فقدان الذاكرة

هذه قصةٌ قرأتُها في جريدة «الأخبار الجديدة» بتاريخ ١٨/  ٩/  ١٩٥٣ عن شابٍّ في التاسعة عشرة من عمره فقَد الذاكرة، ولا يعرف اسمه، ولا بلده، ولا أهله، ولا صناعته، ولا تاريخ حياته، ثم فقَد النطق بعد أن فقَد الذاكرة.

وأول مرة أُغمي عليه فيها هي ٢٦/  ٨/  ١٩٥٣، وأصبح لا يذكُر شيئًا عن ماضيه قبل ذلك. وقد استيقظ من إغمائه ليجد نفسه فجأةً في منزل رجلٍ فقير لا يعرفه، أخذ يُعنى به حتى إذا عاد إلى نفسه واستمع إلى صاحب الدار يَرْوي له كيف وجده مُغمَى عليه في الطريق، أسرع بالخروج إلى الطريق مرةً ثانية. وحاول أن يتذكَّر عنوانه أو الحادثة التي وقعَت له، أو حتى اسمه، فلم يستطع. وعندئذٍ عرف أنه فقَد ذاكرته، وفقَد أهله، وفقَد ماضيه، كأنه وُلِد من جديد. وسار في الطرقات على غير هدًى بلا هدف يحاول البحث عن أهله دون جدوى. وشعر في أثناء سيره بشارع الأزهر بثقلٍ شديد في رأسه فقَد على أثَره الحس، وأفاق من غيبوبته ليجد نفسه في مستشفى الدمرداش وحوله جمعٌ من الأطباء، قالوا إنه تناول مخدرًا قويًّا أفقَدَه الذاكرة، فأُجريَ له غسيل في المعدة ولم يُعثر على أي أثَرٍ لمخدر، ثم جاءه ذات صباحٍ ضابطٌ وبعض رجال البوليس وأخذوه من المستشفى إلى قسم الدرب الأحمر حيث حُجز خمس ليالٍ، ثم أُخلي سبيله.

وأُغمي عليه مرةً ثانية، ولكنه أفاق ليجد نفسه فاقد النطق أيضًا، وأصبح كالحيوان الأعجم لا يخاطب الناس إلا بالإشارة، وعندئذٍ سعى إلى الانتحار بسكين، بعد أن فقَد وعيه، وعثَر عليه أحد رجال البوليس، ونُقل إلى مستشفى الدمرداش، حيث صوَّروا المخ بالأشعة فلم يظهر بها أي أثرٍ لاختلالٍ غير طبيعي.

وطلب ورقًا وقلمًا، وكتب ما يأتي: «حياةٌ فارغة … عديمة اللون … عديمة الطعم … لا أهل ولا أصدقاء … حتى اسمي الذي حملتُه ما يزيد على تسعة عشر عامًا فقَدتُه في ثوانٍ …»

وطلب الشابُّ أن تُنشر صورته لعل أهله يتعرَّفون عليه.

ولم أتتبَّع هذه الحالة لبحثها ومعرفة العلة في هذا المرض النفساني. وإنما أحببتُ أن أُبيِّن كيف يقع بعض الناس فريسة فقدان الذاكرة فقدانًا تامًّا، وليس هذا من الغريب.

