الفصل التاسع

القتل أنفى للقتل

وفي صباح اليوم التالي انعقدت الجلسة بهيئتها المتقدمة، فنودي على الأومباشي أحمد حسن زقزوق الذي كان مرافقًا للضباط كحارس لهم، فدخل «يزيق» بجزمته مما استلفت أنظار الحاضرين، وبعد أن أدى التحية العسكرية حلف اليمين القانونية، فقال له الرئيس: ماذا حصل يوم ١٣ يونيو؟

– أنهُ ١٣ وونوه ده يا أفندي؟

فتبسم الرئيس وقال: ذلك اليوم الذي خرجت فيه مع الضباط للصيد.

– الصيد يا سعادة الأفندي! وحياة النبي وراس سيدك السيد البدوي إني ما خرجت للصيد، ولا عمري ضربت البندجية.

– إنت ما نتاش فاهم؟

– جول يا حضرة سعادة الأفندي.

– يوم ما ضربوا أهالي دنشواي ضباط الإنجليز.

– إيوه، إيوه جلت لي! يعني يوم ما ضربت الإنجليز الأهالي والأهالي الإنجليز؟ بجه صلِّ على النبي، جت لنجليز هاجمة على البلد وداخلين «سرعتلي يورو» وجم يموتوا الناس، أنا كنت واجف «سلاح دمتلنه» ومستعد لخدمتهم، جمت شفت ضابط راح عامل «إيكي أدم إيللر» ومفرغ بندجيته، جامت طارت حريجة في البلد، جمت أنا صارخ فيهم «صاقك أول كاري آل» جام ما فهموش ندايا، جمت عملت «صوله باق» رأيت الخلج ماسكين في بندجية واحد من الضباط، جمت زعيط من علصان، وعملت «حاز طور وسلام طور» وبعدين راسي وميت ألف سيف ما اسيبشي البندجية، فخلصتها من إيدين الفلاحين وردتها لأصحابها!

– ومتى حصل الضرب والتعدي على الإنجليز؟

– إنت بتصدج سعادة حضرتك جول الناس الكدابين؟ دول كانوا بيهزرم مع بعض وعملوا المرماح وطأشوا بالخشب مع بعضهم.

– قال حضرات الضباط إنك هربت وقت الحادثة، ويتضح من أقوالك الكذب، فأصدقنا بالحقيقة.

– جالوا إني هربت وإنت حضرة سعادتك تجول إني كداب! وحياتك وفداها رجبتي أنا ما هربت، بالك تفتكر محمد سعيد السوداني اللي كان جاطع الجسر على الناس ومسكته الحكومة؟ أنا أكلت معاه إيدي بإيده، إزاي بجه أهرب النهارده؟

فضحك الرئيس واستغنى عن شهادة هذا الأومباشي فأمره بالخروج، ولما خرج تطاولت الأعناق إلى كرسي جناب المدعي العمومي، وأصغوا إلى ما سيقوله بتمام الإصغاء، أما جنابه فنظر في الحاضرين يمنةً ويسرةً، ثم استهل مرافعته قائلًا: لا أدري أن شخصًا يقف في مركزي الهائل العظيم لا يتمايل عجبًا من هذه الثقة التي شرفتموني بها، فمكافأةً على ثقتكم بي؛ أطلب لأبناء وطني وأولاد بلادي أشد عقوبة يتصورها العقل يا حضرات القضاة! وإذا قلت لحضراتكم: ارفعوا من قلوبكم كل رحمة؛ فلا أكون مبالغًا حيال أخلاق أبناء وطني الشريرة، ومهاجمة أهالي دنشواي لسادتي ضباط الجيش الإنجليزي! الظروف غريبة يا حضرات القضاة، ووجودي في هذا المكان العظيم أغرب؛ رغمًا عن توبيخ ضميري لي مدة من الزمن، ولكنني تغلبت على هذه الفكرة، ولبَّيت مطامعي، وجئت لأكون آخر سهم ينفذ في أحشاء هذه الأمة الشريرة فتموت أبديًّا فنستريح وتستريحون، المسألة بسيطة أكثر مما تتوهمون حضراتكم؛ عنَّ للميجر كوفين أن يذهب مع رفقائه إلى بلدة دنشواي لعلمه بوجود أبراج للحمام كثيرة هناك؛ فيلهوا بالصيد والقنص مدة ساعة أو ساعتين لا لطمعٍ في لحمها أو شيءٍ آخر، بل لمجرد اللهو فقط وصيد مائة أو مائتي حمامة، فهل تتجاسر الأهالي على إقلاق راحتهم ولو بكلمة واحدة؟! أيتجاسر فلاح جاهل على أن يتعالى ويكلم سيدًا إنجليزيًّا؟ إن الكلام البسيط أعده — يا حضرات القضاة — جرمًا، فما بالكم لو ضرب فلاح إنجليزيًّا؟ إني لا أكاد أصدق هذا أبدًا. هل يتجاسر عبد النبي على القول في التحقيق بأنه لما رأى امرأته مضرجة بدمائها غلى الدم في عروقه فمسك البندقية رغمًا عنه! ما هذا الكلام! وهل قَتْلُ امرأةٍ فلاحةٍ وعشرة من أمثالها تستوجب أن يمسك البندقية في يد ضابط عظيم؟ إن ذلك ذنبٌ كبيرٌ لا يغتفر! وافرضوا يا حضرات القضاة أن الضباط قتلوا جميع الأهالي، وأحرقوا جميع الأجران، وضربوا كل الحمام، فهل في ذلك ذنبٌ عليهم؟ ألم تكن فكرة خروجهم إلى الصيد فقط لا القتل؟ ولقد جاء ذلك عرضًا في لهوهم فعملوه ليزداد سرورهم! أفي سرور سادتنا كدرٌ لنا؟ كلا وألف ألف مرة كلا.

