لماذا يكثر وقوع الخطأ؟

وقد يقول بعضهم: لماذا يكثر وقوع هذه الغلطات حتى من الذين استوفَوْا قسطهم من تعلُّم اللغة والتعمق في معرفة قواعدها، وهم لا ينفكون منذ وقت طويل يواصلون المطالعة ويزاولون الكتابة؟ والجواب: أن عوامل استدراج الكتاب إلى الخطأ من حيث لا يدرون كثيرة، أهمها أربعة:
  • أولًا: اللغة العامية: ولعلها أكبر عامل يَغُرُّنا ويُغوينا، فنتوهم الخطأ صحيحًا والغلط صوابًا. وهي إما خليط من الفصيح المُصحَّف والمُحرَّف وبعض الألفاظ المُرتَجلة كما في داخل بلاد العرب وغيرها من الأصقاع التي لم يختلط أهلها بالجاليات الأوربية، وإما وشيج من هذه ومن جانب كبير من الكلمات الدخيلة المعرَبة عن اللغات الأجنبية التي تدفَّقت على مصر، وسورية، وبلاد المغرب، محمولةً إلينا على ألسنة الأجانب أنفسهم أو منقولة في ما يُنشر بيننا من كتبهم وصحفهم ومجلاتهم، أو في ما يرد علينا من مصنوعاتهم، أو في ما يُنشأ لهم عندنا من المدارس والمصانع والشركات وغيرها من وسائل النشر. فاندسَّتْ في لهجاتنا العامية متشابكة متداخلة بما لا مزيد عليه من الاندماج والالتحام. وقد شاعت هذه اللهجات المختلَطة كل الشيوع بين جميع الناطقين بالضاد، فتراهم يُولَدون في أحضانها ويترعرعون في أكنافها ويرضعونها مع اللبن ويتناولونها مع طعامهم وشرابهم، ويَشبُّون على سماعها من الآباء والأمهات وذوي القربى وجميع الذين يعاشرونهم من الأتراب والأصحاب، ويقضون سِني الطفولة وما بعدها لا يَطرُق آذانَهم غيرُها ولا تنطلق ألسنتُهم بسواها. وبلغ من شدة تمكُّنها منهم أنها توشك أن تكون الآلة الوضعية الوحيدة للتخاطُبِ والتفاهم. وهي في فلسطين، وسورية، والعراق، والحجاز، واليمن، ونجد، والسودان، والمغرب، وغيرها من الأقطار العربية، حَشْوُ آذان السامعين وملءُ ألسنة المتكلمين. حتى أنك لتجدنَّها شاغلةً أذهان الخطباء والكُتاب ومتحفزةً كل حين للجري على أقلام هؤلاء وفي ألسنة أولئك، لولا أنهم يتداركون أمرهم قبل الخطابة والكتابة ويتعهدون خزائن أذهانهم بنزع ما يعلق فيها من الكلام العامي، مستبدلِين بها كلمات صحيحة وتراكيب فصيحة يتكلفون استخدامها لتأدية المعاني التي يرومون التعبير عنها في خطبهم وكتبهم. ومع شدة توقيهم للغة العامية واحترازهم من تربُّصها بهم وتغفُّلِها لهم، لا تأمن ألسنتُهم العثارَ بألفاظها ولا تَسلَم أقلامُهم من الخبط في تعابيرها. ولذلك ترى الخطيبَ أو الكاتب يحيد من وقت إلى آخر — على حين غفلة — عن جادة اللغة الفصحى، مدفوعًا بقوة العودة إلى الأصل، ويستعمل كلمات وتعابيرَ يظنُّها صحيحة لكثرة ورودها في لسانه وعلى سمعه، مع أنه لا صحة لها على الإطلاق. فهي متمكنة منا كل التمكُّن منذ الصغر، وراسخة في ألواح أذهاننا رسوخَ النقش في الحجر. ورسوخُها هذا من أكبر الأسباب التي تُصعِّب علينا تحصيل اللغة الفصحى في المدارس. حتى أن كثيرين منا يُخيل إليهم وهم يتعلمونها أنهم يتعلمون لغة أجنبية، بل قد يجدها بعضُنا أبعد تناولًا وأصعب تحصيلًا من إحدى اللغات الأجنبية. ومما يجب الانتباهُ له في الكلام على اللغة العامية، أنها أمضى سلاح يستخدمه خوارج الأدب الذين سيأتي ذكرُهم في مناوأة اللغة الفصحى ومحاربة الذين يتطوعون للدفاع عنها.
