الفصل الخامس

وكان أول ما عرض لعثمان من الأحداث قبل أن يستتم اليوم الأول من أيام خلافته، قصة عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة، وهي قصة امتحن بها المسلمون امتحانًا عسيرًا، فأبو لؤلؤة هو قاتل عمر؛ طعنه بخنجر ذي رأسين حين كان يتقدم للصلاة، فتكاثر الناس على أبي لؤلؤة فأخذوه، ولكنه قتل نفسه قبل أن يسأل في ذلك أو يجيب، وقال بعض الناس: إنه رأى أبا لؤلؤة والهرمزان، وكان قد أسلم، وجفينة وكان نصرانيًّا، قد خلصوا نجيًّا وفي أيديهم هذا الخنجر يقلبونه، فلما أقبل عليهم قاموا وسقط الخنجر من أيديهم. فلما مات عمر أقبل ابنه عبيد الله شاهرًا سيفه حتى أتى الهرمزان فقتله، فيقول الرواة إنه لما أحسَّ عَضَّ السيف قال: لا إله إلا الله. ثم أتى جفينة فقتله، فيقول الرواة إنه لما أحسَّ الموت صَلَّب بين عينيه. ثم أتى منزل أبي لؤلؤة فقتل ابنته، وبلغ الخبر صهيبًا وكان على صلاة الناس، فأرسل إليه مَن يكفُّه من المسلمين، وقد انتهى إليه سعد بن أبي وقاص فساوره وما زال به حتى أخذ منه السيف، ثم حُبِسَ حتى يقضي الخليفة في أمره.

فلم تكد بيعة عثمان تتم حتى شاور المسلمين الذين حضروه في أمر عبيد الله هذا الذي ثأر لنفسه بنفسه وثأر لنفسه عن غير بينة، فقتل رجلًا مسلمًا وقتل ذميين بغير الحق ودون أن يخوِّله السلطان قتلهما. فأما أهل البصيرة والفقه وفيهم عليٌّ فأشاروا بالقَوَدِ؛ لأن عبيد الله قد تعدى حدود الله كما رأيت. وقال قوم كثير من المسلمين: يقتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم، وزعموا أن عمرو بن العاص قال لعثمان: قد أعفاك الله من هذه القضية، فقد حدث ما حدث وليس لك على المسلمين سلطان.

وقد اختلفت الرواة في الحكم الذي أمضاه عثمان في هذه القضية: فقوم يزعمون أن عثمان قضى بالقَوَدِ ودفع عبيد الله إلى ابن الهرمزان ليقتله بأبيه. وأكثر المؤرخين يزعمون أن عثمان قال: أنا ولي الهرمزان وولي من قتل عبيد الله، وقد عفوت وأدفع دية من قتل من مالي إلى بيت مال المسلمين. وهذا أشبه بسيرة عثمان، فما كان عثمان ليستفتح خلافته بقتل فتى من فتيان قريش وابن من أبناء عمر، وما كان عثمان ليهدر دم مسلم وذميين، وهو من أجل ذلك آثر العافية، فأدى دية القتلى من ماله الخاص إلى بيت مال المسلمين، وحقن دم عبيد الله بن عمر. وفي إمضائه الحكم على هذا النحو سياسة رشيدة لو نظر الناس إلى القضية نظرة سياسية خالصة. فلم يبعد من قال من المسلمين: يقتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم؟! ولو قد قتل عثمان عبيد الله بن عمر في القصاص لغيَّر على نفسه قلوب آل الخطاب خاصة وبني عدي عامة، بل لغير قلوب قريش كلها وقلوب كثير من غير قريش. ولو قد عفا ولم يعقل القتلى لفتح بابًا من أبواب الفوضى لا سبيل إلى إغلاقه.

ولكن هذه القضية ليست قضية سياسية فحسب، وإنما هي قضية دين أولًا، ثم قضية سياسة بعد ذلك. ومن حق الإمام أن يعفو بشرط ألا يعطل عفوه حدًّا من حدود الدين.

