مغامرة لُبْدة الأَسَد

إن من أكثر الأشياء غرابةً أنْ وقعتْ لي بعد تقاعدي قضيةٌ لا تقل غموضًا ولا تفرُّدًا عن أي قضية واجهتُها على مدى حياتي المهنية الطويلة، وأنْ وُضِعتْ — إن صحَّ التعبير — بين يديَّ وضعًا لكي أحلَّها؛ فقد وقعَت القضية بعد أن انسحبتُ إلى بيتي الأثير في مقاطعة ساسكس، عندما أسلمتُ نفسي تمامًا لحياة الطبيعة المريحة التي كثيرًا ما كنتُ أتوق إليها خلال السنوات الطويلة التي قضيتُها في جو لندن المليء بالكآبة. في هذه الفترة من حياتي لم أكن أعرف شيئًا تقريبًا عن صديقي الطيب واطسون. كانت أقصى مدة حظيتُ فيها برؤيته هي زيارة عابرة في إحدى عطلات نهاية الأسبوع؛ لذا فلا بد لي من أن أُؤرِّخ أنا لنفسي. آهٍ لو أنه فقط كان معي! فكم كان سيبالغ في سرد هذا الحدث العجيب وفي وصف انتصاري المحتَّم على كل عقبة! لكن، تسليمًا للأمر الواقع، سأُضطر إلى سرد قصتي بطريقتي البسيطة، وسأوضِّح بأسلوبي الخاص كل خطوة على الطريق الشاق الذي كان عليَّ أن أسلكه وأنا أحقِّق في لغز لبدة الأسد.

يقع منزلي على المنحدر الجنوبي لتلال ساوث داونز، ويُطلُّ من موقع ممتاز على القنال الإنجليزية. يتكوَّن الخط الساحلي في هذه البقعة بالكامل من أجراف طباشيرية، لا يمكن الهبوط منها إلا عبر طريقٍ وحيدٍ متعرِّجٍ وطويلٍ، وهو طريقٌ زلِقٌ شديدُ الانحدار، وتمتد الحصباء والحصى لمسافة مائة ياردة أسفل الطريق، حتى عندما يبلغ المدُّ ذروته. رغم هذا فإن ثَمَّة منحنيات وتجاويف في أماكن متفرقة من الشاطئ، وهي تُشَكِّلُ حمامات سباحة رائعة تُمْلَأ من جديدٍ مع كل ارتفاع للمدِّ. ويمتد هذا الشاطئ الساحر مسافة بضعة أميال في كل اتجاه، إلا عند موضع واحد، حيث يقطع الخطَّ خليجُ فولورث وقريتُه الصغيران.

إن منزلي منعزل، وأعيش أنا ومدبرة منزلي العجوز ونَحْلِي بمفردنا في الضيعة كلها، لكن على بُعد نصف ميل توجد مؤسسة هارولد ستاكهيرست التدريبيَّة الشهيرة «ذا جيبلز»، وهي مكان كبير جدًّا يضم عددًا كبيرًا نسبيًّا من الشباب الذين يتهيَّئون لتولِّي مُختلِف أنواع المهن، ومعهم طاقم متنوِّع من المعلمين. كان ستاكهيرست نفسه من مشاهير رياضة التجديف، وقد حصل على جائزة التميُّز في شبابه، كما كان طالبًا متعدد القدرات، وقد أصبحتُ أنا وهو متوادَّيْن منذ أول يوم أتيتُ فيه إلى الشاطئ، وكان هو الرجل الوحيد الذي وصلَ من حُسن علاقته بي أنْ كان كلٌّ منا يستطيع زيارة الآخر في المساء من دون دعوة.

قُرب نهاية شهر يوليو، سنة ١٩٠٧، هبَّتْ عاصفة عنيفة، فكانت الريح التي تعصف فوق القنال تُكدِّس الأمواج العارمة عند قاعدة الأجراف، وتُخلِّف وراءها هَوْرًا كلَّما انحسر المد. لكن الريح هدأت في صباح اليوم الذي أتحدث عنه، وأصبحت الطبيعة كلها نظيفةً نقيةً. كان من المستحيل العملُ في يوم مبهجٍ كهذا، فخرجتُ أتنزه قبل تناول الإفطار لكي أستمتع بالنسيم الرائع. سرتُ على طريق الجرف ومنه إلى المنحدر الحاد ثم إلى الشاطئ. وبينما أنا أسير سمعتُ أحدًا يناديني، فإذا بهارولد ستاكهيرست يُلوِّح بيده في تحية بهيجة.

وقال: «ما أجمله من يوم يا سيد هولمز! لقد كنتُ أتوقَّع أن أراك خارج المنزل.»

«أظنك ذاهبًا للسباحة.»

ضحك وربَّت على جَيْبه المنتفخ وقال: «عُدتَ إلى حِيَلك القديمة مجدَّدًا. نعم. لقد بدأ مكفارسن مبكرًا، وأتوقَّع أن أجده هناك.»

كان فيتزروي مكفارسن معلمًا للعلوم الطبيعية، وهو شاب مهذب مستقيم شَلَّتْ حركةَ حياته مشكلاتٌ قلبيةٌ نَجَمَتْ عن إصابته بحمى روماتيزمية. لكنه كان رياضيًّا بالفطرة، وقد نبغ في كل الرياضات التي لم تكن تتطلب منه جهدًا كبيرًا. كان يمارس السباحة في الصيف وفي الشتاء، ولأنني سبَّاحٌ أنا الآخر، فكثيرًا ما كنتُ أشاركه السباحة.

في هذه اللحظة رأينا الرجل نفسه؛ حيث أطلَّ رأسُهُ من فوق حافة الجرف عند نهاية الطريق المتعرِّج. ثم بدا جسمه كله عند القمة، كان يترنَّح كالثمل. ثم بعد هنيهةٍ توقف في يأسٍ، وسقط على وجهه مُطْلِقًا صيحةً مُروِّعةً. فهُرعتُ إليه أنا وستاكهيرست — كانت المسافة تقارب الخمسين ياردة — وقلبناه على ظهره. لقد كان يُحْتَضَرُ بالتأكيد. لم يكن من الممكن أن تعني هاتان العينان اللامعتان الغائرتان ولا الوجنتان الشاحبتان المروعتان أيَّ شيء غير هذا. لكن ومضةً من الحياة أضاءت في وجهه للحظةٍ، فنطق بكلمتَين أو ثلاث بأسلوب تحذيريٍّ شديد. كانت كلماته غمغمةً غير واضحة، لكنني سمعتُ آخرَها، وقد اندفعتْ في صرخةِ ذُعْرٍ من بين شفتَيه، وكانت: «لبدة الأسد.» كانت كلمته غامضةً تمامًا ولم تكن في محلها بالمرة، لكنني لم أستطع فهم ما سمعته على معنًى آخر. بعد ذلك رفع مكفارسن نفسه عن الأرض قليلًا، وأشاح بيدَيه في الهواء، ثم سقط على جنبه ومات.