  • ثانيًا: كثرة السَّماعي١ في اللغة: وهذا السماعيُّ الغالب في عامي الصرف والاشتقاق عاثورٌ كبير في طريق الكُتاب، قلَّ مَن يأمن منهم السقوطَ فيه، وهو يكثر على الخصوص في الأبواب الآتية:
    • (١) مزايدات الأفعال: فإن لها في الفعل الثلاثي اثني عشر وزنًا، وفي الرباعي ثلاثة أوزان. وجميع هذه الأوزان تبنى عليها الأفعال لأغراض خاصة تُستفاد منها. ولكن ليس بين الأفعال المجردة الثلاثية والرباعية ما نراه مبنيًّا على مزيداته كلها. والأغراض التي تستفاد من هذه الزيادات ليست مما يُطَّرد ويصح أن يقاس عليه في كل فعل يُبنى منها. فإذا أخذنا مجردًا ثلاثيًّا أو رباعيًّا أيًّا كان، وسألنا ما أوزانُ المزيدات التي يُبنى عليها؟ وما الأغراض المستفادة من بنائه عليها؟ لم يستطيع أحد أن يُجيب عن سؤال كهذا بطريق القياس والاستبدال. والمُنتجع الوحيد للجواب إنما هو معاجم اللغة؛ لأن أكثر أبنية المزيدات سماعية لا يقاس عليها.
    • (٢) باب الإلحاق: وهو الموضوع للبحث عن بعض الأفعال الثلاثية التي أُلحقت بالرباعي المجرد وبمزيديه: تفعلل أو فعنلل. فهذا الباب كله سماعي لا قياس فيه البتة.
    • (٣) لزوم الفعل وتَعَدِّيه: في هذا الباب بحثٌ مُستفيض عن بعض الأفعال المُختَصَّة باللزوم، وعن تعدي اللازم بإحدى طُرُق التعدية الثلث: أي همزة النقل٢ وتضعيف عين الفعل وحرف الجر، وعن لزوم المتعدي ببنائه للمطاوعة على أحد أوزانها: وهي نفعَّل، وتفاعل، وانفعل، وافتعل في الثلاثي، وتفعلل، وافعنلل في الرباعي. ولكن هل من ضابطٍ كلي لمعرفة الأفعال المختصة باللزوم؟ فإن تقييدها بالدلالة على غريزة أو هيئة أو لون أو نظافة أو دنس أو بعض العوارض الطبيعية — هذا كله لا يكفي.٣ وهل من دليل صادق على الأفعال اللازمة التي تُعَدَّى،٤ وعلى ما يُعَدَّى منها بإحدى طرق التعدية الثلث وما يُعدى بطريقتين منها وما يُعدى بها كلها؟ وهل من سبيل لتعيين الحرف مع الأفعال التي تتعدى بحرف الجر؟ وهل لزومُ الفعل المتعدي ببنائه للمطاوَعة عامٌّ يشمل جميعَ الأفعال المتعدية؟ وهل يمكن معرفة ما يبنى للمطاوعة على هذا الوزن أو على ذاك أو على ذلك؟ والجواب عن هذه الأسئلة كلها بالنفي؛ لأنها جميعها تؤخذ بالسماع.
    • (٤) أوزان المصدر: أو الصفة المشبهة من الثلاثي، وما يبنى من الصفات على وزني فَعُول وفَعِيل، مشتركًا بين اسم الفاعل، واسم المفعول، وبعض أسماء الزمان والمكان من الثلاثي، ولحوق تاء التأنيث لهما،٥ وبناء اسم الآلة،٦ والمقصور والممدود، والمؤنث المعنوي، ومؤنث الوصف الذي على فَعْلان: أعلى فَعْلَى كسَكْران وسَكْرى، أم على فَعْلانة كنَدْمان ونَدْمانة، أم عليهما كلتيهما كعَطْشان عَطْشى وعَطْشانة؟ وما سُمع من الأسماء مُصغَّرًا ومنسوبًا على خلاف قواعد التصغير أو النسبة كذيّا وتيّا وأُبَيْحر ومُغَيْربان وسُوَيْد، ونحوها في الأول ولابن وزيَّات ويمانٍ وبَصْريّ ودُهريّ وهاجريّ وغيرها في الثانيأوزان المصدر
    • (٥) أوزان جمع التكسير: فهي كما لا يخفى كثيرة جدًّا، ولكن ما يغلب منها قليل وما يقاس ويطَّرد أقل.

