الفصل الثامن

المحكمة المخصوصة

في الساعة العاشرة من صباح يوم ٢٥ يونيو رُفع الستار عن هيئة المحكمة المخصوصة، فتطلع إلى مشاهدة تمثيل هذا الفصل المضحك المبكي عشرة ملايين مصري، ونادى رجل غليظ الجسم قصير القامة بصوتٍ جهوريٍّ: المحكمة المخصوصة، فقام كل الحاضرين على أقدامهم إجلالًا واحترامًا، فدخل سعادة بطرس باشا غالي وجلس على كرسي الرئاسة بعظمة وأبهة، ثم جلس إلى يمينه المستر هينز النائب عن المستشار القضائي، ثم فتحي بك زغلول، وإلى يساره المستر بوند وكيل الاستئناف، فجناب المستر لادلو بملابسه العسكرية وكان خالعًا قبعته، وجلس إلى يسار الجميع الهلباوي بك المدعي العمومي، وبجانبه سعادة مدير المنوفية، وجناب مستشار الداخلية بصفة خارجة عن هيئة الجلسة الرسمية، وعلى اليمين جلس عثمان بك مرتضى على كرسي الكتابة.

ولما استوى الرئيس على كرسيه أجال نظره يمنةً ويسرةً فسره النظام، ثم حانت التفاتة فرأى أصحاب الجرائد ومكاتبيها جالسين بهيئة مضحكة؛ لأنهم كانوا متبايني الخلقة والوضع، وجميعهم قد مدوا أعناقهم كأنهم يريدون التهام أعضاء المحكمة بأنظارهم، ولما رآهم الرئيس قطَّب حاجبيه وظهر أنفه أكبر من حالته الطبيعية! أما المستر بوند فنظر إليهم وتبسم تبسمًا خفيفًا، والغريب أن جناب المدعي العمومي لم يرفع نظره إليهم، بل اكتفى بالنظر في وجه المستر بوند كأنه يؤكد له في كل نظرةٍ إخلاصه وولاءه.

وكان عثمان بك يهز رأسه من آنٍ لآخر، ثم ينظر في الأوراق التي على مكتبته، ثم يجيل نظره في الحاضرين ويبتسم تارة، ويقطب تارة أخرى.

وبعد لحظة من جلوس الأعضاء نودي على المتهمين وهم اثنان وخمسون متهمًا، فكانوا حاضرين إلا سبعة.

والغريب أن اسم حسن محفوظ ومحمد العبد كانا ضمن أسمائهم، وذلك يدلنا على أن أحمد زايد هو الذي اتهمهما حينما أدرك خيبة مسعاه في زواجه بست الدار، والحق يقال: إن ثلثي المتهمين كانوا أبرياء، وما أُدخلوا في موقفهم هذا إلا بوشاية أعدائهم الذين هم من جنسهم، وذلك كما أدخل أحمد زايد حسن محفوظ ومحمد العبد في التهمة.

وبعد ذلك قام كاتب المحكمة، وتلا قرار نظارة الحقانية بصوتٍ عالٍ، وجلس بعد أن ألقى بنظره إلى وجوه أصحاب الصحف ومكاتبيها.

وبعد جلوسه قام إبراهيم بك الهلباوي، وطلب من هيئة المحكمة أن تكلف أحد حجابها بمشترى لترين من الكولونيا ورشهما في أرض المكان لمنع رائحة القرويين المتهمين، ولأنه عصبي المزاج فلا يمكنه أن يتحمل شمها.

فقال له أحد الأعضاء: وأي جنس تريده؟

فقال الهلباوي بفصاحة: أتكنسون.

وعندما نطق بهذه الكلمة ضجت الناس بالضحك وخيل للمتهمين أن كلمة «أتكنسون» بندٌ في القانون للعفو.

فاضطر سعادة الرئيس أن يطلب حفظ النظام.

ثم التفت إلى الهلباوي وقال له: ألا تعلم يا جناب المدعي العمومي بأنه لا يوجد في شبين الكوم «أتكنسون».

