خط النسيان

رأيتَ أن خط التعلم يسير صاعدًا، وسوف نُبيِّن لكَ أن خط النسيان على العكس يتجه هابطًا.

وهذا الخط البياني الذي نُحدِّثك عنه يتعلق بالنسيان الطبيعي، أما النسيان الشاذ، أو أمراض الذاكرة، فهذا ما نُرجئ الحديث عنه إلى فصلٍ آخر.

وكما أن التعلُّم أنواع فكذلك النسيان، فقد فرَّقنا بين ذاكرة العادة كالسباحة وركوب الدراجة ولعب البلياردو وقيادة السيارة والضرب على الآلة الكاتبة، وبين ذاكرة المعرفة أو الذاكرة اللفظية مثل حفظ سُوَرٍ من القرآن الكريم أو قصائدَ من الشعر أو جدول الضرب في الحساب وغير ذلك؛ وليس نسيان السباحة مثل نسيان سورةٍ قرآنية. ولو انقطعَت عن ركوب الدراجة عشرين عامًا وجرَّبتَ ركوبها بعد ذلك لوجدتَ أنك لم تَنسَ تلك الخبرة التي اكتسبتَها أيام الصبا والشباب، ولكنكَ إذا عُدتَ عشرين عامًا إلى الوراء تسترجع قصيدةً لامرئ القيس كنت تحفظها أيام الطلب لم يَجْرِ على لسانك من أبياتها إلا البيتُ أو البيتان، أو شطرةٌ من بيت.

هل يجري النسيان طبقًا لقانون؟ وهل يكون النسيان كاملًا؟ وما هي عوامل النسيان؟

وقد اختلف العلماء في أمر النسيان، فذهب بعضهم إلى أن كل ما يدخل في خبرة المرء ويتأثَّر به لا يزول أبدًا ولا يُمحى، وذهب بعضهم الآخر إلى أن الإنسان لا يمكن أن يحتفظ بكل شيء، وقال بعضهم الثالث إن الأمور التي سبق حفظُها حفظًا جيدًا وثبتَت مع التَّكرار، هي التي لا تُنسى ويمكن استرجاعها في ظروفٍ خاصة، مثل حالات الهذيان، أو التنويم المغناطيس. وقد رُوِيَ عن شخصٍ تكلم بلغةٍ أجنبية كان قد تعلَّمها وهو في سن الثالثة ونَسِيها تمامًا. ويقول «تين» في كتابه «الذكاء» ما فحواه: لا يمكن معرفة حدود هذه الذكريات القديمة، ولا بد أن نُسلِّم بأن أي إحساسٍ مهما يكن عابرًا تافهًا باهتًا، له القدرة على الظهور دون أن يُفقَد منه شيء.

روى أبركرومبي في كتابه عن «القوة العقلية» القصة التالية قال: «أُصيبَت سيدةٌ بمرضٍ مزمن فنُقلَت من لندن إلى الريف، وأحضروا إليها ذات يومٍ طفلتها ولم تكن تتكلم بعدُ، حيث مكثَت معها فترةً قليلة ثم أعادوها إلى المدينة. وتُوفِّيَت السيدة بعد أيام، وكَبِرتْ طفلتها دون أن تذكُر شيئًا عن أمها. وأُتيحَت لها فرصة زيارة الحجرة التي تُوفِّيَت أمها فيها، فلما دخلَت الغرفة ارتعشت مع أنها لا تعرفها، فلما سُئلَت عن علة انفعالها أجابت: إني أُحسُّ إحساسًا واضحًا كأني جئتُ من قبلُ إلى هذه الحجرة، وكان في هذا الركن امرأةٌ راقدة، يبدو أنها كانت مريضةً جدًّا، وانعطفَت نحوي وكانت تبكي.»

وشبيهٌ بذلك ما رواه كاربنتر في كتابه «الفسيولوجيا العقلية» قال: ذهب رجلٌ له مزاج فنان مع بعض أصدقائه في رحلة على مقربة من قصر الكونت دي سوسكس الذي لا يذكر أنه زاره من قبلُ، فلما اقترب من الباب الكبير أحسَّ إحساسًا شديدًا بأنه سبقَت له رؤيته، بل تذكَّر كذلك قومًا يركبون حميرًا وآخرين يقفون إلى جوارها، فسأل أمه عن حقيقة الحال، فأخبَرَتْه أنه وهو طفل يبلغ ستة عشر شهرًا ذهب إلى ذلك المكان على ظهر حمار، وأنه بقي بالباب مع الحمير والخدم على حين دخل الآخرون القَصْر يتناولون الطعام.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن بعض علماء النفس الذين يدينون بمذهب اللاشعور وأثَره في الحياة النفسية، يزعمون أن الذكريات التي يُخيَّل إلينا أنها قد انمحَت في الظاهر ولا يمكن استرجاعها، لا تزال موجودة في اللاشعور تعمل وتُؤثِّر وتُحرِّك صاحبها، وهؤلاء العلماء يفترضون أن كل ما يكسب المرء يظل باقيًا في حالة من الكمون.