    هذه الأمور وغيرها من السماعيات، تَعرض لنا في ما نكتبه أو ننظمه، فننسى كونها مما يُحفظ ولا يقاس، ونجريها مجرى المقيسات المطردة بلا تَرَوٍّ ولا تثبُّت، ونضل محجة الصواب.

  • ثالثًا: النقل: هذا أيضًا من أكبر أسباب التطويح بالكُتاب في متايه الخطأ والغلط؛ إذ إنه كثيرًا ما يتفق للواحد منهم أن يُقْدِم على استعمال كلمة أو جملة، وهو لا يملك من الأدلة على صحتها سوى كون فلان ممن يَثِق بطول باعه وسعة اطلاعه قد سبقه إلى استعمالها في كتابه أو في ديوانه. ولو استطعنا التقصي في البحث عن منشإ غلطة ما، لانتهينا منه في سلسلة طويلة حلقاتُها كُتابٌ وشعراء كلهم سابقٌ لتالٍ، وكلُّ تالٍ منهم عدَّ سابقه أكبرَ حُجة في علوم اللغة، فنقل عنه ما نقل، ولم يُوجس أقل خوف من سقوطه في وهْدةِ الزلل.
    ولستُ أدري هل أسعدَ الحظُّ أحدًا من الكُتاب فعَصَمه من نقل الخطأ عن غيره وصانَه من توهُّم غلطِ سابقه صوابًا؟ أما أنا فأعترف بأني طالما أُخذتُ بشَرَك الاعتماد على غيري، وأخطأت في استعمال كثير من الكلمات والعبارات منقولةً عمن لم أشك حينئذ في كونه خيرَ من يصح الاستناد إليه والاعتماد عليه.٧
  • رابعًا: إهمال اللغة: ويراد به أن معظم طلبة العلم في هذه الأيام قلما يهتمون — وهم في المدارس — أن يَرِدوا من مناهل علوم اللغة ما يَرْوِي غليلَهم ويقضي حاجتهم. فهم — في الغالب — يقتصرون منها على ما يُمَكِّنُهم من اجتياز الامتحان وإحراز الشهادة. وبعد خروجهم من دور العلم تراهم لا يبدون أقل اهتمام للاحتفاظ بما حصَّلوه والسعي في إحيائه وإنمائه بالمطالعة والمراجعة، بل يهملونه وينسون حتى أبسط القواعد التي كان يجب عليهم أن يتذكروها صونًا لأقلامهم وألسنتهم من ارتكاب الخطأ في ما يكتبون ويخطبون.

    ولهذا الإهمال أسباب كثيرة ليس هنا محل بسطها واستيفاء الكلام عليها. ويهمنا منه أنه — لسوء الحظ — أمر واقع لا يسع أحدًا منا إنكارُه، وآثاره ظاهرة في ما يكتبه فريق كبير من خريجي مدارسنا. فإن الغلطات التي تبدو منهم تدل جليًّا على تفريطهم في حفظ أبسط القواعد المَقِيسة المُطردة في الصرف والنحو وغيرهما من علوم اللغة. ولولا هذا الإهمال لقلَّتْ كثيرًا غلطاتُ الكُتاب وانحصرت في ما يَسهل تداركه ولا يصعب اجتنابه.

خوارِجُ الأدب

بقي أن الكلام على العامل الأخير — الإهمال — يقتادني إلى ذكر شيء ولو على سبيل الاختصار، عن ثورة يُثير غبارها ويشبُّ نارَها بعضُ المَرَدة الذين خرجوا في هذه الأيام على نظام اللغة الشامل لجميع علومها وآدابها، خروجًا أشبه بشَقِّ عصا الطاعة للحكومة أو بعقوق الوالدين والمُروق من الدين. وكأن الناس لم يكفِهم في الوقت الحاضر ما يُعانونه من شرور البدع والأضاليل في الدين والسياسة والعادات القومية وغيرها، حتى يُبتلوا بخطبِ هؤلاء الخوارج الذين قاموا على اللغة يَطعنون في قواعدها وأحكامها، ويتزاهدون حماتها الزائرين عن حرماتها، ويبالغون في ازدرائهم وتفييل آرائهم وتسفيه أحلامهم.

