بعض أخباره

قابلنا بين جميل وعمر بن أبي ربيعة في أكثر من خصلة واحدة من خصال الفن والحياة؛ إذ الحقيقة أنهما متقابلان يوشك أن يتناظرا في جميع الخصال: بداوة وحضارة، وعكوف على محبوبة واحدة وتشبيب بجميع الحسان، وعاطفة تغلب فيها الحاسة الإنسانية حيث كانت، وعاطفة تغلب فيها حاسة الطبقة الاجتماعية التي منها الشاعر، وكلا الشاعرين صادق فيما يمثله أو فيما يحكيه.

وإنهما ليتقابلان في أخبارهما كما يتقابلان في تلك الخصال التي أشرنا إليها.

فأخبار عمر مفهومة من ديوانه؛ لأنه ينظم فحواها ولا يدع منها إلا بعض التفاصيل، وأخبار جميل تحتاج إلى الرواة والناقلين؛ لأن الذي نظمه منها في ديوانه قليل الغناء في باب الأخبار، وإنما يدل على سيرته من طريق التفسير والتعقيب.

واختلاف العاطفتين يتأدى بنا إلى علة الفارق بينهما في هذه الخصلة كما يتأدى بنا إلى علل الفوارق بينهما في جميع الخصال.

فابن أبي ربيعة كان له في كل يوم خبر وعلاقة، وكان همه الأكبر أن يتحدث إلى الحسان ويتحدث عن الحسان، فلا عجب في اتساع ديوانه للأخبار المنظومة التي هي متعته وهجيراه.

أما جميل فعاطفته خبر واحد، إن لم ينظم في الحنين والشكوى فلا نظم عنده، ولا تأتيه الأخبار التي ينظم فيها إلا حين يطرأ طارئ يغير مجرى تلك الحياة الرتيبة، كما قال حين خرج عليه أهل بثينة:

ولست بناسٍ أهلها حين أقبلوا
وجالوا علينا بالسيوف وطوَّفوا
وقالوا جميل بات في الحي عندها
وقد جردوا أسيافهم ثم وقَّفوا

أو كما قال حين وقف متذكرًا على الأطلال:

بينما هن بالأراك معًا
إذ بدا راكب على جمله
فتناظرن ثم قلن لها
أكرميه حييت في نزله

ولا غنى مع شعره عن نتف من أخباره التي تناقلها الرواة، وهي مما يزكيه شعره ويثبته في الجملة، وإن عرضت له الزيادة والاختراع في التفصيل، وعلى هذا النحو هذه النخبة التالية من أخباره الكثيرة التي توخينا فيها الدلالة عليه، وتجنبنا التكرار فيما يشبه ما اخترناه.

(١) بين نظيرين

لقي عمر بن أبي ربيعة جميلًا في طريقه إلى الشام، فاستنشده من شعره فأسمعه من قوله:

خليلي فيما عشتما هل رأيتما
قتيلًا بكى من حب قاتله قبلي

ثم قال له: أنشدني أنت يا أبا الخطاب، فأسمعه قصيدته العينية التي أولها:

ألم تسأل الأطلال والمتربَّعا
ببطن حُلَيَّات دوارس بلقعا

فلما بلغ إلى قوله:

فلما تواقفنا وسلمت أشرقت
وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما عرفنني
وقلن امرؤ باغ أكلَّ وأوضعا
وقربن أسباب الهوى لمتيم
يقيس ذراعًا كلما قسن إصبعا

فصاح جميل واستخذى وقال: ألا إنَّ النسيب أخذ من هذا، وما أنشد بعد ذلك حرفًا.

فقال له عمر: اذهب بنا إلى بثينة حتى نسلم عليها. فامتنع جميل واعتذر بإهدار السلطان دمه إن وجدوه عندها، وأشار له إلى أبياتها. فتقدم عمر حتى وقف على الأبيات وتأنَّس حتى كلِّم. فقال: يا جارية! أنا عمر بن أبي ربيعة فأعلمي بثينة مكاني، فخرجت إليه بثينة في مباذلها وهي تقول: والله يا عمر لا أكون من نسائك اللائي يزعمن أن قتلهن الوجد بك، فانكسر عمر، ونظر فإذا امرأة أدماء طوالة.