ومن هنا نفهم أن كثيرًا من المسلمين المتشددين لم يرضوا عن قضاء عثمان هذا؛ فكان من الأنصار من لبث يذكر عبيد الله بقتل الهرمزان وينذره بالاقتصاص منه، وكان زياد بن لبيد البياضي كلما لقيه قال له:

ألا يا عبيد الله ما لك مهرب
ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر
أصبت دمًا والله في غير حله
حرامًا، وقتلُ الهرمزان له خطر
على غير شيء غير أن قال قائل
أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيهٌ والحوادث جمة
نعم أتهمه قد أشار وقد أمر
وكان سلاح العبد في جوف بيته
يقلبه والأمر بالأمر يعتبر

فلما كثر ذلك من زياد شكاه عبيد الله إلى عثمان، فدعا عثمان زيادًا فنهاه عن ذلك فلم ينته، وإنما قال في عثمان نفسه:

أبا عمرو عبيدُ الله رهنٌ
فلا تشكك، بقتل الهرمزان
فإنك إن غفرت الجرم عنه
وأسبابُ الخطا فرسا رهان
لتعفو إذ عفوت بغير حق
فما لك بالذي تخلي يدان

فغضب عثمان وزجر زيادًا حتى انتهى. ولكن قومًا من المسلمين لم يرضوا قضاء عثمان، ويقال: إن عليًّا كان من هؤلاء، ويقال: إنه لو قدر على عبيد الله أثناء خلافته لأقاد منه، ولكن عبيد الله خرج مع الغاضبين لعثمان وقاتل مع معاوية بصفين فقتل هناك. والذي أسخط هؤلاء المسلمين مراعاتهم لظاهر النص القرآني أولًا، وتحرجهم بعد ذلك من أن يعفى عن عبيد الله لأنه ابن خليفة، ولأنه قتل مسلمًا أعجميًّا حديث عهد بالإسلام وآخَرَيْنِ من أهل الذمة، ففي هذا العفو ما يشبه أن يكون تمييزًا بين المسلمين، تمييزًا بين العربي وهو عبيد الله، وبين الأعجمي وهو الهرمزان، والله لم يفرق بين المسلمين فيما ضمن لهم من حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم مهما يكن آباؤهم ومهما تكن أجناسهم، وفي هذا العفو ما يشبه أن يكون إهدارًا لدماء أهل الذمة على ما تقرر لهم في الدين من الحرمة ورعاية الحقوق، ولو ترك الأمر على هذا النحو وأبيح لأبناء الخلفاء وأمثالهم من أبناء كبار الأنصار والمهاجرين أن يثأروا لأنفسهم بأنفسهم، يتبعون في ذلك شهواتهم ونزواتهم، ولا يرفعون أمرهم إلى السلطان، ولا يقيمون البينة على أصحاب ثأرهم، لفسد الأمر وضاع العدل، وكانت الفوضى وطمست آيات الدين.

ونعود فنقول: إن عثمان كان ولي أمر المسلمين، وله بحكم هذه الولاية أن يعفو، ونزيد على ذلك أنه حين عفا لم يعطل حدًّا من حدود الله ولم يهدر دم الهرمزان وصاحبيه، وإنما أدى ديتهم من ماله لبيت مال المسلمين الذي كان يرثهم وحده، ولكن هذا النحو من العفو لا يخلو مما يريب المتشددين في الدين؛ فعبيد الله لم يعاقب على شيء مما أتى، وإنما احتمل العقوبة عنه عثمان حين أدى الدية من ماله هو، ولو قد عفا فحقن دم عبيد الله، ثم فرض عليه وعلى أسرته دية القتلى؛ لأقام الحد في غير ريبة، ولما استطاع أحد أن ينكر من قضائه شيئًا، ولو أنه إذ أدى الدية من ماله رفقًا بآل الخطاب أمسك عبيد الله في السجن تعزيرًا له وتأديبًا، حتى يتوب إلى الله من إثمه، ويندم على إراقة الدم في غير حقه، وعلى الاستخفاف بالسلطان استجابة للحفيظة الجاهلية — لو قد فعل ذلك لكان له مخرج من هذا الحرج، ولأعلم فتيان قريش من أمثال عبيد الله أن دماء المسلمين والذميين أعظم حرمة عند الله وعند السلطان من أن تراق بغير الحق ثم لا يعاقب من أراقها عقابًا يسيرًا أو خطيرًا، وإنما يخلى بينه وبين الحياة يحياها آمنًا، ويخلى بينه وبين طيبات الحياة يستمتع بها في غير رهب ولا خوف.

