توطئة

يقول العلماء الجيولوجيون إن دنيا العرب في آسيا وأفريقيا كانت في العصر الجليدي تنعم بجوٍّ دافئ، وإن الأمطار كانت تهطل فيها بغزارة، وإن سهولها كانت مغطَّاة بالأعشاب والغائل، وإنه قد كان فيها عدد كبير من الحيوانات الأليفة المفيدة … وإن هذا كله هو سبب قيام الحضارات العريقة التي قامت في ربوعها.

ولكن ما عتم العصر الجليدي أن انزاح عن أوروبا حتى هجم الجفاف على آسيا، وكان نصيب دنيا العرب منه كبير؛ فجفَّت بقاع كثيرة في ديارهم، وأخذ كثير من سكان أرضهم يزحفون إلى الشمال، ويحتلون الأراضي الطيبة الصالحة للسُّكنى، وقد كان لظهور عصر الجفاف هذا أثر كبير في نفوس الناس وأوضاعهم؛ فتبدَّلت أخلاقهم، وظهر الفقر والبؤس في صفوفهم، واضطروا إلى الرحيل والمهاجَرة … وبهذا يُفسَّر حدوث العدد الكثير من الموجات التي خرجت من قلب دنيا العرب إلى ما حولها من البقاع، فذهب الهكسوس إلى مصر، وزحف الأكديون والآشوريون إلى العراق، ودخل الآراميون إلى سوريا، وقصد الكنعانيون والعبرانيون فلسطين، وتوجَّه المناذرة والغساسنة إلى سوريا والعراق و…١
وقد ظهرت الحضارات في دنيا العرب أيام كانت تتمتع بالجو الدافئ الطيب الممطِر الصالح الباعث للنشاط والعمل، وأقدم هذه الحضارات هي:
  • (١)

    حضارات الشمال: وهي حضارة الدول السومرية، والأكدية، والبابلية، والآشورية، والكلدانية، والفينيقية، والمصرية، والتدمرية.

  • (٢)

    حضارات الوسط: وهي حضارة الدول النبطية والتموذية والجندبية، والتيماوية، والحجازية، والنجدية، والتهامية.

  • (٣)

    حضارات الجنوب: وهي حضارة دول معين، وسبأ، وقتبان، وحضرموت، وأوسان.

    هذه هي حضارات دنيا العالم العربي التي قامت منذ فجر تاريخهم، وفي الحين الذي انبثق فيه سيل تاريخهم الخضم إلى أن ظهر فجر الإسلام؛ فشيَّد تلك الحضارة الخالدة، ووحَّد بين أقطارهم جميعًا، وأقام تلك الإمبراطورية العظيمة التي سيطرت على حدود دنيا العرب من أقصاها إلى أقصاها، ووطَّدَت دعائم المُلْك العربي.

وفي الفصول الآتية سيرى القارئ موجزًا دقيقًا — على الرغم من قلة إسهابه — لتاريخ هذه الدول، والحضارات التي قامت في دنيا العرب قبل الإسلام.

١  راجع دائرة المعارف الإنكليزية: Encyc. Brita. 15, 464.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