(٢) بين الأستاذ وتلميذه

والتقى جميل وكثير فتذاكرا النسيب، فقال كثير: يا جميل، أترى بثينة لم تسمع بقولك:

يقيك جميل كلَّ سوء أما له
لديك حديث أو إليك رسول؟
وقد قلت في حبي لكم وصبابتي
محاسن شعر ذكرهن يطول
فإن لم يكن قولي رضاك فعلمي
نسيم الصبا يا بثن كيف أقول
فما غاب عن عيني خيالك لحظة
ولا زال عنها والخيال يزول

فقال جميل: أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك:

يقول العدا يا عزُّ قد حال دونكم
شجاع على ظهر الطريق مصمم
فقلت لها والله لو كان دونكم
جهنم ما راعت فؤادي جهنم
وكيف يروع القلب يا عز رائع
ووجهك في الظلماء للسَّفر معلم
وما ظلمتك النفس يا عز في الهوى
فلا تنقمي حبي فما فيه منقم

ثم بكيا قطعة من الليل وانصرفا.

(٣) جلتها أو لم تجلُها؟

كان أهل بثينة يأتمنون عليها عجوزًا منهم يقال لها: أم منظور، فجاءها جميل يسألها أن تريه بثينة، فقالت: لا والله، لا أفعل وقد ائتمنوني عليها. فتوعدها ليضرنها … قالت: المضرة والله في أن أريكها. فخرج من عندها وهو يقول:

ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت
بالحجر يوم جلتها أم منظور
ولا انسلابتها خُرسًا جبائرها
إليَّ من ساقط الأرواق مستور

فما كان إلا قليل حتى انتهى إليهم هذان البيتان فاتهموا أم منظور وهي تقسم لهم فلا يصدقونها!

وقيل في رواية أخرى: إنَّ مصعب بن الزبير أنشد هذين البيتين فقال: لوددت أني عرفت كيف جلتها؟ فأخبروه أنَّ أمَّ منظور هذه حية، فكتب في حملها إليه مكرمة، وسألها عن الجلوة فقالت: ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح واسطتها تفاحة، وضفرت شعرها، وجعلت في فرقها شيئًا من الخلوق — أي الطيب — ومر بنا جميل راكبًا ناقته، فجعل ينظر إليها بمؤخر عينيه، ويلتفت إليها حتى غاب عنا. فأقسم عليها مصعب لتجلون امرأته عائشة بنت طلحة مثل ما جلت بثينة، ففعلت. وركب مصعب ناقته وأقبل عليها، وجعل ينظر إلى عائشة بمؤخر عينيه، ويسير حتى غاب عنهما … ثم رجع.

(٤) يتهمها ولا يُتهم بأمة

أشاع أهل بثينة أنَّ جميلًا إنما يتبع أمة لهم؛ ليدفعوا عنهم الوصمة ويصموه، فواعد جميل بثينة حتى لقيها ببرقاء ذي ضال، وتحادثا ليلًا طويلًا حتى أسحرا، فاقترح عليها أن ترقد فقالت: ما شئت! على أني خائفة أن نكون قد أصبحنا، فوسدها جانبه ثم اضطجعا ونامت، وانسل مستويًا على راحلته، وأصبحت في مضجعها، فرآها الحي راقدة عند مناخ راحلة جميل، وفي ذلك يقول:

فمن يك في حبي بثينة يمتري
فبرقاء ذي ضال عليَّ شهيد

(٥) لغة واحدة

قال كثير: لقيني جميل مرة فسألني: من أين أقبلت؟ قلت: من عند أبي الحبيبة — أعني بثينة.

فسألني: وإلى أين تمضي؟

قلت: إلى الحبيبة — أعني عزة.

فقال: لا بد أن ترجع عودك على بدئك فتستجد لي موعدًا من بثينة.

فاستحييت أن أرجع وعهدي بها الساعة، وألح قائلًا: لا بد من ذلك.

فسألته: متى عهدك ببثينة؟ فقال: في أول الصيف وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الدوم، فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها، فلما أبصرتني أنكرتني، فضربت بيديها إلى ثوب في الماء فالتحفت به، وعرفتني الجارية فأعادت الثوب في الماء، وتحدثنا حتى غابت الشمس، ثم سألتها الموعد، فأنبأتني أنَّ أهلها سائرون، ولم أجد أحدًا آمنه فأرسله إليها.

