مقدمة

اللهم باسمك القاهر الرحيم أفتتح كتابي، وأسألك العفوَ والعافيةَ في الدُّنيا والآخرة، وأن تعصمني من زَلَّةِ القلم؛ لئلا تودي بي إلى عثرة القدم.

وبعد، فالكل يعلم ما هي مسألة دنشواي المشئومة، وما جَرَّت على البلاد والعباد من المصائب والبلايا، وماذا كانت نتيجتها السيئة على المصريين أجمعين.

ويقيني أن المسألة كلها بُنيت على أساسٍ من سوء التفاهم الذي جعل للموضوع شكلًا وأهميةً، وزيادةً على شكله وأهميته الحقيقيتين اللتين لبستهما، وكانت العاقبة المادية قصاص ما يربو على العشرين شخصًا بين معدمٍ ومجلودٍ وسجينٍ وطريدٍ، وكانت العاقبة الأدبية تلك التُّهم الشنيعة التي أُلصقت بنا ظلمًا وبهتانًا، والتي نسبها إلينا في تصريحه المشهور أكبرُ ممثلٍ لحكومة جلالة إدوارد السابع.

فالحادثة بشكلها، والأقوال باختلافها، والمحكمة المخصوصة بصبغتها، والعقاب بقسوته، والتنفيذ بفظاعته، كل ذلك حرَّك في نفسي وضعَ روايةٍ تكون تاريخًا لهذه الحادثة السيئة، وتكملةً لما نقص من فظائع ديوان التفتيش أو أحكام نيرون.

وأظن أن القارئ أدرك — لأول وهلة — صعوبة الكتابة في هذا الموضوع بالشكل الذي كتبت به روايتي «عذراء دنشواي» وذلك لأسباب كثيرة: أولها وأهمها أن الأقوال ما زالت للآن مختلفة في كل شيء، في الحادثة وكيفيتها، والتحقيق وأسلوبه، والعقاب وتوقيعه، وأقول الحق: إن هذا السبب قد شوش على فكري، وكاد يكون عثرةً في سبيل مشروعي، إلا أنني تغلبت على ذلك، ورأيت أن الاعتماد على أقوال الحكومة خيرُ مَنفذٍ لي من هذا المضيق الوعر، فاتخذتها لي نبراسًا وأنا غير راضٍ عن نفسي.

وثاني الأسباب: أن الموضوع محفوف بالمخاطر، فقد تكون كلمة في غير موضعها تجني على نفسي ما أنا غنيٌّ عنه، فعمدت إلى التلطف ما أمكنني، والتقهقر إلى خط الرجعة (دائمًا) ما وسعني، حتى لا أصير في صف الآثمين، ولا أكون آخر المنكوبين، أو تكملةً لمعاقَبي دنشواي.

وثالثًا: أن الموضوع ضيق المنافذ؛ فلا يسع إلا النسيم العليل يدخل إليه بسكون، فرأيت أني لو أدخلت فيها شيئًا من الغرام وقليلًا من الفكاهات فلربما أرضيت القارئ الكريم، فاستعنت بالله فأعانني، وتوكلت عليه وكتبتها، ثم قدمتها إلى إدارة جريدة «المنبر» الغراء، فتقبلها صاحباها صديقاي العزيزان قبولًا حسنًا، وَأَوْسَعَا لهَا بَيْنَ أعمدةِ صحيفتهما مكانًا فسيحًا.

فالرواية خيالية أكثر من أن تكون حقيقية، والموضوع نفسه ألزمني التوسع في الكتابة، فابتكرت المحادثات المذكورة فيها، والغرام الذي جعلته أساسًا لها، وإني أبرأ إلى الله من أن أخدع نفسي والقارئَ وأتجاسر بالقول: إن المحادثات المذكورة حقيقية، وأظن أن ذلك ما فطن إليه القارئ اللبيب من قبل هذا التصريح.

ولدى ظهور أول جزء منها على صفحات «المنبر» أخذ العجبُ جماعةً ممن يحسنون الظن بالناس، فدفعهم ذلك إلى تشجيع هذا الضعيف. وما أنا ممن يرتضي لنفسه التقريظ والإطراء لولا ثقتي بحسن نواياهم وشرف مقاصدهم، ولقد كان من بينهم مَن تفضل فانتقد لغة الرواية؛ لأنه مضيع — على زعمه — للغة «القرآن الشريف»، وغاب عن حضراتهم أني تعمدت الكتابة باللغة «العامية الريفية» لتكون أوقع في النفس، وعبارة «طبق الأصل» لمحادثة سكان القرى.

كتبت الرواية في «المنبر» — المتصل إن شاء الله بالجوزاء — وليس في نيتي أن أجمعها فيما يخلدها، ولكن إلحاح أصدقائي عليَّ في طبعها على حدة لتكون أسهل في التناول، وأقصر للمطالعة، أرغمني على قبول حسن ظنهم بالشكر الجزيل؛ فلبيت طلبهم شاكرًا فضلهم مثنيًا على همتهم.

ومن جهة أخرى، رأيت أن قصدي من تأليف هذه الرواية كان العظة البالغة والتذكار المؤلم لهذه الحادثة، فشجعني طلبهم وطبعتها لتكون محفوظة في المكاتب يتناولها الابن عن الأب، وتُحدِّثُ بها الأمُّ ابنتها، وفي الحقيقة تكون قصاصًا ممثلًا أمام نظر الإنسان في كل وقت وزمان تفكرنا دائمًا بمركزنا الذي نحن فيه، وتكون أكبر رادع لنا وعبرةً بالغةً لأولادنا، فلا يُقدمون على أمرٍ يبكون من نتائج عقابه الفظيع.

ولقد خدمت — في الحقيقة — القابضين على أَزِمَّةِ أحكامِ البلاد بِيَدٍ من حديد، فنقشتُ عقابهم الصارم على صفحات القرطاس، ودونتُه في بطون التاريخ حتى يُغني عن كل عقوبةٍ قد يجنها١ ضمير المستقبل.

وقدمت أيضًا خدمةً لأبناء بلادي، فمثَّلت لهم شدةَ أحكامِ الحكام وقساوتهم في التنفيذ، حتى لا يقوم غر جاهل يجني على البلاد بمثل ما جنت أهالي دنشواي.

وجُرْمٌ جَرَّهُ سُفَهَاءُ قومٍ
فَحَلَّ بِغَيْرِ جَانِيِهِ العِقَابُ
ط. حقي
السيدة زينب في ١٥ يوليو سنة ١٩٠٦
١  يجنها: يخفيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