ومهما يكن من شيء فقد استقبل عثمان خلافته بهذا النحو من السياسة الذي يصور رحمته ورأفته وإيثاره للعافية، وتجنبه لما يُحفِظ القلوب؛ قلوب العرب خاصة، وقلوب هذه الطبقة الممتازة من المهاجرين وأبناء المهاجرين بنوع أخص، فرضي عن هذه السياسة قوم وسخط عليها آخرون، وكان بدء خلافة عثمان محاطًا بشيء من هذا الشك والاختلاف. ولو قد كان عمر مكان عثمان وقدم إليه فتى من فتيان قريش مهما يكن أبوه ومهما تكن عشيرته، لقام في هذا الأمر مقام صاحب الجد الذي لا تأخذه في حدود الله لومة لائم. وما من شك في أن قضاء عثمان في هذه القضية قد رسم خلافته بما يميزها تمييزًا تامًّا من خلافة عمر، وهو الرفق واللين.

وعلى ذلك فإن الناس لم يعجلوا بالحكم على عثمان، وما كان لهم أن يعجلوا وهم أنفسهم قد انقسموا في هذه القضية، لمكان عمر في قلوبهم، ولما كانوا يرونه من رعاية حقه في أهله وبنيه. وقد أمر النبي أن تدرأ الحدود بالشبهات، فلعل عثمان قد درأ هذا الحد عن عبيد الله بالشبهة التي تأتي من غضبه لأبيه واندفاعه مع شهوته الجامحة. والله قد حبب إلى المسلمين العفو حين يقدرون وجزاهم عليه خيرًا.

وقد روى المؤرخون أن عثمان لم يكد يستقبل خلافته حتى أصدر إلى الأقاليم كتبًا، منها ما وُجِّهَ إلى العمال، ومنها ما وُجِّهَ إلى قواد الحرب، ومنها ما وُجِّهَ إلى عامَّة الناس. وأقلُّ ما تُوصف به هذه الكتب أنها تصور السياسة التي كان عثمان يريد أن يأخذ بها المسلمين والتي أخذهم بها صدرًا من خلافته، فيما يقول المؤرخون. فمن حق هذه الكتب أن تروى، وأن نقف عندها وقفة ما، لنتبين إلى أي حد تمم عثمان ما رسم لنفسه فيها من خطة.

كتب إلى عماله فيما روى الطبري في أحداث سنة أربع وعشرين للهجرة يقول: «أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جُبَاةً، وإنَّ صَدْرَ هذه الأمة خُلقوا رعاة لم يُخلقوا جُبَاةً، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جُبَاةً ولا يكونوا رعاة. فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإنَّ أعدل السيرة أنْ تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم، فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تُثَنُّوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء.» فهذا الكتاب الموجز اليسير الذي كُتِبَ أو أُمْلِيَ في غير تكلف ولا تأنق ولا تفكير في غير العدل الذي فرض على المسلمين، يأمر العمال بخصال أربع: الأولى أن يكونوا رعاة ولا يكونوا جُبَاةً، أي أن تكون غايتهم من الحكم الرفق بالمحكومين لا إغناء الحكومة، ولا إرضاء حاجة الحاكمين إلى الغنى. يُلِحُّ عثمان في هذه الخصلة إلحاحًا شديدًا، فيكرر كلمتي الرعاة والجباة تكريرًا يصور هذا الإلحاح. ولا غرابة في ذلك، فهو يريد أن يبين الغاية الأساسية التي قصد إليها الإسلام حين دفع العرب إلى الفتح، وهو الإصلاح قبل كل شيء، فليس الفتح الإسلامي كما قدمنا فتح غلب وتسلط، وإنما هو فتح رعاية ورفق وإصلاح.

وعثمان يقرر أن الأئمة في صدر هذه الأمة كانوا رعاة لا جُبَاة، وهؤلاء الأئمة هم النبي وأبو بكر وعمر. وهو يشفق بعد ذلك من أن يصبح الأئمة جُبَاة لا رعاة، فينقطع الحياء وتقوم مقامه القِحَة التي تُضيع الحق وتدفع إلى الإصرار على الباطل والاستهتار بالإثم. وتنقطع الأمانة ويقوم مقامها الغش الذي يُضيع حقوق الأئمة والرعاة جميعًا، ويُشكك بعض الناس في بعض، ويُسيء ظنون بعضهم ببعض، ويُقيم الأمر بينهم على المخادعة والرياء لا على المصارحة والإخلاص. وينقطع الوفاء ويقوم مقامه الغدر الذي يدفع الناس إلى شرٍّ لا آخر له، وإلى أثرة منكرة، فلا يرعى أحد لأحد حرمة ولا يرجو أحد لأحد وقارًا. ليس من شك في أن هذا الهدي هو هدي النبي وصاحبيه.