ومن ناحيةٍ أخرى يُضطَر بعض العلماء إلى القول بوجود النسيان وضرورته، فهذا تين Taine الذي افترض من قبلُ الذكر الكامل يقول في مكانٍ آخر: إننا إذا وازنَّا بين الإحساسات المختلفة والصور المتباينة والمعاني المتعددة، لوجدنا أن نزوعها إلى الذكر ليس بمنزلةٍ واحدة؛ إذ ينمحي كثيرٌ منها ولا تظهر إلى آخر الحياة. مثال ذلك أني ذهبتُ أول أمسِ لشراء بعض الحاجيات من السوق في باريس، ورأيتُ في الطريق مئاتٍ من الوجوه الجديدة لا أذكر أي وجهٍ منها.
ويقول دلبيف Delbœuf في مقالة عن النوم والأحلام في المجلة الفلسفية: «هناك بعض الحق في الرأي القائل بأن الذاكرة لا تُصاب بالتعب فحسبُ بل تُمحى أيضًا، وإذا لم تطرد إحدى الذكريات صاحبتها، فهي على الأقل تعوقُها عن الظهور، بحيث يمكن القول بأن المخ يبلغ حدًّا من التشبُّع عند الفرد.»

هذه الفكرة، نعني «التشبُّع»، هي التي عَوَّل عليها «ريبو» في بيان أهمية النسيان؛ إذ بفضله يتيسر الاحتفاظ بما يكتسبه المرء فترةً طويلة من الزمن. ومن أجل ذلك رأى بعض العلماء أن النسيان وظيفةٌ حيوية إيجابية، وأنه نشاطٌ ذهني نافع في حذفِ ما لا يحتاجه العقل وما لا أهمية له.

وإذا أبعدنا هذه النظريات كلها جانبًا، رأينا أن النسيان حقيقةٌ لا ريب فيها.

وقد اتجه بعض العلماء في بحثهم هذا الموضوع اتجاهًا تجريبيًّا، وخرجوا بقانون النسيان الذي صاغوه صياغةً رياضية خاصة، ورسموه في خطٍّ بياني سمَّوه خط النسيان. والفضل في هذه المباحث للعالم النفساني إينجهاوس، وتَبِعَه في ذلك كثيرون.

واعلم أن خط النسيان يتذبذب كما هي الحال في خط التعلُّم. والواقع أنه لا ينبغي الفصل بين الحفظ والنسيان؛ إذ كلاهما مكملٌ للآخر، أو قل إن التعلُّم صراع بين الحفظ الذي يتميز بالممارسة، والنسيان الذي يزيد بالترك. ولذلك قيل في الأمثال «آفة النسيان الترك.» وتتضح هذه الحقيقة من الرسم البياني الآتي:

وتُجرى التجارب على النسيان، بأن يحفظ عددٌ من الطلبة شيئًا مُعينًا مثل بعض الألفاظ، ثم يُختبرون بعد ذلك، البعض بعد ساعة، والبعض الآخر بعد يوم، والبعض الثالث بعد يومَين وهكذا. وقد دلَّت التجارب على أن النسيان يكون سريعًا جدًّا بعد الحفظ مباشرة. وأوَّل من أجرى هذه التجارب هو هرمان إينجهاوس الذي جرَّب على نفسه أن يحفظ مقاطعَ لا معنى لها، ثم اختبر نفسه في اليوم التالي، فوجد أنه لم يسترجع إلا ثُلثها تقريبًا، واستمر النسيان بعد ذلك ولكن ببطء.

على أن قيمة تجارب إينجهاوس ترجع إثبات هذه الحقيقة، وهي أن ما سبق اكتسابه ونُسِي، يمكن أن يحيا باكتسابٍ جديد مع الاقتصاد في الزمن، وهذا دليل على بقاءِ أثَر ما حُفِظ. مثال ذلك أنه إذا لزم تكرار مقاطع لا معنى لها ٢٠ مرة لحفظها، فإنه يكفي إذا نسيت أن تُكرَّر ٥ مرات؛ أي إن نسبة الاقتصاد هي ١٥ إلى ٢٠ أي ٧٥٪، وتحتاج بعد ذلك إلى اقتصاد ١٠ مرات أي ٥٠٪ وهكذا.

