الفصل السابع

بعد المعركة

وبعد المعركة تمامًا قفلت أهالي دنشواي راجعة إلى بلدتهم فجسلوا بجانب جرنٍ هناك منهوكي القوى، وكانت علامات الغيظ باديةً على وجوههم السمراء.

وبعد أن جلسوا قليلًا، قال محمد يوسف: أعوذ بالله، دا شيء يِطَلَّع الإنسان من دينه، ده غُلب إيه ده؟!

فأجاب محمد زهران قائلًا: دي إيه المصايب دي؟ إحنا كنا فين والإنجليز فين؟!

فقال محمد أحمد السيسي: وعليَّ الطلاق بالتلاتة ما انا إلا دابح كل الحمام اللي عندي وستين سنة.

فلطم حسين سليم بيديه وقال: إحنا موش في كده، قُطع الحمام وأصحابه، إحنا دي الوقت في مسألة ضرب الإنجليز.

فقال السيد عيسى سالم: تفتكر إنه ما فيش عدل في البلد …؟ ده كلام إيه ده، هي البلد سايبة من غير حاكم؟!

– عدل مين يا عم؟ هو فيه عدل في البلد؟ كل شيء ماشي اليوم بالعافية والدراع، وبكرة تشوف رايحين يعملوا إيه فينا.

فقال السيد العوفي: يعملوا إيه بس يا مسلمين يا خلق هوه، بقه ييجوا يهجموا على حمامنا اللي بنتعيش منه، ويصطادوه، ويقتلوا نسوانا، ويحرقوا زرعنا، وبرضه نسكت لهم؟ يا هوه، اتكلم، ما تتكلم يا أحمد يا عبد العال.

– أتكلم إيه وأقول إيه ومين يقرأ ومين يسمع؟

فقال محمد يوسف: بلاش لخمة يا جماعة ومتطببوش قلبنا بالكدب وقولوا نعمل إيه؟

قال محمد الغباشي: ما فيش حاجة، يالله نهرب ونسيب البلد مدعوءة على اللي فيها.

– وفاكر إنهم ما يظبطناشي وتبقى داهيتنا كبيرة؟

– لأ، يالله نهرب في مديرية الجيزة، وفين على ما يحصلونا ويضورم علينا.

– يا شيخ ما تقولشي الكلام ده.

– أمال نعمل إيه؟

– أحسن شيء إننا نجتهد في أن نقول لهم الحقيقة، ونقول: إننا كنا بندافع عن حمامنا، والدفاع عن الحق واجب.

– ما حدش يسمع لنا كلام.

– أمال نعمل إيه؟

– نرمي تكالنا على الله وهو اللي يدبرها.

– يا شيخ تكالنا مين؟

فقال حسن محفوظ: إذا كنتم خايفين كده، بتعملوا العملة دي ليه؟

– أهو يا محفوظ المقدر كده.

– ما كنش عندكم عقل ساعتها؟!

فأجابه عبد النبي سليم قائلًا: أنهي عقل بس اللي عاوزه؟ حد يكون في غيظه ويكون عنده عقل؟ إيه الكلام ده؟

فقال محمد يوسف: يا جماعة قولوا لي بس كنا يا ترى نسيبوهم يعملوا زي ما هم عاوزين والا إيه؟ ما ندافعوشي عن حاجتنا؟

فرفع محمد زهران لبدته من على رأسه، ونظر إلى السماء بعينين ملء جفونهما الدمع وصرخ: الله يخرب بيتك يا محمد يا شادلي، وييتم أولادك، ولا توعى تقوم من مطرحك، لإنك السبب في ده كله.

ثم خبأ وجهه في كفيه، وأخذ يبكي كالأطفال.

وفي هذه اللحظة أدرك الفلاحون خطورة موقفهم.

فقال محمد عبد النبي: آه … يا خراب بيتي! مراتي بتطالع في الروح يا جماعة اعذروني … يا ناس اعذروني.

فخرج من صدر كل من كان حاضرًا تنهدٌ عميقٌ وسكتوا كأن على رءوسهم الطير.

فقال — بعد هنيهة — حسن محفوظ: يا جماعة دبرونا رايحين نعمل إيه؟

– نعمل إيه يا عم محفوظ؟ عملنا أسود على راسنا، بكرة يودونا في داهية.

فاقشعر بدن الجميع لهذه الجملة.

وكان بين المجتمعين شيخ في حدود التسعين من عمره مقعد، فقال لهم: اسمعوا يا ولادي كلامي واقبلوا نصايحي.

فصرخ الجميع: اتكلم يا عم الحاج عمران.

فاعتدل الشيخ وتربع جيدًا ثم قال: اللي فات مات، وأنتم معذورين قدام الدنيا كلها، ولكن لو خدوا رأيي لكنت أول شيء أحكم على محمد الشادلي بالحرق؛ لأنه هو السبب، على شان لو كان قال للمديرية من السنة اللي فاتت عن شكوتكم ما كنش حصل اللي حصل النهاردة، ولكن كل شيء مقدر واللي مكتوب على الجبين تراه العيون، فأحسن حاجة تنقوا عشر تنفار منكم يسافروا بكرة في المديرية، ويقولوا على المسألة من طأطأ لسلامو عليكم.