الخصلة الثانية ليست إلا تفصيلًا لما تقدم فيه عثمان إلى عماله، وهي رعاية العدل فيما يكون من الصلة بين المسلمين وبين أئمتهم وأمرائهم، فلا ينبغي أن يظلم المسلمون إرضاء للحكومة، ولا ينبغي أن تظلم الحكومة إرضاء لعامة المسلمين. وإنما ينبغي أن يؤخذ من المسلمين ما عليهم وأن يُرَدَّ إليهم ما لهم، فلا ظلم في الحكم، ولا إسراف على الناس في أخذ الصدقات وجباية الخراج، ولا تَسَلُّط على الناس في أي أمر من أمورهم، وإنما هو القسط الذي لا يُضار فيه حاكم ولا محكوم.

والخصلة الثالثة هي الخصلة الثانية نفسها، ولكنها تخص المعاهَدين من أهل الذمة؛ فهم كالمسلمين في استحقاقهم للعدل، لهم ما للمسلمين من حق، وعليهم ما على المسلمين من واجب. إذا نصحوا وأخلصوا وأوفوا بما عاهدوا عليه، فلا ينبغي أن يؤخذ منهم أكثر من الحق فيظلموا، ولا ينبغي أن يترك لهم أكثر من الحق فيقع الظلم على المسلمين.

والخصلة الرابعة تتصل بالعدو الذي يواجه عمال المسلمين في أمصارهم، وهي من أروع ما أوصى به الأئمة، لم يبتكره عثمان من عنده، ولم يكن عثمان يحب الابتكار كما سترى، وإنما اتبع فيه ما أنزل من القرآن في سورة «براءة» وفي غيرها، فهو يأمر عماله أن يستفتحوا عليهم ولكن بالوفاء. فليس لهم أن يغدروا حتى بالعدو، وإنما عليهم أن يَعرضوا الدعوة فإن أجابوا إليها فذاك، وإن يَعرضوا الصلح فإن أجابوا إليه فذاك، وإن لم يجيبوا أُذنوا على سواء.

فهذه السياسة التي رسمها عثمان لعماله هي نفس السياسة التي نزل بها القرآن ورسمها الأئمة قبل عثمان لأنفسهم وللمسلمين. وكتب عثمان إلى عماله على الخراج: «أما بعد، فإن الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق، والأمانةَ الأمانةَ؛ قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم. والوفاء الوفاء، ولا تظلموا اليتيم ولا المُعاهِد؛ فإن الله خصم لمن ظلمهم.»

وهذا الكتاب الذي يمتاز بإيجازه الرائع يلح فيما ألح فيه الكتاب الأول، ويحرص على ما حرص عليه، ولكنه يؤدي ذلك في شيء من القوة والشدة لا نكاد نجدهما في كتابه الأول؛ فالله قد خلق الخلق بالحق فهو لا يقبل إلا الحق، فما ينبغي للأئمة والعمال إلا أن يتقربوا إلى الله بما يحب، فيأخذوا الحق لا يزيدون عليه ولا ينقصون منه، ويعطوا الحق لا يضيفون إليه ولا ينحرفون عنه. وإذا لزموا الحق على هذا النحو، فأول ما يجب عليهم أن يرعوه إنما هي الأمانة فيما يَجْبُون من الناس، وفيما ينفقون على مرافقهم، وفيما يؤدون بعد ذلك إلى الإمام لينفق في المرافق العامة للدولة كلها. وعثمان يحذِّر عمال الخراج من أن يكونوا أول من ينحرف عن الأمانة فيحملوا إثم انحرافهم عنها وإثم من يذهب بعدهم مذهبهم في هذا الانحراف. ثم يأمرهم عثمان بعد الأمانة بالوفاء، ويشدد عليهم فيه كما شدد عليهم في الأمانة، ثم ينهاهم عن ظلم اليتامى وأهل الذمة، ويحذِّرهم عقاب الله الذي هو خصم لمن ظلمهم.

وهذه السياسة أيضًا هي التي أنزلها الله في القرآن وسار عليها النبي وصاحباه من بعده، فعثمان لا يزيد في هذا الكتاب كما لم يزد في الكتاب الأول على الوفاء بما بايع عليه عبد الرحمن بن عوف من كتاب الله وسنة رسوله وفِعْل أبي بكر وعمر. وكتب عثمان إلى أمراء الحرب في الثغور: «أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان عن ملأ منا. ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم. فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه.»