قال كثير: فاقترحت عليه أن آتي الحي، فأتمثل بأبيات من شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها، فوافقني، وخرجت حتى أنخت بالقوم، فسألني أبوها: ما ردك؟ قلت: ثلاثة أبيات عرضت لي، فأحببت أن أعرضها عليك، وأنشدته وبثينة تسمع:

فقلت لها: يا عز أرسل صاحبي
إليك رسولًا والموكَّل مرسل
بأن تجعلي بيني وبينك موعدًا
وأن تأمريني ما الذي فيه أفعل
وآخر عهدي منك يوم لقيتني
بأسفل وادي الدوم والثوب يُغسل

فضربت بثينة جانب خدرها وقالت: اخسأ، اخسأ. فقال أبوها: مَهْيَم يا بثينة! قالت: كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية. ثم صاحت بالجارية ابغينا من الدومات حطبًا لنذبح لكثير شاة ونشويها له!

فقلت: أنا أعجل من ذلك، ورحت إلى جميل فأخبرته، فعلم أنَّ الموعد الدومات، وخرجنا حتى أتيناها، ثم جاءت بثينة مع بنات خالتها الثلاث، فما برحنا حتى برق الصبح، فما رأيت مجلسًا قط أحسن من ذلك، ولا رأيت مثل علم أحدهما بضمير الآخر.

(٦) خداع سهل

سعت أمة لبثينة بها إلى أبيها وأخيها، وقالت لهما: إنَّ جميلًا عندها الليلة! فأتياها مشتملين على سيفين، فرأياه جالسًا حجرةً منها يحدثها ويشكو إليها بثه، ثم قال لها: يا بثينة! أرأيت ودي إياك وشغفي بك، ألا تجزينيه؟

قالت: بماذا؟

قال: بما يكون بين المحبين.

فأجابته مغضبة: يا جميل، أهذا تبغي؟ والله لقد كنت عندي بعيدًا منه، ولئن عاودت تعريضًا بريبة لا رأيت وجهي أبدًا.

فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد، أو ما سمعت قولي:

وإني لأرضى من بثينة بالذي
لَو أبْصره الواشي لقرت بلابله
بلا، وبأن لا أستطيع، وبالمنى
وبالأمل المرجوِّ قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله

فقال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها.

(٧) سكرة وصحوة

رصد جميل بثينة في نجعة لأهلها، حتى إذا صادف منها خلوة في ليلة ظلماء ذات غيم وريح ورعد، سكر ودنا منها وحذفها بحصاة فأصابت بعض أترابها، ففزعت وقالت: «والله ما حذفني في هذا الوقت بحصاة إلا الجن!» وفطنت بثينة فصرفتها ناحية من منزلها، وبقيت مع بثينة أمُّ الجُسَير أختها وأمُّ منظور. فقامت إلى جميل، فأدخلته الخباء معها وتحدثا طويلًا، ثم اضطجع واضطجعت إلى جنبه، فذهب النوم بهما حتى أصبحا.

وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها، فرآها نائمة مع جميل، فمضى لوجهه حتى خبَّر سيده.

ورأته ليلى أخت بثينة، وكانت قد عرفت خبرها وخبر جميل تلك الليلة، فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله، وبعثت بجارية لها تحذر صاحبتها، فجاءت الجارية فنبهتهما، وصاحت بثينة بجميل، وقد تبينت الصبح: نفسك! نفسك! وهو غير مكترث لتخويفها يتمثل لها بقوله:

لعمرك ما خوفتني من مخافة
بثين ولا حذرتني موضع الحذر
فأقسم لا يُلفَى لي اليوم غرة
وفي الكف مني صارم قاطع ذكر

فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت متاع البيت، وأفهمته أنها إنما تسأله ذلك خوفًا على نفسها من الفضيحة لا خوفًا عليه.