ذُهِلَ رفيقي من هول صدمة ما رأى، ولكنَّ حواسي — كما لعلكم تعتقدون — كانت متنبهةً كلها، وقد كنت مُضطَرًّا إلى هذا لأنه اتضح سريعًا أننا كنَّا في حضرة قضية غير عادية. لم يكن الرجل يرتدي غير معطفه المضاد للماء وسرواله وحذاء مفكوك الرباط مصنوع من قماش الكنفا الغليظ. لكن معطفه المضاد للماء، الذي كان ملقًى فقط على كتفَيه، انزلق عنه عندما سقط وأظهر جسمه؛ فأخذنا نحدِّق فيه في ذهول. كان ظهره مغطًّى بخطوط حمراء داكنة وكأنه جُلِدَ جَلْدًا عنيفًا بسوطٍ معدني رفيع. من الواضح أن الأداة التي مُورِسَ بها هذا التعذيب كانت أداةً مرنة؛ لأن علامات الضرب الطويلة الملتهبة كانت منحنيةً على كتفَيه وضلوعه. كان الدم يقطر من تحت ذقنه، لأنه عَضَّ شفتَه السفلى من شدة الألم. كان وجهه الشاحب المشوَّه يُنْبِئ كم كان هذا الألم شديدًا.

كنتُ جاثيًا على ركبتي وكان ستاكهيرست واقفًا بجوار الجثة، فسقط فوقنا ظل إنسان، ووجدنا أن إيان ميردوك كان بجوارنا. كان ميردوك مدرس الرياضيات في المؤسسة، وهو رجلٌ نحيفٌ طويل القامة داكن البشرة، وهو كتومٌ ومتحفِّظ جدًّا لدرجة أنه لم يُعرَف أن له أصدقاء. ويبدو أنه كان يعيش في منطقة سامية بحتة من الجذور الصماء والقطاعات المخروطية، ولم يكن هناك الكثير ليربطه بالحياة العادية. كان الطلاب يرونه شخصًا غريب الأطوار، وكان من الممكن أن يكون أضحوكتهم، لكن كان ثمة عِرقٌ همجي غريب في الرجل، ولم يكن يظهر في عينَيه السوداوَين الفاحمتَين ولا وجهه الداكن وحسب، ولكن أيضًا في ثورات انفعالٍ تحدث بين الحين والآخر، ولا يمكن وصفها إلا بالمتوحشة. ففي إحدى المرات أزعجه كلبٌ صغيرٌ يملكه مكفارسن، فأمسك به وقذفه من زجاج النافذة السميك، وهو تصرُّفٌ كان ستاكهيرست سيطرده بسببه بالتأكيد، لولا أنه كان معلمًا قيِّمًا جدًّا. هكذا كان هذا الرجل الغريب المعقَّد الذي ظهر الآن إلى جوارنا. لقد بدا مصدومًا في الواقع من المنظر الذي كان أمامه، على الرغم من أن واقعة الكلب ربما تُبيِّن أنه لم يكن هناك كبيرُ انسجامٍ بينه وبين الرجل المُتوفَّى.

«صديقي المسكين! صديقي المسكين! ماذا عليَّ أن أفعل؟ كيف أستطيع المساعدة؟»

«هل كنتَ معه؟ هل تستطيع أن تخبرنا ما الذي حدث؟»

«لا لا، لقد تأخرتُ هذا الصباح. ولم أكن على الشاطئ على الإطلاق. لقد أتيتُ من مؤسسة ذا جيبلز مباشرةً. ماذا يمكنني أن أفعل؟»

«يمكنك أن تسرع بالذهاب إلى نقطة الشرطة في فولورث. أبلغ عن الأمر في الحال.»

فغادرَ بسرعة كبيرةٍ دون أن ينطق بكلمة، وعَمَدتُ أنا إلى تولِّي الأمر بنفسي، بينما بقي ستاكهيرست — الذي كان في حالة ذهول بسبب المأساة — إلى جوار الجثة. كانت مهمتي الأولى بالتأكيد أن أعرف مَن الذي كان على الشاطئ، واستطعت من فوق قمة طريق الجرف أن أرى امتداد الشاطئ كله، كان مهجورًا تمامًا إلا من شبحَين أو ثلاثة قاتمِي اللون يظهرون من بعيد وهم يتحركون باتجاه قرية فولورث. وعندما اطمأننت بخصوص هذه النقطة نزلت ببطء على الطريق. كان ثمة طين أو صلصال طيني طري ممتزج بالطباشير، وكنت أرى في كل مكان حولي آثار الأقدام نفسها صاعدةً الطريق ونازلةً عنه. لم يذهب أحد آخر إلى الشاطئ من هذا المسلك في ذاك الصباح، ولكني لاحظت في أحد المواضع أثر يدٍ مفتوحةٍ تشير أصابعها تجاه المنحدر. لم يكن يعني هذا سوى أن المسكين مكفارسن قد وقع وهو يحاول الصعود. وكان ثمة وَهْدات مستديرة كذلك، وهي تشير إلى أنه سقط على ركبتَيه أكثر من مرة. أما أسفل الطريق فكان يوجد الهَوْر الضخم الذي خلَّفه المد وراءه. وقد خلع مكفارسن ملابسه عند أحد جوانبه، لأن منشفته كانت هناك فوق إحدى الصخور. كانتْ مطويةً وجافَّة؛ لذا فمن المحتمل أنه لم ينزل إلى الماء قط في نهاية المطاف. وقد صادفتُ مرةً أو مرتَين وأنا أفتش بين الحصباء الصلبة رقعًا رمليةً صغيرةً كانت تظهر فوقها آثارُ حذائه القماشي وآثارُ قدمَيه الحافيتَين كذلك. أكَّدتْ لي هذه المعلومة الأخيرة أنه كان قد تجهَّز تمامًا للاستحمام، ولكن المنشفة كانت تشير إلى أنه لم يفعل هذا في حقيقة الأمر.

هكذا كان وصفُ القضية بكل وضوح. كانت قضية غريبة كغيرها من القضايا التي دائمًا ما واجهتني. لم يمكث الرجل على الشاطئ مدةً أطول من ربع ساعة على الأكثر، وقد تبعه ستاكهيرست بعد خروجه من مؤسسة ذا جيبلز، ما من شك في هذا الآن. وقد ذهب للاستحمام وخلع ملابسه، كما تدل على ذلك آثار الأقدام الحافية. ثم فجأةً أخذ يجمع ملابسه في عجلةٍ مرةً أخرى — حيث كانت كلها مبعثرةً ومفكوكة — وعاد من دون أن يستحمَّ، أو — على أي حال — من دون أن يجفِّف نفسه. وكان سبب تغيير نيته أنه تعرَّض للجَلد بطريقة همجيةٍ قاسية، وعُذِّب حتى قضم شفته من الألم، ولم يُترك وفيه من القوة إلا ما يكفي لكي يزحف بعيدًا ويموت. مَن الذي فعل هذه الفعلة المتوحشة؟ نعم، كان يوجد مغارات وكهوف صغيرة عند قاعدة الأجراف، لكن الشمس المنخفضة كانت تسطع مباشرةً فوقها، ولم يكن يوجد مكان للاختباء. ثم، من ناحية أخرى، كان هناك أولئك الشخوص البعيدون على الشاطئ. لكنهم كانوا بعيدين جدًّا بحيث لا يمكن أن تكون لهم علاقة بالجريمة، وقد كان الهَوْرُ الواسع الذي كان مكفارسن يعتزم الاستحمام فيه واقعًا بينه وبينهم، وكان مطويًّا خلف الصخور. أما في البحر فكان ثمة اثنان أو ثلاثة من قوارب الصيد على مسافة ليست بالبعيدة، وربما أستجوب راكبيها في وقت فراغي. كان هناك طرق عديدة للتحقيق، ولكن لم يكن من بينها ما يؤدي إلى أي غاية واضحة.

