عصر الانبثاق

توطئة

انبثق سيل تاريخ الأمة العربية في حوالي القرن الأربعين قبل الميلاد في دنيا العرب الممتدة ما بين جبال زاغروس، وطوروس، واليمن، وجبال الأطلس.

ويدخل في حدود هذه «الدنيا العربية» جميع البلاد المعروفة اليوم بأسماء: اليمن، الحجاز، نجد، قطر، البحرين، الكويت، الشام، العراق، مصر، السودان، ليبيا، تونس، الجزائر، مراكش.

وقد كان قلب هذه «الدنيا» هو بلاد نجد والحجاز وبادية الشام، ومن هذا القلب كانت الموجات العربية تخرج، وتفيق على ما حولها من الديار والأقاليم، وأقدم هذه الموجات الموجات الإحدى عشرة الآتية:
  • (١)

    موجات ما قبل التاريخ الحضري التي انساحت نحو وادي النيل، وما بين نهرَيْ دجلة والفرات، وبلاد اليمن.

  • (٢)

    موجة القبائل الأكادية التي انساحت إلى ما بين النهرين في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد.

  • (٣)

    موجة الكنعانيين التي انساحت إلى بلاد الشام في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد.

  • (٤)

    موجة الآشوريين التي انساحت إلى ما بين النهرين حوالي النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد.

  • (٥)

    موجة الرعاة «الهكسوس» التي انساحت إلى وادي النيل في أوائل الألف الثاني قبل الميلاد.

  • (٦)

    موجة الآراميين التي انساحت إلى بلاد الشام في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد.

  • (٧)

    موجة العبرانيين التي انساحت إلى أرض فلسطين في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد.

  • (٨)

    موجة اليمنيين التي انساحت إلى شمالي الجزيرة العربية في فجر الألف الأول قبل الميلاد.

  • (٩)

    موجة الأدوميين التي انساحت إلى جنوبي الشام في أواسط الألف الأول قبل الميلاد.

  • (١٠)

    موجة اليمانيين من الغساسنة والمناذرة التي انساحت إلى الشام والعراق في النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد.

  • (١١)

    موجة المسلمين التي انساحت في أواسط الألف الأول بعد الميلاد إلى الشام والعراق.

وقد اختلف العلماء في البقعة الأولى التي خرجت منها هذه الموجات، ولكن الأكثرين قالوا على أنها قلب الجزيرة العربية. يقول الدكتور جواد علي: تصوَّر العلماء الذين قالوا إن الجزيرة العربية هي مهد الجنس السامي، بلادَ العرب كخزَّان هائل يفيض في حقب متعاقبة، تبلغ الواحدة منها زُهاء ألف عام، بما يزيد عن طاقته من البشر إلى الخارج، يقذف بهم على صورة موجات قالوا لها: «الموجات السامية»، وقد علَّل القائلون بهذه النظرية الهجرات السامية من بلاد العرب سبب هذه الهجرات، بعدم استطاعة شبه الجزيرة قبول عدد كبير من السكان يزيد على طاقتها، فلا يبقى غير سلوك طريق الهجرات إلى الأماكن الخصيبة في الشمال، وقد كانت الطرق الساحلية من أهم الطرق التي أوصلت المهاجرين إلى أهدافهم.