وكثيرًا ما تراهم يُجاوزون حد القَدْح في اللغة، إلى الوقيعة في أيِمَّتها الذين وضعوا أساسها، ورفعوا في الخافقين نِبراسَها، وقيدوا شوارد مفرداتها، وجمعوا قواعدها وأحكامها، وجلوا غوامض علومها وفنونها، وجعلوا ذلك كله في كتب تُسهِّل علينا رودَ مناجعها وورودَ مشارعها، فيبخسونهم حقَّهم، ويجحدون فضلهم، ولا يذكرون لهم واحدة من هذه الحسنات. ولا يقتصرون على إنكارها، بل — لشدة غُلوهم في الجور والتحامل — يَعُدُّونها كلها سيئات، ويزينون للشعراء والكُتاب أنْ يَنْظموا ويكتبوا كيف شاؤوا، لا يراعون أحكام الصرف والنحو والمعاني والبيان، ولا يتقيدون في الشعر بالجري على قواعد علمي العروض والقافية قائلين لهم: إن هذه القواعد والأحكام وُضعت لاعتبارات طوَتْها الأيامُ، وفي أحوال ظلُّها زال ولونُها حالَ، فهي إذًا مما عتق وشاخ، ولا بد لها من الانحلال والاضمحلال.

وهذه الغارة الشعواء يَشنونها على اللغة، ويسعون في أن يُقَوِّضوا أبنية قواعدها ويَجتثوا أعراق أحكامها؛ ليضمنوا خلوَّ جو العيث والإفساد من كل واقف بالمرصاد، فيتسنى لهم أن يذهبوا في الكتابة كل مذهب لا يبالون في استعمال الكلمات بما نصتْ عليه معاجم اللغة، ولا يكترثون في صَوْغِ الجُمل والتراكيب لما ورد عنها في كتب علم الأدب. فيَجيءُ ما تخطُّه أقلامهم في الطروس والدفاتر، أو تنطلق به ألسنتهم على المنابر، معارضَ سخافة وركاكة يتردد الاختلال في مذاهبها ويتمشى الاعتلال في مناكبها. وإذا اطلع أحدُ أبناءِ اللغة البررة الأوفياء على هذه الأسقاط والسفاسف، وحَمَلته غَيْرتُه على التنبيه إلى ما يراه فيها من العيوب والهفوات، تصدَّى له أولئك المعسلطون٨ يتنقصونه ويَسْتَزْرُونه، ويتهمونه بأنه من ذوي العقول الجافة الجامدة المطبوعين على كراهية الحديث الجديد وحب التمسك بالرميم البالي. قال لي أحدهم ذات يوم: «إن المهم في الكلام نثرًا كان أو شعرًا إنما هو معناه لا لفظه. فبالمعنى — وهو الجوهر — يجب أن نُعنى لكي يجيء ساميًا رائعًا طريفًا أنيقًا، أما اللفظ — وهو العرض — فلْيَجِئ كما يجيء لا نكترث له ولا نبالي به». فأجبته: «لا أدري كيف يُستطاع الإتيان بمعنى أنيق طريف في لفظ ركيك سخيف؟! وأين تلك المعاني السَّنِيَّة التي تزكو أغراسُها في دِمَن الاختلال والاعتلال؟! ولماذا لا تتلألأ الصهباء إلا في أكثف إناء؟ وهل يَضُرُّ الشمسَ أن تطلُع في أنقى جوٍّ وأصفى سماء؟ وإذا أمكن أن يكون السيفُ الماضي الحدّ في غمدٍ من ذهب، أفليس من الخرقِ أن نُصِرَّ على جَعْلِه في قرابٍ من خشب؟!» فسكت ولم يُحرْ جوابًا.

وهذه الوساوسُ التي ينفثها أولئك النزَّاغون في عقد تُرَّهاتِهم وأباطيلهم، بل هذه الدسائس التي يدسونها للغة ويبثون سمومها في ما يكتبونه وينشرونه بين خريجي المدارس وطَلَبتها، كان لها أسوأ تأثير في أذهان جانب كبير منهم، وكانت من أكبر الأسباب لإعراضهم عن اللغة وإهمالهم لقواعدها وأحكامها.

