عصر جميل

عاش جميل في القرن الأول للهجرة.

وهو قرن حافل بأحداث السياسة، تحولت فيه الدولة الإسلامية من نظام إلى نظام، ومن قطر إلى قطر، ومن سيرة إلى سيرة، فخرجت من الخلافة إلى الملك الموروث، ومن الحجاز إلى الشام، ومن بساطة الحياة الدينية إلى بذخ المعيشة الحضرية، التي جمعت بين بقايا حضارة الفرس وبقايا حضارة الروم.

وليس بنا في هذه العجالة أن نسجل حوادث العصر كله، أو نتعقبها من بدايتها إلى نهايتها تعقب تفصيل أو تعقب إجمال، فكل أولئك لا يعنينا فيما نحن فيه إلا من طرف واحد؛ وهو الطرف الذي يتصل بحياة شاعرنا جميل، ومن شابهه من الشعراء في بيئته وزمانه.

وأوجز ما يقال في تلك البيئة: إنها البيئة التي تخرج أمثال جميل من شعراء البادية المحيطين بالحضارة الحجازية، والمتصلين بحواضر الإسلام في مصر والشام.

فالعصر الذي عاش فيه جميل بالحجاز كان عصر استئناف للحياة الحجازية قبل ظهور الدعوة الإسلامية، ولكن على نحو جديد.

وكان المعول الأكبر في الحجاز على حياة المدن التي يقصدها الناس للتجارة وقضاء المناسك السنوية، وقد طال عهد تلك المدن بالتجارة واستقبال القصاد، فاجتمع فيها الثراء بأيدي السراة وأصحاب القوافل والأموال الغادية الرائحة بين رحلة الصيف ورحلة الشتاء، واجتمع مع الثراء ما يتبعه أبدًا من الترف واللهو والإباحة وإيثار الدعة والرخاء.

ثم ظهرت الدعوة الإسلامية، فشغلت الناس عن ذلك كله بالجهاد بين المسلمين والمشركين، ثم علت كلمة الدين في عهد النبي — عليه السلام — وفي عهد خلفائه الراشدين، فعز على أصحاب اللهو والترف أن يتمادوا فيما كانوا فيه، فاهتدى منهم من اهتدى، واستتر منهم من بقي على ضلاله، ووجد أكثرهم منصرَفًا له عن معيشته الأولى في هذه المعيشة الدينية الجديدة، وفي شواغل السياسة والحرب التي كانت تزدحم بها عواصم الدولة الإسلامية، وهي يومئذ عواصم الحجاز.

ثم ارتفعت رقابة الخلفاء الراشدين عن تلك العواصم، وتيسر للمترفين ما كان متعسرًا قبل ذلك من ضروب اللهو والمتعة، مع اختلاف محسوس تقضي به رعاية الدين.

وانتقلت الدولة من عواصم الحجاز إلى عواصم الشام، فتفرغ أولئك المترفون لحياة الفراغ التي لا رقابة عليها، وربما تجاوز الأمر قلة الرقابة إلى التشجيع على حياة المجون والبطالة؛ لأن أصحاب الدولة الجديدة كانوا يخشون من أبناء الرؤساء في الحجاز أن ينصرفوا عن حياة الفراغ إلى حياة الجد والطموح، فليس في جدهم وطموحهم أمان للدولة الجديدة، وإنما الأمان لها — كل الأمان — أن يلعبوا ويرتعوا، ويجتمعوا على اللغو والفضول وإيثار الدعة والرخاء.

فاستأنفت الحواضر الحجازية تاريخًا قديمًا طويلًا في اللهو والمجون، وعادة «الظرف» المأثور في عرف أولي النعمة أن يصبحوا، ويمسوا بين المنادمة والمسامرة، وأحبها وأشيعها حديث الغزل ووشايات الغرام.

هذه الحياة عدوى لا يسلم منها من عاش فيها، ولو كان مطبوعًا على الجد والطموح؛ لأنها كالجو الذي يتنفس فيه كل متنفس يشاء أو لا يشاء، وغاية ما فيها من فروق أنَّ البنية السليمة تقوى على أنفاس ذلك الجو من حيث تضعف عنه البنية السقيمة، أما الهواء الذي يتنفسونه جميعًا فلا اختلاف فيه.

فمن أشجع الرجال الذين نشئوا في تلك البيئة، ولا ريب كان مصعب بن الزبير سليل الشجعان ووريثهم في شمائل النبل والشمم والمضاء.

وكان له من الجد ما يشغله عن معيشة أهل البيئة التي نشأ فيها، وينجيه من أوهاق المتعة التي يتمرد عليها من طبع على غراره، لو كانت هناك منجاة.

كان مع أخيه عبد الله صاحبي ملك ينافس ملك بني أمية، وتولى البصرة والكوفة والعراق فضبط أمورها واستبقاها زمنًا على الولاء له ولأهل بيته، ونهض عبد الملك بن مروان لقتاله بنفسه، فأنفذ إليه الجيوش وراء الجيوش، فكان يبرز لها ويضربها ويفرق شملها، ثم أوفد إليه أخاه محمد بن مروان يعرض عليه الأمان وولاية العراقين ما دام حيًّا وصلة من المال تبلغ ألفي درهم، فأبى مصعب إلا أن يقاتل حتى يغلب أو يموت دون التسليم، وخذله أصحابه طمعًا في هدايا بني أمية، فما زال في البقية الباقية من أنصاره يقاتل ويغامر حتى مات.

قيل: إنَّ عبد الملك بن مروان جلس بعدها بين أصحابه يسألهم: من أشجع الناس؟ وهم يروغون في الجواب، فقال لهم: بل أشجع الناس مصعب بن الزبير، عرضت عليه الأمان والمال وولاية العراقين وعنده عائشة بنت طلحة أجمل النساء فأباها وآثر الموت على التسليم.

وتلك شهادة عدو لا ينفعه أن يكتمها؛ لأنها أشهر من أن يحجبها الكتمان.

فالحق الذي يعرفه أعداء ذلك الرجل وأصدقاؤه أنه شجاع وأنه نبيل، وأنه لا يقرن بالجد والطموح لذة من لذات الدنيا.

ومع هذا حسبنا أن نذكر له حكايتين اثنتين؛ لنذكر كيف شاع الغزل وأحاديث الغزل ومواقف الغزل في البيئة التي نشأ فيها، وأحاطت به آدابها ودواعيها، فكل حديث عن الغزل والتهالك عليه مصدق إذا قوبل بهاتين الحكايتين من هذا الرجل، الذي قل نظراؤه في الجد والطموح.

إحداهما تتصل بشاعرنا جميل، وتدور على بيتين قالهما في صاحبته بثينة، وهما:

ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت
بالحجر يوم جلتها أم منظور
ولا انسلابتها خرسًا جبائرها
إليَّ من ساقط الأرواق مستور

قيل: إنَّ مصعبًا سمع البيتين فود لو يعرف كيف جلتها. فأنبئوه أنَّ أمَّ منظور — التي أشار إليها الشاعر — لا تزال بقيد الحياة … فكتب في حملها إليه مكرمة. وحملت إليه، ووصفت له تلك الجلوة فقالت: «ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح واسطتها تفاحة، وضفرت شعرها وجعلت في فرقها شيئًا من الخلوق — أي الطيب — ومر بنا جميل راكبًا ناقته، فجعل ينظر إليها بمؤخر عينه ويلتفت إليها حتى غاب عنها».

فقال لها مصعب: فإني أقسم عليك ألا جلوت عائشة بنت طلحة مثل ما جلوت بثينة، ففعلت، ثم ركب مصعب ناقته وأقبل عليهما، وجعل ينظر إلى عائشة بمؤخر عينه، ويسير حتى غاب عنها ثم رجع.

أما الحكاية الأخرى فتدور على بيتين لتلميذ جميل — ونعني به كثير بن عبد الرحمن — وهما:

وما زلت من ليلى لدن طَرَّ شاربي
إلى اليوم أُخفي حبها وأُداجن
وأحمل في ليلى لقوم ضغينةً
وتحمل في ليلى عليَّ الضغائن

وخلاصتها أنَّ مصعبًا أبصر الشعبي — الراوية المحدث المشهور — وهو في المسجد فأمره أن يتبعه، وتقدمه وهو لاحق به، حتى دخل منزلًا، ثم دخل إلى حجلة في المنزل ووقف الشعبي ينتظر، فإذا جارية قد خرجت تقول له: إنَّ الأمير يأمرك أن تجلس. فجلس على وسادة وارتفع سجف الحجلة عن مصعب بن الزبير، ثم ارتفع السجف الآخر عن عائشة بنت طلحة.

قال الشعبي: فلم أَرَ زوجًا كان قط أجمل منهما، ثم سألني مصعب: هل تعرف هذه؟

قلت: نعم!

قال: ومن هي؟

قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة.

قال: لا، ولكن هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر:

وما زلت من ليلى لدن طرَّ شاربي …

وأنشد البيتين ثم قال: إذا شئت فقم!

فلما كان العشي دخل الشعبي المسجد، فإذا الأمير جالس على سريره فيه، فاستدناه وسأله: هل رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟

فقال الشعبي: لا والله.

قال الأمير: أفتدري لم أدخلناك؟ … لتحدث بما رأيت.

ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة، فأمره أن يعطيه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبًا.

قال الشعبي: فما انصرف أحد بمثل ما انصرفت به: بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصار ثيابًا، وبنظرة من عائشة بنت طلحة!

وكلام العالم المحدث هنا يتمم كلام الأمير المكافح المقدام، كلاهما شاهد على شأن الغزل في ذلك الجيل، حتى ليحسب العالم النظرة من الحسناء جائزة تقرن بعشرة آلاف درهم، وحتى ليحكي الأمير مواقف الشعراء العشاق، ويَوَدُّ أن يتحدث الناس بغرامه، كما يتحدثون بغرام أولئك الشعراء.

ومتى اشتغل مصعب بالغزل هذا الاشتغال، فقل ما شئت فيمن هو أفرغ للمنادمة والسمر وأحاديث الحسان والعشاق، إنهم خلقاء ألا يفرغوا لحظة من هذه الأحاديث، وألا يزالوا بحاجة إلى الشعراء المنشدين يرددونها نظمًا وغناءً، وهي عندهم أحب ما يستحب فيه الترديد.

ذلك شأن الحواضر الحجازية، وليست البادية من حولها بأقل غزلًا أو نظمًا في الغزل من الحواضر على اختلافها، وإن تباينت الأساليب والآداب.

فلا يفوتنا أنَّ البادية أفرغ للغزل وأرحب به مجالًا من الحاضرة، على غير ما يتبادر إلى الذهن من الخطرة الأولى؛ لأن البدوي والبدوية يستعيضان بالغزل عن عشرات من الملاهي الحضرية، التي تدور عليه وتحوم حوله في المدينة الكبيرة.

وإن شئنا أن نعرف حاجة البدو إليه، فلنذكر أنواع الفنون التي يستغرقها الحضريون في صدد العلاقات بين الرجل والمرأة ولا يتاح نظيرها لأبناء البادية.

فالمسارح، والأندية، ودور الصور المتحركة، والقصص المطبوعة، والمراقص، والمنازه التي يشترك فيها الرجال والنساء، والأغاني، والقصائد، وفروع كثيرة من التصوير والنحت والنقش والزينة — كلها معارض لتمثيل الغزل بأنواعه في الحاضرة، ولا يقابلها في البادية إلا غزل الشاعر بالحسناء، وما ينسج حوله من الأحاديث والدسائس والوشايات.

فالغزل وحده عند البدوي عوض عن هذه الأنواع المنوعة من أحاديث الرجل والمرأة في المدينة العامرة، وهذا مع كثرة الشواغل في المدن وقلة الشواغل في البوادي، إلا ما كان من رعي أو سقي يقربان بين الرجل والمرأة ويلجئانهما إلى الغزل ولا يشغلانهما عنه، فضلًا عن معيشة الفطرة بين الأحياء التي لا تنقطع فيها صلات الذكور والإناث، وليس الإنسان بدعًا بينها في هذه الغريزة الفطرية، فالبادية مَهْدُ الغزل قبل الحاضرة.

