نموذج المتمدن

يقول «لِتُنْ ستريتشي» — الأديب الإنجليزي الحديث — عن نفسه هذه العبارة: «أنا المدنية التي تحاربون من أجلها.»

وقفت عند هذه العبارة متفكِّرًا متدبرًا، فكان أول ما استوقف نظري منها، هو أنها تطبيقٌ جيد لمبدأ فكريٍّ آخذ به، وأحاضر فيه، وأدعو إليه طلابي كلما سنحت لذلك فرصة مناسبة، وهو مبدأ غاية في البساطة والوضوح، لكنه بعيد النتائج عميق الأثر، وهو كفيل لصاحبه أن يهديه سواء السبيل في كثير مما يشغل الناس من خلاف واختلاف.

وخلاصة هذا المبدأ، هي أن كل كلمة من كلمات اللغة، تكون صوتًا فارغًا من المدلول، إلا إذا كانت تدل على أفرادٍ جزئية مما يمكن أن يُشار إليه، أو يقع لحاسة من الحواس المعروفة، فلفظة «كتاب» — مثلًا — دالَّة على معنًى؛ لأنني أستطيع أن أشير لك إلى فرد أو أفراد من الأشياء التي أضمها جميعًا في حزمة واحدة، وأطلق عليها كلمة «كتاب»، أما لفظة مثل «عدم» فهي بغير معنًى، ولا فرق بين أن تكتبها أو أن تخط مكانها خطوطًا مهوشة كالتي يخطها الأطفال الصغار على الورق؛ هي علامة مرقومة على الورق — أو موجة صوتية إن كانت منطوقة — لا دلالة لها بين الأشياء، فليس هنالك الشيء المفرد الذي يمكنك أن تشير إليه قائلًا: «هذا عدم»، إنك لا تستطيع أن تشتري من السوق «عدمًا» تأكله أو تشربه، ولا أن تطلب إلى الخياط أن يخيط لك «عدمًا» تتقي به برد الشتاء، وقل مثل ذلك أيضًا في لفظة مثل «وجود» فمهما بحثتَ في عالم الأشياء، فلن تقع بينها على شيء اسمه «وجود»، إنك ستقع على نهر وشجرة، وبناءٍ وكتاب، ومقعد وسيارة، ونملة وطائر، وكلها «موجودات»، لكنك لن تجد بين الأشياء شيئًا قائمًا بذاته اسمه «وجود».

ولقد ضربتُ لك المثل بكلمتين الله أعلم كم ملأتا من صحائف وكم شغلتا من عقول، فما أكثر ما كُتب أو قيل في «الوجود والعدم»! مع أنهما لفظتان فارغتان جوفاوان ليس وراءهما شيء، فالأمر كله غير ذي موضوع كما اعتاد الناس أن يقولوا اليوم.

كذلك ضربتُ المثل بهاتين الكلمتين؛ لأن أستاذنا العقاد، حيث تفضل مشكورًا بنقد كتابي «المنطق الوضعي» قال في سياق الحديث: «إن الإنسان يستطيع أن يجزم بحقيقة لا صورة لها في الخارج على الإطلاق؛ لأنه يستطيع أن يقول: «إن العدم مستحيل»، ولا يمنعه من تقرير ذلك أن المحسوسات خلت من شيء يسمى العدم أو شيء يسمى المستحيل.» ونحن نرد على أستاذنا في هذا بقولنا: إن أمثال هذه العبارات ليس مما يجوز قوله ولا تقريره؛ لأن كلماتها فارغة من الدلالة، ولنتصور مثلًا عالمًا من علماء الكيمياء أو الطبيعة أو ما شئت من علوم، وقف أمام مجمع علمي يقرر لزملائه «أن العدم مستحيل»، وزملاؤه ممن يسارعون إلى المعامل والأنابيب، وممن يطالبون بإقامة التجارب، فأي تجربة يستطيع القائل أن يثبت بها لزملائه مثل هذا الادعاء؟ ماذا يضع في الأنابيب وماذا يلاحظ ليقبل الدعوى أو يرفضها؟ … فإن كانت العبارة ليست مما يقوله العلماء، فمن إذًا يجوز له قولها وهو آمنٌ مطمئن؟ أولئك الذين لا يريدون أن يُسألوا عن معنى ما يقولون، فضلًا عن أن يُسألوا عن إثبات صدقه — هذه الألفاظ وأمثالها قد اكتسبت «معانيها» من كثرة تكرارها، كررنا النطق بها، وتكرر سمعها، حتى توهمنا أنها كلمات «مشروعة»، والحقيقة أنها أصوات أو علامات زائفة لا بد من حذفها.