ويتضح بمقتضى هذه التجارب أن النسيان أمرٌ طبيعي وتلقائي ومنتظم، ولو أن بعض العلماء من أصحاب التحليل النفساني، وعلى رأسهم فرويد، يَرَوْن غير هذا الرأي، فيذهبون إلى أن النسيان راجع إلى «الكبت» وإلى الرغبة اللاشعورية في هذا النسيان.

وقد حَسبَ كثير من العلماء في تجاربهم على الاقتصاد في الزمن واتجاه خط النسيان وطلعوا بنتائجَ متقاربة. وهذه إحدى التجارب:

الفترة بالساعة نسبة الاقتصاد
٢٤ ساعة (١ يوم) ٦٨٫٩٪
٤٨ ساعة (يومان) ٦٠٫٩٪
١٤٤ ساعة (٦ أيام) ٤٩٫٣٪
٣٤٦ ساعة (١٤ يومًا) ٤١٫٠٪
٥٠٤ ساعة (٢١ يومًا) ٣٧٫٨٪

وهذا هو الخط البياني للنسيان:

ويُصاغ هذا القانون في معادلةٍ جبرية، فإذا رمزنا للزمن بحرف م، وبالمادة التي تحفظ بحرف د، وبمقدار الاقتصاد بحرف ق كانت المعادلة كما يأتي:

ق =

هذا القانون عام، ولكنا إذا نظرنا إلى الأفراد نجد أنهم يختلفون فيما بينهم اختلافًا كبيرًا، وكذلك إذا نظرنا إلى طبيعة الأشياء التي حُفِظَت ثم تُنسَى فيما بعدُ.

فالأعمال الآلية أعظم ثباتًا كما تُوضِّح التجارب الآتية: تعلَّم شخصٌ الآلة الكاتبة حتى بلغ من المهارة أن يكتب ١١٠٠ كلمة في الساعة بعد تدريب استمر ٤٨ يومًا، ثم انقطع عن الكتابة سنتَين، فاحتاج إلى عشرة أيام ليبلغ المستوى السابق؛ أي باقتصاد قدره ٧٩٪.

ورَوَى سويفت Swift من علماء النفس أنه قضى ٤٢ يومًا في تعلُّم قذف الكرة، واحتاج إلى ١١ يومًا بعد ست سنواتٍ ليسترجع ما سبق أن بلغه؛ أي باقتصادٍ قدْرُه ٧٤ ٪.

أما الذاكرة اللفظية فلها شأنٌ آخر؛ لأن الألفاظ منها حروف، ومنها مقاطعُ لا معنى لها، ومنها أسماء أعلام، ومنها أسماء أشياء، ومنها أسماءٌ كلية عامة، ومنها صفات، ومنها ظروف وحروف جر تصل الكلام بعضه ببعضه الآخر، ومنها أفعال، وهذه كلها تتبع قانونًا في نسيانها وضعه «ريبو» في كتابه «أمراض الذاكرة»، أو أنه وضع قانونَين؛ الأول خاص بتعلُّم اللغة إطلاقًا لغة الكلام العقلي، ولغة الانفعالات، ولغة الإشارة؛ والثاني خاص بلغة الكلام العقلي.

وطبقًا للقانون الأول تُنسى اللغة العقلية أولًا، ثم اللغة الانفعالية كعبارات التعجُّب ثانيًا، ثم لغة الإشارة ثالثًا.

أما فيما يختص باللغة العقلية فإنها تخضع في نسيانها لهذا القانون، وهو الاتجاه من الخاص إلى العام، كما تعلَّم الطفل فهو يبدأ بالخاص وينتهي بالعام، ويسير النسيان بالعكس، فيبدأ بأسماء الأشخاص أو الأعلام، ثم بأسماء المحسوسات، ثم بالصفات ثم بالأفعال. وتستطيع أن تُفسِّر بهذا القانون العلة في نسيان أسماء الأصدقاء مع الاحتفاظ بصورهم، فكثيرًا ما تلتقي بشخصٍ تذكُره جيدًا وتذكُر عمله، ولكنك تنسى اسمه. أما فرويد فله في نسيان الأسماء تعليلٌ آخر.

