انفعالية متضاربة أبرزها وأعلاها صوتًا هو البحث عن حضن دافئ في برد العراء الذي يحيط بنا من نتائج الانحسار والانكسار للذات القومية. وهكذا يتورط الجميع في حُمَّى التفتيش عن جماعة أولية أو مرجعية تكون الأصل والملاذ معًا، ويكون التعصب لها والعنف مع غيرها بمثابة الثوب الذي يستر العري في خلاء العولمة. ولا يهم إذن افتقاد شروط العضوية العاملة في النادي الدولي، لأن لدينا خصوصيتنا، وتراثنا، وأسلافنا، فهذا هو ظهرنا القوي، وتلك هي عصبتنا في وجه مُحدَثي النعمة من الفرنجة!

ويُسمى ردُّ الفعل، ولا أقول الفعل، أصولية. والأصولية بكل أنواعها وشعاراتها، نزعة ثقافوية، بمعنى أنها تثبت مجمل تاريخ الإنسان وسلوكه عند عامل أو مُتغير من عوامل أو متغيرات الثقافة، بحيث يغدو فطرة أو غريزة لا تتحول. وبالتالي يميز أمة عن أمة، أو بالأحرى، يميز «نوعًا» بشريًّا من نوع آخر، مرة واحدة وإلى الأبد، وإذا كانت الحيوانات تصنف بسماتٍ بدنية، فإن البشر، عند هؤلاء، يصنفون في أغلب الأحيان، طبقًا للعقيدة الدينية التي لا تتصل بموضوعات الطبيعة، بل بنظم الثقافة وعناصرها. ويتفق الأصوليون الإسلاميون مع «هنتنجتون» على أن محور التصنيف هو الدين.

وعسانا نكشف الخلل في منطق أصحاب تلك النزعة الأصولية الثقافوية إذا ما تناولنا مسألة الثقافة والحضارة على أساس علمي.

الثقافة هي الكل المعقد المتشابك من أساليب الحياة الإنسانية والمادية، وغير المادية، أي الفكرية أو المعنوية أو الروحية التي ابتدرَها الإنسان، واكتسبها، ولا يزال يكتسبها بوصفه عضوًا في جماعة أو مجتمع، في مرحلة معينة من تاريخ تطوره، تقدُّمًا كان أو تدهورًا.

وللثقافة جانبان، روحي أو غير مادي، وهو الذي يضم القيم والمعايير والنظم والاعتقادات والتقاليد. والمادي وهو الذي يمثل التجسيد المحسوس للجانب المعنوي فيما يُصاغ من أدوات ومنشآت، وهو الذي نُسمِّيه حضارة، إذا ما كانت الجماعة المعنية مُستقرة.

وتتفاعل ثقافات المجتمعات المختلفة على كِلا الجانبَين على الوجه الذي تنشأ فيه ثقافات جديدة تتعاقب على كل مجتمع أو أمة لأن الثقافة ليست ثابتة جامدة. فليس لكل مجتمع أو أمة ثقافة واحدة لا تتغير على مر العصور.

وكانت الحضارات، أي الجانب المادي من الثقافة، جزءًا لصيقًا بها بحيث كان من الممكن أو اليسير أن تتمايز الحضارات بتمايُز المجتمعات في العصور القديمة والوسطى. ولكن عندما توسَّع التبادل بين المجتمعات في الجانب المادي من الثقافة، أي الحضارة، ازداد استقلال الحضارة عن الجانب الروحي الذي ظلَّ فيه التبادل بين المجتمعات محدودًا، وأصبحت الثقافة عنوانًا يختصُّ بهذا الجانب الروحي أو المعنوي. وعندئذٍ اشتركت ثقافات مُتعددة في حضارة واحدة بعَينها بعد أن كانت الحضارة في القديم جزءًا من الثقافة.

ومن ثم انفصلت الحضارة أو كادت تستقل بنفسها عن الأصول الثقافية التي نشأت فيها، وذلك لسهولة التبادل المادي بين المجتمعات المختلفة، وصعوبة ذلك في الجانب الروحي الذي استقلَّ أخيرًا بمفهوم الثقافة.

ويعني هذا أن المجتمعات والأمم المتباينة يمكن أن تشارك في حضارة عالمية واحدة بقدْر سعة الانفتاح والتبادل مع سائر العالم، مع احتفاظها بثقافاتها الخاصة.