عندما عدتُ في النهاية إلى الجثة وجدتُ مجموعة صغيرة من الناس مجتمعين حولها في اندهاش. كان ستاكهيرست بالطبع لا يزال هناك، وكان إيان ميردوك قد وصل لتوِّه مع أندرسن؛ شرطي القرية، وهو رجل ضخم ذو شارب بني، من سلالة سكان ساسكس الوقورين الشرفاء؛ وهي سلالة تخفي الكثير من الحكمة تحت هذا المظهر الضخم الهادئ. وقد استمع إلى كل شيء، ودوَّن كل ما قُلناه، وأخيرًا انفرد بي جانبًا.

قال: «سيسرني تلقِّي مشورتك يا سيد هولمز. إن هذا لأمرٌ كبيرٌ عليَّ أن أتعامل معه، وسيبكِّتني لويس عليه إذا ما أخطأت.»

فنصحته أن يستدعي رئيسه المباشر وأن يستدعي طبيبًا؛ وألا يسمح كذلك بنقل شيء من مكانه، وأن يمنع بقدر المستطاع وجود آثار أقدام جديدة في المكان ريثما يصلون. في غضون ذلك أخذتُ أفتش جيوب المُتوفَّى. كان بها منديله، وسكين طويلة، وحافظة كروت صغيرة قابلة للطيِّ. وقد برزتْ منها قصاصة ورق، ففتحتها وناولتها الشرطي، وكان مكتوبًا فيها بخط امرأة يشبه الخربشة:

سوف آتي، اطمئن.

مودي

يبدو أنها كانت علاقة حب أو لقاءً غراميًّا، لكن متى وأين؟ لم يكن هذا مكتوبًا. أدخلها الشرطي مرة أخرى إلى حافظة الكروت وأعادها مع الأشياء الأخرى إلى جيوب المعطف المقاوم للماء. ثم بعد ذلك، وحيث إنه لم يحدث أي شيء آخر، عدتُ إلى بيتي لتناول الإفطار، ولكن بعد أن تأكدت من أن قاعدة الأجراف سوف تُفتَّش بعناية.

بعد ساعة أو اثنتَين وصل ستاكهيرست ليخبرني أن الجثة نُقلَت إلى مؤسسة ذا جيبلز، حيث سيُعقَد التحقيق هناك، وقد جلب معه بعض الأخبار الخطيرة والمؤكَّدة. كما توقعت، لم يُعثَر على شيء في الكهوف الصغيرة أسفل الجرف، ولكنه فتش الأوراق التي في مكتب مكفارسن، وكان بينها أوراق عديدة تؤكد وجود مراسلات عاطفية مع آنسة بعينها، وهي الآنسة مودي بيلامي، من قرية فولورث. لقد تأكدنا إذن من هُوية كاتبة الرسالة.

قال ستاكهيرست موضِّحًا: «الخطابات في حوزة الشرطة، لم أستطع إحضارها. لكن لا شك أنها كانت علاقة حب حقيقية. ولكني لا أرى مبررًا لربطها بهذه الواقعة الرهيبة، سوى أن السيدة — في الواقع — كانت قد وعدته بلقاء.»

فعقَّبت عليه قائلًا: «لكن من المستبعد أن يكون هذا عند بركة استحمام كنتم جميعًا معتادين على استخدامها.»

قال: «إنها لمحض مصادفة أن لم يكن بعض الطلاب مع مكفارسن.»

«هل كان هذا محض مصادفة؟»

فعقد ستاكهيرست حاجبيه مُفَكِّرًا.

وقال: «لقد استبقاهم إيان ميردوك. لا بد أنه قد أصرَّ على بعض دروس الجبر قبل الإفطار. يا للشاب المسكين، إنه ليتمزق ألمًا من الأمر برمته.»

«ولكني أعتقد أنهما لم يكونا صديقَين.»

«عند لحظة معيَّنة نعم. ولكن على مدى سنة أو يزيد كان ميردوك قريبًا من مكفارسن بقدر ما كان يمكنه أن يقترب من أي شخص آخر. فهو ليس ودودًا بطبيعته.»

«أعرف هذا. وأذكر أنك أخبرتني ذات مرة عن مشاجرة بسبب القسوة على كلب.»

«لقد انتهى هذا الأمر على خير.»

«لكن لعله خلَّف شيئًا من الضغينة.»

«لا لا، أنا واثق أنهما كانا صديقَين مخلصَين.»

«حسنٌ، إذن ينبغي لنا أن نتحرَّى أمر الفتاة. أتعرفها؟»

«الجميع يعرفها. إنها جميلة القرية؛ جميلةٌ بحق يا هولمز، إنها تلفت الأنظار أينما توجهتْ. لقد كنتُ أعرف أن مكفارسن كان منجذبًا إليها، ولكن لم يكن لديَّ فكرة أن الأمر قد تطوَّر إلى هذا الحد الذي يظهر من تلك الرسائل.»

«ولكن مَن هي؟»

«إنها ابنة العجوز توم بيلامي، الذي يمتلك كل القوارب وحمَّامات السباحة في فولورث. لقد بدأ حياته صائدَ أسماك، ولكنه الآن رجل ذو ثروة كبيرة، ويدير هو وابنه ويليام العمل.»

«ما رأيك في الذهاب إلى فولورث ومقابلتهما؟»

«ولكن، بأي حجة؟»

«أوه، يمكننا إيجاد حجة بسهولة. ففي نهاية الأمر، إن هذا الرجل المسكين لم يُعذِّب نفسه بهذه الطريقة الشنيعة. وقد كانت تُمسك بذلك السوط يدُ شخص ما، إن كان ما سبَّبَ هذه الجروح هو سوط حقًّا. لقد كانت دائرة معارفه في هذا المكان المعزول محدودةً بالتأكيد، فلنتتبعها في كل اتجاه ولن يكون من السهل أن نخفق في اكتشاف الدافع وراء هذه الجريمة، وهو ما ينبغي أن يقودنا بدوره إلى المجرم.»

كانت ستصبح نزهةً ممتعة عبر تلال ساوث داونز التي تعطِّرها رائحة الزعتر لولا أن أرواحنا كانت قد تسمَّمتْ بتلك المأساة التي شهدناها. تقع قرية فولورث في غَوْرٍ منحنٍ على شكل نصف دائرة حول الخليج. لقد بُني العديد من المنازل الحديثة فوق بقعة الأرض المرتفعة خلف القرية الصغيرة العتيقة. قادني ستاكهيرست إلى أحد هذه المنازل.

قال: «هذا هو «المرسى»، هكذا أسماه بيلامي. ذاك المنزل ذو السقف الأردوازي والبرج عند زاويته. ليس سيِّئًا بالنسبة لرجل لم يبدأ إلا ﺑ … يا إلهي، انظر إلى هذا!»

فُتحت بوابة حديقة المرسى وأطلَّ منها رجل. لم يكن ثمة شك في معرفة هذه القامة الطويلة الناحلة غير المهندمة. كان هذا هو إيان ميردوك، مدرس الرياضيات. بعد قليل قابلناه على الطريق.