وأيسر للمرء أن يتصور مدينة بغير شعر غزلي من أن يتصور بادية لا تنظم هذا الشعر في كل حين.

إلا أنَّ البادية تتقيد ببعض القيود التي تستدعيها معيشة البدو ولا تستدعيها معيشة الحضريين؛ لأن «المنعة» ضرورة من ضرورات الحياة بين أهل البادية، ولا مناص لهم من الاشتهار بمناعة الحوزة بين الأعداء والنظراء، وإلا طمع فيهم كل طامع واستباحهم كل مستبيح، وأول حوزة يحميها الرجل هي المرأة، فمن شرف «البدوي» أن تكون فتاته منيعة الحمى يتقاصر عنها لسان المتغزل، كما يتقاصر عنها سيف المغير، وهذا هو القيد الذي يختلف به أهل البادية من أهل المدينة.

ولكنه قيد «سيئ الحظ» كجميع القيود التي تحيط بالغرائز، وتحبس من ناحية ما يطلقه الطبع من ناحية أخرى.

فمنذ القدم والقيود التي تفرضها العادات تتوالى على الرجال والنساء بما يطاق وما لا يطاق، ومنذ القدم والعرف مضطر إلى كثير من الإغضاء والتعامي عن تلك القيود، فهي موجودة ومفتاحها موجود، ولا يزال القيد منها مقرونًا بمفتاح.

فإذا حجرت العادات من ناحية جاءت الفنون فتسمحت من ناحية أخرى. وقد يغض الرجل المتدين بصره إذا مرت به حسناء يخشى فتنتها، ولكنه يسمع بيتًا في الغزل، وهو غاض عينيه، فلا يغلق دونه أذنيه.

وقوانين البادية كجميع القوانين عرضة للتشديد والتخفيف وللرعاية والإهمال، وللمحاباة والاحتيال.

فقد يطول عهد الرخاء بالقبيلة فتهدأ فيها سورة القتال وتضعف المغالاة بالمناعة وما يتبعها من الغيرة والسطوة، وقد يطول بها عهد الفاقة، فيترخص أبناؤها وبناتها في الأمور التي كانوا يتشددون فيها، ويستكينون للسبة التي كانوا يتذمرون منها، وقد تجاور قبيلة قبيلة أقوى منها فتنزل على حكمها وتصبر على نزوات أهلها، وقد تجاور الحاضرة فتجري على سنة الحضريين في الرفق والدماثة، وتنزل شيئًا فشيئًا عن الجفوة والخشونة، وكل أولئك كان يحدث في القبائل الحجازية على عهد جميل.

كان منها من استغنى عن القتال بعد أن تكلفت الدولة القائمة بصيانة الحقوق ومنع العدوان وجزاء المعتدين.

وكان منها من طال فيهم الغنى كآل جميل، ومنها من قل غناهم وجاوروا من هم أقوى منهم كآل بثينة، وكانوا جميعًا يختلفون إلى الحواضر، ويتشبهون بظرفائها، وينكرون الخشونة على البادية وأهلها.

فاتسع ميدان الغزل حاضرًا وباديًا، وظهر شعراء النسيب بنوعيه، تغنيًا بامرأة واحدة كما يغلب على شعراء البادية، أو تغنيًا بالحسان جميعًا كما يغلب على شعراء الحاضرة، وتهيأ العصر لطائفة من شعراء المدرستين على رأسهم عمر بن أبي ربيعة يتغنى بحسان مكة وكل حسناء تقبل عليها، وجميل بن معمر يتغنى بصاحبته بثينة ويعيش ويقضي نحبه على هواها.

•••

وما فتئت البادية العربية منذ القدم ميدانًا فسيحًا للقوالين والرواة؛ لأنهم سلاح من أسلحتها ومصلحة من مصالحها وثقافة أدبية تعدل عندها ثقافة الفنون والآداب والتواريخ في أمم الحضارة.

ولها معهم عرف ذو وجهين يجري على الرياء والمداراة، ولا سيما في الغزل والفخر الحماسي. وهما قوام الشعر البدوي أو قوام كل شعر على الفطرة عنيت بحفظه الجماعات الأولى.

فهي تحرم الغزل ببناتها ولكنها تحفظ للأعقاب منظومات شعرائها، ولو كان عرفها في هذا الباب ذا وجه واحد لما بقيت لنا قصيدة من قصائد العشاق ولا خبر من أخبارهم، ولا قصة من قصص الشعراء الواصفين والحسان الموصوفات.

ولكنهم كما رأيناهم قد عنوا بكل كلمة قالها شاعر في حسناء وبكل مساجلة بين عاشقين كأنها من وثائق التاريخ التي لا تنسى، وما ذاك لأنهم يحبون الرياء أو يقصرون في كراهة المحظورات، فإنهم في الواقع يبلغون من كراهتها أقصى ما في وسعهم أن يبلغوه، ولكنهم يفعلون ذلك؛ لأن بواعث الحب في الفطرة الإنسانية أقوى من أن يكبحها العرف أو يقضي فيها بقضاء واحد، فلا بد من التجوز والإغضاء، أو لا بد هنا من عرف ذي وجهين.

أما الفخر الحماسي فموضع الرياء فيه مع شعرائهم أنهم يزدرون الشاعر ويفخرون بكلامه، فربما ارتفعت قبيلة بكلام شاعر، وهو بينهم في مكان غير رفيع، وربما كان تحريمهم زواج الفتاة بمن ينظم فيها الغزل ضربًا من ازدراء الشعراء، كما كان ضربًا من حماية العرض ومنع الذمار. إلا أنهم في الفخر كانوا أصرح منهم في الغزل والنسيب؛ فربما اجتمعت القبائل علانية لسماع شاعرين يتراجزان ويتناجزان، ويذكران الأعراق والأوطان، ولم تأذن بإعلان الغزل على هذا النحو ولا بتناقله بينهم إلا من وراء أذن السامع وعين المشيح.

وقد كان لجميل حظه الوافي من الحالين في الغزل والفخر على السواء، فسارت الركبان بأحاديث هواه و«تجمعت الأعاريب أرسالا» لسماع أراجيزه في الفخر بذويه، وخرج من حلبة الفن بنصيبين متناقضين: فأما شخصه فقد جنى عليه شعره، وحال غزله بينه وبين صاحبته على ما كان له بين قومه من مكانة وثراء، وأما شعره فقد ظفر بكل عناية في وسع قبيلة بادية، ولا سيما الغزل الذي منعوه وأوشكوا من أجله أن يقتلوه.

ومهما يكن من عرف العصر والقبيلة فقد كان عرفًا يسمح بغزله ويستدعيه ويستبقيه، أو كان عرفًا صالحًا لتشجيع العاشقين، وإن لم يكن صالحًا بينهما لوئام الزوجين.

وتاريخ الآداب لا يجمع عقود الزواج ولا دعوات الزفاف، ولكنه يجمع الشعر الذي قاله العاشق ولو جنى عليه؛ وهكذا صنع بشعر جميل.

من هما؟

جميل بن عبد الله بن معمر من بني عذرة من قضاعة التي تسكن بالحجاز على طريق مصر والشام، وأمه من «جذام»، وهي تسكن في الجانب الشمالي من هذه الطريق.

ويلتقي نسبه ونسب صاحبته بثينة عند جدهما حن بن ربيعة، ثم يختلفان على ما بينهما من تقارب النسب في قوة العشيرة وصلاح الحال.

فكان قومه أعز من قومها، وكان أبوه «ذا مال وفضل وقدر في أهله» يُلقب بصباح ويحسب له في بطون قضاعة كلها حساب كبير.

ومن هيبته بين هذه البطون أنَّ السلطان أهدر دم جميل إن وجده أهل بثينة في دورهم، فوجدوه عندهم مرات ولم يجترئوا على قتله، بل جعلوا يعذرون إليه وإلى أبيه مرة بعد مرة مخافة حرب لا قبل لهم بها بين العشيرتين، إلى أن أغلظ له أبوه القول من تتابع الشكوى إليه، فكف عنها ما استطاع، ثم رجع إلى سيرته معها بعد حين.

ولعله استغنى بجاه أبيه وماله عن قصد الولاة والأمراء بالمديح طلبًا للجوائز والهبات، حتى كان بعضهم يستدعيه إلى مدحه، فيعدل عن ذاك إلى الفخر بقومه في حضرته، كما حدث بينه وبين الوليد بن عبد الملك حين سافر معه، ثم رجز مكين العذري بالوليد قائلًا:

يا بكر هل تعلم من علاكا
خليفة الله على ذراكا

فطمع الوليد أن يمدحه جميل، ودعاه أن ينزل فيرجز، فنزل فقال مفتخرًا:

أنا جميل في السنام من معد
في الذروة العلياء والركن الأشد
والبيت من سعد بن زيد والعدد
ما يبتغي الأعداء مني ولقد
أُضري بالشتم لساني ومرد
أقود من شئت وصعبٌ لم أقد

فغضب الوليد وقال له: اركب لا حملك الله!

ومن جملة سيرته يظهر أنه كان كما قال صعبًا لا يقاد، أو كان على شيء من العناد والخيلاء، فكان يستعظم أن يجترئ عليه أحد بمناداته باسمه في الطريق، وحدَّث بعضهم أنه كان في رهط من علية القوم عند شعب «سلع» بالمدينة …

«إذ طلع علينا رجل طويل بين المنكبين، طوال، يقود راحلة عليها بزة حسنة … فصاح به عبد الرحمن بن أزهر: هيا جميل! هيا جميل! … فالتفت مستكبرًا يسأل: من هذا؟ فلما عرف عبد الرحمن قال: قد علمت أنه لا يجترئ عليَّ إلا مثلك! ثم جلس فأنشدهم حتى بدا له أن يقوم «فاقتاد راحلته موليًا».

والبزة الحسنة — على ما يظهر من جملة سيرته أيضًا — كانت من لوازمه التي اشتهر بها ولا سيما في المحافل، حتى لقد كان يحسب متنكرًا إذا مشى في البادية بزي الرعاة، وقال بعض أصحابه: «قدمت من عند عبد الملك بن مروان وقد أجازني وكساني بردًا كان أفضل جائزتي، فنزلت وادي القرى فوافقت الجمعة بها، فاستخرجت بردي الذي من عند عبد الملك وقلت أصلي مع الناس. فلقيني جميل — وكان صديقًا لي — فسلم بعضنا على بعض وتساءلنا ثم افترقنا. فلما أمسيت إذا هو قد أتاني في رحلي فقال: البرد الذي رأيته عليك تعيرنيه حتى أتجمل به، فإن بيني وبين جوَّاس الشاعر مراجزة … قلت: لا، بل هو لك كسوة، وكسوته إياه … فلما أصبحنا جعل الأعاريب يأتون أرسالًا حتى اجتمع منهم بشر كثير، وحضرت وأصحابي، فإذا بجميل قد جاء وعليه حلتان ما رأيت مثلهما على أحد قط، وإذا بردي الذي كسوته إياه قد جعله جلًّا لجمله …»

فالرجل الذي يتخذ خلعة من الخليفة يزهى بها صاحبها جلًّا لجمله، ويلبس خيرًا منها، رجلٌ ولا شك مفرط الخيلاء معني بحسن البزة وأناقة الكساء، وقد ترجع هذه الخيلاء إلى النشأة العزيزة في بيوت الرئاسة بالبادية، فليس أقرب إلى الخيلاء من أبناء هؤلاء الرؤساء، ولا سيما الذين رزقوا منهم جمال السمت وروعة المظهر كما رزق جميل.