– غريب، ألا يوجد عند الفلاحين روائح عطرية!

– يوجد عند الفلاحين روائح، ولكنها غير المطلوب.

فقال أحمد بك حبيب عمدة الناعورة: عندنا يا حضرات الأعضاء رائحة اسمها «سنبل وخزامه» فهل توافقون على إحضارها؟

فأشار الرئيس برأسه إشارة الإيجاب، أما النائب العمومي فتضجر؛ لأنه لم يسمع بهذا الاسم في حياته! ولأنه من طفولته متعود على الأتكنسون.

وبعد ذلك وقف الهلباوي بعد أن أقسم بأن يُنزل الصواعق على رءوس المتهمين؛ لأن رائحتهم سببت له عسر الهضم، فقال: أطلب من المحكمة سحق هؤلاء المتهمين أجمعين؛ لأنهم هجموا على الضباط وقتلوا الكبتن بول، وأصابوا باقي الضباط بجروح بليغة، وحيث إن هذا الجرم من الجرائم الفظيعة، فأرجو وأتوسل أن يكون الحكم عليهم بأشد عقوبة بعد سماع شهادة الشهود.

ولقد أثر هذا الطلب المخيف في المتهمين، حتى إنهم «عرقوا» من قسوته، فازدادت رائحتهم وازداد لذلك عسر هضم الهلباوي.

وبعد جلوس المدعي العمومي بدأت المحكمة في سماع شهادة الشهود، فجاء الشاهد الأول وهو الميجر بن كوفين قومندان الفرقة، وساعِده الأيسر مرفوعٌ إلى صدره، ولما وقف بين أيدي القضاة نظر في وجوههم قليلًا وطلب أن يجلس؛ لأنه مريض، ولما جلس أمر الرئيس أن يُعرض عليه المتهمون، فعُرضوا عليه واحدًا بعد واحد، فكاد يضحك؛ لأنه لم يتذكر أنه رأى شبهًا من هذه الأشباه، وأوشك أن يقول ذلك لولا أن نظرة من نظرات أحد الجالسين على منصة الحكم أجمدت الكلمة بين شفتيه.

فقال الميجر في نفسه: وأي شيء يهمني؟ ومصر — كما قال عميدنا — بلاد العجائب والغرائب، فلا غريبة إن كانت أحكامها عجائب وغرائب.

ثم نظر بعظمة إلى المتهمين وقال في نفسه: أنا الحاكم المطلق في أرواحكم؛ فبكلمة مني أذهب بكم جميعًا، وبكلمة مني أعيد لكم الحياة.

فسأله الرئيس بعد أن حلف اليمين: من تتهم بالتعدي عليكم؟ فسار الميجر بين صفوف المتهمين كما كان يسير بين صفوف جنده متأملًا في وجوههم، فأول ما وقع نظره على عبد المنعم محفوظ رأى ذقنه كبيرة، فقال في نفسه: لأبلغن عن هذا الرجل عقابًا له عن عدم حلقه ذقنه، ثم رأى محمد مصطفى محفوظ فبلغ عنه لأنه كان كبير البطن، وبعد ذلك نظر إلى محمد العبد فأعجبه قوامه فقال: إن هذا الشخص لم يكن موجودًا، ثم نظر إلى محمد علي محمد وقال: ولا هذا الشخص … لأنه كان طويل القامة ينفع أن يكون من عساكر الدراجون، ثم نظر إلى محمد درويش زهران فرأى وجهه كئيبًا فأبلغ عنه أنه كان موجودًا، وهكذا أخذ يسير بينهم، وحياة المتهمين بين شفتيه، حتى أبلغ عن الذين لم ترُق هيئتهم في عينه وعفا عن الآخرين.

فقال له سعادة الرئيس: ماذا حصل لك يوم ١٣ يونيو؟

– خرجت أنا وباقي الضباط إلى الصيد في بلدة دنشواي، وما كدنا نصطاد حتى هجم علينا الأهالي وضربونا، وسلبونا، وقتلوا الكبتن بول.