رأى المستشرق الإيطالي المشهور كيتاني أن الجفاف الذي حلَّ ببلاد العرب فحوَّل أكثر أراضيها إلى صحارِيَّ جُرْد؛ كان العامل الأول في هذه الهجرات، رأى أن جوَّ بلاد العرب قبل ألفَي سنة أو ثلاثة آلاف أو أكثر من ذلك، لم يكن على الشكل الذي نلاحظه الآن، وأن تغيرات وتطورات طبيعية طرأت على الجزيرة كان نتيجتها ظهور هذا الجفاف، وهي تطورات استغرقت أمدًا طويلًا، وقد أيَّدَ هذا الرأي ودافَعَ عنه السير توماس أرنولد، ورأت المس ألينور كردنر التي قامت بأبحاث جيولوجية في حضرموت في عامَي ١٩٣٧، ١٩٣٨م؛ أنه لم تحدث في الأقسام الجنوبية من شبه الجزيرة العربية تغيرات طبوغرافية وجيولوجية وجوية كبيرة منذ زمن الباليوزوسي، وينتهي حوالي ١٠٠٠٠ قبل الميلاد؛ حيث كان الجو مشبعًا بالرطوبة.١
وقد لفت الأستاذ كيتاني أنظار العلماء إلى هذه الظاهرة المهمة؛ ظاهرة التغير الذي طرأ على جو بلاد العرب، والجفاف الذي حلَّ بها في أواخر الدورة الجليدية الأخيرة، ففي الوقت الذي كان فيه معظم النواحي الأوروبية وشمالي آسيا تغطي أرضها الثلوج؛ كانت جزيرة العرب ذات جو معتدل، وأمطار غزيرة، وأشجار وزروع، وكانت هضبة إيران تغطيها الثلوج … ثم أخذ الجو يتغير في بلاد العرب، ففقد الجو رطوبته، وسار بصورة مستمرة وبطيئة نحو الجفاف منذ أكثر من أربعة عشر ألف سنة، فأثَّر ذلك بالطبع في حياة سكانها، وفي حياة حيوانها ونباتها؛ فانقرض ما لم يتمكَّن من تكييف نفسه مع المحيط، وظهرت الحاجة إلى هجرات …٢

وهذه الموجات أو الهجرات التي اندفعت من قلب دنيا العرب إلى البلاد المحيطة بها، فأقامت حضارات عريقة وأصيلة، قد أثبت البحث العلمي الحديث أنها كلها ترجع إلى أرومة واحدة وعرق واحد؛ هما: الأرومة العربية، والعِرق العربي الممتازين بطابع واحد وسمة واحدة، وملامح متشابهة، وأفكار متماثلة، ولغات متقاربة، وأنظمة وقوانين وتشريعات متساوية، وعقليات دينية متناظرة.

وقد اصطلح المستشرقون وعلى رأسهم العلَّامة الألماني اللغوي شلوتسر Schloser في بحث له نشره سنة ١٧٨١م، على تسمية الأقوام الذين قاموا بهذه الموجات بالساميين لا العرب، وهي في رأينا تسمية خاطئة؛ فإنهم حين بحثوا في أصول اللغات العربية والعبرانية والآرامية والسريانية والحبشية والفينيقية والآشورية والبابلية و… ووجدوا الصلات القوية بينها، وقد نُسِبوا إلى «سام بن نوح» لأن التوراة ذكرت في سفر التكوين٣ أن هذه الأمم كلها سامية، وأنها من نسله، وهذا خطأ لا يعتمد على واقعة تاريخية أو علمية، وإنما هو مبني — على فرض صحة هذا النَّسَب الذي هو موضع شك كبير — على الظن، وإن الظن لا يُغنِي من الحق شيئًا. ثم إننا لو جاز لنا أن نقبل ذلك من حيث الاصطلاحات اللغوية، وأنهم إنما سمَّوها سامية من قبيل الاصطلاح؛ فلا علاقةَ أصلًا بين الأمور العِرقية الأتنولوجية وبين هذه التسمية.
ولا يصح في رأينا إذن أن نطلق كلمة «سامي» أو «حامي» أو «آري»، ونحن نريد بها عِرقًا بعينه؛ لأنها اصطلاح لغوي بحت، وإنما يجب أن نقول إن هؤلاء الجماعات من البشر قد تحدَّروا من أصلٍ واحد، سكن بقعة واحدة، هي في أصح الأقوال قلب جزيرة العرب، وإن اللغة التي يتكلم بها سكان تلك البقعة هي اللغة الأم، وإن اللغة العربية الفصيحة هي أقرب اللغات إلى تلك اللغة الأم، وقد قال بهذا القول جماعة من أئمة المستشرقين، وعلى رأسهم العلماء: سبرنجر، وشريد، وونكلر الألمانيون، وروبرت سميث الإنكليزي، وغويدي الإيطالي، ولهم على ذلك أدلة عديدة وجيهة؛ بعضها لغوي، وبعضها اجتماعي وأخلاقي.٤