إلا أنها على هذا خليقة مطبوعة فيه لها مرجع غير التدليل والنشأة في بيوت الرئاسة، كما يؤخذ من بعض أوصافه، فقد ذكر صاحب له من أهل تيماء أنه كان معه يحدثه ويستمع له «إذ ثار وتربد وجهه ووثب نافرًا مقشعر الشعر متغير اللون» حتى أنكره.

فهذه الخليقة الجامحة التي لا يملكها صاحبها هي على التحقيق مرجع من مراجع تلك الخيلاء التي اشتهر بها جميل، وقد توافق الطبع والنشأة والمظهر على إملاء لصاحبنا في خيلائه، فغير عجيب مع هذا كله أن يتحامق ويحمق، فلا يستتر حمقه حيث يريد وحيث لا يريد.

وكيف يخفى حمق جميل وهو القائل:

لا لا أبوح بحب بثنة إنها
أخذت علي مواثقًا وعهودًا

أيقول هذا البيت رجل رشيد كائنًا ما كان قصده وذاهبًا ما ذهب في معناه؟!

إنه كان مضرب المثل بحقٍّ على حماقة «كاتم السر» الذي يقسم ألا يبوح به، وهو في قسمه على الكتمان قد باح!

•••

فجملة المفهوم من أوصافه وأخباره أنه كان فتى من الفتيان الذين تكتب لهم — أو تكتب عليهم — حياة الغرام.

فكان وسيمًا قسيمًا طويل القامة عريض المنكبين مدللًا في نشأته منظورًا إليه في بزته وعزة قومه، على ضعف في الخلق والعقل، يقعد به عن عظائم الأمور، ولا يكبح جماحه أن بدأت به غواية الهوى، فتمادت به إلى منتهاها، وكذلك رشحته النشأة والخلقة والخليقة ليكون جميل بثينة، وجاء العصر والجوار فزكيا هذا الترشيح وأوسعا له من مداه، فهو في دوره الذي تمثل لنا به في عالم الشعر غير غريب.

•••

أما صاحبته بثينة فقد وصفها جميل بعين المحب ووصفها غيره كما يراها كل من رآها، فخلص لنا من جملة هذه الصفات أنها كانت «أدماء طوالة»، كما قال عمر بن أبي ربيعة، وأنها تفرع النساء طولًا، كما قال الرجل الذي حمل إليها نعي جميل.

ومن كلام عمر وجميل معًا يبدو لنا أنها كانت على سنة البدويات في التأبي والدلال الذي يشوبه الجفاء؛ فلما تصدى لها عمر بن أبي ربيعة، خرجت له في مباذلها لا تحفله وقالت له: «والله يا عمر لا أكون من نسائك اللاتي يزعمن أن قد قتلهن الوجد بك!»

وقال جميل:

ولست على بذل الصفاء هويتها
ولكن سبتني بالدلال وبالبخل

فهي معشوقة بدوية صالحة «لدورها» المشهور مع جميل، وقد زادنا جميل معرفة بتفصيلات ملامحها فقال: «إنها لطيفة طي الكشح ذات شوى خدل»، وكرر هذا الوصف مرات فقال:

إلى رجح الأكفال هيفٍ خصورها
عذاب الثنايا ريقهن طهور

ووصف ثغرها مرة أخرى فقال:

مفلجة الأنياب لو أن ريقها
يُداوى به الموتى لقاموا من القبر

وعمم الوصف فذكر جيدها وعينها في بيت يقول فيه:

وأحسن خلق الله جيدًا ومقلة
تُشبَّه في النسوان بالشادن الطفل

وفي بيت آخر يقول فيه:

لها مقلتا ريم وجيد جداية
وكشحٌ كطي السابرية أهيف

فإذا أعطينا «الوصف التقليدي» حقه من هذه الأبيات بقي لنا منها أنَّ بثينة كانت حسناء بدوية، لم يثقلها ترف الحاضرة، ولم يعرقها شظف العيش، فهي رشيقة معتدلة الخلق سامقة القوام مستحبة الملامح لمن يراها، مفتونًا بها أو غير مفتون.

ومن بعض أحاديث كثير عن إشارات جميل لبثينة وفطنتها إلى معناها وردها عليها لساعتها، يبدو لنا أنها كانت من الذكاء على نصيب يسعف الفتاة في مواقف الغرام، وهو نصيب غير نادر بين جميع الفتيات.

إلا أنها «شن وافق طبقه» في علاقتها بجميل، فكانت لا تخلو من حماقة وخفة يلاحظها من يحادثها، وقيل: إنها دخلت على عبد الملك بن مروان «فرأى امرأة خلفاء — أي حمقاء — مولِّيةً، فقال لها: ما الذي رأى فيك جميل؟ قالت: الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك».

ومثل هذه الحماقة لا تظهر في الكهولة إلا كان لها أساس أصيل من بداية العمر، وبخاصة في عهد الغواية والشباب.

•••

وقد كان جميل يحاول أن يقتدي في وصفها بابن أبي ربيعة في وصفه لنسائه المترفات المنعمات، فيقول عنها وعن أترابها:

إذا حميت شمس النهار اتقينها
بأكسية الديباج والخز ذي الخمْل

ولكنها محاكاة لا تلبث أن تنكشف وينكشف باطلها كما ينكشف كل زيف وتلفيق، فبثينة هذه من بنات «بني الأحبِّ» الذين قال فيهم جميل حين غضب:

إن «أحبَّ» سفلة أشرار
حثالة عودهم خوَّار
أذل قوم حين يُدعى الجار

والذين قال فيهم حين توعدوه مشيرًا إلى عجزهم عن قتله؛ لأنهم لا يقدرون على الحرب ولا على الدية:

إذا ما رأوني طالعًا من ثنيَّة
يقولون من هذا وقد عرفوني
يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبًا
ولو ظفروا بي خاليًا قتلوني
وكيف ولا تُوفي دماؤهم دمي
ولا مالهم ذو ندهة فيدوني

وليست هي غضبة هجاء يقال فيها بالحق وبالباطل؛ لأنهم بالواقع لم يجترئوا على حماية عرضهم من جميل حتى بعد أن أهدر السلطان دمه لهم إن رأوه في بيوتهم، وكان قصارى ما يصنعه زوجها أن يشكوه ويشكوها إلى أبيها وأخيها، وقصارى ما يصنعه هذان أن يتعرضا لها، فيشد عليهم جميل بالسيف فيهربا أو يشكواه إلى أبيه ويعذرا إليه، وقد أربيا على حد الأعذار.

وكأنما كانت وسامة جميل مزية من مزايا كثيرة حببت إليها هواه، ولم تكن هي المزية الأولى والأخيرة. كان ماله على ما يبدو من كلامه بعض هذه المزايا؛ إذ لا محل لقوله إن لم يكن هذا كذاك:

ولو أرسلت يومًا بثينة تبتغي
يميني وقد عزت عليَّ يميني
لأعطيتها ما جاء يبغي رسولها
وقلت لها بعد اليمين سليني
سليني مالي يا بثين فإنما
يبين عند المال كل ضنين

ولقد كان يرحل ويعود فيتهمها بصلة جديدة ثم لا تبالي هي أن تلمح إلى هذه الصلة في بعض مناجاتها إياه.

وقد تزوجت برجل أعور ضعيف المنة لا يروقها ولا تهابه ولا تشعر بحماه، فلولا أنَّ «بني الأحبِّ» كانوا في ذلك الحين كما وصفهم لما كان زواجها بذلك الرجل خير زواج ترتضيه، بعد أن حيل بينها وبين الزواج بجميل.

ونحن نعلم أنها تزوجت ولا نعلم أنَّ جميلًا قد تزوج إلى أن مات، وقد تكون أوفى النساء له ثم تتزوج؛ لأن أمرها إلى غيرها، وهو لا يتزوج؛ لأن أمره بين يديه، ولكنها لم تكن من الوفاء بحيث يقدح الزواج وحده في ذلك الوفاء، ولعلها إحدى الكثيرات اللاتي يصدق فيهن وصف كثير تلميذ جميل:

ألا إنما ليلى عصا خيزرانة
إذا غمزوها بالأكف تلين

عشق جميل وبثينة

كل ما قرأناه عن جميل، أو قرأناه من كلام جميل، يدل على طبيعة العلاقة التي كانت بينهما، وهي العلاقة التي تكون بين الرجل والمرأة، وتتعطل فيها الإرادة بعض التعطيل أو كل التعطيل، أو هي العلاقة التي نسميها العشق والغرام.

ومن الواجب أن نذكر هنا أنَّ العلاقات الإنسانية كلها تستتبع شيئًا من تقييد الإرادة قَلَّ أو كَثُرَ؛ فالصديق لا يفارق صديقه بمحض اختياره، والشريك لا يفارق شريكه ولا مندوحة عن فراقه، وكذلك الزميل أو الزوج أو صاحب الطريق، ولكن التفرقة هنا ضرورية بين تعطيل وتعطيل وبين تقييد وتقييد، فالذي يتعاطى دواء ينفعه أو ينتظر منه النفع يصعب عليه أن يتركه ويكف عن تعاطيه، والذي تعود التدخين يصعب عليه كذلك أن يتركه ويكف عن تعاطيه، ولكن الفرق بين تقييد الإرادة في الحالتين واضح كل الوضوح.

ففي الحالة الأولى يفكر الإنسان في العواقب وفي المنافع، فلا يقدم على الامتناع.

وفي الحالة الثانية يفكر الإنسان أو لا يفكر فالنتيجة سواء، بل هو قد يفكر ويؤمن بالضرر، ويمتلئ يقينًا بفائدة الامتناع، ثم لا يمتنع ولا يفلح أحيانًا لو حاول الامتناع.

وهذا هو الفرق بين القيود التي يفرضها «الهوى» والقيود التي يفرضها الرأي أو المصلحة.

فالتدخين «هوى» من البداية إلى النهاية، وعندما يبدأ الإنسان في تعود التدخين يكون قد بدأ في الهوى أو أراد الهوى إن صح هذا التعبير، وليس كذلك من يتناول الدواء أو يتناول الطعام، أو يتناول حتى اللون المحبوب لديه من ألوان الطعام.

وتعطيل الإرادة أصيل في الهوى كله ولا سيما الهوى الذي نسميه بالعشق أو نسميه بالغرام؛ لأن المرء يرتبط فيه بإرادة شخص آخر، فهو مقيد بهذا الارتباط الذي لا تتفق فيه الإرادتان في جميع الأحيان.

ثم يتقيد الشخصان معًا بإرادة النوع كله أو بالإرادة القاهرة التي تتمثل في الغريزة النوعية، وتتغلب كثيرًا على إرادة العاشقين، وإن اتفقا على حالة من الحالات.

ثم يتقيدان بالعرف الذي يفرضه المجتمع وتفرضه الآداب والأخلاق فوق ما تفرضه الطبيعة من طريق الغريزة النوعية.

ثم يتقيدان بظروف المعيشة وأحوال الدنيا التي تتاح على وفاق الهوى أو لا تتاح.

فإذا تميز العشق بين سائر العلاقات الإنسانية بخاصة من الخواص الظاهرة، فأكبر ما يتميز به هذا التقييد الشديد لإرادة العاشق من جملة نواحيه.

وقد يبلغ به هذا التقييد لإرادته أن يحول بينه وبين فهم إرادته فلا يعلم ماذا يريد فضلا عن أن يعلمه ويعجز عنه، فإذا به قد انقسم على نفسه كما ينقسم المعسكر الواحد إلى ضدين متحاربين، ولا غنيمة لأحد منهما في الانتصار؛ إذ هو انتصار لا يخلو في الحالتين من خسار.

وينتهي به الأمر إلى البقاء على حاله عجزًا عن تغييره لا سرورًا به ولا رغبةً فيه، فهو لا يتعلق بمعشوقه؛ لأنه راضٍ عن هذه العلاقة، يلتذها ويتشهاها ويتذوق النعمة والهناءة فيها، ولكنه يتعلق به؛ لأنه عاجز عن فراقه، مقيد بضروب من العادات والوساوس لا حيلة له فيها ولا قدرة له عليها.