وقد قسَّم العلماء أمراض فقدان الذاكرة قسمَين؛ الأول عضوي Organogènes والثاني نفساني Psychogènes، فالقسم الأول — وهو العضوي — يرجع إلى إصابة المخ لأي سببٍ من الأسباب من عَدْوى أو سموم أو أورام، ولذلك يجب أن يتجه الطبيب إلى بحث المخ لمعرفة السبب، فلو أن فقدان الذاكرة يرجع إلى إصابة المريض بمرض الزهري، أو بورمٍ في المخ، فإن علاج الزهري أو استئصال الورم يؤدي إلى شفاء المريض واستعادته ذاكرتَه. ولا نزاع في وجود علاقة بين المخ والذاكرة، بدليل أن الشخصَ إذا وقع على رأسه أو ضرب ضربًا قويًّا على رأسه، فإنه يفقد الذاكرة فقدانًا «مؤقتًا»؛ نعني لفترةٍ بسيطةٍ من الزمن قد تكون ساعة أو يومًا أو شهرًا، وقد تمتد إلى الماضي كله، كما حدَث في حالة صاحبنا الذي ذكرناه في أول هذا الفصل، وقد تُمحى صفحةٌ واحدة من الماضي أو عدة صفحات. وهذه كلها أمراضٌ نفسانية لا يكفي في تفسيرها إصابة المخ. وكان العلماء في القرن التاسع عشر قد اصطنعوا النظرية المادية في تفسير النسيان، واعتنق «ريبو» — بوجهٍ خاص — مذهب انطباع الصور في المخ، وذهب إلى أن إصابةَ أي مركزٍ من المراكز في المخ هو الذي يؤدي إلى النسيان، ولكن هذه النظرية لم تقف طويلًا أمام النقد القائم على المشاهدات؛ لأن الذكريات لا تُمحى، بل تختفي فقط، ثم تعود إلى الظهور. ومن أجل ذلك درس بعض العلماء القوانين النفسانية التي يخضع النسيان لها، وصاغ في ذلك جاكسون Jackson قانونًا يُعرف باسم قانون «الانحلال» Dissolution تتراجع فيه الذكريات من التعقيد إلى البساطة، ومن الإرادة إلى الآلية. وإذا طبَّقنا هذا القانون على الحالة المذكورة سابقًا رأيناه مستقيمًا، فقد نسي الشاب كل شيء ما عدا الأعمال الآلية، كالمشي والأكل واللبس، والكتابة.

وللعلماء تقسيماتٌ كثيرة لأنواع فقدان الذاكرة، فهذا «ريبو» يُقسِّمها قسمَين كبيرَين؛ أمراض عامة، وأمراض جزئية للذاكرة، أما الأمراض العامة فيُقسِّمها بدورها أقسامًا؛ مؤقتة، ودورية، ومتقدمة، ووراثية. والأمراض الجزئية هي تلك التي تتناول نواحيَ خاصة، مثل نسيان الأسماء أو الأشكال وما إلى ذلك. ونحن ننقل عن كتابه «أمراض الذاكرة» بعض الأمثلة.

وينشأ فقدان الذاكرة المؤقت غالبًا فجأة، وينتهي كذلك بطريقةٍ غير منتظرة، وقد يستغرق هذا الفقدان دقائق، وقد يمتد سنوات، فهذا مريض يذهب لاستشارة طبيبٍ ويُصاب فجأة بنوبة صرع، حتى إذا أفاق منها، نسي أنه دفع للطبيب أجره قبل دقائق.

وذهب مُوظَّفٌ إلى مكتبه وهو يُحِسُّ باختلاط في ذهنه، ويتذكَّر أنه كان قد طلب طعامًا من أحد المطاعم، ونسي كل شيءٍ بعد ذلك، فعاد إلى المطعم، وهناك علم أنه طلب الطعام وتناوَلَه ودفع ثمنه، وأنه خرج متوجهًا إلى مكتبه، واستمرت هذه الفترة من النسيان ثلاثة أرباع الساعة.

وأُصيب شخصٌ بنوبة صرعٍ في دُكَّان وسقَط مغشيًّا عليه، ثم أفاق ونهض وجرى من الدكان تاركًا قُبعته وبطاقته، ووجد نفسه على بعد نصف كيلومتر من ذلك المكان، فبحث عن قُبعته في جميع الدكاكين، ولم يكن يدري ما يفعل، ولم يعُد إلى تمام وعيه إلا بعد عشر دقائق.

ويُروى عن أحد العلماء أنه اجتمع في مؤتمرٍ في فندق باريس، فخرج عاري الرأس وذهب إلى شاطئ السين، ثم عاد إلى مكانه من المؤتمر يشترك في مناقشاته دون أن يذكر شيئًا مما فعل.

وتزوجَت سيدة من رجلٍ تُحبُّه حبًّا شديدًا، ثم أُصيبَت بنوبة إغماءٍ استيقظَت بعدها لتنسى كل شيء عن حياتها من بدء زواجها، ولكنها تذكُر ما قبل ذلك، وإذا تقدَّم زوجها وابنها دفعَتْهم بعيدًا عنها، وجاء أهلها وأخذوا يقنعونها أنها متزوجةٌ وذاتُ ولد، فكانت تُؤمِّن على كلامهم وتتهم ذاكرتها حتى لا تتهمهم جميعًا بالادِّعاء والكذب، ولكنها ترى زوجها وابنها، فتعجب كيف تزوَّجَت هذا الرجل وكيف أنجبَت هذا الغلام.