ففعل كارهًا، ونامت هي كما كانت وإلى جانبها أمُّ الجسير. ثم أقبل زوجها، ومعه أبوها وأخوها يأخذ بأيديهما، ولا يشك في أنه سيطلعهما على ريبة كما أنبأه غلامه. فلما كشفوا الثوب إذا أمُّ الجسير حيث كانوا ينظرون جميلًا! فخجل الزوج، وصاحت أختها ليلى: قبحكما الله! أفي كل يوم تفضحان فتاتكما ويلقاكما هذا الأعور — تعني زوج بثينة — بكل قبيح؟

قال راوي القصة: وأقام جميل عند بثينة حتى أجنه الليل ثم ودعها، وانقطعا عن اللقاء إلى أن نُسيت القصة.

(٨) بين سلطانين

كان عامر بن ربعي بن دجاجة واليًا على بلاد عذرة، فشكا إليه أهل بثينة جميلًا وقالوا: إنه يهجوهم ويغشى بيوتهم وينسب بنسائهم، فأباحهم دمه إن وجدوه عندهم، ونجا جميل بنفسه إلى اليمن فلم يزل بها حتى عزل ذلك الوالي، وانتجع بنو عذرة ناحية الشام فارتحل إليهم.

(٩) بثينة تنقد

لقي جميل بثينة بعد تهاجر طال بينهما، فتعاتبا مليًّا، ثم قالت بثينة: ويحك يا جميل! أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول:

رمى الله في عيني بثينة بالقذى
وفي الغر من أنيابها بالقوادح

فأطرق طويلًا يبكي، ثم قال: بل أنا القائل:

ألا ليتني أعمى أصم تقودني
بثينة لا يخفى عليَّ كلامها

فقالت له: ويحك! ما حملك على هذه المنى؟! أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعًا؟!

(١٠) خاتمة هوى

روى أيوب بن عباية قال: خرجت من تيماء في أغباش السحر، فرأيت عجوزًا على أتان، فتكلمت فإذا أعرابية فصيحة، فقلت: ممن أنت؟ قالت: عذرية.

فأجريت ذكر جميل وبثينة فقالت: والله إنا لعلى ماء لنا بالخباب وقد تنكبنا الجادة لجيوش كانت تأتينا من قبل الشام تريد الحجاز، وقد خرج رجالنا لسفر وخلفوا معنا أحداثًا، فانحدروا ذات عشية إلى صرم قريب منا يتحدثون إلى جوار منهم، فلم يبق غيري وغير بثينة، إذ انحدر علينا منحدر من هضبة تلقاءنا. فسلم ونحن مستوحشون وجلون، فتأملته ورددت السلام فإذا جميل!

قلت: أجميل؟

قال: إي والله!

وإذا به لا يتماسك جوعًا، فقمت إلى قعب لنا فيه أقِط مطحون، وإلى عُكة فيها سمن ورُبٌّ فعصرتها على الأقط ثم أدنيتها منه وقلت: أصب من هذا. فأصاب منه، وقمت إلى سقاء فيه لبن فصببت عليه ماءً باردًا فشرب منه وتراجعت نفسه.

فقلت له: لقد بلغت ولقيت شرًّا فما أمرك؟

قال: أنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ما أريمها أنتظر أن أرى فرصة. فلما رأيت منحدر فتيانكم أتيتكم لأودعكم وأنا عامد إلى مصر. فتحدثنا ساعة ثم ودعنا وشخص، فلم تطل غيبته أن جاءنا نعيه، فزعموا أنه قال حين حضرته الوفاة:

صرح النعي وما كنى بجميل
وثوى بمصر ثواء غير قُفول
ولقد يجر الذيل في وادي القرى
نشوان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة فاندبي بعويل
وابكي خليلك دون كل خليل

وتحدث من شهد موت جميل بمصر أنَّ جميلًا دعاه فقال: هل لك في أن أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئًا أعهده إليك! … إذا أنا مت فخذ حلتي هذه التي في عيبتي فاعزلها جانبًا، ثم كل شيء سواها لك، وارحل إلى رهط بني الأحب من عذرة، فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها، ثم البس حلتي هذه واشققها، ثم اعلُ على شرف وصِحْ بهذه الأبيات:

صرح النعي وما كنى بجميل
وثوى بمصر ثواء غير قُفول

إلى آخر الأبيات الثلاثة المتقدمة.