ومثله في ذلك مثل المدمن الذي يتعاطى السموم ولا يجهل بلواها، ولكنه يقلع عنها فلا يقر له قرار، فيمضي فيها وهو كاره لها يبحث ما استطاع عن سبيل النجاة.

وقد قيل لجميل كل سبب يوجب عليه، لو ملك اختياره، أن يسلو بثينة ويقلع عن هواها، فكان جوابه لكل سبب من هذه الأسباب أنه لا يستطيع! ولم يكن جوابه أنه يجهل تلك الأسباب أو أنه يعرفها ولا يراها موجبة عنده للتفكير في السلو والفراق.

قال له أبوه: «يا بني! حتى متى أنت عَمِهٌ في ضلالك، لا تأنف من أن تتعلق بذات بعل يخلو بها وينكحها وأنت عنها بمعزل، ثم تقوم من تحته إليك فتغرك بخداعها وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها، فيكون قولها لك تعليلًا وغرورًا، فإذا انصرفتَ عنها عادتْ إلى بعلها على حالتها المبذولة … إنَّ هذا لذل وضيم! ما أعرف أخيب سهمًا ولا أضيع عمرًا منك، فأنشدك الله إلا ما كففت وتأملت أمرك؛ فإنك تعلم أنَّ ما قلته حق، ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها، ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له، وفي النساء عوض.»

وهذا كلام مقنع لا ينكره منكر، ويعلم جميل أنه حق كما قال أبوه.

فإذا علم المرء هذا ولم يعمل به فليس لذلك إلا علة واحدة وهي شلل الإرادة، وأنه في حال كحال المريض الذي لا يملك الشفاء، بل ربما كان شرًّا من هذا المريض في استسلامه لدائه؛ لأن المريض قد يريد الشفاء ويتوسل إليه بوسائله التي في يديه، ولكن العاشق الذي برح به العشق، كما برح بجميل مشلول الإرادة حتى عن التوسل بما يستطيع أن يحاوله من وسائل الشفاء.

وهكذا كان جواب جميل لنصيحة أبيه، فقال له: «إنَّ الرأي ما رأيت والقول كما قلت» ثم قال: «ولكن هل رأيت قبلي أحدًا قدر أن يدفع قلبه هواه؟ أو ملك أن يسلي نفسه؟ أو استطاع أن يدفع ما قُضي عليه؟ والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها من عيني لفعلت، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي، وأنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام بهم ولو مت كمدًا، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه.»

وقال له ابن عمه روق مقالة الند للند الذي يفهمه ويستثير نخوته بالمناظرة في الفتوة والمقاربة في السن:

إنك لعاجز ضعيف في استكانتك لهذه المرأة وتركك الاستبدال بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها، وإنك منها بين فجور أرفعك عنه، أو ذل لا أحبه لك، أو كمد يؤدي إلى التلف، أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعرضت لها بعد إعذارهم إليك، وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارة الحزم حتى تألفها، وتصبر نفسك عليها طائعة أو كارهة ألفت ذلك وسلوت.

وهذا كلام كله حزم وسداد، ولكن متى كان الهوى في اشتداده إلا مخالفة للحزم والسداد؟

فما نصح أب فتاه بأحكم ولا أصوب من النصيحة التي سمعها جميل من أبيه.

وما استثار ندٌّ ندًّا بأبلغ ولا أهيج للنخوة من هذا الكلام الذي قاله له ابن عمه.

ولكنه أجاب هذا وذاك بجواب واحد هو العجز والبكاء، وقال لابن عمه كما قال لأبيه: «يا أخي، لو ملكت اختياري لكان ما قلت صوابًا، ولكني لا أملك الاختيار وما أنا إلا كالأسير لا يملك لنفسه نفعًا.»

أو كما قال في شعره:

هي السحر إلا أنَّ للسحر رقية
وإني لا ألفي لها الدهر راقيا

وأكد ذلك أوثق التأكيد حين حاول أن ينفيه فقال:

يقولون مسحور يجن بذكرها
وأقسم ما بي من جنون ولا سحر

ولم يلبث أن كشف عن السحر كله والجنون كله حين أردف هذا البيت ببيت تالٍ يقول فيه:

وأقسم لا أنساك ما ذر شارق
وما هب آل في معلمة قفر

وإنما يقسم هذا القسم من هو مجنون ومسحور، أو من سماهم الناس بالمجانين؛ لأنهم لا يملكون ما يريدون، ويوشك أن يكرهوا إرادة الخلاص لو ملكوه، فهم في حبهم للمعشوقة التي هم مفتونون بها على حد قول المتنبي في افتنان الأحياء عامة بالحياة:

وإذا الشيخ قال أفٍّ فما مل
حياة وإنما الضعف مَلَّا

لا يشكون العشق؛ لأنهم يطلبون الفكاك منه، وإنما يشكونه؛ لأنهم يطلبون الفكاك من ألمه إن استطاعوه، وإلا فالبقاء فيه مع ألمه حين لا يستطيعون.

•••

وظاهر أننا — في قصة جميل وبثينة — أمام عارض نادر من عوارض العلاقة الغرامية؛ لأن المشاهد المتواتر أنَّ هذه العلاقة تجري في مجراها بين كثير من الرجال والنساء، دون أن تصل إلى هذه اللجاجة الموبقة التي وصل إليها جميل.

ولا شك أنَّ الغرائز النوعية أقوى من إرادة الفرد إذا تحكم النزاع بينهما، وبلغ مبلغ الصدام الذي لا محيص فيه من الغلبة لإحداهما، ولكن المسألة هي أنَّ الغريزة النوعية والإرادة الفردية لا تبلغان هذا المبلغ من النزاع والصدام إلا لعارض طارئ ليس بالمتكرر في جميع الأحوال، وهذه هي الندرة التي يدل وقوعها على شذوذ في الفرد أو شذوذ في الأحوال التي تعرضت لها علاقته الغرامية.

فالعشق أصيل في طبائع الإنسان إذا نحن رددناه إلى الغريزة النوعية، بل هو أصيل في طبائع بعض الأحياء من الطير والوحش، كما ظهر من تلازم بعض الأزواج واقتصار بعض الذكور على بعض الإناث، بغير تبديل إلى أمد طويل.

ولكن الغريزة النوعية لم تخلق لشقاء الأفراد ضربة لازب، ولا يلزم من خدمتها النوع أنها تمحق الفرد وتتقاضاه حقه من الهناءة والحرية في جميع الأحوال، ولا سيما إذا تحققت مصلحة النوع بغير هذه التضحية التي لا توجبها خدمة فرد ولا خدمة نوع.

فإذا اصطدمت الغريزة والإرادة الإنسانية على اطراد دائم مدى الحياة، فهنالك شذوذ لا محالة في هذه الإرادة أو في الأحوال التي أحاطت بها ولابستها، وذلك هو الشذوذ النادر الذي نشاهد مثلًا من أمثلته الواضحة في قصة جميل.

والأغلب — فيما يبدو لنا — أنَّ علة هذا الشذوذ راجعة إلى جميل نفسه قبل مرجعها إلى الأحوال، التي أحاطت به وبمعشوقته بثينة.

فقد اصطلحت عليه أسباب كثيرة توهي من إرادته وتعرضه للعجز عن مقاومة هذه المحنة التي غلبته على رأيه.

فكان مدللًا قليل التمرس بالمصاعب كما يغلب على عامة المدللين، وكان وسيمًا تميل به وسامته إلى التصدي لهذه الأهواء والتفرغ لها والوقوف على طريقها، وكان المزاج الفني — أو مزاج الشاعرية — معوانًا له على التمادي في هذه الغواية واستيحاء المقاصد الشعرية منها، وبخاصة حين أغناه اليسار عن معالجة الشعر في أبواب المديح والرحلة إلى الأمراء والرؤساء، وكان فارغ الوقت لا تملأه الشواغل بما ينسيه أو يسليه أو يقسم وقته بين عمله وهواه، وكان مع هذا ضعيف الرأي قليل الحزم كما ذكرنا في فصل آخر من فصول هذه الرسالة، وهي أسباب في جملتها كافية لتعليل تلك الندرة التي جعلته من أبطال العشق المعدودين في آداب اللغة العربية، ويضاف إليها العصر وأثره والبيئة وحكمها، وكلاهما كان مما يمد في دواعي هذه الفتنة، وينحي بينه وبين وسائل الخلاص منها.

وقصة هواه لبثينة قصة من أراد الوقوع في الهوى، ثم وقع فيه، وليست بقصة من أوقعته المصادفة وحاول الخلاص من البداية فامتنع عليه.

فكان في أول عهده بالعشق يهوى «أم الجسير» أخت بثينة الكبيرة، ثم لقي بثينة فشتمته واستملح شتمها، فانصرف من تلك اللحظة عن أختها إليها، وذلك إذ يقول:

وأول ما قاد المودة بيننا
بوادي بغيض يا بثين سباب

وربما دل ذلك على خليقة من الخلائق التي نفهم بها لجاجته في علاقته الغرامية على نحو يندر جدًّا بين الأقوياء ذوي الغلبة من الرجال.

فمن خلائق بعض الضعفاء أن تغريهم الإساءة والحرمان، وتزيدهم كلفًا على كلف بمن أحبوا من النساء، ولا سيما المرأة التي تحسن أن تمزج المنع بالإغراء والإطماع بالإقصاء، وفي هذا يقول من قصيدة أخرى:

ولست على بذل الصفاء هويتها
ولكن سبتني بالدلال وبالبخل

فالسباب استهواه والبخل سباه ولج به في هواه، وتلك أبدًا آية من آيات العجز وضعف الثقة بالنفس وتعليق تلك الثقة بمشيئة غيره، إن أقبلت عليه معشوقته رضي عن نفسه واستراح إلى هذا الرضى، وإن أعرضت عنه ظل في حيرة وابتئاس لا يزولان إلا أن يزيلهما إقبال جديد، وأما هو فليس بقادر على أن يستغني برأيه، أو يستمد الثقة من قرارة نفسه، ولو قدر على ذلك لكان إعراض المعشوقة عنه داعيًا من أكبر دواعي القطيعة والجفاء، ولكان في وسعه أن يعرض عنها، ويكف عن التعلق بها، ولا يضيره ذلك أو يشعره بنقص في طمأنينته النفسية؛ لأنها طمأنينة لا تتعلق بمشيئة سواه.

وفي بعض الضعفاء خليقة قريبة من هذه الخليقة أو هي هي في مظهر من مظاهرها المختلفة، ونعني بها «حب التعذيب» والحنين إليه، ومن هؤلاء من يلتمسون الضرب والإيجاع في بعض الأحيان ويسعون إليه، وقد يستأجرون من يضربهم ويوجعهم، كما يصنع أناس من أصحاب هذه الخليقة في بعض العواصم الأوروبية، ويقترن ذلك دائمًا بالنزعات الجنسية على نحو من الأنحاء.

فإذا كان جميل من أصحاب هذه الخليقة فهواه على تلك الصورة مفهوم، وأسباب اللجاجة في الهوى عنده أكثر من أن تحتاج إلى مزيد.

أقبلت بثينة على وادي «بغيض»، وفيه إبل جميل؛ لترد الماء مع جارة لها، فنفرت الإبل عن المورد، فسبها جميل وسبته، فكان هذا أول التعارف بينهما وأول الغرام، ونسب بها منذ ذلك اليوم بعد أن كان ينسب بأختها أم الجسير.