وكان لسيادة النظام الرأسمالي في الغرب الأثر المعجِّل في تجانس الحضارة العالمية. ولم يكن ذلك لفضيلةٍ خاصة بالغرب، بل لطبيعة الرأسمالية نفسها التي ازدهرت في الغرب لعوامل موضوعية ساهمت فيها الحضارة العربية الإسلامية مساهمة الحافز والتحدي معًا لأسبابٍ مادية لا علاقة لها بالاعتبارات الدينية أو الثقافية بوجهٍ عام. ومعظم السمات التي ذكرها «هنتنجتون» مميزة للغرب، هي سمات أو نتائج مباشرة للنظام الرأسمالي؛ الذي أسقط منها مؤلفنا، عمدًا، وعن سوء طوية، السمة العالمية. الرأسمالية قائمة على المنافسة بكل درجاتها وأنواعها، داخل حدود الوطن الواحد أو خارجه، وهي في حاجة إلى مواد خام لا تُوجَد إلا في أماكن أخرى من العالم، كما تتطلَّب أسواقًا واسعة لتوزيع بضائعها، كما تفضل أعدادًا هائلة من الأيدي العاملة الرخيصة التي لا تتوافر داخل حدود بلدٍ واحد. ومن هنا كان الاستعمار الذي فتح الحدود عنوةً بين أقطار العالم، وأشعل الثورات والحروب العالمية.

ومهما يكن من أمر الهيمنة هنا، أو التبعية هناك، والتبادل السلمي، أو الصدام الدموي، فإن قواعد اللعبة الجديدة فرضت نفسها رضًا أم كرهًا على الجميع، مغلوبين أو منتصِرين.

ولا يعني الانتماء لهذه الحضارة الواحدة، الألفة والمودة بين المنتسبين لها، فهي ليست مذهبًا أو عقيدة. فقد حارب الألمان أولاد عمومتهم من الأنجلوساكسون، كما دخلت إيطاليا اللاتينية الكاثوليكية الحرب مع ألمانيا ضد فرنسا اللاتينية الكاثوليكية.

وهذه الحضارة السائدة ليست ثقافة كما يحاول أن يخدعنا «هنتنجتون»، وإلا لكانت عقيدة ومبدأ للتبشير والنشر بين من لا يؤمنون بها إذا أتيح لأصحابها القوة والسلاح. فعندما دخل الإنجليز مصر أغلقوا مجلس شورى النواب، والمصانع، وحجَّموا التعليم، وكمَّموا الأفواه، وأنكروا الفردية وحرية الرأي، وهي كلها سمات الثقافة الغربية كما يقول صاحبنا. فالأمر كله مرهون إذن بالمصالح الاقتصادية والسياسية وفقًا لقواعد اللعبة الحضارية الجديدة التي نرضخ لها جميعًا. وليس الصراع ثقافيًّا، بل هو صراع بين مستويات مختلفة من النمو، فالعناصر الثقافية أغطية للرأس لا تستر حقيقة الأوضاع المادية. والجميع، ونحن منهم، مدعوون للمشاركة في الحضارة العالمية الواحدة القائمة بالفعل، على تفاوت في المستويات عن طريق المنافسة وفقًا لشروط اللعبة ومعاييرها.

غير أننا لا نستطيع إنكار بروز النزاعات الثقافية على سطح اللحظة التاريخية الراهنة. وواجبنا العلمي، بل والخلقي أيضًا، أن نبحث عن أسباب ذلك، وليس كما صنع «هنتنجتون» أن نجعلها هي نفسها السبب في تشكيل النظام العالمي الجديد.

فعندما يلح قول موجز، كبرشامة سهلة التناول، على السمع والبصر، فإنه ما يلبث أن يفرض نفسه تفسيرًا مبذولًا للجميع، ويدفع عنا مشقة البحث والتمحيص، ويصبح موضوعًا للتعقيبات والتأكيدات، وخاصة إذا ما جاء على لسان شخصية بارزة في الغرب مثل «هنتنجتون»، فيرقى إلى مستوى الحكمة والمسلمات، لأنه يصادف هوًى في نفوسنا.

ولكن ألم يكن صراع الحضارات أو الثقافات المسوِّغ الدعائي لتعبئة وقود الحرب من الشباب لخوض القتال في العصور القديمة وكذلك الحديثة الذي تُعَدُّ النظم الفاشية مثالًا صارخًا له؟ أوَ لم تكن قوى الحلفاء المقاومة للفاشية أكثر حماسًا في استخدام الشعارات الثقافوية بمضامين مختلفة؟ هل كان واقع الصدام ثقافويًّا، أم كان لأسباب مادية أخرى؟

إن بيانات رجال السياسة أو القادة في كل مراحل التاريخ مثال بارز على الخلط المتعمد بين الشعار والواقع. ولا نعرف زعيمًا أو قائدًا عسكريًّا صرَّح بأهدافه ومصالحه الحقيقية عند تعبئته للجماهير، ودفعها إلى سلخانة الحرب.