قال الرجل: فلما واريته أتيت رهط بثينة ففعلت ما أمرني به جميل، فما استتمت الأبيات حتى برزت إليَّ امرأة يتبعها نسوة قد فرعتهن طولًا وبرزت أمامهن كأنها بدر قد برز في دُجُنَّة وهي تتعثر في مرطها حتى أتتني فقالت: يا هذا! والله لئن كنت صادقًا لقد قتلتني، ولئن كنت كاذبًا لقد فضحتني!

قلت: والله ما أنا إلا صادق، وأخرجت حلته. فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها، واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت فمكثت مغشيًّا عليها ساعة، ثم قامت وهي تقول:

وإنَّ سلوِّي عن جميل لساعةٌ
من الدهر لا حانت ولا حان حينها
سواءٌ علينا يا جميلُ بن معمر
إذا متَّ بأساء الحياة ولينها

(١١) مختارات من شعره

دعاء

فيارب حببني إليها وأعطني الـ
ـمودة منها، أنت تعطي وتمنع
وإلا فصبرني وإن كنت كارهًا
فإني بها يا ذا المعارج مولع
تمتعت منها يوم بانوا بنظرة
وهل عاشق من نظرة يتمتع؟
كفى حزنًا للمرء ما عاش أنه
ببين حبيب لا يزال يروع

لذة الظلم!

رد الماء ما جاءت بصفو ذنائبه
ودعه إذا خيضت بطرق مشاربه
أعاتب من يحلو لدي عتابه
وأترك من لا أشتهي وأجانبه
ومن لذة الدنيا وإن كنت ظالمًا
عناقك مظلومًا وأنت تعاتبه

الميت المبعوث

وما بكت النساء على قتيل
بأشرف من قتيل الغانيات
فلما مات من طرب وسكر
رددن حياته بالمسمعات
فقام يجر عطفيه خمارًا
وكان قريب عهد بالممات

الزمن المحابي

أما كنت أبصرتني مرة
ليالي نحن بذي جوهر
وإذ أنا أغيد غض الشبا
ب أجرُّ الرداء مع المئزر
وإذ لمتي كجناح الغرا
ب ترجَّل بالمسك والعنبر
فغير ذلك ما تعلمين
تغير ذا الزمن المنكر
وأنت كلؤلؤة المرزبان
بماء شبابك لم تعصري
قريبان مربعنا واحدٌ
فكيف كبرتُ ولم تكبري

داء وطب

ارحميني فقد بليت فحسبي
بعض ذا الداء يا بثينة، حسبي
لامني فيك يا بثينة صحبي
لا تلوموا، فالحب قرَّح قلبي
زعم الناس أنَّ دائي طبي
أنت والله يا بثينة طبي!

كدر ومطروق!

وإني لأستحيي من الناس أن أرى
رديفًا لوصل أو عليَّ رديف
وأشرب رنقًا منك بعد مودة
وأرضى بوصل منك وهو ضعيف
وإنيَ للماء المخالط للقذى
إذا كثرت ورَّاده لعبوف

من هي؟

قناة من المران ما فوق حقوها
وما تحته منها نقًّا يتقصف
لها مقلتا ريم وجيد جداية
وكشح كطي السابرية أهيف

وفاء لله!

فما وجد العذري عروة إذ قضى
كوجدي ولا من كان قبلي ولا بعدي
على أنَّ من قد مات صادف راحة
وما لفؤادي من رواح ولا رشد
يكاد فضيض الماء يخدش جلدها
إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد
وإني لمشتاق إلى ريح جيبها
كما اشتاق إدريس إلى جنة الخلد
لقد لامني فيها أخ ذو قرابة
حبيب إليه في ملامته رشدي
وقال: أفق، حتى متى أنت هائم
ببثنة فيها قد تعيد وقد تبدي
فقلت له: فيها قضى الله ما ترى
عليَّ، وهل فيما قضى الله من رد
فإن كان رشدًا حبها أو غواية
فقد كان ما قد كان مني على عمد
لقد لج ميثاق من الله بيننا
وليس لمن لم يوف لله من عهد
فلا وأبيها الخير ما خنت عهدها
ولا لي علم بالذي فعلت بعدي
وما زادها الواشون إلا كرامة
علي، وما زالت مودتها عندي
أفي الناس أمثالي أحبوا فحالهم
كحالي أم أحببت من بينهم وحدي
وهل هكذا يلقى المحبون مثل ما
لقيت بها أم لم يجد أحدٌ وجدي