وقيل: إنَّ جميلًا خرج في يوم عيد والنساء إذ ذاك يتزيَّنَّ ويبدو بعضهن لبعض ويبدون للرجال، فوقف على بثينة وأختها أم الجسير في نساء من بني الأحب؛ ورأى منهن منظرًا عجيبًا فقعد معهن وعشق بثينة، ثم راح ومعه فتيان من بني الأحب عرفوا في نظره حبها ووجدوا عليه، وقال ينسب بها من أبيات:

عجل الفراق وليته لم يعجل
وجرت بوادر دمعك المتهلل
لن تستطيع إلى بثينة رجعة
بعد التفرق دون عام مقبل

ثم علمت بثينة أنه نسب بها فحلفت بالله لا يأتيها على خلاء إلا خرجت إليه ولا تتوارى منه.

وهنا موضع آخر للعجب أو للملاحظة: لِمَ نسب بها وهو لا يجهل أنَّ النسيب يحول بينهما وبين الزواج، كما جرت سُنَّة البادية التي لا تخفى عليه؟!

أَغَلَبَتْهُ النزعة الفنية حتى حجبت عنه الغاية من غرامه؟! أم هي نزوة أخرى من نزوات ضعف الرأي ومطاوعة الغواية العاجلة؟! أم كان حديث العشق والغزل غرضًا مقصودًا لذاته، لا يفكر معه في زواج ولا اتصال؟!

أيسر ما يقال في هذا المسلك: إنه مسلك لا حزم فيه؛ وإنه خليق أن يلقي بصاحبه في تلك المحنة التي ابتلي بها وساق نفسه إليها.

وقد حيل فعلًا بين جميل وبثينة فلم يتزوجا، طلبها للزواج، وتزوج بها رجل آخر قيل في وصفه: إنه دميم أعور، وظهر من أخباره في قصة جميل أنه كانت له زوجة قبلها، وأنَّ بثينة لم تعش معه طول حياتها، وذلك هو نُبيه بن الأسود العذري الذي قال فيه جميل:

لقد أنكحوا جهلًا نُبيهًا ظعينةً
لطيفة طي الكشح ذات شَوى خدل

فهي زيجة لا تغتبط بها الفتاة، وليس من شأنها أن تقطع الصلة ما بين بثينة وجميل، بل لعلها أحرى أن توثقها وتمكن من عراها، ولا سيما إذا كان الزوج مشنوءًا لفتوره وخوره وقلة حميته وعجزه عن إرهاب غريمه، كما كان مشنوءًا لدمامته وتفاوت السن بينه وبين عرسه، وكذلك كان نبيه بن الأسود فيما وصفته لنا الروايات المختلفة، كلما ألمَّ جميل بالحي وطرق بيوت بثينة وأهلها، فلم يجاوز غضب نبيه أن يشكوها إلى أبيها وأخيها.

وكأنما اتفقت الدواعي جميعًا على إطالة العلاقة بين العاشقين فطالت، ولم يقطعاها معًا حتى قطعها الموت، وتخللها ما لا بد أن يتخللها من قرب وبعد، ولقاء وجفاء، ووشاية وغيرة، وفرص موالية وأخطار معادية، مما نقله إلينا الرواة أو لم ينقلوه، ومما صدقوا أو لم يصدقوا فيه، ومما تناقضوا في نقله ولا حاجة بنا إلى اتفاقهم عليه.

فبعض هذا التناقض يثبت القصة في جملتها ولا ينفيها؛ لأنه يرينا أنَّ القصة واقعة ينقلها أناس كثيرون ويسمعونها من شتى المصادر، وليست بالاختراع الموضوع الذي يلفقه قاصٌّ فيقدر على التوفيق بين أجزائه والمقابلة بين أطرافه.

وبعض هذا التناقض يرجع إلى تقديرات النقاد أو القراء فيما يحكمون به على الحب، وما يجوز فيه ولا يجوز، فيستبعدون الخير الذي هو بعيد عن الحب في تقديرهم، ويميلون إلى اتهام الرواة فيه بالوضع أو قلة التحقيق.

من ذلك مثلًا أنَّ صديقنا الدكتور طه حسين يرى من دواعي التشكيك في قصة جميل، أنه غدر بصاحبته مرة، وأنَّ «الغدر لا يمكن أن يصدر عن حبيب عذري كما نفهمه».

فأحصى الدكتور ألوان الشكوك ومنها اللون الثاني وهو كما قال:

شيء من الغدر لا يمكن أن يصدر عن حبيب عذري كما نفهمه، ولا كما كان يفهمه القدماء، زعموا أنَّ أهل بثينة أذاعوا في الناس أنَّ جميلًا لا ينسب بابنتهم وإنما ينسب بأمة لهم، فغضب جميل لهذه المقالة وأراد أن يكذبها، فواعد بثينة والتقيا ذات ليلة فتحدثا، ثم عرض عليها جميل أن تضطجع فمانعت ثم قبلت وأخذها النوم، فلما استوثق جميل من ذلك نهض إلى راحلته فمضى وأصبح الناس، فرأوا بثينة نائمة في غير بيتها فلم يشكوا في أنها كانت مع جميل، وقال جميل في ذلك شعرًا. أتظن أنَّ مثل هذا الخبر يمكن أن يكون حقًّا، وأنَّ رجلًا كجميل كان يحب بثينة حبًّا كالذي نجده في شعره، يستطيع أن يعرضها لمثل هذه الفضيحة؟

فتقدير الدكتور هنا لحب جميل وما ينبغي أو لا ينبغي لمثل حبه، هو الذي أظهر التناقض في هذه القصة وجنح به إلى تكذيبها.

أما إذا أخذنا بتقدير غير هذا التقدير، فلا تناقض ولا موجب إذن للتكذيب.

وعندنا نحن أنَّ حب جميل لا يمنع أن يعرضها لتلك الفضيحة؛ لأنها لا تتجاوز معنى قصيدة من القصائد الكثيرة التي تغنى فيها بحبها ولقائها ومناجاتها، ثم أرسلها في أفواه الرواة تطوف البادية والحاضرة، حيث قدِّر لها المطاف.

وجميل على ما يظهر من شعره يهتم بالنسيب والقالة حتى ليجازف في سبيلها بحظه كله من معشوقته وهو عالم بهذه المجازفة، فينسب بها وقد علم أنَّ هذا النسيب يحرمه أن يتزوج بها ويقسمها لغيره من طلابها. ونحن مع هذا نصدق حبه ونصدق نسيبه ولا نقول: لو كان محبًّا حقًّا لترك النسيب بالمحبوبة ليظفر بها ولا يفقدها.

فالتناقض في القصة التي استشهد بها الدكتور طه تقديريٌّ يزول — أو يزول مؤداه — متى اختلف التقدير.

وربما اختلف التقدير فكان من أسباب توكيد الخبر أو ترجيحه ولم يكن من أسباب استبعاده ونفيه؛ لأن الرجل الذي يشغله النسيب هذا الشغل الشاغل يكرثه حقًّا أن يقال: إنه يتغزل بأمة شائهة وإنه مسلوب العقل مضيع الحياة في هواها، ويهون عليه أن يعلن حقيقة هواه، ولا يهون عليه أن يحتمل هذه الوصمة المهينة، وعلالته في ذلك أنه لا يخشى ضررًا من الفضيحة على من يهوى؛ لأنها قد اشتهرت قبل ذلك بملاحقته لها، ولم يصبها مصاب من ذويها، غير الشكاية والزجر الذي لا يضيرها.

والزهو بعدُ عنصر من عناصر العشق لا سبيل إلى نكرانه والاستخفاف بإغرائه وتحريضه.

فالعاشق قد يحتمل النكبة الفادحة ولا يحتمل الغض من مكانته في نفس معشوقه، والشك في هذه المكانة هو أكبر لواعج الغيرة، والحرص عليها هو أقوى أواصر المحبة، وقد يجازف بمنفعته وراحته ولا يجازف بلقاء تهمة تغض من تلك المكانة وتذيلها وتسقطها عنده وعند غيره.

فجميل صاحب النسيب الذي ضيع في سبيله بثينة كلها ليس بعجيب منه أن يعرضها لفضيحة لا تضيرها، في سبيل كرامة هواه وكرامة نسيبه وكرامة نسبه وأهله.

وقد ينبغي ذلك في الهوى العذري أو لا ينبغي فيه ولا في هوى من الأهواء، ولكن من هو العاشق الذي يعمل ما ينبغي ولا يعمل ما دونه؟!

إنه قد يريد أن يتحامى الضرر الذي يحيق به هو ولا يملك أن يتحاماه، وقد يريد أن يدرأ الفضيحة عن نفسه ولا يملك أن يدرأها، فلا نحاسبه بما يريد، ولا بما ينبغي في عرفه وعرف الناس، وإنما نحاسبه بما يساق إليه، وبما هو مغلوب عليه، وليس بمستبعد على مغلوب أن يعمل عملًا لا يرضاه ساعة عمله، وقد يأتيه وهو نافر منه ساعة يأتيه.

•••

ومن النقائض التي تنجم عن تقدير القراء والنقاد أنهم ربما رأوا للهوى العذري صفة الكمال، ثم يرون هذا الهوى في كلام جميل وأخباره على صفة أخرى.

فالهوى العذري — كما شاع على ألسنة واصفيه — هوى بعيد من الجسد ونزعاته، باقٍ ما بقيت الحياة، ثم هو لا يزال قانعًا على مدى الحياة بالنظر والحديث والمناجاة، وقد يتورع عن الملامسة والتقبيل كأنه صلة قائمة بين روحين لا يتمثل لهما جثمان.

وقد وصف جميل هواه على هذه الصفة في بعض ما نسب إليه، فقال:

لا والذي تسجد الجباه له
ما لي بما دون ثوبها خبر
ولا بفيها ولا هممت به
ما كان إلا الحديث والنظر

وقال يصف ليلة له مع بثينة:

خليلان لم يقربا ريبة
ولم يستخفا إلى منكر

وقال عباس بن سهل الساعدي: «دخلنا على جميل وهو يحتضر، فنظر إليَّ وقال: يا ابن سهل، ما تقول في رجل لم يشرب الخمر، ولم يزن، ولم يقتل النفس، ولم يسرق، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ قلت: أظنه قد نجا، فمن هذا الرجل؟ قال: أنا … قلت: ما أحسبك سلمت وأنت تشبب ببثينة منذ عشرين سنة. فعاد يقسم: لا نالتني شفاعة محمد إن كنت وضعت يدي عليها لريبة، وأكثر ما كان مني أن أسند يدها إلى فؤادي أستريح ساعة.»

ووصفوا لقاءه إياها فقالوا إنه كان إذا أقبل حتى كان غير بعيد دعته إلى الجلوس فكأنه لصق بالأرض … «ثم يسلم عليها ويسألها عن حالها وتسأله هي مثل مسألته، ثم تقرب إليه جاريتها الطعام فيأكل، وتستنشده ما قال فيها فينشدها، ولا يزالان يتحدثان لا يقولان فحشًا ولا هجرًا حتى إذا قارب الصبح، وَدَّعَ كل منهما صاحبه أحسن وداعٍ، وانصرفا وكل منهما يمشي خطوة، ويلتفت إلى صاحبه حتى يغيبا …»

وعلى ذلك انقضت السنون بعد السنين يفترقان ما يفترقان ثم يلتقيان هذا اللقاء، حتى افترقا إلى غير لقاء.

إلا أنَّ أخبارًا أخرى في سيرة جميل تصرح بمبيته عندها واضطجاعه معها، وقد صرحت قصائده غير مرة بالتقبيل والعناق، كما قال:

تجود علينا بالحديث وتارة
تجود علينا بالرضاب من الثغر

وكما قال:

كأن فتيت المسك خالط نشرها
تقل به أرادنها والمرافق
تقوم إذا قامت به من فراشها
ويغدو به من حضنها من تعانق

وأشباه ذلك في شعره غير قليل.