حيَّاه ستاكهيرست قائلًا: «مرحبًا!» فأومأ الرجل برأسه، ورمقنا بنظرة من جانب عينَيه السوداوَين الغامضتَين، وكان سيرحل عنا، ولكنَّ مديره جذبه.

سأله قائلًا: «ماذا كنت تفعل هناك؟»

توهَّج وجه ميردوك من الغضب، وقال: «إنني مرءوسك يا سيدي، ولكن تحت سقف مؤسستك. ولا أظن أنني مُطالَب بتقديم أيِّ تفسيرٍ لك بشأن تصرفاتي الشخصية.»

كانت أعصاب ستاكهيرست على حافة الانفجار بعد كل ما تحمَّله، ولولا ذاك لربما كان انتظر. لكنه في هذه اللحظة فقد هدوءه تمامًا.

قال: «إن ردَّك هذا في هذه الظروف لمحض وقاحة يا سيد ميردوك.»

«ربما ينطبق الوصف نفسه على سؤالك أنت.»

«ليست هذه هي المرة الأولى التي ينبغي عليَّ فيها أن أتغاضى عن عصيانك، لكنها حتمًا ستكون الأخيرة. ولتقم من فضلك بعمل تدابير جديدة من أجل مستقبلك المهني بأسرع ما يمكنك.»

«كنتُ قد نويتُ أن أفعل هذا. لقد فقدتُ اليوم الشخص الوحيد الذي كان يجعل من مؤسسة ذا جيبلز مكانًا صالحًا للعيش.»

وغادر سريعًا بخطًى واسعة، بينما وقف ستاكهيرست يحدِّق فيه بعينَين مغضبتَين بعدما انصرف. ثم صرخ قائلًا: «أليس رجلًا بغيضًا لا يُطاق؟»

كان الشيء الوحيد الذي انطبع في ذهني بقوة هو أن السيد إيان ميردوك انتهز أول فرصة ليفتح لنفسه طريقًا للهرب من مسرح الجريمة. بدأ الشك في تلك اللحظة يتشكَّل مبهمًا غائمًا في رأسي. ربما تسمح زيارة أسرة بيلامي بإلقاء مزيد من الضوء على الموضوع. استجمع ستاكهيرست شتات نفسه، وتقدَّمنا باتجاه المنزل.

تبيَّن أن السيد بيلامي رجل كهل ذو لحية حمراء متوهِّجة، ويبدو أنه كان متعكِّر المزاج جدًّا، حتى إن وجهه قد أصبح بعد قليل في توهُّج لون شعره.

قال: «لا يا سيدي، لا أريد أي تفاصيل.» ثم أردف وهو يشير إلى شابٍّ قوي البنية، ذي وجه حادٍّ متجهِّم كان يجلس في ركن غرفة الجلوس: «إن ابني متفق معي أن ملاطفات السيد مكفارسن لمودي لم تكن مهذبة. نعم يا سيدي، إن كلمة «زواج» لم تُذْكَرْ قط، ورغم هذا فقد كان ثمة رسائل ومقابلات، وبقدرٍ كبيرٍ ما كان لأيٍّ منَّا أن يرضى عنه. إنها يتيمة الأم، ونحن أولياؤها الوحيدون. نحن مصمِّمون أن …»

لكن الكلمات تلاشت من فمه عندما ظهرت الفتاة نفسها، ولا خلاف أنها كانت ستشرِّف أي اجتماع في الدنيا. مَن كان يستطيع أن يتخيَّل أنَّ زهرة بالغة النُّدْرة مثل هذه كانت ستنبت من جذر كهذا وفي مثل هذا الجو؟ أما أنا فنادرًا ما كانت النساء تَفْتِنُنِي، لأنه دائمًا ما كان عقلي يسيطر على قلبي، لكنني لم أستطع النظر إلى وجهها الرائعِ القسمات، وإلى نضارة أرض تلال ساوث داونز العذبة في مُحيَّاها الرقيق، دون أن أدرك أنه ما من شاب كان سيعبر دربَها دون أن تصيبه سهامها. هكذا كانت تلك الفتاة التي دفعت الباب ووقفتْ في تلك اللحظة مفتوحةَ العينَين متوترةً أمامَ هارولد ستاكهيرست.

وقالت: «أعلم بالفعل أن فيتزروي قد تُوفِّي، فلا تخشَ إخباري بالتفاصيل.»

عقَّب والدها قائلًا: «لقد أطلعَنا رَجُلُكَ الآخر هذا على الخبر.»

فقال الفتى الشاب بصوت فظٍّ: «لا داعي لإقحام أختي في الموضوع.»

رمتْه أخته بنظرة حادَّة غاضبة، وقالت: «إن هذا شأني أنا يا ويليام. من فضلك دعني أتصرف فيه على طريقتي؛ فلقد ارتُكبتْ جريمة حسبَ ما يقول الجميع، ولو استطعت تقديم المساعدة لإظهار من ارتكبها، فسيكون هذا أقل ما يمكنني تقديمه لذاك الذي رحل.»

استمعت الفتاةُ إلى جزء مقتضب من القصة من رفيقي في هدوء وتركيز جعلاني أُدرك أنها كانت تتمتع بشخصية قوية بجانب جمالها الأخَّاذ. ستظلُّ مودي بيلامي في ذاكرتي واحدةً من أكمل وأروع النساء. ويبدو أنها كانت تعرف شكلي بالفعل، لأنها استدارت ناحيتي في النهاية.

وقالت: «أحضِرهم بين يدي العدالة يا سيد هولمز. ولك مني التضامن والمساعدة، كائنين من كانوا.» وبدا لي أنها كانتْ ترمق أباها وأخاها بنظرة تحدٍّ أثناء حديثها.

فقلتُ: «شكرًا لكِ. إنني أُقدر غريزة المرأة في مثل هذه القضايا، لكنكِ استخدمتِ كلمة «أحضرهم.» أتعتقدين أن أكثر من واحد قد تورطوا في القضية؟»

«لقد كنتُ أعرف السيد مكفارسن جيدًّا بما يكفي لأُدرك أنه كان رجلًا شجاعًا وقويًّا. ما كان شخصٌ واحد ليستطيع أن يعتدي عليه مثل هذا الاعتداء بمفرده أبدًا.»

«هل لي بكلمة معكِ على انفراد؟»

فصاح أبوها مُغْضَبًا: «إنني أُحذِّركِ يا مودي من إقحام نفسكِ في الأمر.»

نظرتْ إليَّ في يأس، وقالتْ: «ماذا أفعل؟»

فقلتُ: «سيعرف الجميع بما حدث عمَّا قريب، فلا بأس إذن لو ناقشتُه هنا. وكنتُ أُفضِّل لو أننا تحدثنا على انفراد، ولكنْ إذا كان والدُكِ لن يسمح بهذا فليشاركنا المناقشة إذن.» بعد ذلك تحدثتُ عن الرسالة التي وُجِدَتْ في جيب المُتوفَّى، وقلتُ: «من المؤكد أنها ستُناقَش في التحقيق. فهلا توضِّحين من أمرها ما تستطيعين؟»

فأجابت: «لا أرى سببًا للسرية، لقد كنَّا مخطوبَيْن وسنتزوج، ولكننا أبقينا الأمر سرًّا فقط من أجل عم فيتزروي — وهو رجل طاعن جدًّا في السن ويُعتقد أنه على وشك الموت — لأنه كان من الممكن أن يحرمه من الميراث لو أنه تزوَّج على خلاف رغبته. لم يكن ثمة سبب آخر.»