لكن ذلك استطراد قد طال، فلعله يلقي لنا ضوءًا على الكلمة التي نحن الآن بصدد الحديث فيها، وهي كلمة «المدنية» — فهي الأخرى من الكلمات التي يقوم فيها الجدل ويعنف ويشتد، فتراهم يسألونك: هل نأخذ بالمدنية الغربية أو لا نأخذ؟ وإذا أخذنا بها، فإلى أي حد وبأي مقدار؟ أوليس الأصلح لنا أن نتمسك بمدنيتنا الشرقية؟ ومنشأ الإشكال كله لفظة غامضة لم يحددوا معناها، «فالمدنية» — كأي كلمة أخرى — لا يكون لها معنًى إلا إذا وجدنا في عالم الأشياء أشياء بذواتها، نشير إليها بأصابعنا قائلين: هذا وهذا وذلك «مدنية»، وأنا أؤكد للقارئ أنه لو أمسك بقلمه ومذكراته، وخرج إلى الشوارع، وتنقل بين المدن والقرى ليسجل قائمة بالأشياء التي يعدها مدنية، لانحسم كل خلاف، لأنه لن يجد ما يسجله في قوائمه إلا ما يثبت له أن مدنية العالم الحاضر في صميمها واحدةٌ لا تعدد فيها، وما عداها قواقع من جهل وخرافة خلفها جَزْر الأيام على شاطئ الحياة.

ولست أدري إن كان «لتن ستريتشي» حين قال عن نفسه: «أنا المدنية التي تحاربون من أجلها» قد قصد إلى شيء من هذا التحليل الذي أسلفتُه لك، أي أنه قصد إلى أن الكلمة لا تكون ذات مدلول ومعنًى إلا بمفردات مسمياتها، وأنه لذلك أشار إلى نفسه على أنه هو الفرد الجزئي الذي يحدد معنى كلمة «مدنية» ومدلولها، حين رأى أن في شخصه قد تجمعت عناصر، هي التي نريدها باستخدامنا لهذه الكلمة — أقول إني لا أدري إن كان «ستريتشي» قد قصد إلى شيء من هذا، لكنه على كل حال هو ما نطالب به إذا أردنا أن تكون الكلمة ذات مدلول ومعنًى.

•••

وهنا ننتقل إلى الجانب الهام من موضوعنا، وهو: ماذا عسى أن تكون العناصر التي إذا ما اجتمعت في شخص، استحق أن يوصف بالتمدن؟

أول ما نذكره في الإجابة عن هذا السؤال هو أن هذه العناصر متغيرة مع تغير الزمن، فلكل عصر «مدنيته» التي قد تعدُّ همجية في عصر آخر، «فالمتمدن» في العصور الوسطى الأوروبية — مثلًا — هو المسيحي المتبتل المنقطع لصلاته وعبادته في الصومعة أو الدير، فلما جاءت النهضة تغيرت عناصر «التمدن» وأصبح «المتمدن» رجلًا آخر غير راهب العصور الوسطى.

وإنه لمما يقال في هذه المناسبة، أن «سير فلب سدني» (١٥٥٤–١٥٨٦م) كان عند الإنجليز إبان نهضتهم نموذجًا للرجل المتمدِّن بمقياس ذلك العصر، فقد كان شاعرًا وناقدًا وعالمًا وجنديًّا محاربًا ورجلًا من رجال السياسة، فكان يصور بهذه العناصر في شخصه ما كان يصبو إليه الناس من مثلٍ أعلى في الرجل الواحد؛ لأنهم لم يعودوا عندئذٍ يرون المدنية — كما كان يراها أسلافهم الأقربون — في المسيحي المتبتل الزاهد، بل أصبح مَثَلهم المنشود فنانًا ينتج الفن أو يقدره، أو عالمًا يدرس ظواهر الطبيعة، أو مغامرًا يركب الصعاب، أو رجلًا يستمتع بلذات الحياة، فإن اجتمعت هذه الصفات لرجلٍ واحد، فكان مشغوفًا بالفن، محبًّا للعلم، مقاتلًا باسلًا، مغامرًا يمعن في ألوان الرياضة والصيد، عاشقًا توافرت فيه شروط الحب كما يعرفه عشاق زمنه؛ كان ذلك الرجل صورة للمثل الأعلى. وقد جاهد الأدباء في عصر النهضة أن يصوروا ذلك المثل الأعلى، ورأى الناس أن هذه الصفات قد تجسدت وتجمعت في «سير فلب سدني» فجعلوه نموذجًا يُحتذى في عصره.