وهذه سيدةٌ أخرى في الرابعة والعشرين من عمرها أصيبت بحالة تدفعها إلى النوم، حتى أصبح من العسير تغذيتُها فكانوا يضعون ملعقةً في فمها تبلع منها الطعام. وبعد شهرَين شُفيَت من ذلك المرض، واستيقظَت لتجد نفسها قد نَسِيَت كل شيء، وأنها فقدَت ذاكرتها، وغاب عنها كلُّ ما تعلَّمَتْه، وأصبح كل شيء تراه جديدًا بالنسبة إليها، فهي لا تعرف أحدًا حتى أقرباءَها الأقربين، ولكنها كانت مرحةً شديدة الحركة تبدو كأنها طفلة. وفي أول الأمر كان من المستحيل أن يتحادث المرء وإيَّاها، فإذا سمعَت سؤالًا ردَّدَته في صوتٍ مرتفع، ولم يبقَ في قاموسها إلا بضعُ كلمات، ثم أخذَت تكتسب بسرعة كلماتٍ أخرى، ولكنها كانت تخلط بين الألفاظ، بدلًا من أبيض تقول أسود، وإذا وصفَت الحارَّ قالت إنه بارد، وهذه ذراعي بدلًا من فخذي، وهذه سِنَّتي بدلًا من عيني، وغير ذلك، وظلت على هذه الحال مدةً طويلة. وبقيَت فترةً طويلة لا تذكُر أهلها، ولو أنها كانت تعرفهم بأسمائهم التي علَّموهم إياها. وتعلَّمَت القراءة من جديد، واضطُرت إلى تعلم الألف باء؛ لأنها لم تذكر حتى الحروف، ثم تعلَّمَت المقاطع والكلمات وأصبحَت تقرأ في سهولة.

وهذا شخصٌ آخر في الثلاثين من عمره، فقَد ذاكرته عقب مرضٍ شديد وأصبح لا يعرف حتى أسماء الأشياء المألوفة، فلما استعاد صحته بدأ يتعلم من جديد كأنه طفل، فتعلم أسماء الأشياء، ثم القراءة، ثم أخذ يتعلم اللغة اللاتينية، وكان يتقدم في تعلُّمه بسرعة. وكان أخوه هو الذي يقوم بتعليمه، فتوقَّف ذات يوم فجأة، ووضع يده على جبهته، وقال: إني أُحِسُّ في رأسي إحساسًا غريبًا؛ إذ يُخيَّل إليَّ الآن أن كل ذلك قد علمتُه من قبل. واستعاد بعد ذلك ذاكرته.

وإليك قصةَ سيدة نصف كانت في صحةٍ جيدة، ثم سقطَت في حادثة في النهر وكادت أن تغرق، وظلَّت ست ساعاتٍ من دون وعي، ثم عادت إلى نفسها. وبعد عشرة أيام أُصيبت بإغماءٍ تام استمر أربع ساعات، فلما فتحَت عينيها لم تعُد تعرف أحدًا، حتى لقد ذهب سمعُها وفقدَت النطق، والذوق والشم، ولم يبقَ لها من الحواس إلا البصر واللمس الذي كان شديد الحساسية، وأصبحَت بذلك جاهلة بكل شيء، عاجزة عن التحرُّك بنفسها، حتى أضحت كالحيوان الذي انتُزع مخه. وكانت ذات شهيةٍ جيدة للأكل، إلا أنه كان من الواجب إطعامُها، وكانت تبلع الطعام بطريقةٍ آلية. جملة القول ارتدَّت السيدة إلى آليةٍ خالصة، ولم تكن تعمل شيئًا إلا أن تقطع ما يقع تحت يدها، كالورق، أو الزهر، أو الملابس، قطعًا صغيرة. وبعد فترة من التعليم أصبحَت تشتغل بالإبرة من الصباح إلى المساء، ولم تكن تُميِّز بين الأيام، ولكنها كالأطفال أخذَت تكتسب بعض الخبرات، وأخذَت تتعلَّم نسج السجاد.