فالبيان السياسي أو الخطاب التعبوي، إن صح ذلك التعبير، من بين كل البيانات أو الخطابات الأخرى، هو الذي يستمدُّ عباراته من معجم الأخلاق، أو الدين، أو العرق، أو غيرها من عناصر الثقافة بمعناها اللامادي أو الروحي. ودراسة التاريخ تكشف لنا عن هذه المفارقة التي تنتمي إلى الكوميديا السوداء. فكل آليات التبرير السياسي مُستمدَّة من تلك العناصر الثقافية كالدِّين والقومية، واللغة، والقيم، والأعراف، والتقاليد ونحوها.

والسياسة هي طرق إدارة الصراع. ومن أهم أساليبها في هذا الشأن، تفسير الصراع بتلك العناصر الثقافية التي ترِدُ كثيرًا في الخطاب السياسي، وذلك للاستهلاك المحلي أو الخارجي على السواء.

ولقد انتشرت النزعة الأصولية الآن، ليس بوصفها اكتشافًا علميًّا لسرِّ الصراع بين الدول، فقد ابتذلت منذ زمان قديم من كثرة الاستخدام. ولكن عقب سقوط كثير من المسلمات العصرية، وفشل النظم القائمة في ستر عوراتها. فكان لا بد في غمرة التخبط أو الفراغ التنظيري، وضرورة الانخراط في المزاحمة الدموية، والسوق العالمية الحرة، كان لا بد من التفتيش في الدفاتر القديمة، شأن التاجر المفلس، عن نظرية عتيقة هي الصدام الحضاري أو الثقافي، حيث يختار كل منا ما يُلائمه من أصول، أو أسلاف، أو آلهة حارسه.

بيد أن الأصولية الغربية التي يزعمها ويهيب بها «هنتنجتون» تتخذ موقعًا يمتاز امتيازًا بينًا عن الأصولية الإسلامية، أو الشرقية بوجه عام.

فالأصولية الغربية تنتقي سِماتها الفارقة مما يقوم في الحاضر الآن، ثم تستدير إلى الماضي البعيد لإيجاد، أو اصطناع جذور قديمة لتفسير حاضرها اليوم.

أما النزعة الأصولية لدَينا، فإنها تجعل من الحاضر القائم انحرافًا وتدهورًا عن أصلٍ قديم جدًّا، كان يمثل في نظرها العصر الذهبي لهذه الحضارة. وينبغي إذن استعادته، ليخلُص لنا بريئًا من كل شائبة، دخيلة، خارجية.

وفي هذا الاختلاف بين أصولية «هنتنجتون»، والأصولية الإسلامية أو الشرقية، ترجح كفة الأصولية الغربية المزعومة في ميزان القوى، لأنها تحيا عصرها الذهبي في حاضرها اليوم الذي تحاول تبريره بالتاريخ القديم، وعلم الآثار. بينما ينشغل الأصوليون الإسلاميون بالتنقيب في الماضي البعيد عن عصرهم الذهبي، تاركين، وهُم في غمرة انشغالهم، مهمةَ قيادة العالم لمن يملكونه فعلًا، ومُقدِّمين لهم العونَ السخيَّ بضرب مخالفيهم من مواطنيهم، وتخريب اقتصاد بلدانهم بكل همةٍ وحماس.

ولأن «هنتنجتون» مُخطط استراتيجي لإعادة صنع النظام العالمي، فقد التقط من الأصوليين الإسلاميين طرف الخيط، ومثَّل دور التلميذ عليهم، وطبَّق دعاواهم بمهارةِ محترفٍ سياسي، ومفكر براجماتي لا يَعنيه من كل ذلك إلا ما تُثمره الفكرة من نتائج عملية نافعة لاحتكارات الرأسمالية الأمريكية، وهي فكرة قدَّمها له الأصوليون على طبق من فضة، أو أثمن من ذلك كثيرًا.

فأولًا، تخدم فكرته عن صدام الحضارات في تشجيع الأصوليين الذين تطوعوا لضرب اقتصاد بلادهم أو إضعافه في وجه المنافسة الخارجية الغربية.