وربما حلف لها في بعض شعره أنه لم «يمس جلدًا غير جلدها» حيث يقول:

حلفت يمينًا يا بثينة صادقًا
فإن كنت فيها كاذبًا فعميتُ
إذا كان جلد غير جلدك مسَّني
وباشرني دون الشعار شريتُ

فهي كانت تتصل به وتتهمه بالاتصال بغيرها، وهو أيضًا لم يكن يكتم الشك فيها وإلقاء الريبة عليها، وله في ذلك كلام صريح يقول منه:

تظل وراء الستر ترنو بلحظها
إذا مر من أترابها من يروقها

ويقول:

بثينة قالت يا جميل أربتني
فقلت كلانا يا بثين مريب!
وأريبنا من لا يؤدي أمانة
ولا يحفظ الأسرار حين يغيب
بعيد على من ليس يطلب حاجة
وأما على ذي حاجة فقريب

أو يقول مبكتًا لها:

لحا الله من لا ينفع الوعد عنده
ومن حبله إن مُدَّ غير متين
ومن هو ذو وجهين ليس بدائم
على العهد حلَّاف بكل يمين
ولست وإن عزت عليَّ بقائل
لها بعد صرم يا بثين صليني

أو يقول مبكتًا نفسه:

وإني لأستحيي من الناس أن أرى
رديفًا لوصل أو عليَّ رديفُ
وأشرب رنقًا منك بعد مودة
وأرضى بوصل منك وهو ضعيف
وإني للماء المخالط للقذى
إذا كثرت وراده لعيوف

وبلغه يومًا أنَّ بثينة استبدلت به حجبة الهلالي فقال:

فيا بثن إن واصلت حجبة فاصرمي
حبالي وإن صارمته فصليني
ولا تجعليني أسوة العبد واجعلي
مع العبد عبدًا مثله وذريني

وحدث كما جاء في سيرته أنه سافر إلى الشام مرة فاتصلت بثينة بعده بحجبة هذا ثم طلب منها حجبة حين عاد جميل أن تصارحه بتركها إياه وتغيرها عليه، فقالت أو قيل على لسانها:

ألم تر أنَّ الماء غير بعدكم
وأنَّ شعاب القلب بعدك حُلت

فأجابها وقد علم ما تريد:

فإن تكُ حُلت فالشعاب كثيرة
وقد نهلت منها قلوصي وعلت

وكان لبثينة فتى من بني عمها يتحدث إليها، فاستراب به جميل وذهب يتحدث إلى غيرها، «وجعل كل واحد منهما يكره أن يبدي لصاحبه شأنه» حتى غلبه الأمر، فأقبل على البيت الذي كان يجتمع فيه معها، وأقبلت هي إليه ولم تبرز له، وجعل كل منهما يطالع صاحبه، فأنشأ يقول:

لقد خفت أن يغتالني الموت عنوة
وفي النفس حاجات إليك كما هيا
وإني لتثنيني الحفيظة كلما
لقيتك يومًا أن أبثك ما بيا
ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني
أظل إذا لم أُسق ريقك صاديا

فرقت له بثينة وقالت لمولاة لها كانت معها: ما أحسن الصدق بأهله! ثم اصطلحا، فسألته بثينة أن ينشدها قوله:

تظل وراء الستر ترنو بلحظها
إذا مر من أترابها من يروقها

فأنشدها إياها، فبكت وقالت: كلا يا جميل! ومن ترى أن يروقني غيرك؟

فتلك جملة من الأخبار المتفرقة تفضي بنا إلى نتيجة ظاهرة وهي أنَّ الهوى بين جميل وبثينة لم يكن خلوًا من نزعات الجسد، ولم يكن خلوًا كذلك من الشك والريبة وتهمة الخيانة من الجانبين، فماذا نقول في ذلك؟ أنقول: إنه تناقض؟ نعم! هو تناقض لا شك فيه، ولكنه تناقض في طبيعة العاطفة نفسها أو في حالاتها وتعبيراتها، وليس هو مع ذلك بمانع حصولها؛ لأنها تحصل متناقضة الحالات والتعبيرات، وكذلك العواطف جميعًا لا تلتزم الدقة المنطقية في جميع الأوقات.

فجائز جدًّا أن يكون جميل قد أعلن براءته في بعض شعره، وجائز أن يكون جميل قد كشف الحقيقة في بعضه الآخر، وجائز جدًّا أن يكون عذريًّا فيما اعتقد ونوى، وأن تخالطه النزعات الجسدية فيما طغى به الهوى.

ذلك كله جائز جدًّا وهو الذي يحصل كل يوم ولا نزال نراه حيثما التفتنا إليه.

يحصل كل يوم أن ينوي الإنسان البراءة ويقع في الريبة على غير وده، ويحصل كل يوم أن يعبر عن هذا وعن ذاك في حينه، ولا يكون ذلك نافيًا لما حصل، بل مؤيدًا لما تعودنا حصوله كل يوم، ولا سيما إذا علمنا أنَّ صاحب القصة إنسان لا يملك مشيئته، ولا يزال محاولًا يضطرب في محاولاته، فَيَوَدُّ حينًا ما يأباه في آخر، ويستنكر في يومه ما كان ارتضاه في أمسه، ولعله يعود فينكره في غده.

وإنما نحن نفرط في التصديق إذا فهمنا أنَّ قبيلة من القبائل تصف هواها بالبراءة التي لا يطرقها الزغل فيكون هذا الوصف عاصمًا لكل فرد من أفراد القبيلة، مبطلًا لكل خبر يخالف تلك الصفة.

ونفرط كذلك في التصديق إذا فهمنا أنَّ الرجل ينوي الأمانة فيكون معنى ذلك أنه لم يخالف الأمانة مختارًا أو مضطرًّا إلى المخالفة، ونحن متناقضون في هذا الفهم؛ لأننا نلمس كل يوم ما يناقضه ولا يستقيم في طريقه.

فجميل وبثينة إنسانان كسائر الناس، لا نحكم على عمل من أعمالهما بالمناقضة وننفيه إلا إذا ناقض الطبيعة البشرية وكذَّب ما تواتر من أخبار الناس.

وكل ما يبدو لنا من أخبارهما أنهما كانا عاشقين يلج أحدهما في عشقه ويَقبل الآخر منه هذه اللجاجة.

فكان جميل يتابع بثينة وكانت بثينة تقبل منه هذه المتابعة؛ لأنها تألفه وتؤثره على زوجها وتستعز بهيامه ونسيبه بين أترابها.

ويجوز أنها عرفت غيره كما يجوز أنه عرف غيرها، بل يجوز أنها كانت تعتمد عليه في بعض حاجاتها، كما تعتمد المرأة على الرجل الذي يهواها، فكان الهوى بينهما على طباق الأرض، ولم يكن بالهوى السابح في أجواز الفضاء، وكانا إنسانين في كل حالة من حالاتهما، كما يكون كل إنسانين بدويين في ذلك الزمن وفي تلك البيئة، وعند ذلك لا نرى في أخبارهما ما يناقض الواقع أو يستبعده العقل أو يخالف ما يجري في علاقات الغرام.

أما الهوى العذري فقصاراه أنه كان أمنية لهما وأمنية لكل قبيلة تعتز بالمنعة والصيانة في بناتها، إن جرى الواقع بما يخالفه فهو الواقع الذي يخالف أبدًا كل عرف نصبو إلى تحقيقه، فما زال من دأب المثل الأعلى — أو من دأب الأماني الاجتماعية — أنها تراد وتخالف ولا يزال الناس يريدونها ويخالفونها، فلا ينفيها ذلك بل يدل على وجودها.

وقد اتفقت أسباب شتى على توكيد هذا العرف في قبيلة بني عذرة وجيرانها؛ فهي قبيلة بادية توكل إليها أحيانًا حراسة الطرق بين الحجاز وما جاوره من شماله، ففيها طبيعة البداوة أن تعتز بالمنعة والصيانة ولا تعترف بالشبهة في بناتها ومحارمها، وفيها رغبة الحفاظ على هذه السمعة التي تحتاج إليها وتأبى أن تمس فيها، وإلا ديس حماها وبطلت حراستها وتخطاها من يعتمد عليها.

وهي مع هذا قبيلة تجاور الحجاز وتعرف الإسلام وتنكر ما ينكر من إثم وتفرض ما يفرض من حدود، فليس بمباح عندها أن تتصل المرأة بغير زوجها، وليست إباحة ذلك فعلًا بمانعتها أن تنكرها وتبرأ منها في حياتها الاجتماعية.

ونحسب أنَّ المنعة في العشق أو الاستعصام في العلاقات بين الرجال والنساء مصلحة طبيعية نوعية، بل مصلحة «فزيولوجية» كما نستطيع أن نسميها في العصر الحديث، وليست بمصلحة اجتماعية في القبيلة أو مصلحة دينية يوجبها الدين وحده ولا يوجبها شيء غيره على أتباعه.

فإذا كانت آداب العشق هي الآداب التي تكشف الفضائل النوعية في العاشقين معًا؛ فالاستعصام لازم فيها والتجمل بالعفة ضرورة من ضروراتها؛ لأن الاستسلام للشهوات ضعف لا يرشح صاحبه للبقاء ولا يدل على استحقاقه للحب والإيثار.

وإذا قال اليوم بعض الثراثرة المتعجلين: إنَّ العقائد القديمة هي التي كانت وحدها توجب الاستعصام على الفتيان والفتيات، وأنهم خلقاء أن يحمدوا الإباحة متى تحرروا من ربقة العقائد القديمة، فهؤلاء الثراثرة المتعجلون لا يفقهون ما يقولون.

إنَّ الفتى والفتاة يجب أن يستعصما ولو لم يؤمنا بدين من الأديان الكتابية أو غير الكتابية؛ لأنهما في دور العشق يعرضان فضائل النوع فيهما، وليس من فضائل النوع أن ينساق الفتى أو الفتاة لأول غواية، وأن تكون الشهوة هي كل ما يصبي الواحد منهما من زميله.

فالطبيعة والدين معًا يدعوان إلى العصمة بين العاشقين، وينكران التدفع إلى الشهوات في غير مساك ولا ممانعة، وخليق أن يتأكد ذلك في القبيلة البدوية التي تهمها المنعة وتجاور كعبة الدين وتجري على سنة الطبيعة، فلا يضعف فيها ذلك التوكيد إلا لعارض يوهي الحوزة ويبيح المحظور، أو على انحراف يتغاضى عنه العرف، ويزعم أنه لا يقره ولا يراه.

فما اشتد من عصمة العرف بين العذريين فمعقول لا ينقض ما توجبه السنن الطبيعية، وما جاء في سيرة جميل وبثينة خلافًا لذلك العرف أو وفاقًا له فمعقول كذلك في خلافه ووفاقه؛ لأن مخالفة العرف شيء يقع ولا يمتنع، وشيء له أسباب في الحياة الفردية كالأسباب التي أوجبت العرف في الحياة الاجتماعية.

وقد أجملنا الإشارة إلى هذه الأسباب وتلك الأسباب، فخلص لنا منهما أنَّ جميلًا وبثينة عاشقان طبيعيان، وأنَّ ما جرى بينهما ورُوي عنهما لا يناقض ما يكون ولا ما كان، ولن يوجدا على غير ما وُصفا، حيث وُجدا في تلك البيئة وفي ذلك الزمان.

أحسن الغزل

كان العرف الشائع بين نقاد الغزل في الشعر العربي إلى عهد قريب: أنَّ أحسن الغزل هو ما حسن فيه وصف المحبوب، وأربى على الغاية في إسباغ المحاسن عليه، فمن جعل محبوبه عصمة في الجمال لا يمسه نقص، ولا يلحق به عيب، فهو أغزل ممن وصفه، فظهر من وصفه إياه أنه معيب في بعض نواحي خلقه وخُلقه، ومن قال: إنَّ محبوبه كالشمس أغزل ممن قال فيه: إنه كالبدر أو كوكب من كواكب الليل، التي تبلغ مبلغ البدر والشمس في الإشراق والجمال.