وكان هناك موضوعان يُؤثِّران عليها أشد التأثير، سقوطها في النهر، وقصة غرامٍ قديم، فإذا رأت صورة نهر أو بحر تهيجَّتَ هياجًا عظيمًا يعقبُه صرع وإغماء، وكان صوتُ الماء يثير فيها خوفًا يجعلها ترتعش، فإذا غسلَت يدَيها وضعَتْهما في الماء وضعًا دون تحريكهما. ومنذ ابتداء مرضها كانت زيارة رجلٍ معين لها تبعث فيها سرورًا ظاهرًا، على حين أنها كانت لا تَحفِل بغيره، وكان يزورها بانتظامٍ كلَّ مساء، كما كانت تنتظر كذلك حضوره. ومع أنها لم تكن تذكُر شيئًا مما تفعل، فإنها كانت تترقَّب بشغف أن يُفتح الباب في الساعة المعلومة، وإذا لم يحضُر صاحبها ظلت واجمةً طول الليل. جملة القول إن وجود هذا الرجل إلى جانبها كان يزيد في تحسُّن حالتها الطبيعية والنفسية. وأخذَت تستعيد ذاكرتها شيئًا فشيئًا، غير أن الطريقة التي شُفِيَت بها تمامًا تُعَد عجيبةً حقًّا؛ إذ إنها علِمَت أن حبيبها يغازل امرأةً أخرى، فثارت فيها عاطفة «الغَيْرة»، وأحدثَت هذه الغَيْرة ذات يوم حالةً تكاد تشبه حالتها الأولى، حتى إذا أفاقت من إغمائها إذ بها تسترجع ذاكرتها التي فقدتها مدة عامٍ كامل، وعرفَت جدَّها وجدَّتها وأصدقاءها القدامى، ولكنها بعد أن استعادت ذاكرتها الماضية، نَسِيَت كل شيء عن الفترة التي قضَتْها خلال المرض حتى ذلك الوقت.

ولا نوَدُّ أن نُطيل في ذكر القصص التي دوَّنها العلماء عن فقدان الذاكرة، وفي كتاب «ريبو» الشيء الكثير، وفيه تتمَّة الأنواع التي قسَّم أمراض الذاكرة إليها.

ولكن هذه القسمة أصبحَت قديمة، وأصبحَت لا تُفسِّر ظاهرة النسيان المرضية تفسيرًا كافيًا. ونحن نميل إلى الأخذ بتقسيم الأستاذ جان ديلاي الذي يجعل الذاكرة ثلاثة أنواع؛ آلية (حسية حركية) واجتماعية، ووهمية.

ومعظم هذه القصص التي سقناها عن فقدان الذاكرة، ترجع إلى اختلال الذاكرة الاجتماعية، وتُمثِّل ابتعاد المريض عن المجتمع وسخطه عليه وهربه منه، وذلك بنسيان الأحداث التي وقعت له في هذا المجتمع. وليس الصرع، أو الإغماء، أو النوم، وما إلى ذلك، إلا جنوحًا من الشخصِ إلى الابتعاد عن المجتمع، وهي دليلٌ على أنه لا يريد أن يفتح عينَيه عليه. والنسيان أحد هذه الصور المرضية؛ فهو «غيبة» عن المجتمع، وصدوفٌ عنه، وكثيرًا ما يختلط النسيان، أو فقدان الذاكرة، بأمراضٍ نفسية أخرى كالصرع أو العته dementia، ولكن هذه الذاكرة الاجتماعية حين تُفقد، فإن الذاكرة الآلية تظل باقية، وكذلك تظل الذاكرة الوهمية، وما يصحبها من هذَيانٍ وخرافة وخيالات.

وقد اختلف العلماء بشأن سبب النسيان، ولهم في ذلك نظرياتٌ أربع؛ الأولى كيميائية، والثانية عصبية، والثالثة مخية، والرابعة وظيفية. وجميع هذه النظريات من قبيل الفروض التي لم تستطع التجاربُ تأييدها، ويبدو أن لكلٍّ منها جانبًا من الصواب.

ويزعم أصحاب النظرية الكيميائية أن كل عملٍ نفساني يتم على حساب مادةٍ غذائية تنحل كيميائيًّا وتتغير باستمرار، ويعرف العلماء هذا التغير باسم catalytic، ومن شأنه زيادة التأثير بسبب الفعل. ومثال ذلك الأكسجين الذي نستنشقه مع الهواء، فإنه يساعد على التذكُّر، وقلَّته تؤدي إلى النسيان. وحاول بعضهم تفسير النسيان بتغيُّر كثافة المادة الهلامية colloid.