ويعتمد برجسون على هذا القانون في البرهنة على أن الذاكرة لا تنطبع في المخ؛ لأن الألفاظ إذا كانت قد حُفرَت في المخ فلماذا تختفي أسماء الأعلام دون الأفعال. أما الأفعال فإنها تدل على العمل، وأن العمل يمكن محاكاته فيُكتسب عن هذا الطريق، وبذلك تدخل الأفعال في الأعمال الآلية، وأن الصفات تكون عملية عن طريق الأفعال التي تحتويها، أما الأسماء فتحتاج إلى وساطة الصفات ثم الأفعال، فكلما ابتعدنا عن الأفعال إلى الأسماء ابتعدنا عن الأعمال التي يمكن تقليدها بواسطة الجسم، فهذه هي خلاصة تفسير برجسون لنسيان الأسماء والأفعال.

جملة القول إذا كانت الحياة العقلية تشمل المحسوسات والصور الذهنية والمجردات التي تدل على المحسوسات كالرموز والأرقام والأسماء الشخصية والمعاني الكلية والقوانين العامة، مثل قانون العرض والطلب في الاقتصاد وما إلى ذلك، فإنها آخر ما تُنسَى، ويُوضِّح هذا الخط البياني نسبة النسيان في الأسماء والوقائع وفي المعاني الكلية والقوانين العامة.

ومن جملة القوانين التي أوضحَتْها تجارب علم النفس الخاصة بالتذكر والنسيان، أن ما يُحفظ لأول مرة يغيب في هوةٍ من النسيان تمتد من يوم إلى ثلاثة أيامٍ باختلاف الأفراد، ثم يُذكر بعد ذلك. لنفرض أنكَ حفظتَ قصيدةً جديدة من الشعر لأول مرة، ثم أردتَ استرجاعها بعد يومَين، فإنك لا تجد إلى تذكُّرها سبيلًا، وفي اليوم الثالث تذكُرها. وتُسمَّى هذه المدة هوة أو فترة النسيان. ولذلك كان من الخطأ الشديد أن يستذكر الطالب درسه الذي سوف يُمتحَن فيه ليلة الامتحان. ويبدو أن العقل يعمل لا شعوريًّا، فيربط ما تُحصِّله بجملة ما يحتويه الذهن ويحتاج إلى هذه الفترة حتى يَستقرَّ ما يكتسبه.

وقد أجمع المُحدَثون على أن السبب الأول في النسيان هو اختلاطُ الحفظ، أو تدخُّل شيءٍ جديد فيما تحفظه أو تدركه، فيُعطِّل أحدهما الآخر، فلو أن تاجرًا تقدَّم إليه شخصٌ اسمه حسن عبد المجيد، وفي الوقت نفسه آخرُ اسمه حسين كامل، وثالثٌ اسمه محمود عبد الواحد، ثم أراد بعد شهر أن يذكر اسم الأول لنسيه، أو على الأقل إذا كانت ذاكرته جيدة لقال حسين عبد المجيد بدلًا من حسن، أو حسين عبد الواحد، فجعل يخلط بينهم. والأغلب أن التداخُل يؤدي إلى التوقُّف والتعطيل. ويُلاحَظ أن الطالب في الفصل المدرسي إذا جلس يتحدث مع زميله لم يستطع أن يتذكَّر درس الأستاذ، ولذلك ينبغي الهدوء التام ساعة إلقاء الدرس. وإذا استذكر الطالب دروسه في المنزل بين ضجيج أهل الدار أو أهل الحي، وجد صعوبةً في التذكر فيما بعدُ، وكيف يتسنى للطالب الحفظُ على حين يعلو صوتُ المذياع طول الليل وخاصة في الأحياء الوطنية، وهي أحياءٌ شديدة الازدحام بالسكان، ولا يخلو الأمر من وفاة أو زفاف، فتُقام ليالي المأتم أو الزفاف في ضجَّةٍ شديدة، حتى لقد كثرت الشكوى وأراد بعض أُولي الأمر منع استعمال المذياع بسلطة القانون. وأفضل من ذلك أن يقطن المرء في الضواحي حيث يضمن الهدوء، فينصرف إلى عمله العقلي دون أن يعوقَه عائق.

وليس من الضروري أن يكون العائق ساعة الحفظ، بل قد يكون بعد الحفظ، وقد يكون مستمرًّا، في صورة الهموم التي تنتابُ المرء. وانظر إلى شخصٍ قد تُوفِّي ابنه، أو هو طريحُ الفراش لا يجد له علاجًا، أو إلى تاجرٍ قد تراكمَت عليه الديون، تجده شارد الذهن ينسى كل شيء حتى الأعمال الآلية، فإذا به يغفُل عن طعامه؛ فالهموم من المُعوِّقات التي تتدخَّل في المحفوظات الذهنية فتُعطِّلها.

ويُسمَّى هذا التدخُّل في الحفظ بالاصطلاح العلمي «المانع المعاكس» Retroactive inhibition.