قالوا: إن السبب الأول لهذه المعركة حريق الجرن، والثاني إصابة امرأة محمد عبد النبي والآخرين، وهذا كذبٌ يا حضرات القضاة ظاهرٌ؛ لأنه يتضح من تقرير نظارة الداخلية: أن حريق الجرن كان عمدًا، وإصابة المرأة كانت بلا قصدٍ من الضباط، وهب أنه كان يقصد، أيُضرب الإنجليز لذلك؟ إن هذا منتهى الفظاعة! اغسلوا الدم بالدم يا حضرات القضاة! إن الكشف الطبي أثبت ثبوتًا جليًّا أن موت الكبتن بول كان بضربة الشمس، إلا أن ذلك لا ينفي أنه أهين وضُرب.

أنتم لا تعرفون المصريين يا حضرات القضاة، هم أشر قوم جُبلوا على الشرور وإتيان كل منكر، قومٌ لا يستحقون الرحمة أو الشفقة، قومٌ سوَّد الله وجوههم من الكذب والنميمة! خذوني مثالًا يا حضرات القضاة واحكموا!

أنا نشأت فقيرًا معدمًا، فلاحًا قرويًّا من عائلة كأمثال حسن محفوظ ومحمد عبد النبي، فقدَّر الله لي الدخول في الأزهر، فتعلمت ما جعلني مرموقًا من رفقائي، ولا أنسى أني طالما أمضيت الأيام أنحت الخشب من الجوع، ثم رفعني الله إلى الهيئة الاجتماعية فبهرتني رؤيتها، وقليلًا قليلًا اشتهر اسمي بين أبناء بلادي، فساعدوني المساعدات الجمة، فصرت ألبس الحرير بعد الخيش، وآكل «العيش الفينو» بعد «الحندويل»، وكل ذلك بعناية مواطنين وثقتهم بوطنيتي وحبي لبلادي، انظروا يا حضرات القضاة إلى موقفي الآن، وخذوا بذلك مثالًا، انظروا كيف قبلت هذا الموقف بسرور، ومرقت بسهولة عن وطنيتي، واحتقرت مبدئي، وصرت نارًا حاميةً على بلادي أطلب لأبنائها الإعدام والسحق، فكيف حكمكم على شعبٍ أنا واحدٌ منه؟ أتحترمونه بعد أن سمعتم قصتي، وعرفتم مقدار شعوري وإحساسي نحو هذه البلاد التعيسة! وبدون طويل دفاع: أطلب من المحكمة سحق بلدة دنشواي بأجمعها، والحكم بإعدام جميع المتهمين ذوي الرائحة الكريهة.

ثم ختم مرافعته بتمجيد المحتلين، والمدح والإطراء الشديد في الضباط، ووصفهم بما لا يصف الإنسان الملائكة، ثم قعد مزودًا بنظرات التذمر والاشمئزاز.

وبعد دقيقة، قام محمد بك يوسف المحامي عن بعض المتهمين وقال: المصري يفتخر يا حضرات القضاة بأن يكون قواصًا أو مستخدَمًا عند إنجليزي، فما بال القوم تجاسروا وضربوا الإنجليز، وقتلوا واحدًا من أشهر ضباطه؟! المسألة عظيمة وكبيرة، ولا أرى لموقفي لزومًا غير أني مجبرٌ على طلب البراءة لهم أجمعين، والأمر مفوض، أفندم.

ثم قعد وقام بعده أحمد لطفي بك السيد وهز كتفيه مرتين وقال: إن هذه الحادثة لا تعتبر يا حضرات القضاة جريمة قتل بعمد أو ضربًا أفضى إلى الموت، بل اعتبروها سرقةً بإكراه، وطبقوها على مواد القانون لينالوا جزاء ما جنت أيديهم، ثم قعد بعد أن فوض الأمر للمحكمة! فقال أحد القضاة متهكمًا: لقد نسي حضرة المحامي أنه في موقف الدفاع عن المتهمين ففكرنا بعقوبة غابت عنا، ولم يتذكرها المدعي العمومي، ثم التفت إليه وقال له: ميرسي.