وثانيًا، تؤدي إلى تغذية الأصولية الإسلامية، والتأكيد على صِحتها لتكون ذريعةً مقبولة للصدام الذي يَعرِف «هنتنجتون» نتيجته المظفرة سلفًا.

وثالثًا، تفيد كدعوة صالحة لتعبئة العدد الأكبر من جماهير الدول الأوروبية والأمريكية، وإثارة حماسهم في الانخراط في حروب كولينيالية جديدة بنفس الشعارات والمبررات التي استُخدِمت في الحروب الصليبية في العصور الوسطى. ولتكون بديلًا جديدًا عن العدو القديم، إمبراطورية الشر الشيوعية، الذي انتهى مفعوله كمِلاط أو غِراء يضمُّ جماهير البسطاء المقهورين في بلدان الغرب، إلى موقفٍ مُوحَّد يخدم مصالح أصحاب الاحتكارات.

فما يصنعه «هنتنجتون» في نهاية الأمر، أو يُقدمه، هو «خريطة» جديدة لإدارة الأزمات التي تنتج عن عوامل الصراع الحقيقية. ويضع «جدول أعمال» يغيِّر فيه من مواقع الأولويات للأوضاع الاقتصادية والسياسية الفعلية. وهو ما من شأنه أن يُساهم مساهمة نشطة في تزييف وعي المواطنين في مختلف بلدان العالم. ويفضي ذلك جميعًا إلى صرف الانتباه عما يجري في الواقع العالمي بحيث يتم تحريك الأطراف المختلفة بكفاءة واقتدار، لخدمة مصالح بعينها، بعيدة عن مصالح أوسع فئات الجماهير سواء في الشرق أو الغرب.

فالكتاب كله تذكير ملحٌّ على واجب المواطنين في التشبث بالخصومة بين البشر، حتى يفرغ أصحاب المصالح لشئونهم وإدارة العالم الممزَّق. ونظرته في «الصدام الحضاري» ليست أكثر من ثوبٍ قشيب لفكرة أو ممارسة عتيقة جدًّا هي «فَرِّق تسد».

وهي ثوب قشيب لأنه يزدان برُقَع زاهية الألوان، يُطالعها القارئ في أدلته وأمثلته التي يقتطعها من هنا وهناك دون منطق متجانس مُوحد. فإلى جانب الدين مفسرًا للصدام الحضاري، يدهشنا بتفسيره، في مواضع أخرى كثيرة من الكتاب، للفتوح والغزوات بتزايد السكان. فقد أدى التزايد السكاني في أوروبا في القرن الحادي عشر إلى اشتعال الحروب الصليبية. ومن ثم يُحذرنا الكتاب من «النتوء» السكاني للمُسلمين الذين يزداد عددهم بالنسبة للمسيحيين. ولقد تمنيت أن يكون تفسيره صحيحًا، فلم يكن لإسرائيل أن تظلَّ على قيدِ الوجود يومًا واحدًا مع الزيادة الفادحة لمن جاورها من العرب أو المسلمين!

غير أن ما نخشاه حقيقة من تسلط أو إغراء نظرية صدام الحضارات هو ما ذكره «إرنست ناجل» عن «التنبؤ المحقق لنفسه». وهو الذي يتألف من تنبؤات لا تَصدُق على الوقائع الفعلية، في الوقت الذي تصاغ فيه هذه التنبؤات. غير أنها تغدو صادقة بسبب الأفعال التي تُتَّخذ كنتيجة مترتبة على «الاعتقاد» بصحة تلك التنبؤات. ويضرب لذلك مثلًا: فمع أن «بنك الولايات المتحدة»، وهو بنك خاص رغم اسمه، لم يكن في ضائقةٍ مالية جديدة عام ١٩٢٨، إلا أن الكثير من أصحاب الودائع «ظنوا» أنه يعاني ضائقة لا مخرج منها، وقد يُفلس سريعًا. وقد أدى ذلك «الاعتقاد» إلى سحبهم لودائعهم، مما دفع البنك إلى الإفلاس في الواقع.