فقال السيد بيلامي في فظاظة: «كان بإمكانكِ أن تخبرينا.»

«كنتُ سأفعل هذا، يا أبي، لو أنكَ كنتَ أظهرتَ تعاطفك في أي وقت مضى.»

«أنا لا أرضى لابنتي بالزواج ممَّن ليسوا في منزلتها الاجتماعية.»

«إنَّ تحامُلك عليه هو ما منعَنا من إخبارك بالأمر. أما عن هذا الموعد — وأخذتْ تفتِّش في فستانها ثم أخرجتْ رسالةً مُتَغَضِّنَةً — فقد كان ردًّا على هذه.»

وقرأت الرسالة التي كان نصها:

حبيبتي

يوم الثلاثاء في المكان القديم عند الشاطئ بعد الغروب مباشرةً. هذا هو الوقت الوحيد الذي يمكنني أن آخذ إجازة فيه.

ف. م.

«كان الثلاثاء هذا هو اليوم، وقد عزمتُ على مقابلته الليلة.»

فقلبتُ الورقة على ظهرها، وقلتُ: «لكنَّ هذه لم تأتِ عن طريق البريد، فكيف حصلتِ عليها؟»

«أُفضل ألَّا أُجيب عن هذا السؤال؛ فلا علاقةَ له في الواقع بالقضية التي تحقِّق فيها. لكنني سأجيب بصراحة مطلقة عن أي شيء له تأثيرٌ عليها.»

كانت عند كلمتها، لكنْ لم يكن ثمة ما يفيد في تحقيقنا. أما هي فلم يكن يوجد ما يدفعها للاعتقاد بوجود أي عدو خفي لخطيبها، لكنها اعترفتْ أنه كان لديها الكثير من المعجبين المتحمسين.

«هل لي أن أعرف أكان السيد إيان ميردوك واحدًا من هؤلاء؟»

فاحمرَّ وجهها خجلًا وبدا عليها الارتباك.

وقالت: «في وقتٍ ما كنتُ أعتقد أنه كذلك، لكن كل هذا تغيَّر عندما عرف بالعلاقة التي بيني وبين فيتزروي.»

أخذت هواجسي حول هذا الرجل الغريب تتشكَّل من جديد على نحو أوضح. لا بد من دراسة تاريخه، ولا بد من تفتيش سكنه سرًّا. لقد كان ستاكهيرست مستعدًّا للتعاون، حيث كانت الشكوك تدور في ذهنه هو الآخر. وعُدْنا من زيارة «المرسى» ونحن نأمل أننا قد أمسكنا في أيدينا بالفعل بأحد أطراف شِلَّة الخيوط المتشابكة هذه.

انقضى أسبوع، ولكن التحقيق لم يُلقِ أيَّ ضوء على القضية وأُجِّل لحين ظهور مزيد من الأدلة. أجرى ستاكهيرست استعلامًا حذرًا عن مرءوسه، وفُتشتْ حجرته تفتيشًا ظاهريًّا، لكن دون جدوى. أما عني أنا، فقد فحصتُ المنطقة كلها ثانيةً، بجسمي وعقلي كذلك، ولكن دون نتائج جديدة. لن يجد القارئ بين مغامراتي كلها قضيةً دفعتْني كليًّا إلى بذل أقصى قدراتي كما فعلتْ هذه القضية، حتى إن مخيلتي لم تستطع تصوُّر حل لهذا اللغز، ثم وقعتْ حادثة الكلب.

كانت مدبرة منزلي العجوز هي أول مَن سمع بها عبر هذا الجهاز اللاسلكي الغريب الذي يتلقَّط به أمثالها من الناس أخبار الريف.

فقد قالتْ ذات مساء: «محزنةٌ قصةُ كلب السيد مكفارسن هذه يا سيدي.»

أنا لا أنخرط عادةً في مثل هذه المحادثات، لكنَّ الكلمات شدَّت انتباهي.

«وماذا حدث لكلب السيد مكفارسن؟»

«مات يا سيدي. مات حُزنًا على صاحبه.»

«من أخبركِ بهذا؟»

«يا للهول يا سيدي! إن الجميع يتحدث عنها. لقد كان منظره صاعقًا، ولم يأكل أي شيء مدة أسبوع. ثم عَثَر عليه شابان من طلاب مؤسسة ذا جيبلز اليوم ميتًا؛ في الأسفل عند الشاطئ يا سيدي، في المكان نفسه الذي لقي فيه سيده مصرعه.»

«في المكان نفسه.» ظلت الكلمات شاخصةً بوضوح في ذاكرتي، وخطرت لي فكرة غامضةٌ بأن الأمر كان مُهمًّا. إن وفاة الكلب راجعة إلى طبع الوفاء الجميل عند الكلاب. لكن «في المكان نفسه»! لِمَ قد يتسبب هذا المكان المهجور في وفاته؟ أمِن المحتمل أن يكون قد انتُقم منه هو الآخر من أجل ضغينةٍ ما؟ أمِن المحتمل أن …؟ نعم، لقد كانت الفكرة غامضة، لكن شيئًا ما كان يتكوَّن بالفعل في ذهني. بعد قليلٍ كنتُ في طريقي إلى مؤسسة ذا جيبلز، حيثُ وجدتُ ستاكهيرست في مكتبه، فاستدعى — بناءً على طلبي — سادبري وبلاونت؛ الطالبَين اللذين عثرا على الكلب.

قال أحدهما: «نعم، لقد كان مُمَدَّدًا فوق حافة بركة السباحة تمامًا. لا بد أنه كان يتبع أثر صاحبه المتوفَّى.»

رأيتُ الحيوان الوفيَّ المسكين، وكان من فصيلة إيرديل تيريار، مُمَدَّدًا فوق سجادة الردهة. كانت جثته متيبسةً جامدة، وكانت عيناه جاحظتَين، وأطرافه ملتويةً مُشوَّهة. كانت آثار التعذيب باديةً على كل جزءٍ منها.

خرجتُ من مؤسسة ذا جيبلز إلى بركة السباحة. كانت الشمس قد غرقت في مياه القنال وألقى ظلُّ الجرف الكبير بظلمته على المياه التي راحتْ تومض وميضًا باهتًا مثل لوحٍ من الرصاص. كان المكان خاليًا، ولم يكن ثمة أثر للحياة إلَّا من طَيْرَين من طيور البحر كانا يحومان ويصوِّتان في السماء. وفي الضوء الخافت استطعتُ بالكاد أن أرى آثار أقدام الكلب المسكين فوق الرمال عند الصخرة ذاتها التي كانت منشفة صاحبه ملقاةً عليها. وقفتُ وقتًا طويلًا غارقًا في تأملٍ عميقٍ بينما راحت الظلال تشتدُّ ظلمةً من حولي. كانت الأفكار تموج في عقلي. ولعلكم تذكرون كيف كان شعوركم وأنتم في حُلْمٍ مروِّعٍ؛ تحسون وأنتم داخله أن ثمة شيئًا بالغ الأهمية تبحثون عنه وأنتم موقنون بوجوده، لكنه يظل إلى الأبد بعيدًا تمامًا عن أيديكم. هكذا كان شعوري في تلك الليلة وأنا واقفٌ وحدي في بقعة الموت تلك، لكنني استدرت في النهاية ومشيتُ ببطء صوب البيت.