وبعد ذلك وقف إسماعيل بك عاصم، ورفع يديه وقال بصوته الجهوري الجميل: بول! بول! رحمة الله عليك يا مستر بول، وعوض الله الأمة الإنجليزية فيك خيرًا، يا مستر بول عليك الرحمة والرضوان، فإلى الجنة، إلى الجنة يا خير الضباط أجمعين، اللهم يا ذا المن ولا يُمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، أدخِل عبدك وابن عبدك الخواجة بول ابن آدم وحواء في جنات خلدك، إنك على كل شيءٍ قدير.

ثم التفت إلى المحكمة وطلب براءة المتهمين!

فغطى أحد القضاة وجهه بمنديله، وأخذ يضحك من هذا الدفاع … وانتهى الدفاع بمثل ما قدمنا.

ثم جلس حضرته، وبعد ذلك أخذ الرئيس يسأل كل متهم عن تهمته حتى أتم سؤال جميع المتهمين في مدة نصف ساعة كانت في أسئلة ومدافعة.

وبعد ذلك دخلوا في غرفة المداولة.

ولما استووا هناك على كراسيهم، وضع أحدهم صورة الحكم وأنواع العقاب، وأعطاها للرئيس فأخذها ثم عرضها على الباقين، وبدون أدنى مناقشة وافقوا عليها …

وبعد ذلك خرجوا من الغرفة إلى الجلسة، وهناك قرأ الرئيس صورة الحكم بصوتٍ جهوريٍّ، ولكن العرق كان يتصبب من وجهه فقال: وحيث … وحيث … وحيث … وحيث … وحيث … وحيث … وحيث … وحيث إن المحكمة قضت ثلاثة أيام تسمع فيها هذه الدعوى، وشهادة الشهود، وأقوال المتهمين والدفاع عنهم، وقد ثبت لها أن المجرمين في هذه الحادثة هم: فلان وفلان وفلان … إلخ.

فلهذه الأسباب.

وبعد الاطلاع على المواد ٤ و٥ و٦ من الأمر العالي الرقيم يوم ٢٥ فبراير سنة ١٨٩٥.

حكمت المحكمة حضوريًّا حكمًا لا يقبل الطعن ولا الاستئناف.
  • أولًا: على كلٍّ من حسن محفوظ، ويوسف حسين سليم، والسيد عيسى سالم، ومحمد درويش زهران، بالإعدام شنقًا بقرية دنشواي.
  • ثانيًّا: بالأشغال الشاقة المؤبدة على كلٍّ من: محمد عبد النبي المؤذن، وأحمد عبد العال محفوظ.
  • ثالثًا: بالأشغال الشاقة لمدة ١٥ سنة على أحمد أحمد السيسي.
  • رابعًا: بالأشغال الشاقة لمدة ٧ سنوات على كلٍّ من: علي سمك، وعبده البقلي، وعلي علي شعلان، ومحمد مصطفى محفوظ.
  • خامسًا: بالأشغال الشاقة لمدة سنة، وبالجَلد خمسين جلدة على كلٍّ من: حسن إسماعيل السيسي، وإبراهيم حسنين السيسي، ومحمد السيسي، وأن يكون الجلد بقرية دنشواي.
  • سادسًا: براءة بقية المتهمين.

وبعد أن فاه الرئيس بالحكم ضجت المحكمة من شدته، وخرج المتهمون يطلبون العدل بعد أن كانوا يناشدونهم الشفقة!

وكان محمد العبد ضمن المتهمين، فأُفرج عنه فخرج وهو لا يصدق بالنجاة، وأول شخص صادفه كانت ست الدار.

فسألته بلهفة: إيه اللي حصل يا محمد؟ فين أبويه؟

– آه يا ست الدار … اللي حصل ما يتعاد.

– قول لي يا محمد عملوا إيه في أبويه.

– اصبري يا أختي.

– حبسوه؟

فاغرورقت عيناه بالدمع وقال لها: يا ريت يا أختي.

– آه يا خويه، إيه اللي عملوه فيه؟

– حكموا عليه بالشنق.

– الشنق؟ يموتوه؟ يا دهوتي يا بويه! آه يا جملي يا بويه! يا خراب بيتنا من بعدك يا بويه! آه يا بويه! يا مظلوم يا بويه!

ثم وقعت الفتاة مغشيًّا عليها.

فوقف على رأس خطيبته — وهي ملقاة على الأرض — وأخذ يقلب كفيه ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والله إنهم مظلومين، ونُص المحكوم عليهم كانوا غايبين.

وبينما كان الشاب غريقًا في همومه إذ فتحت الفتاة عينيها، وجالت بنظرها يمنةً ويسرةً ثم صرخت: يا دهوتي … ووقعت على الأرض ثانيةً وهي في حالة الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