فإذا شاء أحدنا أن يذكُر شيئًا ولا ينساه، فعليه أن يحفظَه وَحْدَه، وأن ينقطع له، ولا يسمح لشيءٍ آخر أن يعوق ما يحفظُه.

figure
أما العامل الثاني في الذكر والنسيان، فهو الراحة الجسمية أو التعب والإجهاد. وقد أثبتَت التجارب أن التذكُّر يكون أفضل بعد «النوم»، ولذلك نصحوا بأن ينام المرء بعد الحفظ حتى يثبت ما يحفظه. ويلجأ بعض الطلبة إلى السهر طول ليلة الامتحان، فإذا به لا يستطيع أن يتذكَّر ما حفظه، مع أنه لو نام نومًا كافيًا ما نسي. ويبدو أن المعلومات تستقر في الذهن لا شعوريًّا، وأن العقل يعمل في اللاشعور، بدليل أن الذي يُفكِّر في مسألة هندسية مثلًا يجد حلَّها فجأة دون أن يُفكِّر فيها بوعي. وفي حالات الجَوَلان النومي Somnambulisme ينهض الشخص من فراشه ويجلس إلى مكتبه يعمل ويُؤلِّف ثم يعود إلى فراشه ثانيًا، حتى إذا استيقظ لم يذكُر مما فعله شيئًا. وليس هذا غريبًا لأن بعض الناس يتكلمون وهم نيام، فإذا سُئلوا بعد اليقظة أنكروا أنهم كانوا يتكلمون. واعتمادًا على هذه الحقيقة — نعني وجود المعلومات في اللاشعور وصعوبة تذكُّرها في حالة اليقظة — يلجأ علماء النفس إلى التنويم المغناطيسي إذا أرادوا معرفة بعض الحوادث التي نَسِيَها المريض. هذا ويُعلِّل بعض العلماء تذكُّر المرء الماضي في حالة التنويم المغناطيسي، بأنه يكون منقطعًا انقطاعًا تامًّا إلى هذا التذكُّر، لا يشغله شيءٌ آخر، فضلًا عن ارتياحه. وليس من الضروري أن يلجأ العالم النفساني إلى التنويم المغناطيسي في استحضار الذكريات الماضية؛ إذ يكفي أن يُجلِسَ المريض جلسةً مريحة في مكانٍ هادئ وأن يدعه يتكلم بطريقة «التداعي الحر». وكثيرًا ما يتوقف المريض؛ لأن في قرارة نفسه أمورًا لا يريد إظهارها، أو يرغب في كبتها ونسيانها. وبذلك نرجع إلى القاعدة الأولى في النسيان، وهي وجود الموانع الحائلة دون التذكُّر.

وقد فطن القدماء بالتجربة الشخصية إلى ما فطن إليه العلماء المَحدَثون بالتجارب العلمية، فهذا أبو تمام يُوصي البحتري في صدْر وصيته بالقاعدتَين اللتَين ذكرناهما وهما الابتعاد عن الشواغل والنوم للراحة. وهذه هي الوصية بألفاظها كما رواها البحتري قال: «كنتُ في حداثتي أروم الشعر، وكنتُ أرجع فيه إلى طبعي، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضائه حتى قصدتُ أبا تمام، وانقطعتُ فيه إليه، واتكلتُ في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة، تخيَّر الأوقات وأنت قليل الهموم صفو من الغموم. واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليفِ شيء أو حفظه وقتَ السحر؛ وذلك أن النفس تكون قد أخذَت حظها من الراحة وقسطها من النوم …»

ووصية أبي تمام وصية خبيرٍ بالحفظ والرواية عليمٍ بأسباب النسيان، وكان فيما قال جيد الذاكرة يحفظ الشعر إذا سمعه مرةً واحدة، فقد اتصل البحتري بأبي تمام وسعى إليه في حمص فأنشده قصيدةً حفظها أبو تمام لأول مرة، ادَّعاها ليُكدِّر على البحتري خاطره أو ليُعاقبه على تقحُّمه عليه مواطن الإنشاد، ثم عاد فأفهمه أنه يُداعبه.

ويتضح من ذلك أن حفظ الشعر أيسر من حفظ النثر، وليس يعلو عليه إلا حفظ المعقولات التي يدركها الإنسان ببصيرة العقل لا عن محاولة وتعثُّر أو تقليد ومحاكاة. وهذا هو خط النسيان الذي رسمه جلفورد Guilford أحد علماء النفس يُبيِّن فيه نسبة نسيان المعقولات والشعر والنثر والمقاطع التي لا معنى لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