أما أصحاب النظرية العصبية، فيذهبون إلى أن الذاكرة متصلة اتصالًا وثيقًا بالجهاز العصبي، وما يحدث فيه من تغيير الخلايا العصبية، وأن اكتساب ذكرى جديدةٍ يؤدي إلى زيادةٍ خلوية (أي نسبة إلى الخلية) من جهة الحجم، كما تُعبَّد الطرق بين الخلايا حين يمر التيار العصبي. ونحن نعلم أن الخلية العصبية تتكون من نواة ومن زوائدَ شُجيرية وزوائدَ محورية، وتتداخل الخلايا دون أن تتلاحم، بحيث تتداخل الزوائد الشجَيْرية من الخلية في فروع الزائدة المحورية من الخلية التي تليها. وتُسمَّى نقطة هذا التداخُل ﺑ «الوصلة»، ويتم العبور بين الخلايا العصبية بانتقال التيار العصبي عابرًا هذه الوُصَل، ويؤدي تكرار انتقال التيار العصبي إلى تكوين العادات أو إلى الذاكرة الآلية، ويؤدي التخدير أو التعب أو السموم، إلى مقاومة هذه الوُصَل وتباعُد الخلايا العصبية.

وإذا كانت الذاكرة تابعة لقيام الأعصاب بوجهٍ عام بوظيفتها، فإنها أوَّل كل شيءٍ متعلقةٌ بالمخ، والمشاهدة الساذجة تُؤيِّد ذلك؛ لأن ضربة العصا على الرأس تُفضي إلى الغيبوبة وإلى فقدان الذاكرة، وهناك كما نعرف مناطقُ للحس والحركة والتفكير والكلام في المخ، فالصلة وثيقة بين المخ وبين الظواهر النفسية المختلفة.

وزعم كثير من علماء النفس حتى أواخر القرن الماضي، أن المخ أشبه بالشمع الذي تنطبع عليه الآثار النفسانية، فهو مثل «الجراموفون»، وأن الذكريات تنطبع أو تُحفَر في المخ، ولكن هذه النظرية لا تجد لها سندًا الآن.

وحاول بعض العلماء أن يعُد الخلايا العصبية الموجودة في المخ، وقدَّرها أحدهم بأربعة عشر مليار من الخلايا، وأن كل صورةٍ ذهنية تُسجَّل في خلية من هذه الخلايا، فلو فرضنا أن رجلًا عاش حتى الثمانين، فمجموعُ ما قطعه من الثواني هو ملياران ونصف، ولا يمكن أن تبلُغ ذكرياته هذا العدد؛ لأن قاموس أي شخصٍ من الألفاظ لا يزيد عن ٢٠٠٠٠ لفظة.

غير أن هذه النظرية أيضًا لم تثبُت طويلًا أمام النقد، وخصوصًا نقد برجسون؛ ذلك أن الصورة الذهنية التي تُؤلِّف الذكرى ليست واحدة، فأنت تعرف «محمدًا» مثلًا بعد أن رأيتَه آلاف المرات وهو في كل مرة يختلف عن سابقتها، ومع ذلك فهو شخصٌ واحد. وهناك طائفةٌ كثيرة من أنواع النسيان ترجع إلى فساد الحفظ والاكتساب، فالذكريات لا تُنسى لأنها فسدَت في المخ، بل لفساد حفظها، ومن أجل ذلك كانت الأحداث سريعة النسيان بالإضافة إلى الشيوخ، على حين أنهم يحتفظون بالأحداث الماضية. يُضاف إلى ذلك أن النسيان يسير طبقًا لقانونٍ معين يُسمَّى قانون التراجع regression؛ إذ تُنسى أولًا الأسماء، ثم المعاني الكلية، ثم الصفات، ثم الأفعال، مما يدُل على أن النسيان راجعٌ إلى أسبابٍ نفسانية أكثر منها فسيولوجية.

من أجل ذلك رأى العلماء أن النسيان «وظيفةٌ» حيويةٌ مستقلة للحياة النفسانية، ووظيفة الذاكرة هي وحدة الحياة النفسانية. وإذا انحلَّت الذاكرة، أدَّت إلى ألوان من النسيان، وإلى أمراض الذاكرة مما بسَطْناه من قبلُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