وهذا كما يرى من النظر اليسير خلط ذريع بين أمور كثيرة: خلط بين الاستحسان والعشق وهما مختلفان؛ لأن الاستحسان قد يأتي من العاشق وغير العاشق، ولا يلزم من عشق الرجل امرأة من النساء أنها في نظره أجمل من كل امرأة رآها، فربما عرف عيوبها وعرف محاسن غيرها، فأحبها بعيوبها ولم يحبب صاحبة المحاسن المفضلة في عينيه.

وخلط بين هوى الشخصية وهوى الصفات، فمن شروط العشق الأولى أنه يميز للعاشق شخصية واحدة بين جميع الشخصيات التي يراها، فهو يحل «الشخصيات» لفرد من أفراد الجنس في محل أعلى وأرفع من الصفات التي تعم بحسنها كل من اتصف بها، ويرجع هذا التمييز إلى أسباب كثيرة لا تقتصر على استحسان الجمال، منها تقارب العواطف، ومنها المصادفة التي تجمع بين العاشقين في أحوال مهيأة للتعلق والالتفات ثم للألفة والهيام، ومنها إحساس النقص في العاشق وما يتممه من مزايا المعشوق، ومنها قدرة المعشوق على إعزاز مكانته في قلب العاشق، وإن لم تكن له فتنة جمال.

ثم هو خلط بين خصائص المعشوق وخصائص العاشق …

فالجمال شيء يخص المعشوق ويدل عليه، ولا يلزم من تفوق المعشوق في الصفات المحبوبة أن يتفوق العاشق في الصفات المحبة، وأن يكون كلامه مثلًا لكلام المحبين.

فمن المحقق إذن أنَّ أحسن الغزل ليس هو أحسن الثناء على المحبوب، وقد يكون غزلًا جيدًا — أو شعرًا غراميًّا جيدًا — وفيه هجو وإقذاع.

ثم ينبغي أن نذكر هنا أنَّ العشق اضطرار وليس باختيار، فالعاشق لا يلازم معشوقه؛ لأنه يختار ملازمته؛ بل لأنه لا يستطيع فراقه ولو أساء إليه، فإذا رأى منه السيئات وبقي على عشقه، فذلك أدل على قوة العشق من البقاء مع الاستحسان والاختيار؛ إذ لا فضل ولا قوة عشق لمن يبقى على الشيء؛ لأنه مستحسن لديه، وقد يكون فضل العاشق وقوة عشقه في عرفانه السيئات والسخط عليها ثم حبها مع هذا وذاك، فيكون هجاؤه أحيانًا أدل على عشقه من ثنائه؛ لأنه العشق الذي يغلبه على ما يريد.

فالمدرسة التي تجعل الثناء والاستحسان مقياس الإجادة في الغزل تجهل الغزل الجيد، وتخلط بين جميع تلك الأمور.

•••

وهناك مدرسة أخرى تجعل «الرقة» والمبالغة فيها مقياسًا للغزل والمتغزلين.

فالذي يجعل قلبه موطئًا لقدم محبوبه أغزل ممن يجعل خده — ليس إلا — موطئًا لقدمه.

والذي يبكي الليل والنهار أغزل ممن يبكي الليل ويكفكف دمعه بالنهار.

والذي يتذلل ويتضرع أغزل من الذي يثور ويتبرم، والذي يشبه المرأة في كلامه معها هو على مذهبهم أصلح الرجال لعشق النساء!

وهذا الرأي من سخف الضعف والاضمحلال، الذي ابتلي به الشرقيون في زمن من الأزمان.

فالعشق أقوى غريزة تختلج بها البنية الإنسانية، وهو لم يخلق للذة العاشقين ونعيمهما حتى يكون كل ما فيه لينًا ونعمة ورقة، ولكنه خلق لبقاء النوع واستدامة الحياة، فربما ذهب العاشقان معًا ضحية له في بعض الأحيان، وربما غلب فيه الجماح والسورة فطغى جانب الغضب على جانب الرضى، وجارت القسوة على الرقة، وظهر المحبان في مظهر أشبه بصراع الأعداء منه بملاطفة الأوداء؛ لأن كليهما مسوق مغلول ضعيف الحيلة في النجاء.

وإنما نعرف أحسن الغزل حين نعرف مبعث الغزل من طبيعة الأحياء.

فالغزل — قبل كل شيء — خاصة من خواص الذكور في الإنسان وفي جميع الأحياء؛ لأن الذكور هي التي تبتدئ الغزل وتتعارك في طلب الإناث، وكل ما تصنعه الأنثى من دور طبيعي في الغزل أن تتعرض له وتلبيه وتستجيب إليه.

ومتى بلغ الذكر سن التغزل فآية ذلك أن يغلظ صوته ويخشوشن، وتشتد فيه دوافع السطوة والطراد.

فالصفات التي تجعل الغزل صالحًا للإصغاء إليه والوقوع في موقعه هي الصفات التي تجعل الرجولة صالحة لما تستبق إليه، وهي صفات ليس فيها تأنث ولا ضراعة ولا خفوت.

وقد عرضنا لهذا البحث في مقال من مقالات كتابنا «الفصول» وعقبنا على رأي دارون فقلنا: إنه تلمس «علة الطرب من ناحية الرقة والرخامة، فعسر عليه الوصول إلى مصدرها، وقال في كتابه (أصل الإنسان): لو سأل سائل: ما بال بعض الألحان والأوزان يرتاح إليه الإنسان وأنواع من الحيوان؟! لما كان في وسعنا أن نجيب عن ذلك إلا بجواب السؤال عن سبب ارتياحها إلى بعض المذوقات والمشمومات».

ثم قلنا: إننا «إذا تلمسنا علة الطرب أولًا من جهة التأثر بقوة الصوت وجدنا الجواب عن ذلك السؤال سهلًا قريبًا، وأمكننا أن يجيب من سألنا: لماذا يؤثر أعمق الأصوات ارتجافًا وتمييدًا وأكثرها تنوعًا وتجويدًا؟ فنقول له: لأنه ترجمان العاطفة الشديدة، والعاطفة من شأنها أن تبعث العاطفة، ولا يزال الغناء كذلك حتى يتعلم الناس الكلام، وينعقد الصوت ألفاظًا، فيتدفق الغزل من النفس المحتدمة تدفقًا عارمًا ويكون أجهر الرجال رغبة أهيجهم لرغبة المرأة وأبلغهم إلى نفسها كلامًا وأغلبهم على طبعها سلطانًا …»

واستطردنا من ذلك إلى أنَّ العشق في طبيعته الأولى بعيد عن الرفق والسلاسة، وإنما هو شواظ لاذع يلتف دخانه بناره، ويلتهب شوقًا إلى وقوده، فإن أصابه خمد وعاد الشاعر يترنم بهناءة نفسه ويغتبط بالراحة من سورة طبعه، وإن لم يصب وقودًا كان نقمة لا تطاق، وأي رقة في قول المجنون:

كأن فؤادي في مخالب طائر
إذا ذُكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم
عليَّ فما تزداد طولًا ولا عرضا

«إنَّ قلب السامع لينقبض، وإنَّ صدره ليحرج لهذا الوصف، ومع هذا أي شعر أبرع من هذا الشعر وأي شاعر أطبع وأعشق من المجنون؟»

وليس العشق الصادق حين يشب أواره وتتأزم حلقاته بالعاطفة التي يود صاحبها دوامها ويستريح إلى مناجاتها، كلا، وإنما هو غمة مطبقة يود المبتلى بها لو تنقضي لساعتها، ويقوم في نفسه عراك لا تهدأ ثائرته، ولا يهنأ بالغلبة فيه؛ لأنه هو الغالب وهو المغلوب، وكأنما ينزع نفسه من نفسه، فيضيق ذرعًا ويغوث من كرب هذا النزاع: نزاع الحيرة التي يقول فيها المجنون:

فوالله ما في القرب لي منك راحة
ولا البعد يسليني ولا أنا صابر
ووالله ما أدري بأية حيلة
وأي مرام أو خطار أخاطر

«وكان كاتيولس الشاعر الروماني يدعو الآلهة قائلًا: أيتها الآلهة، إن كانت لك رحمة بالقلوب الصديعة المشفية، فبحق براءتي عليك إلا ما نظرت إلى عذابي، ورثيت لما بي، ومسحت عني هذا الوباء الماحق، والبلاء اللاحق، وهذه اللوعة التي تسربت رعدتها في عروقي فنفت الهناءة عن قلبي.»

وهي رعدة عروة التي يقول فيها:

وإني لتعروني لذكراك رعدة
لها بين جلدي والعظام دبيب

ووهلة المجنون التي يصفها بقوله:

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
أطار بليلى طائرًا كان في صدري

فإن طاوعته نفسه في نزاعه ذاك وإلا حنق عليها، وذهب به الحب إلى كره ذلك المخلوق المسلط عليه، الذي حرمه نعمة الطمأنينة، وجلب عليه هذا الشر، وفرق بينه وبين نفسه، فيحب ويكره في آنٍ، وربما تمنى لحبيبه الموت لعل اليأس منه أن يشفيه كما قال جنادة العذري:

من حبها أتمنى أن يلاقيني
من نحو بلدتها ناعٍ فينعاها
كيما أقول فراق لا لقاء له
وتضمر النفس يأسًا ثم تسلاها
ولو تموت لراعتْني وقلت ألا
يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها

«وكان كاتيولس يقول: إني لأكره وأحب، تسألني كيف ذلك؟ من يدري! ولكني أحس بحقيقة هذا الأمر وشدة برحائه.»

وكذلك كان يقول المجنون:

فيا رب إذ صيرت ليلى هي المنى
فزني بعينيها كما زنتها ليا
وإلا فبغضها إلي وأهلها
فإني بليلى قد لقيت الدواهيا

«وليس في نعت الحب بالداهية شيء من الرقة والدماثة، ولكنها حقيقة اتفق عليها شاعران ليس بينهما جامعة من ذوق لغة، أو مشرب قوم، أو وحدة زمن، ولكنهما اجتمعا على عاطفة إنسانية صادقة، بل اتفق عليها كل شاعر عالج من العشق ما عالجه هذان الشاعران.»

وأحيانًا يثوب العاشق إلى نفسه فيبدو له كأنه مختار في شغفه وسلوته، وكأن الأمر لا يعني غيره، فإن شاء سدر في الحب وإن شاء صدف، وإن شاء مضى مع قلبه وإن شاء وقف، فلا ينشب أن يستيقن عجزه وقلة حيلته، وأن الأمر فوق يده ووراء مشيئته، وهذا الذي يصفه جميل؛ إذ يقول:

ألا قاتل الله الهوى كيف قادني
كما قيد مغلول اليدين أسير

«وهنا يخيل إليه أو إلى الناس أنَّ قوة فوق قوة الإنسان تقهره على مشيئته، وأنَّ رقية من رقى السحر أو طائفًا من طوائف الجن يحول بينه وبين حريته، كما خيل إلى ذلك الشاعر الروماني حين قال: أيتها الساحرة … لئن جملتك طلاسمك في عيني لتعلمن أنَّ الوجد أطول أجلًا من الإجلال، وإني لأهواك ولست بعدُ إلا محتقرًا لك، وإنَّ عد هذا ضربًا من الخبال.»