وإننا لنضل سواء السبيل، إذا ما جاهدنا بدورنا في تصوير نموذج «للمتمدن» في عصرنا، فالتمسناه في أبطال الماضي؛ فهؤلاء الأبطال أبطال في عصورهم، بمقاييس أهل زمانهم، وإني لأجني على الشباب الذين يعيشون اليوم جنايةً كبرى، إذا رحت أزخرف لهم حياة الزهد والعصر يريد المتعة بالدنيا والفرحة بالحياة، وأجني عليهم جنايةً كبرى إذا رحت أزخرف لهم حياة التأمل النظري والعصر يريد الصناعة والنشاط والعمل. إنني يستحيل أن أجد للشباب نموذجًا من بين أبطال الماضي بكل عناصره، فذلك يكون بمثابة أن ندعوهم إلى العيش في غير عصرهم، والتمدن بغير مدنيتهم.

ونعود من جديد فنسأل: ماذا عسى أن تكون العناصر التي إذا اجتمعت في شخص استحق أن يوصف بالتمدن؟

سأحاول الجواب موجِزًا في غير إطناب وتفصيل، ومعترفًا منذ الآن أنه جواب أسوقه على سبيل «الرأي» لا على سبيل الحصر والتوكيد؛ إذ الموضوع أخطر وأعمق من أن يُفْصل في أمره بمقال يُكتب في ساعة ليملأ بضع صفحات في كتاب.

وسأحاول الجواب على هذا النحو الموجز، مهتديًا بالتقسيم الثلاثي الذي اشتهر في علم النفس التقليدي، حتى أصبح عمودًا من أعمدة هذا العلم، لا يثور عليه الثائرون إلا ليؤكدوه، وهو أن كل حالة من سلسلة الحالات الشعورية التي تتألف منها حياة الإنسان الواعية، يمكن تحليلها إلى جوانب ثلاثة: إدراك ووجدان ونزوع، فأنت في كل موقف من مواقف حياتك الشعورية الواعية، تدرك شيئًا ما أو فكرة معينة، ثم تحس إزاءها وجدانًا معينًا، ثم تتصرف بناءً على ذلك حسب تربيتك وتدريبك على الرد على المواقف المختلفة بألوانٍ معينة من السلوك (وقد يكون الامتناع عن السلوك في موقف ما، ضربًا من التصرف).

ولا شك أنك قد رأيت كلمات «الحق والخير والجمال» متجاورة في كثيرٍ جدًّا من المواضع، كلما أراد الكاتبون أن يعبروا بعبارة موجزة عن أحلام الإنسانية وأمانيها، فهذه الكلمات الثلاث تستطيع أن تجعلها تعبيرًا آخر للجوانب الثلاثة نفسها التي ذكرناها: «فالحق» هو ما ننشده في حالات الإدراك، و«الجمال» هو ما نبتغيه في حالات الوجدان، و«الخير» هو ما نقصد إليه في جانب السلوك.
  • (١)

    وأهم ما يميز الإدراك عند «المتمدِّن» في عصرنا هذا، هو التقيد بالواقع، وإدراك الواقع كما هو يتطلب القضاء على الخرافة بكل ما يتصل بها من لواحق وأتباع، وللتخريف مظهران أساسيان في طريقة تعليلنا للحوادث والظواهر، الأول أن نعلل حدوث الأشياء المحسوسة بأشياء غير محسوسة، والثاني أن نعلل شيئًا محسوسًا بآخر محسوس، لكنه لا يرتبط معه ارتباطًا يدل عليه طول الملاحظة ودقة التجربة، فلو قلتَ مثلًا إن المرض في جسم المريض سببه شيطانٌ حالٌّ في الجسم، أو إن السماء ترعد وتبرق لأنها غاضبة، فأنت مخرِّف من النوع الأول، ولو قلتَ إن السفر يوم الأحد مشئوم، ونعيق الغراب نذير بالموت، فأنت مخرِّف من النوع الثاني — وفي كلتا الحالتين أنت خارج بإدراكك للأشياء على منهج «المتمدن» في هذا العصر الذي أبرز ما فيه هو العلم وما يؤدي إليه وما ينتج عنه.

    حتى الآداب والفنون قد أصبح معيارها هو الواقع، ولا أقصد بذلك أن الأديب أو الفنان يقف حيال الظاهرة المعينة موقف العالم الذي يحللها ويصفها بالمقاييس والأرقام، بل أريد أن أقول إن الآداب والفنون في ميدانها — ميدان التعبير عن النفس وما يدور فيها من مشاعر — أصبحت تنزع بقوة نحو إثبات الواقع بغير حياء ولا خجل، فما قد كان يستحيي منه أسلافنا لا يتحتم أن يكون عندنا نحن كذلك موضع استحياء؛ ومن ثم نرى اليوم أدباء لا يتورعون عن تصوير مجرى شعورهم كما هو، فيكون بين ذلك رغباتهم الجنسية وانحرافاتهم الإجرامية وما إلى ذلك، ونرى اليوم مصورين لا يجلسون أمام الشيء يصورونه كما يبدو، بل يصورونه كما يختلط بأفكارهم في لحظة التصوير، فإذا جلست مثلًا إلى طائر تصوره، وأثناء ذلك دق جرسٌ شغل بؤرة شعورك، وجب أن تدخل هذه الصورة الطارئة على نحوٍ ما؛ لأنها جزء منك في اللحظة التي أردتَ تصوير نفسك فيها، ومن هنا كان كثير مما نعدُّه «خلطًا» في التصوير الحديث، وهكذا.

