الفصل السادس

بين الهلباوي وضميره

لِمَ هذا التردد يا هلباوي وأنت قادرٌ على كل شيء؟! وما هذا الضعف؟! بل ما هذا الجنون؟ أتترك هذه الفرصة تفوتك وتدوس المستقبل إكرامًا للماضي؟ إن هذا هو البله بعينه! إن أبواب المستقبل الزاهر مفتوحة أمامي، وبخطوة واحدة ألِجُها، فهل أوصدها بيدي؟ كلا، كلا، فلن يكون ذلك أبدًا.

نطق هذه الجملة الطويلة إبراهيم بك الهلباوي على أثر وصول كتاب إليه من الحكومة المصرية بتعيينه مدعيًا عموميًّا أمام المحكمة المخصوصة التي تَقَرَّرَ انعقادها لمحاكمة الدنشاويين.

ولكنه أعاد تلاوة الكتاب مرة ثانية فاقشعر بدنه وصرخ: يا لهول موقفي! ماذا أفعل يا إلهي؟ كلا، كلا، فإن للوطن حقوقًا مقدسةً يجب أن تُراعى، وللضمير صوتًا لا بد وأن يُسمع، وللشرف طريقًا لا بد وأن يُسلك فيه، فمن الجبن أن أدوس على كل ذلك بقدمي حبًّا في الفخفخة والظهور! ألأجل وظيفة أطمع في نَيْلها أجني على نفسي جناية تسوِّد تاريخ حياتي، وتكون إكليل عار وشنار لأولادي؟ كلا … فأنا بحمد الله، غنيٌّ، فلِمَ هذه الدناءة والتطوح في وهدة الموت الأدبي؟! أأكون خائنًا؟! أأغير مبدئي؟! ألم أكن أنا عدو سياسة الإنجليز الألد؟! ألم أكن أنا صاحب مقالات «إلى أي طريق نحن مسوقون»؟! أأقف في الغد أطلب إراقة دماء أبناء وطني المهضومي الحقوق المظلومين؟! أأطلب سحقهم؟! أأستخدم قوتي وما آتانيه الله من المواهب العقلية لسحق أبناء بلادي؟! إن موقفي يحتم عليَّ وصفهم أمام أعدائهم بأقبح الصفات، فهل أفعل ذلك؟! أأنسى لمجرد أملي في الحصول على وظيفة سامية واجبات وطني؟ كلا، كلا! فماذا كنت يا هلباوي وماذا أنت اليوم؟! ألم أكن فقيرًا معدمًا؟! ألم أكن فلاحًا من صميم الأرياف؟! ألم أصِل إلى ما أنا فيه من الاحترام واليسار إلا بأبناء وطني؟! أأكافئهم على ذلك بأن أخرج عليهم؟! أأكون سهمًا داميًا في أحشائهم؟! إن ذلك لن يكون أبدًا.

وبينما كانت الحرب قائمةً بين الهلباوي وضميره بمثل ما قدمنا، إذ دخل عليه خادم وأعطاه كتابًا، فتناوله وفض غلافه، فألفاه من عظيم من عظماء الإنجليز، فقرأ ما تعريبه:

صديقي الأستاذ هلباوي بك

أهنئك على الثقة الكبيرة التي نلتها بانتدابك لموقف المدعي العمومي، فكتبت إليك هذه التهنئة ليكون لي شرف أول مهنئ لك، وأتعشم بأن أهنئك … قريبًا بغير ذلك.

الإمضاء
(…)

وبعد أن أتم الهلباوي قراءة الجواب وضعه على مكتبته وجلس خلفها ساكنًا يفكر في موقفه، وبعد ذلك تبسم وقال: إن من العقل أن يلبس الإنسان لكل موقف لبوسه؛ فلا أدع هذه الفرصة تفوتني لمجرد وهمٌ تجسم حتى خلته حقيقة، فسأقبل هذه الوظيفة بانشراحٍ تامٍّ، وماذا عليَّ لو صمَمْت عن سماع كلام الناس وضربت بما سيكتبونه عرض الحائط.

وبهذا التعليل تغلبت المطامع على الضمير. قَبِل الهلباوي الوظيفة، ثم أخذ يسهر الليل ويشتغل النهار مُنَقِّبًا في القوانين ومشاهدًا آثار الحادثة، حتى استنتج ما أراده وَفَاهَ به في الجلسة كما سيجيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