فانظر إلى ما في هذا الكتاب من الشدة والحزم اللذين يلائمان ما ينبغي أن يكتب إلى أمراء الحرب. وانظر بنوع خاص إلى التزام عثمان سيرة عمر فيما رسم لأمراء الحرب من نظام؛ لأن عمر لم يرسم هذا النظام إلا عن ملأ من المسلمين من المهاجرين والأنصار، وقد حضر عثمان رسم هذا النظام وشارك فيه بالرأي والمشورة، وهو يعزم على الأمراء ألا يغيروا ولا يبدلوا مما رسم عمر شيئًا، وينذرهم بالعزل والعقوبة إن غيروا أو بدلوا؛ لأنه مكلف أن ينظر فيما ألزمه الله النظر فيه والقيام عليه. فعثمان إذن محافظ على سيرة عمر في الإدارة وفي سياسة المال وفي سياسة الحرب. وهو كذلك محافظ على سياسة عمر فيما كان يأخذ به عامَّة المسلمين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزام السنة الموروثة واجتناب التكلف والابتداع. يشهد بذلك كتابه الذي أصدره ليقرأ على الناس في الأمصار والأقاليم، وهو: «أما بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتباع، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم؛ فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن. فإن رسول الله قال: الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا.»

فعثمان في هذا الكتاب ليس أقل محافظة من عمر على السنة الموروثة، وليس أقل تهيبًا من عمر للابتداع والتكلف؛ فهو ينبه المسلمين إلى أنهم لم يبلغوا ما بلغوا من سعة الفتح وضخامة السلطان إلا بالاقتداء والاتباع، وهو يحذرهم من أن تلفتهم الدنيا عن أمرهم، ويخاف عليهم ثلاثة أشياء: أن يبطرهم تكامل النعم وازدياد حظهم بين يوم ويوم من الرخاء وبسطة العيش، وأن يفسد عليهم أمرهم بلوغ أولادهم من السبايا؛ فهذا الجيل الناشئ الذي لم يخلص دمه للعرب، وإنما امتزج بدمه العربي دم الأمهات الأجنبيات، خليق أن يؤثر الابتداع والتجديد على الاقتداء والاتباع، الثالث أن يدخل على الدين ما ليس منه، وأن يشاب العلم السمح اليسير بالجهل والتكلف اللذين يأتيان من إقبال الأعراب والأعاجم على الإسلام وقراءتهم للقرآن، وعجزهم بعد ذلك عن أن يفهموا النص على وجهه، واضطرارهم بعد ذلك إلى التكلف والتزيد. وما أعرف أن أحدًا صور الآفات التي تعرَّض المسلمون لها بعد الفتح كما صورها عثمان في هذا الكتاب؛ فقد كثرت النعمة، فتعرَّض المسلمون للبطر والأشر والطمع، ونشأ هذا الجيل المولَّد، فكان التكلف والابتداع والتجديد وركوب الأحداث العظام. وأقبل على الإسلام قوم لم يفقهوا القرآن على وجهه، فكان الإسراف في التهاون من جهة، والإسراف في التشدد من جهة أخرى، وضاع الحق أو كاد يضيع بين المتهاونين والمتشددين.

وهؤلاء العمال الذين كتب إليهم عثمان إنما كانوا عمال عمر أقرَّهم عثمان على أعمالهم عامًا بوصية من عمر نفسه، ولم يكن أرشد من هذه التوصية ولا أدنى منها إلى الحزم والرفق جميعًا، فقد أشفق عمر من أن يتعجل الإمام بعده الاستمتاع بالسلطان، فيعزل ويولي ويقطع بذلك ما استأنف العمال من أعمالهم، ويضطرب لذلك أمر المسلمين في الأمصار والثغور. وقد أجاز عثمان هذه الوصية والتزمها، وألزم العمال في عهده أو في العام الأول من عهده السياسية التي كان عمر يأخذهم بها، وهؤلاء هم العمال الذين وجدهم عثمان على أعمالهم فاحتملهم عامًا كاملًا، وعلق سلطانه في الولاية والعزل تعليقًا أثناء هذا العام.