شدة خطرهم على اللغة

ولْيَعلم القراء أن خطرَ خوارج الأدب على اللغة شديدٌ جدًّا؛ لأنهم لا يفتأون يُناصبونها العداء، ولا ينفكون يكيدون لها المكايد ويخفون في سبيل تحصيلها الفخاخ والمصايد. وهم يسلطون عليها معاوِلَ تقويض وتهديم أشدَّ تخريبًا وتدميرًا من المعاول التي يسلطها الفوضويون على الحكوماتِ والإباحيةُ المعطِّلة على الأديان. فإذا لم يهبَّ سَدَنةُ اللغة وحُفاظها في جميع الأقطار العربية هُبَّةَ رجلٍ واحد لدَرْءِ هذه المفاسد، تَفاقَمَ الخَطْبُ واستَطار الشرُّ واتَّسع الخرقُ على الراقع.

ولستُ أجهل أن كلامي هذا سيُضرِم في قلوب هؤلاء المَرَدة نارَ الغيظ والحَنَق، فيَحملون عليَّ أشد حملة يستطيعونها، ويعرضونني لسهام المثالب والمطاعن. وأقل ما يَرْمونني به أني مُفْرِطٌ في المحافظة على القديم وشديدُ الغلو في مقاومة كل حديث جديد. وإني لكما يقولون مُفْرِط كل الإفراط في المحافظة على القديم، ولماذا؟ لكي أُبطل مشورات المُغرين بالتفريط في أكرم ما نباهي به ونفاخر، وأُحبط مَساعي المُؤتمرين على ضياع أغلى تراث تركه الأوائل للأواخر. أما في ما سوى ذلك، فإني بريء من كل ما يتهمونني به، وعلى الدوام يرونني في مقدمة المُصرِّحين علنًا بأن اللغة في أشد احتياج إلى إصلاحٍ يُرَقِّيها ويُمَكِّنها من الوفاء بحاجات هذا العصر. ولكن الإصلاح شيء والهدم والتدمير أو الاجتياح والاستئصال شيءٌ آخر!

اللغة وسيول اللهجات العامية

وخلاصةُ ما أروم بيانه في هذا التمهيد أني بوضعي لتذكرة الكاتب أردتُ أن أقضي واجبًا عليَّ في خدمة اللغة والمشتغلين بها، بذكراهم ما يقع في كلامهم من الخطأ لكي يجتنبوه، ويجيء ما يكتبونه صافيًا على قدر الإمكان من أكدار اللحن ونقيًّا من شوائب الغلط. وهذا أحد الأمور التي يتحتم علينا أن نُسرع في قضائها؛ لكي يكون إصلاح اللغة المنشود مستكمِلًا جميع وجوهه. أما الأمور الأخرى فكثيرة، وأهمها التعجيل في إنشاء سدٍّ حصين متين يعترض للهجات العامية في جميع الأقطار العربية، ويصدُّ سيولها الجارفة التي تطمو كلَّ يوم على اللغة الفصحى مُحاوِلةً إغراقَها وابتلاعها كما يتمنى خوارج الأدب.

وهذه اللهجات العامية قد اتسع نطاق شيوعها كما تقدم الكلام، وذاع دورانها في ألسنة جميع الناطقين بالضاد، حتى تناول معظم أحاديث الناس في البيوت؛ في أكواخ الفقراء وقصور الأغنياء، وفي المعامل والمتاجر، والمدارس والأندية، ودواوين الحكومة وغيرها من الأماكن التي يجتمعون فيها لأغراض مختلفة. وأوشك استخدامُ كلماتها أن يشمل كل ما عندنا من رياش وأثاث ومتاع وإناء، وكل ما على أجسادنا من ثياب وملابس، من قمة الرأس إلى أخمص القدم، وكل ما يباع في مخزن التاجر ودكان البدَّال وحانوت العطار، من بضائع ومنسوجات ومصنوعات وعروض وسلع وعقاقير، وكل ما يعرض في علوم الطب والعلاج والهندسة، والملاحة والطيران وسكك الحديد، وصناعات البناء والحدادة والنجارة والخياطة، من اصطلاحات وتعابير وعُدَد وآلات وأدوات، وما يَجِدُّ كل يوم من المكتشفات والمخترعات.