محب أكول

ويعجبني من جعفر أنَّ جعفرًا
ملحٌّ على قرص ويبكي على جمل
فلو كنت عذري العلاقة لم تكن
بطينًا وأنساك الهوى كثرة الأكل

صرخة

فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها
مقالة واشٍ أو وعيد أمير
فلم يحجبوا عيني عن دائم البكا
ولن يملكوا ما قد يجن ضميري
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى
ومن حُرق تعتادني وزفير
ومن كرب للحب في باطن الحشا
وليل طويل الحزن غير قصير
سأبكي على نفسي بعين غزيرة
بكاء حزين في الوثاق أسير
وكنا جميعًا قبل أن يظهر النوى
بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا
بطون الهوى مقلوبة لظهور
لقد كنت صعب النفس لو دام وصلنا
ولكنما الدنيا متاع غرور
لَو أنَّ امرأً أخفى الهوى عن ضميره
لمت ولم يعلم بذاك ضميري

عند ذلك

هي البدر حسنًا والنساء كواكب
وشتان ما بين الكواكب والبدر
لقد فضلت حسنًا على الناس مثلما
على ألف شهر فضلت ليلة القدر
عليها سلام الله من ذي صبابة
وصب معنى بالوساوس والفكر
أيبكي حمام الأيك من فقد إلفه
وأصبر؟ ما لي عن بثينة من صبر
وما لي لا أبكي وفي الأيك نائح
وقد فارقتني شختة الكشح والخصر
يقولون مسحور يجن بذكرها
وأقسم ما بي من جنون ولا سحر
ذكرت مقامي ليلة البان قابضًا
على كف حوراء المدامع كالبدر
فكدت ولم أملك إليها صبابة
أهيم وفاض الدمع مني على نحري
تجود علينا بالحديث وتارة
تجود علينا بالرُّضاب من الثغر
فيا ليت ربي قد قضى ذاك مرة
فيعلم ربي عند ذلك ما أمري

وعد ممطول

يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
يتبع صداي صداك بين الأقبر
إني إليك بما وعدت لناظر
نظر الفقير إلى الغني المكثر
تقضى الديون وليس ينجز موعدًا
هذا الغريم لنا، وليس بمعسر
ما أنت والوعد الذي تعدينني
إلا كبرق سحابة لم تمطر

ليت

لقد ذرفت عيني وطال سفوحها
وأصبح من نفسي سقيمًا صحيحها
ألا ليتنا نحيا جميعًا وإن نمت
يجاور في الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب
إذا قيل قد سُوِّي عليها صفيحها
أظل نهاري مستهامًا ويلتقي
مع الليل روحي في المنام وروحها
فهل لي في كتمان حُبِّي راحة؟!
وهل تنفعنِّي بوحة لو أبوحها؟!

جهاد

إذا قلت: ما بي يا بثينة قاتلي
من الحب قالت: ثابت ويزيد
وإن قلت: ردي بعض عقلي أعش به
تولت وقالت: ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالبًا
ولا حبها فيما يبيد يبيد
… … … … …
… … … … …
ومن يُعط في الدنيا قرينًا كمثلها
فذلك في عيش الحياة رشيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها
ويحيا إذا فارقتها فيعود
يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد؟
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل عندهن شهيد

في الصلاة

أرى كل معشوقين غيري وغيرها
يلذان في الدنيا ويغتبطان
وأمشي وتمشي في البلاد كأننا
أسيران للأعداء مرتهنان
أصلي فأبكي في الصلاة لذكرها
لي الويل مما يكتب الملكان
ضمنت لها ألا أهيم بغيرها
وقد وثقت مني بغير ضمان
ألا يا عباد الله قوموا لتسمعوا
خصومة معشوقين يختصمان
وفي كل عام يستجدان مرة
عتابًا وهجرًا ثم يصطلحان
يعيشان في الدنيا غريبين أينما
أقاما، وفي الأعوام يلتقيان
وما صاديات صُمن يومًا وليلة
على الماء يغشين العصي حوان
لواغب لا يصدرن عنه لوجهة
ولا هنَّ من برد الحياض دوان
يرين حباب الماء والموت دونه
فهن لأصوات السقاة روان
بأكثر مني غلة وصبابة
إليك، ولكن العدو عداني