فقد كان على مكة نافع بن عبد الحارث الخزاعي وهو غير قرشي كما ترى، وكان على الطائف سفيان بن عبد الله الثقفي وهو أيضًا غير قرشي، والطائف مدينة ثقيف، وعلى صنعاء يعلى بن منية وليس قرشيًّا صليبة وإنما هو حليف لبني نوفل بن عبد مناف، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة وهو قرشي من مخزوم، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة وهو ثقفي، وعلى البصرة أبو موسى الأشعري وليس قرشيًّا ولا مضريًّا ولا عدنانيًّا، وإنما هو يمني، وعلى مصر عمرو بن العاص وهو قرشي من بني سهم، وعلى حمص عمير بن سعد وهو أنصاري، وعلى دمشق معاوية بن أبي سفيان وهو قرشي من بني أمية، وعلى فلسطين عبد الرحمن بن علقمة وهو كناني، وعلى البحرين وما والاها عثمان بن أبي العاص الثقفي.

فكثرة هؤلاء العمال كما ترى ليست من قريش، وليس فيهم واحد من عدي رهط عمر. ولم يقصر عمر توليته على المضرية ولا على العدنانية، وإنما اختار عماله من العرب الذين حسن إسلامهم وثبتت له كفايتهم، وكان يراقبهم كما علمت في أمور الدين والدنيا جميعًا. فلم يكن للعصبية إذن أثرها فيما كان عمر يمارس من التولية والعزل.

وقد وجد عثمان هؤلاء العمال على أمصارهم وولاياتهم، ووجد الوصية بإبقائهم في مناصبهم، ففعل ولم يباشر توليةً ولا عزلًا في العام الأول من خلافته، ولكنه باشر ما عدا ذلك من شئون السلطان العامة، وأول ما فعل من ذلك، بعد القضاء في أمر عبيد الله بن عمر والهرمزان، وبعد إصدار ما أصدر من الكتب إلى عمال الصلاة والخراج والحرب وإلى عامَّة المسلمين، زيادته في أعطيات الناس؛ فقد زاد الناس في أعطياتهم مائة مائة؟ ولم يكن قد طرأ ما يوجب هذه الزيادة بين موت عمر واستخلافه، أي في أيام لا تكاد تبلغ الأسبوع، فقد أراد عثمان بهذه الزيادة إذن أن يستهل خلافته بالتوسعة على الناس. ولست أدري أكان عثمان خليقًا أن يفعل هذا وأن يُحَمِّل بيت المال هذه النفقات يقتطعها من الإنفاق على المرافق العامة دون أن يطرأ على الناس ما يزيد حاجتهم إلى رفع العطاء، أو دون أن يطرأ على بيت المال من الدخل ما يدعو الخليفة إلى أن يوسع على الناس من فضوله.

وأقل ما توصف به هذه الزيادة أن فيها شيئًا ولو يسيرًا من الانحراف عن سياسة عمر في الإبقاء على بيت المال، وفي ألا ينفق منه إلا بمقدار الحاجة إلى الإنفاق. وقد يكون في هذه الزيادة ما يكاد يُشْعِر بأن عثمان كان يرى تشددًا في سياسة عمر المالية، وكان ينكر هذا التشدد فيما بينه وبين نفسه، وكان يرى أن في بيت المال ما يسع الناس أكثر مما وسعهم أيام عمر؛ فهو نقد غير مباشر لسيرة عمر في سياسة بيت المال.

وما لنا لا نسمي الأشياء بأسمائها ولا نقول إن عثمان قد تقرَّب بهذه السياسة الجديدة إلى عامَّة الناس، وتقرب إليهم على حسابهم؛ فبيت المال لم يكن بيت مال الخليفة، وإنما كان بيت مال المسلمين. وواضح جدًّا أن عثمان لم يتجاوز حقه في ذلك، فما دام المسلمون قد عرفوا للخليفة الحق في أن يفرض لهم العطاء، فهم يعرفون له الحق في أن ينقص هذا العطاء إن اقتضت سياسة بيت المال نقصه، وأن يزيد هذا العطاء إن وجد في بيت المال سعة. ولكن من الواضح أيضًا أن هذه الزيادة من العطاء قد فتحت بابًا لم يكن إلى إغلاقه من سبيل، فما دام الخليفة يستطيع أن يوسع على الناس، فالتوسعة على الناس لا حد لها. وهو إذا وسع على عامَّة الناس اليوم فقد يستطيع أن يوسع على خاصتهم غدًا. وما هي إلا أن ينشأ الإيثار وتكون المحاباة، وينشأ في أثرهما التنافس والتزاحم والتطامع إلى أموال العامة. وقد كان عثمان سخيًّا بماله ينفق منه بغير حساب في سبيل الله، وينفق منه بغير حساب في صلة الرحم وبر الأصدقاء. وليس عليه في ذلك حرج ولا جناح، بل له في ذلك ثواب الله وحسن جزائه. ولكن مال عثمان لم يكن يسع عامَّة الناس، فلم يكن يستطيع أن يزيد عطاءهم من صلب ماله، فليزد عطاءهم من أموالهم، وليفتح على نفسه وعلى الناس بابًا يعرفون كيف يدخلون منه، ولكنهم لا يعرفون كيف يخرجون.