هذه وغيرها مما لا يسعني استيفاؤه تحتاج إلى ألوف من الكلمات للتعبير عنها والدلالة عليها. وإذ لا يجد المشتغلون بها كلمات عربية صحيحة تفي بأغراضهم من هذا القبيل، يعمدون إلى سد حاجتهم كيفما اتفق لهم إما باستعمال الكلمات العامية التي يسمعونها نقلًا عن غيرهم، وإما بتعريب الكلمات الأفرنجية الموضوعة لتلك الأشياء، أو بخليط من هذه وتلك كما تقدم الكلام.

وعلى هذا المنوال تشتد سواعد اللهجات العامية، وترسخ أقدامها، وتزداد دوائر استعمالها امتدادًا واتساعًا، ويظل استعمال اللغة الفصحى محدودًا محصورًا قلما يجاوز ما وُضعتْ له من قديم الزمان، مع أنه لا ينقصها شيء مما في اللغات الأخرى من خواص الحياة والنمو والمرونة، وهي مَضْرِبُ المَثَل في غناها بالمترادفات والقيود والضوابط والفروق والحدود والتعريفات، وفيها ما لا يحصى من الكلمات التي يصلح استخدامها في هذه الأيام للتعبير عما يجدُّ من المعاني. وحسبها أنها ممتازة بالاشتقاق الذي يزيدها حسنًا وجمالًا ويُسهِّل على علمائها أن يضعوا ما شاؤوا من الألفاظ للدلالة على مُسْتَحْدَثات العلوم والفنون إذا لم يجدوا لها كلمات موضوعة من قبل.

إنما الحاجة إلى واحد

ولقد سبقتُ فكتبتُ غير مرة في هذا الموضوع الخطير الشأن، وبحثتُ كما بحث سواي في أسباب قصور اللغة في الوقت الحاضر عن الوفاء بحاجاتنا. وعلى رغم مخالفة كثيرين لي لا أزال أرى أن خيرَ وسيلة لتدارُك القصور إنشاءُ مجمع لُغوي يتألف من صفوة علماء اللغة في مصر وسورية والعراق، وغيرها من الأصقاع العربية، على وجه تُراعى فيه الجدارة الصحيحة والأهلية الحقيقية، بحيث يكون كل عضو مُتضلِّعًا من معرفة اللغة وله إلمام كافٍ بمبادئ أحد العلوم العصرية؛ ليتمكَّن من وضع الكلمات والتعاريف المختصة بذلك العلم، ويسمَّى هذا المجمع «مجمع ترقية اللغة العربية». وأول شيء يجب أن يُعنَوْا به هو البحث المدقِّق في أسباب قصور اللغة، والتعجيل في إزالتها، ثم النظر في ما يعرضه عليهم المؤلفون والمترجمون والشعراء وكُتاب الصحف والمجلات، من الكلمات والتعابير العامية والأجنبية، فيبحثون فيها ويستبدلون بها ما يفي بالمراد من الصحيح الفصيح استخراجًا أو وضعًا: أي إمَّا بأخذه مما سبقهم المتقدمون إلى وضعه واستعماله في المعاني نفسها أو في ما يدانيها، وإمَّا بمجاراة المتقدمين في وضع ألفاظ تدل على المعاني المبتغاة، وذلك بالاشتقاق — بالاستعمال الحقيقي أو المجازي — وهو أوسع الطرق وأعمها،٩ أو بالنحت، أو التركيب، أو التعريب، وهذا الأخير أندر الطرق وأقلها استعمالًا. وكان المتقدمون لا يلجأون إليه إلا إذا أعياهم الوضع على أحد الطرق الأخرى.١٠ ثم يَنشر المجمع ما يستخرجه أو يضعه في مجلة أسبوعية تُنشأ لهذه الغاية، وتنشر في جميع الأقطار العربية؛ ليطالعها الذين يهمهم الأمر ويعتمدوا موضوعاتها عند الحاجة إلى استعمالها.