  • (٢)

    وأهم ما يميز الجانب الوجداني من «المتمدن» في عصرنا الحديث، هو التأثر بما ينتجه رجال الأدب والفن المحدثون، فأنت متخلف عن عصرك ومدنيته إذا لم تأخذ بنصيب — قليل أو كثير — في تقدير ما ينتجه هؤلاء الرجال من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وتمثيل ورقص وغناء، مهما يكن عملك وموضوع اختصاصك، فقد تكون طبيبًا أو مهندسًا أو رجلًا من رجال الأعمال، لكنك لكي تكون إلى جانب ذلك «متمدنًا» فلا بد من إضافة عنصرٍ آخر، هو التمتع بنتاج الفنون.

    أقول: إنه لا بد من أخذك بنصيب في تقدير هذه الأشياء كلها، ولا أحتم عليك أن تحب كل ما تراه منها أو تسمعه، فلك أن تحب أو أن تكره، على شرط أن يكون حبك وكرهك قائمَيْن على معيار هذا العصر نفسه؛ لأن الآداب والفنون كلها تعبير عن روح العصر، ويستحيل أن تتشرب روح العصر وتتمرد في الوقت نفسه على كل آدابه وفنونه.

    لقد رأيت أناسًا هم في مكان القيادة من طليعة «المثقفين» عندنا، لا يعرفون الألف والباء في أمهات الإنتاج الأدبي في العالم المتحضر الحديث، ولم يشهدوا في حياتهم معرضًا للتصوير أو النحت، وحتى لو شهدوا ذلك لما كان لهم فيه رأي ولا فهم، فاذكر — مثلًا — اسم «بيكاسو» في جماعة من «المثقفين» عندنا، وانظر كم يعلمون عنه وكيف يقولون القول فيه. وأكرر القول بأنني لا أحتم على كل إنسان أن يحب فن «بيكاسو»، فكثيرون من الأوروبيين لا يحبونه، لكنهم لكي يحبوه أو يكرهوه، لا بد لهم أولًا أن يمسُّوه ويعرفوه، ولا أقول شيئًا عن الغناء والرقص؛ فتلك عندنا فنون «حرام» ليس لأصحاب الوقار أن يأخذوا منها بنصيبٍ كبيرٍ أو صغير!

  • (٣)

    وأهم ما يميز السلوك عند المتمدن الحديث هو مقدرته على ضبط زمام نفسه؛ فليس من اليسير عليك أن تثير فيه الغضب الذي يطير بصوابه، وهو لا يغلو في مظاهر الفرح ولا مظاهر الحزن. فأنت «متمدن» بمقدار ما يتصرف «الإنسان العاقل» فيك، لا ما يتصرف «الحيوان» منك. والحيوان منك هو الغرائز تنطلق كما هي بغير ضبط ولا تعديل، وأعجب العجب أننا نفخر بسرعة انفعالنا وشدة هيجان شعورنا، ونَصِف الأوروبي المتمدن في هذه الناحية «بالبرود» لأنه لا ينفعل ولا يهيج!

    كذلك من أميز ما يميز سلوك المتمدن الحديث طريقته في ملء فراغه، فهو متخلف عن عصره إذا قضى فراغه نائمًا أو جالسًا؛ لأن للفراغ في المدنية الحديثة ألوانًا من النشاط كثيرة معروفة، ليس منها النوم والقعود، فهي لعب وارتحال وتغيير لمجرى الحياة المألوفة على نحوٍ ما، بالقدر الذي تسمح به قدرة الناس المالية، على تفاوتها، ويستحيل أن يبلغ الفقر بإنسان حدًّا يمنعه من المشي وطلوع الجبل!

    إن في خاطري الآن اسمًا أو اسمين لرجالٍ أراهم بيننا أقرب الناس تمثيلًا للمدنية الحديثة في نزعتها العلمية وفي استمتاعها بألوان الفن، وفي ضبط النفس عند السلوك، وفي ألوان النشاط عند الفراغ من العمل، لكني أمسك عن ذكر الأسماء، وأكتفي بوضع القواعد، وللقارئ أن يطبِّقها على نفسه وعلى مَن حوله كيف شاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