فليس صحيحًا إذن أن عثمان قد لزم سيرة عمر لزومًا دقيقًا في الصدر الأول من خلافته؛ فليس في زيادة العطاء فجاءةً — لا لشيء إلا لأنه تولى الخلافة — لزوم سيرة عمر. وطبيعي ألا ينكر الناس على عثمان زيادته في أعطياتهم؛ فهو قد برَّهم بهذه الزيادة ووسع عليهم في الرزق. والناس لا يكرهون أن يزاد حظهم من الخير، بل طبيعي أن يتنفس الناس الصعداء حين يتولى عثمان أمورهم ويبدأ خلافته بزيادة العطاء، فيعفيهم من شدة عمر، ويأخذهم بالسعة، لا أقول بعد الضيق — فلم يكن عمر يضيق على المسلمين في العطاء — وإنما أقول يأخذهم بالسعة الواسعة بعد أن كان عمر يأخذهم بالسعة المقتصدة. وقد كان عمر يتمثل فيما يظهر في كل لحظة من لحظات حياته هذه الآية الكريمة من القرآن: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا.

ثم لم يكتف عثمان بزيادة العطاء، وإنما وفد الأمصار لأول مرة فيما يقول المؤرخون. ومعنى ذلك أنه دعا الأمصار إلى أن توفد إليه وفودها للعطاء والإجازة، فكان هذا توسعًا في الإنفاق لم يكن عمر يعمد إليه أو يفكر فيه. وكان عمر قد جعل للناس من أهل المدينة عطاء خاصًّا: درهمًا درهمًا في كل يوم من أيام الصوم، ولأزواج النبي درهمين درهمين، يوسعون بها العطاء على أنفسهم وعلى عيالهم، وفضَّل عمر ذلك على إطعام الناس على الموائد العامة؛ إذ رأى في خطته تلك رعاية لكرامتهم وتيسيرًا لهم فيما يحبون من البر بمن يعولون. فلما استخلف عثمان وأقبل شهر الصوم أجرى العطاء الذي كان يجريه عمر، ولكنه مد الموائد بعد ذلك للطارئين وذوي الحاجة.

وما من شك في أن هذا إمعان في البر والرفق، ولكن ما من شك أيضًا أن في هذا إطماعًا للناس في الأموال العامة، وإغواء لكثير منهم بالتزيد في الانتفاع بهذه الأموال. فليس كل الناس قادرًا على أن يتعفف فلا يغشى الموائد العامة إلا حين لا يكون له من غشيانها بد، بل إن كثيرًا من الناس لا يكرهون أن يضيفوا عطاء الصوم إلى عطائهم العام ثم يغشون بعد ذلك الموائد العامة فيطعمون كما يطعم الطارئون وذوو الحاجات.

كل هذا كان توسعة من عثمان على الناس قد يكون فيها الخير، ولكنها لا تخلو من بعض ما يخاف على السياسة والأخلاق جميعًا. ثم هي لا تخلو مما يدعو إلى شيء من سوء الظن بل من سوء الحديث، فمن ذا الذي كان يستطيع أن يمنع النقاد من أن يقولوا لأنفسهم ويقولوا للناس إن في هذه التوسعة نوعًا من أنواع الإذاعة يتحبب بها الإمام إلى رعيته ليكتسب قلوبهم بهذا السخاء؟

على أن سخاء عثمان لم يقف عند هذا الحد؛ إذ لم تكد الأيام تتقدم بخلافته حتى أخذ يصل الأعلام من أصحاب النبي بالصلات فوق ما كان لهم من العطاء المفروض. فهو فيما يروي ابن سعد، قد وصل الزبير بن العوَّام بستمائة ألف، ووصل طلحة بمائتي ألف ونزل له عن دين كان عنده. ويقول ابن سعد إن الزبير حين قبض هذه الصلة جعل يسأل عن خير المال ليستغل صلته، فدل على اتخاذ الدور في الأمصار والأقاليم.