ومما يجب على المجمع أن يُوجِّه التفاتَه إليه هو الكلمات الكثيرة المستعمَلة الآن في غير ما وُضعت له، وليس في كتب اللغة ما يُجَوِّز استعمالَها هذا إلا على ضعف وتكلُّفٍ. ولكنها شاعت وذاعت حتى بين بلغاء الكتاب، وليس من السهل أن يُستبدل بها كلمات أخرى. فمنها هذه الأسماء: «صادرات، وواردات» و«تهوية» للبيوت وما فيها من الأثاث، و«تحليل» بمعناه العلمي والطبي، و«تشريح» بمعناه الطبي، و«تشريع» و«تقنين» و«مشروع» و«إعدام» و«محطة» و«تقرير» و«عمود» لجزء من المكتوب أو المطبوع على صفحة الصحيفة أو الكتاب، والأفعال: «تَفرَّج» و«تَطوَّر» و«اكتَشَف» وغيرها. يُضاف إليها جانب كبير من الكلمات المعربة عن اللغات الأجنبية. فهذه كلها يجب أن تُعرض للبحث، فإما أن يُتفق على استعمالها لغلبته وشيوعه، وإما أن يستبدل بها غيرُها وفيه من الصعوبة ما فيه.

١  يراد بالسماع أو السماعي في اللغة خلاف القياس والقياسي، وهو ما نسمعه عن العرب ونستعمله ولكن لا نقيس غيره عليه.
٢  من غرائب الأمور السماعية في لزوم الفعل وتَعَدِّيه أن باب أفعل الذي يكون غالبًا للتعدية، نحو: «أكرمت الرجل» كثيرًا ما يجيء لمطاوعة فعل نحو: حجمه فأحجم، وكبه فأكب، ونسل ريش الطائر فانسل، وقشعت الريحُ الغيمَ فاقَّشَع، ونزف البئر فانزفت، وأن باب انفعل الذي هو لمطاوعة فعل لا غير نحو: «قطعته فانقطع» قد يجيء لمطاوعة أفعل نحو: أزعجته فانزعج، وأطلقته فانطلق، وأقحمته فانقحم، وأدخلته فاندخل وغيرها. وقد يجيء لازمًا كفعل نحو: انسرب الوحش، بمعنى سرب، أي دخل.
٣  لأن أفعالًا كثيرة سُمعت لازمة وهي لا تدل على شيء مما قيدوا الفعل للازم به، كذهب وجلس وخرج وغيرها.
٤  لأن التعدية ليست في كل فعل لازم.
٥  كمقبرة للمكان، وميسرة للزمان. أما المكان فيُبنى له من الأسماء الجامدة صيغة على وزن مَفْعَلة للدلالة على كثرة المسمى فيه نحو: مأسدة لمكان كثر فيه الأسود وهو يقاس من كل اسم ثلاثي كمسبعة ومذأبة ونحوهما.
٦  فصَّل بعضهم في بناء اسم الآلة تفصيلًا يضيق دائرة سماعه ويقربه من القياس، فقال: يُنظر في الفعل الذي يراد بناء اسم آلة منه «ومعلوم أنه يجب أن يكون من الثلاثي المتعدي»، فإن كان قد سمع عن العرب استعماله على أحد أوزان اسم الآلة الثلثة: مفعل كمبضع، ومفعال كمفتاح، ومفعلة كمكنسة، أو على ما شذ عنها: كمخل ومدق ومكحلة وغيرها، وجب الاقتصار على المسموع ولم يجز استعمال غيره. وإن لم يستعمل العرب اسم آلة منه ككتب مثلًا، جاز بناؤه على أحد الأوزان الثلثة، أي مكتب أو مكتاب أو مكتبة.
٧  فمن ذلك أني لما أكمل صديقي المرحوم نعوم بك شقير تأليف تاريخ السودان، قرظته بقصيدة طويلة مطلعها:
أحييت في تاريخك السودانا
وحليت عاطل جيدها فازدانا
فلما اطلع عليها المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي اللغوي المشهور، قال لمن أطلعه عليها: لا عيب فيها سوى قول ناظمها «وحليت»، فإنه عدى الفعل حلى بمعنى زان، وهو لازم. ولعله نقله عن محيط المحيط. فكان كما قال لأني استندت إلى قول صاحب محيط المحيط «حلى المرأة يحليها، زينها» وهو غير صحيح.
٨  جمع معسلط وهو الذي يتكلم بلا نظام.
٩  كما فعل كثيرون من علماء اللغة في هذه الأيام في مصر وسورية والعراق وغيرها من البلدان العربية. وقد شاع استعمال الكلمات التي وضعوها شيوعًا لا مزيد عليه.
١٠  ومع ندرته وقلة استعماله ترى آثاره ظاهرة كل الظهور في كثير من الكلمات المندمجة في لغتنا معربة من قديم الزمان عن اللغات الحبشية والفارسية والسريانية واليونانية وغيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