ولكن لحُسن الطالع، لم يكد «هنتنجتون» يفيق من نشوته لانتصار أمريكا في الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي، ويفرغ من تصميم الموضة الجديدة لصدام الحضارات، ويُقدِّم نبوءاته بالنسبة للغرب، ويبذل له نصائحه بالوحدة بين بلدانه تحت قيادة أمريكا في كتابه الذي بين أيدينا، لم يكد يستكمل ذلك، حتى استدار إلى داخل الولايات المتحدة، فأصيب بإحباط شديد. وسبب هذا الإحباط هو «تآكل المصالح الأمريكية» وهو عنوان مقاله الأخير في عدد أكتوبر ١٩٩٧ لفصلية «الشئون الخارجية». وأغلب الظن أن الصدمة كانت قوية مُباغتة مما حملَه على التخبط والتناقض في عرض قضيته، والتخلِّي عن آرائه السابقة، التي حظِيَت دون استحقاقٍ علمي، بشُهرة نجوم السينما والاستعراض ولاعبي كرة القدم.

ومشكلته في هذا المقال، كما يقول هي أن «التعددية الثقافية» في أمريكا لن تقاومها أو تقضي على آثارها السيئة إلا الوحدة القائمة على «الأيديولوجية السياسية». ولن تنجو أمريكا بعد زوال أيديولوجيتها، وستنضم إلى الاتحاد السوفيتي على كومة نفايات التاريخ! إذن فنظريته عن مراحل الصراع لا تَصدُق على أمريكا لأن هوية أمريكا هي أيديولوجيتها التي بشرَنا في كتابه بنهاية عصرها. فأمريكا اليوم، كما يقول تفتقد بشدة وجود أي بلدٍ واحد، أو أي تهديد ضدها يمكن أن يُقنعها بالوقوف خصمًا أمامها، فلسوء الحظ، الأصولية الإسلامية بعيدة، مُشتَّتة، كما أن الصين حالة مُعقدة على الوجه الذي يجعل أخطارها بعيدةً في المستقبل. والحل الوحيد إذن هو سياسة القمع والتقييد restraint للمصالح الجزئية وتزايد المعارضة للحكومة. فلسنا، على حدِّ تعبيره، في حاجةٍ إلى قوةٍ لخدمة الأهداف الأمريكية، بل نحن بالأحرى في حاجةٍ إلى العثور على أهداف (أي مبررات) لاستخدام القوة الأمريكية للقيام بدورها في قيادة العالم. والخطر هو فقد الهيمنة الفعلية. و«المصلحة القومية هي القمع القومي، وهذه فيما يبدو هي المصلحة القومية الوحيدة التي يرغب الشعب الأمريكي في دعمها في هذا الوقت من تاريخهم.»

وعلى أية حال، فإن العدو الحقيقي ﻟ «هنتنجتون» وأصحاب «المصالح الحقيقية» في أمريكا هو السلام. فقد كان من المتوقع أن يحتفي مُنظِّرنا بسقوط الاتحاد السوفيتي ليستمتع بالسلام والرخاء، ولكنه يوافق على ما قاله مستشار «جورباتشوف»: «نحن نقوم بأمر مروع لكم، فنحن نحرمكم من عدو.» وبعبارته أن «الحماية من الاتحاد السوفيتي كانت السلعة التي تروجها الولايات المتحدة.» ولا بد إذن من سلعةٍ أخرى مماثلة في جودتها. وهو دائمًا يفكر في الحرب والصدام مع عدو، لأنهما يحملان على التماسُك بين مختلف المواطنين. ولكنه يغفل عامدًا أن ذلك أمر موقوت محدود لتعود الأمور إلى طبيعتها في حال السلام، ولا يمكن أن تظلَّ الشعوب في حالة من التعبئة والاستنفار. وبالتالي فهذه الفترة لا تصلح مُحددًا للمصلحة القومية أو الهوية، وإلا لما كانت الحاجة إلى أحزاب، وخلافات وطنية، واجتهادات مُتباينة.

ومهما يكن من أمر، فرؤية «هنتنجتون» وخططه ينتسبان إلى مرجعية فكرية لما قبل الحرب العالمية الثانية. وهي ليست المرجعية الليبرالية، بل الشمولية التي تسعى إلى التوحيد والاحتشاد عن طريق القمع والتقييد في الداخل، لفرض سيطرة مصالح بعينِها على الخارج، الذي يعاد صياغته وتشكيله وفقًا لوصفات جرَّبها رجال الحكم والسياسة بنجاح منذ العصور القديمة، وهي «وصفة» أو نظرية الصدام بين الحضارات.

ولست بما أقدمه بين يدي القارئ راغبًا في إفساد متعة مطالعته للكتاب، وأقصى ما أطمح إليه أن يعده مجرد «فرض» قد يُثبت الكتاب صحته، أو يكشف فساده. وهو في هذا أو ذاك، لا يعدم نفعه من إثارة شهية القارئ، للتأمل الفاحص، والحوار الخصيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