ولم يقف عثمان عند هذا الحد من تجاوز سيرة عمر في سياسته العامة، وإنما خالف عن هذه السيرة مخالفة أشد من هذا كله خطرًا، فأذن لكبار الصحابة في أن يتفرقوا في الأرض ويخرجوا من الحجاز ويلموا بالأقاليم، وكان عمر يحبسهم في المدينة ويأبى عليهم الخروج إلى الأقاليم إلا بإذن خاص منه. وكان يقول إنه واقف لقريش بشعاب الحَرَّة فآخذٌ بحُجُزها فحائل بينها وبين الفتنة. فقد ألغى عثمان هذا الحجر.

وإذا زاد عثمان في العطاء، ثم تجاوز ذلك إلى الجوائز والصلات، ثم أذن لأصحاب هذه الجوائز والصلات أن يتفرقوا في الأرض ويتصلوا بالجند الغالبين وبالرعية المغلوبين، فأي غرابة في أن يعظم ثراء هؤلاء الناس من جهة، ويكثر أتباعهم وأشياعهم من جهة أخرى، ويصبح كل واحد منهم رئيس حزب من الأحزاب يراه أحق الناس بولاية أمور المسلمين، وينتهز الفرصة ليمكِّنه من ولاية أمور المسلمين؟

ما عسى أن يكون مصدر هذا الانحراف عن سيرة عمر وأبي بكر في العمل بعد أن التزمها عثمان في كتبه التي رويناها آنفًا؟ الشيء المحقق هو أن عثمان لم يُدْهِنْ في دينه، والشيء المحقق أيضًا هو أن عثمان لم ير في سياسته تلك مخالفة خطيرة أو غير خطيرة لسيرة الشيخين؛ فهو لم يتعمد الجور ولا المحاباة، وإنما وسع على الناس من أموالهم، رأى في بيت المال غنى فآثر الناس به ولم يغلُ في الادخار. وأي حرج في أن يصل أصحاب النبي بشيء من هذا المال قليل أو كثير وهم أئمة الإسلام وبناة الدولة وأصحاب البلاء الحسن أيام النبي، وهم قد احتملوا من الشدة والحرمان شيئًا كثيرًا. وقد صدق الله وعده وأكثر الخير، فأي الناس أحق من هؤلاء المهاجرين أن يستمتعوا بشيء من هذا الخير الكثير؟!

نعم، لم يشكَّ عثمان في أنه لم يخالف عن السنة الموروثة، وإنما جرى على طبعه السخي من جهة، ووسع على المسلمين من جهة أخرى، ووصل أصحاب رسول الله من جهة ثالثة. وليس في شيء من ذلك مأثم، وإنما هو الخير والبر والمعروف.

ولم ير الناس — فيما يظهر — بشيء من ذلك بأسًا، خيرٌ جاءهم فلم يكرهوه ولم يردُّوه. وليس منهم من يرى بأسًا بأن يوصل السابقون الأولون من المهاجرين وذوو المكانة من أصحاب النبي. وأحسب أن عثمان لو وقف عند هذا الحد من السخاء والتوسعة على الناس وإجزال الصلات للأعلام من أصحاب النبي، لما أنكر الناس عليه شيئًا. وهذا هو السر الذي يفسر ما يقول المؤرخون مجمعين عليه غير مختلفين فيه من أن الصدر الأول من خلافة عثمان كان صدر رضا وطمأنينة، ومن أن المسلمين أحبوا خلافة عثمان للينها ويسرها وسخائها وإسماحها أكثر مما أحبوا سياسة عمر لشدتها وقسوتها وحزمها الذي كان يحتاج إلى كثير من الصبر وحمل النفوس على ما لا تطيق إلا بالجهد والعنف العنيف.

وقد يكون من الخير أن ندع عثمان في العام الأول أو في الأعوام الأولى من خلافته يباشر سياسته هذه اليسيرة السمحة التي حببته إلى الناس، وأن ننظر إلى هؤلاء الناس الذين تألفهم عثمان بهذه السياسة الرقيقة الرفيقة، لنرى أكان من الممكن أن يتألفوا بهذه السياسة دون أن ينتهي أمرهم إلى الاختلاط والانتشار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