فالتقسيم الذي قال به شلوتسر واتبعه الناس من بعده لا يعتمد على حقيقة تاريخية ثابتة؛ لأنه عَدَّ من بين الشعوب السامية جماعةً لا يعتبرها العلماء الثقات من الساميين، وهم العيلاميون، واللوديون، كما أنه أبعَدَ جماعاتٍ كان يجب أن يُدخِلهم في الساميين؛ وهم الفينيقيون والكنعانيون.

وعلى هذا فالتقسيم المذكور في التوراة تقسيم «مصنوع»، حتى قال بعض العلماء الألمان — وهو المستشرق المرحوم بروكلمان: إن واضعي التوراة العبرانيين قد تعمَّدوا إقصاء الكنعانيين والفينيقيين عن سلسلة النسب السامي لأسباب دينية وسياسية، مع علمهم الأكيد بأنهم على اتصال واشج بهم،٥ فهذا يدلُّك على سوء طويَّة علماء اليهود منذ الأزل، وعلى أنهم قوم لا يرعون حق قرابة أو علم أو دين، وأن الكذب والتلفيق من طبائعهم، وأن ما يتجدد اليومَ في فلسطين العربية الذبيحة من المآسي المادية، واغتصاب الأراضي، وإفساد الحرث والنسل، والتعدي على الحريات، وهتك المقدسات؛ هو أمر متوارَث في أصحاب التوراة منذ أقدم عصورهم إلى الآن.
١  يقسم علماء الجيولوجيا تاريخ القشرة الأرضية للخليقة إلى أربعة أزمنة Eras، وهي: زمن الحياة القديمة، أو الباليوزوسي Paleozoic، وزمن الحياة الوُسطى Mesozoic، والزمن الثالث، ثم الزمن الرابع وهو الأخير، ويقولون إن قبل هذه الأزمنة كان زمن يسمونه زمن ما قبل الكميري.
وكل زمن من هذه الأزمنة إلى عصور؛ فعصور الزمن الأول أو زمن الحياة القديمة هي ستة، منها الكميري والفحمة؛ وعصور الزمن الثاني أو زمن الحياة الوسطى هي ثلاثة: الزياسي، والجواراسي، والطباشيري؛ وعصور الزمن الثالث هي أربعة: الأيوسين، والأوليجوسين، والميوسين، والبليوسين؛ وعصور الزمن الرابع هما اثنان: الجليدي أو البليوسين، وما بعد الجليد.
وكل عصر من هذه العصور له تقسيمات تفصيلية أخرى؛ فالعصر الطباشيري ينقسم إلى عدة عهود، منها: السينوني، والسنيوماني، والطباشيري الأولي، والطباشيري الأدنى، وغير ذلك، وقد استعان الجيولوجيون على تصنيف هذه العصور والأزمنة والعهود بطبيعة الصخور الموجودة، والحفريات الموجودة، وبعلم الحيوان الجيولوجي المسمى Paleontologie.
٢  راجع كتاب العرب قبل الإسلام، ١: ١٥٨.
٣  راجع كتاب سفر التكوين، الإصحاح العاشر، ١–٢١، وقاموس الكتاب المقدس، ١: ٥٣١.
٤  راجع كتاب العرب قبل الإسلام لزيدان، ١: ٣٣–٣٥؛ وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي، ١: ١٤٨؛ وكتاب Sprenger (Die Alte Geographie arabiens), Bern.
٥  راجع كتاب: Brockelmann, Sprachwissenschaft p. 15.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