اليمين وما ملكت

ولو أرسلت يومًا بثينة تبتغي
يميني ولو عزت عليَّ يميني
لأعطيتها ما جاء يبغي رسولها
وقلت لها بعد اليمين سليني
سليني مالي يا بثين فإنما
يُبين عند المال كل ضنين
فمالك لما خبر الناس أنني
غدرت بظهر الغيب لم تَسليني
لأُبلي عذرًا أو أجيء بشاهد
من الناس عدل أنهم ظلموني
لي الله من لا ينفع الوعد عنده
ومن حبله إن مُدَّ غير متين
ومن هو ذو وجهين ليس بدائم
على العهد حلَّاف بكل يمين
ولست وإن عزت عليَّ بقائل
لها بعد صرم يا بثين صليني

نعي نفسه

صرح النعي وما كنى بجميل
وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد يجر الذيل في وادي القرى
نشوان بين مزارع ونخيل
بكر النعي بفارس ذي همة
بطل إذا حم اللقاء مذيل
قومي بثينة واندبي بعويل
وابكي خليلك دون كل خليل

(١٢) أبيات مفردة في معانٍ مختلفة

لو … ولا

وددت ولا تغني الودادة أنها
نصيبي من الدنيا وأني نصيبها

بدل مطلوب

أفي كل يوم أنت محدث صبوة
تموت لها؟ بُدلت غيرك من قلب

الصدق أنجح

حلفت لكيما تعلميني صادقًا
وللصدق خير في الأمور وأنجح

شتان المرادان

أريد صلاحها وتريد قتلي
وشتى بين قتلي والصلاح

داء مزمن

علقت الهوى منها وليدًا فلم يزل
إلى اليوم ينمى حبها ويزيد

لا قرار

إذا ما دنت زدت اشتياقًا وإن نأت
جزعت لنأي الدار منها وللبعد

زهد!

رفعت عن الدنيا المنى غير ودها
فما أسأل الدنيا ولا أستزيدها

تفويض

فمريني أطعك في كل أمر
أنت والله أوجه الناس عندي

دعوة أم دعاء

وعاذلين ألحوا في محبتها
يا ليتهم وجدوا مثل الذي أجد

عذر أو ظلم

لو تعلمين بما أجن من الهوى
لعذرت أو لظلمت إن لم تعذري

خبر مكتوم!

أموت وألقى الله يا بثن لم أبح
بسرك والمستخبرون كثير

موعد في السماء

أقلب طرفي في السماء لعله
يوافق طرفي طرفكم حين ينظر

ليس كمثلها!

لا حسنها حسن ولا كدلالها
دل ولا كوقارها توقير

جفون قصيرة

كأن المحب قصير الجفو
ن لطول الليالي، ولم تقصر

الموطن الغرامي

فإن يكُ جثماني بأرض بعيدة
فإن فؤادي عندك الدهر أجمع

قليل نافع

إنَّ القليل كثير منك ينفعني
وما سواه كثير غير نفاع

حجته لها

وبين الصفا والمروتين ذكرتكم
بمختلف، والناس ساعٍ وموجف

جلد جاموس

وما يبتغي مني عداة تعاقدوا
ومن جلد جاموس سمن مطرّق

ماذا يقولون؟

وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
سوى أن يقولوا إنني لك عاشق

غير خوار

فلو كنت خوارًا لقد باح مضمري
ولكنني صعب القناة عريق

علامة

فإن وجدت نعل بأرض مضلة
من الأرض يومًا فاعلمي أنها نعلي

ثقل محبوب

وتثاقلت لما رأت كلفي بها
أحبب إليَّ بذاك من متثاقل!

التحول حزم

وإن التي أحببت قد حيل بينها
فكن حازمًا، والحازم المتحول

لعلها

وقالوا نراها يا جميل تبدلت
وغيرها الواشي فقلت لعلها

آلة الصيد

ولكنما يظفرن بالصيد كلما
جلون الثنايا الغر، والأعين النجلا

صلح على انفراد

فإن تكُ حرب بين قومي وقومها
فإني لها في كل نائبة سلم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