وما كاد الشيخ ينتهي من كلامه؛ حتى قدم رجلٌ وقال لهم: يا ويلنا … يا ويلنا … إنتم ما سمعتوش الخبر؟

فارتجفت أعضاء المجلس وتطاولت أعناقهم وقالوا كلهم: لأ، خير خير، قول قول!

– واحد من الإنجليز اللي ضربناهم مات.

ولما سمعوا كلامه نزلت أعناقهم على صدورهم وسكتوا. فقال عم الحاج عمران: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! كل شيء بإرادته، كل شيء بحكمه.

فصرخ محمد زهران وقال: اتكلم يا حاج عمران، نعمل إيه، قول لنا العمل إيه؟

– المسألة أكبر من الأول، والمصيبة رايحة تنزل على دماغنا كلنا.

وكان لعم الحاج عمران منزلة كبيرة عند أهل بلده؛ فهم يحترمونه ويعتمدون على أفكاره وآرائه، فلما قال جملته الأخيرة اسودت الدنيا في أعينهم، فبكت الرجال، وولولت النساء، وحكموا على أنفسهم بأنهم كانوا غلطانين، وتندموا على ذلك كثيرًا، وأعقب هذا الانفعال النفساني سكوتٌ كبيرٌ.

وبعد هنيهة تحرك الحاج عمران من مجلسه قليلًا ثم تنهد وقال لهم: مافتكرتوشي يا ولادي في النتيجة؟ ليه تعملوا كده ليه؟

فقال محمد المؤذن: نعمل إيه يا عم عمران إزاي؟ بقى لهم خمس سنين بييجو يقتلوا الحمام ويحملوه في زكايب وبعدين نعيش منين؟ أَنْهُ عدل يقول كده؟ هم حكام مصر ما فيش في عينهم نظر؟ بكرة لما يسمعوا حكايتنا يرأفوا بحالنا ويبرءوا ساحتنا.

فضحك عم الحاج عمران وقال: اللي بتقوله ده في المنام يا محمد، فين العدل اللي في مصر! إذا كان فيه عدل — زي ما بتقول — كان تهجم على بلدك الإنجليز ويصطادوا حمامكم، ويموتوا نسوانكم، ويحرقوا جرنكم، كان العدل زمان يا ابني زمان.

– وتفتكر إيه اللي يعملوه فينا؟

– يعملوا كل شيء يقدروا عليه.

– مين هم؟

– الإنجليز.

– طيب وحكامنا رايحين يسيبوهم يعملوا فينا اللي عاوزينه؟

فتبسم الشيخ وتنهد وقال بعد أن هز رأسه (أيضًا): والله علمي علمك يا ابني.

فقال حسن محفوظ: يالله كل واحد يروح بيته واللي في علم الله يكون، فقاموا بدون أن يسلموا على بعضهم خلافًا للعادة.

•••

وبينما كان الجمع في المحادثة المتقدمة، كانت «ست الدار» جالسة بجانب أحمد زايد في الجهة الثانية، وجرت بينهما المحادثة الآتية بدون أن يلتفت إلى غيابهما أحد؛ لانهماكهم في تقرير ما سيجيء به غدهم.

قالت ست الدار: عاوز مني إيه يا أحمد يا زايد؟ بس قول عاوز إيه؟

– أنا عاوز حاجة كبيرة، أنا عاوز أتجوزك على شان أني بحبك جوي! جوي! جوي!

– بس إزاي أتجوزك وأنا مكتوبة الكتاب؟

– اسمعي بقه: تقولي لأبوكِ إنك منتش عاوزة محمد العبد.

– إزاي وأنا عاوزاه؟!

– تعرفي شغلك.

– بس إيه العداوة دي يا أحمد؟

فتبسم الخبيث وقال لها: بقه إحنا في الجد … وإن ماكنتيشي رايحة تتجوزيني أنا رايح أبلغ اسم أبوكِ في المديرية وأقول: إنه هو اللي ضرب الإنجليز.

– يا دهوتي! منك لله! عاوز توديه في داهية! يا شيخ خاف من ربنا واتقي الله ده كان في الغيط.

– أخاف ما اخافشي ده موش شغلك، أنا عاوز أتجوزك وشاوري عقلك.

– في عرضك يا زايد … في طولك يا أحمد ماتخربشي بيتنا …

– أهو إذا كنت عاوزة إنه يتخرب عانديني.

– لأ لأ! أتجوزك واعمل معروف ما تبلغش عن اسم أبويه.

– اتفقنا.

– خلاص.

– بس رايحة تقولي إيه؟

– أقول لأبويه إني عاوزة أتجوزك.

– بس قولي كده، وأنا علي الباقي.

– طيب.

وفي هذه اللحظة انفض اجتماع الأهالي، فقام حسن محفوظ وقال: يا ست الدار … يا ست الدار …

– عاوز إيه يا أبويه؟

– يالله ندخل.

فهمس أحمد زايد في أذنها: يالله نقرا الفاتحة …

فقرآ الفاتحة، ثم اتجهت جهة أبيها ودخلت معه، وقصت عليه هناك كل ما دار بينها وبين أحمد زايد من الحديث، فقال لها: أوعي تقولي لي كده وإلا موتك، ده ابن كلب خاين ولا تخافيشي علي، وبكرة أوريه شغله.

ثم أطبق الليل بظلامه على بلدة دنشواي، فجرى النوم في عيون أهلها كما جرى الشقاء عليهم، فناموا بليلة الملسوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