– ألم يكن لهذه العصابة رئيس؟

ففكر الميجر قليلًا وقال: نعم كان لها رئيس.

– أيمكنك أن تعينه لنا من بين المتهمين؟

فمشى الميجر بين صفوف المتهمين إلى أن وقف أمام محمد درويش زهران صاحب الوجه الكئيب وقال: هو هذا يا سعادة الرئيس.

فتبسم الرئيس وقال له: ثنكس.

ثم ذهب الميجر وجاء بعده اللفتننت سميث ويك، فحلف اليمين القانونية بغيظٍ شديدٍ، ثم سأله الرئيس قائلًا: ماذا حصل لك يوم ١٣ يونيو؟

– ذهبت مع الضباط للصيد، وفي أثناء ذلك هجم الفلاحون هؤلاء المتوحشون علينا وأخذوا سلاحنا وسلبونا وقتلوا الكبتن بول.

– تتهم من بالتعدي عليكم؟ انظر في وجوه هؤلاء الأشرار.

فاضطرب اللفتننت وخفق فؤاده لأنه قادمٌ على أمرٍ جللٍ، فقال: أظن أني لا أعرف المتهمين لأنهم كلهم يشبهون بعضهم، وفي هذه المدة تغيرت هيئتهم وطالت ذقونهم.

فقطب أحد القضاة حاجبيه وقال له: قل بالتقريب.

فصدع اللفتننت بالأمر، وسار يمر على المتهمين، وعندما وقف أمام درويش زهران قال له أحد القضاة وقد خاف أن يمر عليه دون أن يخرجه: ألم يكن هذا رئيس العصابة؟

– نعم … وزيادةً على ذلك فهو الذي خطف مني البندقية، وكان يظهر على ملامحه ما يفيد أنه من رؤساء العصابة.

ثم سكت، ولما رأى البِشْر على وجوه القضاة قال: وإنه أيضًا كان يحرض الناس على التعدي على الضباط.

– فيري جود، تمم بحثك في باقي المتهمين.

فارتبك مرة ثانية، ولكنه أغمض عينه وأخذ يخرج من بين المتهمين ما شاء، وكان كلما أخرج واحدًا يصف تهمته وصفًا جليًّا كأنه يعرفه من سنين، والمدهش أن الشاهد لم يُعرض عليه أحد من المتهمين وقال إنه لا يعرفه.

فتبسم له الرئيس ابتسامة أكبر من ابتسامة الضابط الأول، وقال له: ثانكيو.

ثم ذهب اللفتننت، وجاء بعده الكبتن بوستك فحلف اليمين، فسأله الرئيس: ماذا حصل لك يوم ١٣ يونيو؟

– فقال: كل إهانة، فإنهم ضربونا وسلبونا، وقتلوا الكبتن بول.

– وتتهم مَن في هذا التعدي؟

– أتهم كل الموجودين.

– بلا استثناء؟

– نعم، أعرفهم لو رأيتهم.

فعرضت عليه المحكمة المتهمين، فحذا حذو رفيقه فأخرج السيد العوفي، ومحمد إبراهيم عبد الحق، وسيد أحمد محمد موسى، وغيرهم ممن أوقعهم سوء الطالع بين يديه، ثم مر على زهران ولم يخرجه، فتضايق أحد القضاة وأشار له عليه وقال: ألم يكن هذا الشخص موجودًا؟

– نعم كان موجودًا.

ثم أشار على عبد الرازق وقال له: وهذا الشخص؟

– لا أعرفه، ولكنني أعتقد أن جميع المتهمين أهانونا، إلا أنني لا أتذكر إهانة كل واحد.

الرئيس: وإذا لم تتذكر عمل كل واحد فكيف تتذكر عمل المتهمين؟

– لا أدري.

فقطب أحد القضاة حاجبيه، ولكنه سكت كاظمًا غيظه، فأدرك الرئيس ذنبه، فقال له: لك العذر في ذلك.