وكما يقول المجنون:

هي السحر إلا أنَّ للسحر رقية
وإني لا ألقى لها الدهر راقيا

أو كما يقول جميل:

يقولون مسحور يجن بذكرها
فأقسم ما بي من جنون ولا سحر

وما الجنون والسحر إلا ما به، وإلا فهل للعشق وصف أصدق من أنه مزيج من جنون وسحر؟ هل هو إلا جنون يعتقل العقل ويهزأ بالحذر ويطير مع الأهواء، فإن ثقلت عليه النهى أزاحها عن عاتقه ومضى لطيته؟ ألا يعرف العاشق ما يوبقه ولكنه لا يحيد عنه؟ ويبصر ما يشفيه وهو يأبى أن يذوقه؟

… ومن محاسن جميل وإخوانه من الشعراء الغزليين أمانتهم في الإعراب عن النفس والبث بالعاطفة. انظر إلى قوله:

أرى كل معشوقين غيري وغيرها
يلذَّان في الدنيا ويغتبطان
وأمشي وتمشي في البلاد كأننا
أسيران للأعداء مرتهنان

«فهكذا ظن جميل، وهكذا يظن كل عاشق يسمع بلذة العشق ولا يرى أين هي، فيحسب أنه هو الشقي وحده وأنَّ العشاق كلهم سعداء، والحقيقة أنَّ العشق لا يخلو من الشقاء أبدًا، ولو خلا منه لكان أشبه باللهو الذي يتشاغل به البطَّالون والمجان …»

•••

وأول ما يُستخلص من هذه المشاهدات وهذه الحقائق أنَّ الغزل الحسن شيء لا يشترط فيه استحسان شمائل المحبوب والمبالغة في إطرائها، وأنه كذلك شيء لا يشترط فيه الترقق والشكوى وضراعة الخطاب، وإنما هو التعبير الصادق عن الحب، كما خلقه الله في نفوس الأحياء، وهو بهذه المثابة شيء أعظم من حياة الإنسان نفسه؛ لأنه يتناول الغرائز النوعية كلها والطبائع الكونية كلها، ولا يقتصر على فرد من الأفراد في حالة من الحالات، فهو كالبحر اللجي الذي تتيه فيه العقول ويتسع للنقائض ويعج بضروب من المفاجآت ليس لها انتهاء.

هو ظفر حيوي؛ لأنه استيلاء شخصية على شخصية أخرى تنضوي إليها وتفتح لها أبواب الشعور بالدنيا على مصاريعها، فهو إذن غبطة وفرح وانتشاء.

وهو تضحية؛ لأنه مطلب نوعي تهمل فيه منافع الفرد ولذاته وأمانيه، فهو إذن يأس وشدة وبلاء.

وهو لذة؛ لأن الطبيعة تحتال على الفرد أحيانًا لتوقعه في حبائلها، فتريه لذته فيما تقوده إليه من أغراضها، فهو إذن نعيم وطرب وترنيم.

وهو حسرة؛ لأنه يربط مسرات الدنيا كلها بمخلوق واحد لا ينوب عنه مخلوق آخر، فهو إذن نعمة مهددة بالضياع والقلق في كل حين.

وهو عراك ووئام وظفر وتسليم، واختيار وإكراه، وعزة وذل، وقسوة ورحمة، وخشونة ولين.

وهو كما خلق في الغرائز جارف عنيف، وكما تعهدته الحضارة مهذب مصقول، ولا يزال بين الغريزة والصقل قابلًا للوثبة المفاجئة من النقيض إلى النقيض، لا ينقاد للعنان مرة إلا جذبه مرة أو مرات، فكأنه منطلق بغير عنان.

مثل هذا الفيلم الزاخر من الحياة النوعية والحياة الفردية حمقٌ أسخف الحمق أن يحصره المتبطلون من مصطنعي النقد في قالب واحد أو هيئة واحدة أو لون لا يتبدل، فمن حصره هذا الحصر وسامه هذا السوم، فأقل ما يقال فيه: إنه يلغو بما لا يدريه.

ونحن لا يفوتنا أن نستحضر هذه الحقيقة إلا فاتنا أن نحكم الحكم الصحيح على كل غزل وكل عاطفة غزلية، وكل علاقة إنسانية تستند إلى طبائع الأحياء.

فجميل — مثلًا — أبطل المبطلين في عشقه وغزله عند مدرسة «الاستحسان» أو مدرسة الرقة حين قال:

رمى الله في عيني بثينة بالقذى
وفي الغر من أنيابها بالقوادح

لأنه سأل الله تشويه ما هو حسن في عيني حبيبته وثغرها وهما أجمل ما يُتمنى له الجمال في وجه محبوب، ولأنه تجافى الرقة كلها حين دعا عليها ذلك الدعاء الغليظ الذي يدعو به العدو على ألدِّ أعدائه.

ولكن هذا البيت مع هذا أدل على عشق جميل من عشر قصائد غزلية تفيض بالرقة والثناء؛ لأنه دليل على حب برَّح به وحار في الخلاص منه وغُلب على مشيئته فيه، وظن أنَّ البلاء كله من جمال تلك العيون وجمال تلك الثنايا، فلم يبق له من حيلة إلا أن يسأل الله إتلاف هذا الجمال عسى أن يطيق بعد ذلك سلوه والراحة من بلواه، أما قبل ذلك فلا حيلة له ولا طاقة بالسلو والنسيان.

هذا أعمق الحب وأصدق الغزل، ولك أن تقول: إنه غزل صادق من رجل سيئ، أو إنه غزل صادق من رجل طيب في سورة اليأس والحيرة، فهذا حق لا غبار عليه … أما أن يكون مبطلًا في عشقه وغزله؛ لأنه تمنى تلك الأمنية، فذلك من اللغو الذي لا صدق فيه.

ولك أن تقول: إنها أمنية رجل تغلب عليه «الأنانية»، ويلتمس الراحة بما استطاع من وسيلة، ولو كان فيها بلاء لمن يهواه، إلا أنك لا تنسى أنه تمنى تلك الأمنية؛ لأنه أحب وضاق ذرعًا بحبه، وبلغ أقصى ما يبلغه العاشق من التعلق بالمعشوق، والعجز عن الفكاك من إرهاقه، فهي — إن شئت — «أنانية» ذميمة، لا ترضى عنها الأخلاق الكريمة، ولكنه حب قوي وتعبير صادق عنه، وهذا هو المرجع في قياس الشعر وتحقيق العاطفة، ولا مرجع سواه.

وفي شعر جميل ما ينم على الأنانية لا مراء، كقوله في الرائية المشهورة:

فلا نعمت بعدي ولا عشت بعدها
ودامت لنا الدنيا إلى ملتقى الحشر

فهو يتمنى البقاء معها إلى ملتقى الحشر، ولكنه يأبى عليها الحياة بعده، ويسأل الله أن يموتا معًا إذا قضى الله أن يعجل بموته.

ولكنها «أنانية» لا تخص جميلًا بين العشاق فيما نراه؛ فما من عاشق يسره أن يتخيل معشوقته وقد نعمت بعده بحب غيره، وما في هذه الأمنية من دليل على قلة الحب وكراهة المحبوب، بل فيها دلائل على فرط الحب والاستغراق فيه، ونحسب أنَّ بثينة أرضاها هذا من دعائه فوق ما كان يرضيها دعاء السلامة لها والنعمة في هوى العشاق بعده؛ لأنها تحس ببداهة الأنوثة أنه يسر ببقائها ونعمتها بعد موته؛ لأنه قليل الغيرة عليها في الحياة وبعد الممات.

وللشعراء العشاق من مدرسة جميل فلتات مستغربة من هذا القبيل، أو لعلها أغرب جدًّا في هذا الباب من فلتات جميل، ولا سيما الفلتات التي أحصوها على تلميذه الأكبر كثير بن عبد الرحمن.

فقد أصبح كثير أضحوكة الأضاحيك بين الشعراء والنقاد؛ لأنه قال:

ألا ليتنا يا عز من غير ريبة
بعيران نرعى في الخلاء ونعذب
كلانا به عُرٌّ فمن يرنا يقُل
على حسنها جربى تعَدَّى وأجرب
إذا ما وردنا منهلًا صاح أهله
علينا فما ننفك نُرمى ونضرب
وددت وبيت الله أنك بكرة
هجان وأني مُصعَب ثم نهرب
نكون بَعيرَيْ ذي غِنًى فيضيفنا
فلا هو يرعانا ولا نحن نُطلب

وعيَّره نظراؤه حين شاعت هذه الأبيات، فقالوا له: «ويلك! تمنيت لها ولنفسك الرق والجرب والرمي والطرد والمسخ، فأي مكروه لم تتمن لها ولنفسك؟ لقد أصابها منك قول الأول: «معاداة عاقلة خير من مودة أحمق!»

وصدقوا والله ما من أمنية هي أدعى إلى الضحك والسخرية من هذه الأمنية التي سألها كثير. ولكن من قال: إنَّ كثيرًا لم يكن مضحكًا وسخرة حتى يستغرب منه أن يتمنى هذه الأمنية، وأن ينظمها في تلك الأبيات وهو صادق التعبير؟

فقد وصفه بعضهم فقال: «رأيته في الطواف فمن قال لك: إنه يزيد على ثلاثة أشبار فكذبه!» ووصف بعض عشرائه حماقته فقال: إنَّ كثيرًا لقيه فسأله: ماذا يقول الناس عني؟ فأجابه: إنهم يزعمونك المسيح الدجال … قال كثير: عجبًا، والله إني لأحس في عيني بعض الضعف منذ اليوم!

فمثل هذا الرجل يستغرب منه إذا غلبته العاطفة أن يعبر عن نفسه، فلا تفلت منه أمثال تلك الأبيات، فهذا موضع الغرابة وليس موضعه أنه يصدق في التعبير عن ذات نفسه، كما صدق في التعبير عما تمناه.

عاشق زري المنظر، مستحمق العقل، ضعيف الحيلة، يزاحمه الناس على محبوبته، ويخشى أن يغلبه كل مزاحم عليها؛ لأنه أجمل منه منظرًا وأقدر على الإغواء والإغراء، ثم تنغصه الوساوس، وينظر في وسيلة يأمن بها على صاحبته فيتركها الناس له ويتركونه لها، فلا يجد من وسيلة قط غير ابتلاء عزة بالبلاء الذي يزهد الناس فيها ويقصرها على حبه وولائه دون غيره، فيبتعد الناس عن عزة، وتبتعد هي عنهم ضرورة لا محيد لها ولا لهم عنها، أما أن يبعدهم هو أو يبعدها، فقد علم أنه لا يستطيع ولا يملك من فتنة ولا حيلة تعينه على ما يريد. فماذا هو صانع؟! أيتركها؟! إنه لا يقوى على تركها … أيحميها؟! إنه لا يقوى على حمايتها، فلا عجب إذن أن يخطر له ذلك الخاطر، وأن يتمنى الشيء الوحيد الذي يصون له محبوبته بمأمن من الغواة والمزاحمين، وهو ما تمناه وصدق في تمنيه.

ويخيل إلينا أنَّ كثيرًا قد رأى البعيرين الموصوفين رؤية العيان؛ لأنه منظر لا يندر أن يصادفه الناظر مرات حيث عاش كثير، فوقع له أنَّ هذين البعيرين سعيدان، حيث يسرحان ولا يطلبهما مالك ولا راعٍ، ولا هما سائلان عن علف وشراب، فتمنى السعادة على هذا المنوال، وشهدها بالعين قبل أن يتمناها في الخيال.

أتقول: إنه سخيف؟ نعم! هو سخيف لا مراء، ولكنه محب يصدق في التعبير عن حبه، ويدل عليه دلالة لا اصطناع فيها، فلا محل للخلط إذن بين سخف القائل وصدق ما قال، ولا محل كذلك لاتهام عاطفته بما كان من رداءة تمنيه؛ لأنه أحب فنغصه الحب وحيل بينه وبين التماس الراحة من غير هذه الطريق.

وها نحن أولاء قد رأينا عشاقًا يتمنون الموت لمن يحبون، وعشاقًا يتمنون التشويه لمن يحبون، وعشاقًا يتمنون الخلاص ممن يحبون، ورأينا أنهم أحبوا وصدقوا التعبير عن الحب، وإن عيبت عليهم الأثرة أو الغفلة أو الجفاء. فلا غرابة إذن في شعر غرامي تعوزه الضراعة والشكاية، أو يعوزه الثناء والاستحسان، ولا شرط للغزل الصادق إلا التعبير عن الشعور، الذي يختلج في قلب صاحبه كائنًا ما كان الرأي فيه وفي خلقه وعقله وأمانيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