ثم خرج وجاء بعده المستر بورتر، فحلف اليمين وسكت منتظرًا سؤاله، فسأله الرئيس: ماذا حصل لك يوم ١٣ يونيو؟

– خرجنا للصيد فهجم علينا الأهالي فضربونا وسلبونا، وقتلوا الكبتن بول.

– هل يمكنك تعيين المتهمين؟

– تعيين المتهمين هذا ليس في إمكان إنسان يا سيدي الرئيس.

– لماذا؟

– لأنه لا يمكن معرفة المعتدين لطول الزمن، ولأن بعضهم تغيرت سحنتهم وطالت لحاهم.

– ولكن فكر.

ثم نادى بالمتهمين المحصورة التهمة فيهم، فكاد يقول: إنه لا يعرفهم، إلا أن نظرة من منصة القضاء أوقفت الكلمة بين شفتيه، فهز المستر بورتر رأسه وشهد حتى قال: إنه واثق بأن الأهالي كانوا مصممين على الجناية.

فسأله الرئيس بلهفة: وما دليلك؟

فارتبك بورتر، ولكنه تشجع وقال: دليلي؟ دليلي؟ عدم وجود أطفال ونساء في الحادثة.

فهمس أحد مكاتبي الجرائد في أذن رفيقه وقال له: إذن كانت امرأة محمد عبد النبي في الجرن، وإن الإصابة حقيقةً أصابتها وهي هناك، فالحريق إذن من نار الضباط.

فقال له الثاني: اسكت وإلا يأمر الرئيس بأن يأتي بورتر إلينا فيخرج منا من لا تعجبه هيئته، ويضمونا في عداد المتهمين.

فضحكا.

ثم التفت الرئيس إلى بورتر وقال له: هل انتهت أقوالك؟

– نعم.

ثم خرج … وجاء بعده عبد العال صقر مترجم ودليل الضباط، ولما دخل هذا الشاهد لم ينسَ أبدًا أن يؤدي التحية العسكرية، فجمع رجليه بجانب بعضهما ورفع يده بجانب جبهته، وقال باللغة الإنجليزية بدون أن يسأله أحد: وي لفت أون ثرتين جيون (أي خرجنا يوم ١٣ يونيو).

فصرخ فيه المستر بوند: ما هذا؟ ماذا تقول؟ أجب.

– إني أشهد بالذي رأيته.

– أتشهد بالإنجليزي؟ ولماذا؟

– لأن الضباط شهدوا بالإنجليزي.

– ألا تعرف العربية؟

– أعرفها.

– إذن احلف اليمين وتكلم باللغة العربية.

وفي أثناء هذه المحادثة ضج الحاضرون بالضحك، فطلب الرئيس حفظ النظام.

ثم التفت إليه الرئيس بعد أن حلف اليمين وقال له: قل ماذا رأيت؟

– رأيت كثيرًا يا سعادة الأفندي، رأيت أن الأهالي هجمت على الضابط بورتر، وكان معهم شيخ الخفر والدنيا كلها، وأخذوا منه البندقية، وكانت المرأة معهم.

فارتاب المستر بوند في هذه الشهادة، فنادى المستر بورتر وقال له: حقيقة أن المرأة وشيخ الخفر هجمت عليك وأخذت البندقية منك؟

– كلا فهذا كذب، وزيادة على ذلك فإن عبد العال هرب وتركنا، ولم نعُد نراه بعد الواقعة.

فاغتاظ عبد العال وقال: إني لم أهرب، ولكن بيني وبين جناب الضابط ضغائن حتى قال هذا الكلام.

فسأله المستر بوند عن هذه الضغائن فقال له: إنه مدين لي بعشر شلنات، وأبَى أن يردها بحجة أنني كسرت اللمبة، ودائمًا يتهمني بأني أسرق الويسكي وأشربه، وهذه تهمة باطلة.

فتضجر الرئيس من هذه الشهادة وأمر بإخراجه، وعند ذلك طلب المستر بوند من الرئيس تأجيل الجلسة إلى منتصف الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