ما إن وصلتُ إلى قمة طريق الجرف حتى تنبَّهتُ لشيءٍ ما. لقد تذكرتُ في لمح البصر ذلك الشيءَ الذي ضاع جهدي الشديد سُدًى وأنا أحاول فهمه. ستعرفون، أو لعل واطسون قد كتب دون جدوى، أنني أمتلك مقدارًا وافرًا من المعلومات النادرة، ولكن من دون ترتيب علمي، ولكنها مفيدة جدًّا لمتطلبات عملي. إن عقلي أشبه بحجرة تخزين مكتظة برزمٍ من جميع الأنواع، وهي مخزنة في مكان ما داخلها؛ ولكنها كثيرةٌ إلى حد بعيدٍ بحيث من الوارد جدًّا ألا أعرف غير معرفة مبهمة عمَّا بالداخل. لقد كنت أعرف أنه يوجد شيءٌ ما من الممكن أن تكون له علاقة بتلك القضية. كان لا يزال غامضًا، ولكن على الأقل كنتُ أعرف كيف يمكنني أن أجعله يتضح. لقد كان شيئًا رهيبًا لا يصدقه العقل، ورغم هذا فدائمًا ما كان محتملًا، وسوف أختبره على أكمل وجه ممكن.

توجد بمنزلي الأثير عُلَيَّة كبيرة مملوءة بالكتب، فاندفعتُ داخلها بسرعة وأخذت أُفتش مدَّةَ ساعة. وفي نهاية هذه المدة خرجتُ بمجلد صغير مُلوَّن باللونَين الفضي والبني الداكن. ثم فتحتُه في لهفةٍ على الفصل الذي كنتُ أذكره بصورة ضعيفة. نعم، لقد كان افتراضًا غيرَ واردٍ وبعيد الاحتمال، ولكن لم أستطع أن أطمئن قبل أن أتأكد إن كان من الممكن أن يكون كذلك حقًّا أم لا. كان الوقت متأخرًا عندما أويتُ إلى فراشي وذهني متلهفٌ إلى عمل الغد.

غير أن ذلك العمل تعرَّض لمقاطعة مزعجة؛ فما إن احتسيتُ فنجاني المبكر من الشاي وشرعتُ في طريقي إلى الشاطئ حتى تلقيتُ مكالمة من الضابط باردل من شرطة ساسكس؛ وهو رجل هادئٌ قويٌّ باردُ الطبع ذو عينَين متأملتَين، وقد راح ينظر إليَّ في تلك اللحظة وعلى ملامح وجهه اضطرابٌ شديد.

وقال: «إنني أعلم بشأن خبرتك الواسعة يا سيدي. وهذه زيارة غير رسمية تمامًا، من دون شك، وينبغي ألا يعلم بها أحد غيرنا. لكنني واقعٌ في ورطة كبيرة بسبب قضية مكفارسن هذه. والسؤال هو: أأقبض عليه أم لا؟»

«أتقصد السيد إيان ميردوك؟»

«نعم يا سيدي. فإذا ما فكرتَ في الأمر فلن تجد غيره في الواقع. وتلك هي فائدة أن تكون دائرة الاشتباه محدودة هكذا، فهي مقصورة عليه وحده. إذا لم يكن هو الفاعل، فمَن إذن؟»

«وما الذي تأخذه عليه؟»

كان الضابط باردل له المآخذ نفسها التي راودتني عليه. فكان من بينها شخصيةُ ميردوك، وذاك الغموضُ الذي كان يحيط به، ونوباتُ غضبه العارمة؛ كما ظهر في حادثة الكلب، وواقعة شجاره مع مكفارسن في الماضي، كما كان يوجد مُبرِّر وجيه للاعتقاد بأنه ربما يكون قد اغتاظ من ملاطفاته للآنسة بيلامي. لقد توصَّل إلى كل النقاط التي توصَّلتُ إليها، ولكنه لم يزد عليها سوى أن ميردوك كان — فيما يبدو — يأخذ استعداداته كلها للرحيل.

«كيف سيكون موقفي لو تركته يهرب وكل هذه الأدلة قائمة ضده؟» كان الرجل الضخم الجثة البارد الطبع قلقًا للغاية.

فقلتُ: «فكِّر في كل الثغرات الأساسية في قضيتك. إنه يستطيع يقينًا أن يثبتَ غيابه عن مسرح الجريمة صبيحةَ وقوعها؛ فلقد كان مع طلابه حتى آخر لحظة، ثم ظهر بالصدفة من خلفنا بعد لحظات قليلة من ظهور مكفارسن. ثم تذكَّرْ أنه من المستحيل تمامًا أن يكون قد تمكَّن بمفرده من إيقاع هذا العدوان على رجلٍ لا يقل قوةً عنه بحال. وأخيرًا، يبقى هذا السؤال حول الأداة التي استُخدمت في إحداث تلك الإصابات.»

«ماذا عساها أن تكون سوى سَوْط أو مِقْرَعةٍ لدنةٍ من نوعٍ ما؟»

فسألته: «هل فحصت العلامات؟»

«لقد رأيتها. كذلك فعل الطبيب.»

«ولكنني فحصتُها جيدًا جدًّا بواسطة عدسة. إن لها ميزات خاصة.»

«وما هي يا سيد هولمز؟»

خطوتُ باتجاه مكتبي وأخرجتُ صورةً مكبَّرة. وقلتُ موضِّحًا: «هذه هي طريقتي في مثل تلك الحالات.»

«إنك حقًّا تنجز الأمور بعناية يا سيد هولمز.»

«لو لم أفعل هذا لكان من الصعب أن أكون ما أنا عليه. والآن لنتأمل هذه الكدمة الممتدة حول الكتف اليمنى. ألا تلاحظ شيئًا غريبًا؟»

«لا أستطيع أن أقول بلى.»

«من الواضح دون شك أنها غير مُتَّسقة في حدَّتها. يوجد كمية قليلة من الدم المرتشِح هنا، وأخرى هناك. وثمة علامات مشابهة في تلك الكدمة هنا. ترى ما معنى هذا؟»

«ليس لديَّ فكرة، أتعرف أنت؟»

«ربما أعرف، وربما لا، ولكن ربما سأتمكَّن من قول المزيد قريبًا. إن أيَّ شيءٍ من شأنه أن يوضِّح سبب هذه العلامة سيقرِّبنا كثيرًا من المجرم.»

فقال ضابط الشرطة: «إن هذه لَفكرةٌ غريبةٌ من دون ريب. لكن لو أنَّ شبكةً من الأسلاك المُحْمَاة كانت قد وُضعتْ على ظهره، فستكون هذه النقاط الأكثر وضوحًا تمثيلًا لأماكن تقاطع خيوط الشبكة مع بعضها بعضًا.»

«تشبيه بالغ البراعة. أو ربما يكون سَوْطًا صلبًا جدًّا متشعِّبَ الأطراف، وفي كل طرفٍ منه عُقَدٌ صغيرة صلبة، أليس كذلك؟!»

«يا إلهي، يا سيد هولمز. أظن أنك قد توصَّلتَ إلى الحل.»

«أو ربما هناك سببٌ ما مختلفٌ تمامًا، يا سيد باردل. لكنَّ حجتك أضعف بكثير جدًّا من أن تُخَوِّلك القبضَ عليه. وعلاوةً على ذلك، فإن لدينا تلك الكلمات الأخيرة؛ «لبدة الأسد».»

«لقد كنت أتساءل إن كان إيان …»

«نعم، لقد فكَّرت في هذا؛ فيما إذا كانت الكلمة الثانية تحمل أيَّ تشابه مع كلمة «ميردوك»، ولكنها لم تكن كذلك. لقد نطق بها صارخًا تقريبًا. أنا متأكد أنها كانت «لبدة الأسد».»

«ألا توجد لديك أي نظرية بديلة يا سيد هولمز؟»

«ربما عندي واحدة. ولكني لا أحب أن أناقشها قبل أن يكون هناك ما يصلح للاعتماد عليه بصورة أكبر عند المناقشة.»

«ومتى سيكون هذا؟»

«في ظرف ساعة واحدة، وربما أقل.»

أخذ الضابط يحكُّ ذقنه وينظر إليَّ بعينَين متشككتَين.

وقال: «ليتني أستطيع معرفة ما يجول في ذهنك يا سيد هولمز. لعلها قوارب الصيد تلك.»

«لا لا، لقد كانت بعيدة جدًّا.»

«حسنٌ إذن، أهو السيد بيلامي وابنه الضخم هذا؟ فهما لم يكونا لطيفَين كثيرًا مع السيد مكفارسن. أمن الممكن أن يكونا تسبَّبا له في الأذى؟»

فقلتُ وأنا أبتسم: «لا لا، لن تأخذ مني معلومةً قبل أن أصبح مستعدًّا. والآن، أيها المحقِّق، إن لدى كلٍّ منا عملًا يقوم به. وربما لو استطعتَ أن تقابلني هنا وقتَ الظهيرة …»

ما إن وصلنا إلى هذه النقطة حتى وقعت المقاطعة الهائلة التي كانت بداية النهاية.

انفتح باب منزلي الخارجي بعنف، وسمعتُ وقع أقدام مرتبكة في الممر، ثم دخل إيان ميردوك الغرفة وهو يترنَّح، كان شاحبًا شعثًا، وكانت ملابسه في فوضى عارمة، وكان يحفر الأثاث بيدَيه الناتئتَي العظام ليعتدل في وقفته. وراح يقول لاهثًا: «براندي! براندي!» ثم سقط فوق الأريكة وهو يَئِن.

لم يكن بمفرده؛ فقد أتى ستاكهيرست على إِثْره لاهثًا حاسرَ الرأس، وكان ذاهلًا تقريبًا كرفيقه.

وصاح قائلًا: «نعم نعم، براندي! إن الرجل يلتقط أنفاسه الأخيرة. كل ما استطعتُ فعله هو أن آتي به إلى هنا. لقد أُغمي عليه مرتَين ونحن في الطريق.»

أحدث نصف قدحٍ من الكحول الصِّرف فرقًا عجيبًا. فدفع بنفسه وقام مُعتمدًا على ذراعٍ واحدة وألقى معطفه من فوق كتفَيه، وأخذ يصيح: «لأجل الرب، دهانًا، أفيونَ، مورفينَ! أيَّ شيءٍ يسكِّن هذا الألم اللعين!»

صرختُ أنا والضابط من هول المنظر. كان يتصالبُ على كتفه العاري نفسُ الشكل المتشابك الغريب من الخطوط الحمراء الملتهبة التي تسبَّبت في موت فيتزروي مكفارسن.

من الواضح أن الألم كان فظيعًا ولم يكن موضعيًّا وحسب؛ لأن تنفُّس الضحية كان يتوقف لفترات قصيرة، وكان لون وجهه يتحوَّل إلى الأسود، ثم كان يضرب بيده على قلبه مُطلِقًا زفرات حادةً، بينما كان جبينه يقطر حباتٍ من العرَق. كان من الممكن أن يموت في أي لحظة. كان يصبُّ في حلقه المزيد والمزيد من البراندي، كانت كل جرعة جديدة تعيده إلى الحياة من جديد. ويبدو أن الضمادات القطنية المُشبَعة بزيت الطعام قد أذهبت الألم من تلك الجروح الغريبة. في النهاية أهوى رأسُه بقوة على الوسادة. لاذَ بدنُه المُنهَك بآخر مستودع من مستودعات حيويته. كانت حالةً بين النوم والإغماء، لكنها على الأقل كانت إعفاءً من الألم.

كان استجوابه مستحيلًا، لكن بمجرد أن اطمأننَّا على حالته التفتَ إليَّ ستاكهيرست وصاح قائلًا: «يا إلهي! ما هذا يا هولمز؟ ما هذا؟»

«أين عثرتَ عليه؟»

«عند الشاطئ. في المكان نفسه الذي لقي فيه المسكين مكفارسن مصرعه. لو أن قلب هذا الرجل كان ضعيفًا كقلب مكفارسن لَمَا كان هنا الآن. لقد ظننتُ أكثر من مرة وأنا أُحضره إلى هنا أنه قد تُوفِّي. لقد كان الطريق إلى مؤسسة ذا جيبلز طويلًا جدًّا، لذا أتيتُ إليك.»

«هل رأيته على الشاطئ؟»

«لقد كنتُ أتمشى على الجرف فسمعتُ صراخه. كان على حافة المياه، وكان يترنَّح كالسكران. فأسرعتُ بالنزول، وألقَيتُ بعض الملابس عليه، ثم أتيتُ به إلى هنا. أرجوك يا هولمز، استخدم كل إمكانياتك ولا تدَّخر جهدًا في رفعِ هذه اللعنة عن هذا المكان، فالحياة أصبحت لا تُطاق. ألا تستطيع، بالرغم من شهرتك العالمية هذه كلها، أن تفعل لنا شيئًا؟»

«أظن أنني أستطيع يا ستاكهيرست. سِرْ معي الآن! وأنت يا حضرة الضابط، تعال معنا! سنرى إن كنا نستطيع تسليمكم هذا القاتل أم لا.»

بعد أن تركنا الرجل الفاقد الوعي في رعاية مدبرة منزلي، مَضَيْنا نحن الثلاثة إلى ذلك الهَوْر المميت. كان ثمة كومة صغيرة من المناشف والملابس تركها الرجل المصاب مُكدَّسةً فوق حصباء الشاطئ. فمشيتُ ببطء حول ضفة المياه، وتبعني صاحِباي في صفٍّ، واحدًا تلو الآخر. كان معظم البِركة ضحلًا تمامًا، لكنها كانت بعمق أربع أو خمس أقدام أسفل الجرف في البقعة المُجوَّفة من الشاطئ. مَن يريد الاستحمام سيدخل إلى هذا الجزء بطبيعة الحال، لأنه كان يُشكِّل بِركةَ سباحةٍ خضراءَ صافيةً جميلةً رائقةً كالبِلَّوْر. وكان فوقها سلسلة من الصخور عند قاعدة الجرف، فتقدَّمتُ رفيقيَّ على طول هذه السلسلة، وأخذتُ أحدِّق بحرصٍ في أعماق المياه أسفلَ مني. عندما وصلتُ إلى البقعة الأكثر عمقًا وسكونًا من البِركة التقطتْ عيناي ما كانتا تبحثان عنه، فأطلقتُ صرخة انتصار.

وصحتُ قائلًا: «سايانِّيا! سايانِّيا! ها هي لبدة الأسد!»

كان الشيء الغريب الذي أشرتُ إليه يشبه بالفعل كتلةً متشابكةً مقطوعة من لبدة أسد. كانَ جاثمًا على رفٍّ صخري على بعد حوالي ثلاث أقدام تحت المياه، كان مخلوقًا غريبًا مُتموِّجًا يُطلِق ذبذبات ويكسوه الشعر، وكان بين جدائله الصفراء خطوط دقيقة فضية اللون. وكان يتحرك في خفقاتٍ من التمدُّد والتقلُّص الوئيد الثقيل.

فصرخت قائلًا: «لقد تسبَّب في الأذى بما فيه الكفاية. لقد انتهى يومه! ساعدني يا ستاكهيرست! لنقضِ على القاتل إلى الأبد.»

كان ثمة جلمود ضخم فوق الحافة الصخرية مباشرة، فدفعناه حتى سقط في المياه مُطلقًا رَشَاشًا هائلًا. وعندما سكنتْ تموُّجاتُ الماء وجدنا أنه استقرَّ فوق النتوء الصخري الذي بالأسفل، وأظهرتْ رفرفةُ طرَفِ نسيجٍ حيوانيٍّ أصفرِ اللونِ أنْ ضحيتنا كانت تحت الجلمود. ثم راحتْ رغوةٌ زيتيةٌ ثخينةٌ تَنِزُّ من تحت الجلمود حتى لوَّثت المياه من حولها وهي تطفو ببطء إلى السطح.

وهنا صاح الضابط قائلًا: «حسنٌ، إن هذا ليحيِّرني! ما كان هذا يا سيد هولمز؟ لقد ولدتُ وترعرعتُ في هذه الأنحاء، ولكنني لم أرَ شيئًا كهذا من قبل قَطُّ. إنه دخيلٌ على أرض ساسكس.»

فعقبتُ على كلامه قائلًا: «من الطبيعي أن يحدث هذا في ساسكس، ربما تكون العاصفة الجنوبية الغربية هي التي جلبته إلى هنا. تعالَيا كلاكما لنرجع إلى بيتي، وسوف أقصُّ عليكما التجربة المرعبة التي خاضها شخصٌ جديرٌ به أن يتذكَّر مواجهتَه مع خطر البحار هذا نفسه.»

عندما وصلنا إلى حجرة مكتبي وجدنا ميردوك وقد تعافى بقدرٍ محدودٍ، بحيث كان يستطيع الجلوس. كان في حالة ذهول، يرتجف بين الحين والآخر عندما تصيبه نوبة من نوبات الألم. ثم وضَّح لنا بكلماتٍ مُتقطِّعة أنه ليست لديه فكرة عمَّا حدثَ له، غير أنَّ وخزاتٍ رهيبةً أصابته فجأة، وأن الأمر قد احتاجَ إلى إبراز تجلُّده كله من أجل أن يصل إلى الضفة.

فقلتُ وأنا أتناول المجلد الصغير: «ها هو ذا الكتابُ الذي كان أوَّلَ شيءٍ ألقى الضوءَ على ما كان من الممكن أن يظل مُبهَمًا إلى الأبد. إنه كتاب «في العراء»، للباحث الشهير في علم التاريخ الطبيعي؛ جاي جي وود. لقد كادَ وود نفسُه أن يهلك نتيجة الاحتكاك بهذا المخلوق البغيض، لذا فقد كتب عنه من واقعِ خبرةٍ غنية جدًّا. «سايانِّيا كابيلاتا» هذا هو الاسم الكامل لهذا الوغد، ويمكنُ أن تبلغَ خطورتُه على الحياة خطورةَ لدغة الكوبرا وأن تفوقها ألَمًا بكثير. اسمحوا لي أن أقرأ هذا الاقتباس الموجز:

إذا تصادف أن رأى مَن يسبح في المياه جسمًا رخوًا مستديرًا يتكوَّن من أليافٍ وأنسجة حيوانية صفراء مائلة للون البنيِّ، وكان شيئًا أشبه بقبضةٍ كبيرة جدًّا من لبدة الأسد والورق الفضيِّ، فليأخذ حذره، فإن هذا هو المخلوق ذو اللسعات المرعبة؛ سايانِّيا كابيلاتا.

أمن الممكن أن يوصف صاحِبُنا الشِّرِّير هذا بأوضح من هذا؟

ثم يستطرد في الحديث ليخبر عن مواجهته هو نفسه بأحد هذه المخلوقات عندما كان يسبح بعيدًا عن شاطئ مقاطعة كِنت. لقد اكتشف أن هذا المخلوق كان ينشر خيوطًا رفيعةً لا تكاد تُرى في دائرة يبلغ قطرُها خمسين قدمًا، وأن أيَّ أحدٍ يُوجد داخل حدود هذه المسافة المحيطة بالمركز المُهلك يكون معرَّضًا للموت. لقد كاد يكون تأثيرُها على وود مُهلِكًا حتى من بُعد.

كانت الخيوطُ الغزيرةُ تُحدث خُطوطًا قرمزيةً خفيفةً على الجلد؛ يتَّضح عند فحصها عن قُرب أكثر أنها بثراتٌ أو نِقاطٌ دقيقةٌ، وكانت كل نقطة وكأنما هي مُزوَّدة بإبرةٍ ملتهبةٍ تتَّخذ لنفسها طريقًا إلى الأعصاب.

كان الألم الموضعي — كما يُوضِّح وود — أقلَّ أجزاء هذا العذاب الشديدِ قسوةً.

أسقطتني الوخزات التي تلقيتُها في صدري وكأنما تلقَّيتُ رصاصة. كان نبضي سيتوقف، لكن القلب وثب بعد ذلك ست وثباتٍ أو سبعًا، وكأنه كان سيندفع خارج صدري.

لقد كادتْ أن تقتله، على الرغم من أنه تعرَّض لها فقط في مياه المحيط الهائجة وليس في مياه بركة السباحة الهادئة الضحلة. ويقول إنه استطاع بالكاد أن يتعرَّف على نفسه بعد ذلك، فقد كان شديد الشحوب، وكان وجهه مُتجعِّدًا مُتَغَضِّنًا. لكنه راح يعبُّ من البراندي؛ ما يملأُ قنينة كاملة، ويبدو أنها قد أنقذتْ حياته. إليكَ الكتابَ أيها الضابط. إنني أتركه لك، ولا شكَّ أنه يحتوي على شرحٍ وافٍ لمأساة المسكين مكفارسن.»

فعقَّب إيان ميردوك بابتسامةٍ ساخرة: «وبرَّأني كذلك بالمناسبة. أنا لا ألومك أيها الضابط، ولا أنت يا سيد هولمز، لأن شكوككما كانت أمرًا طبيعيًّا. لكنني أشعر برغم ذلك أن ما أبرأ ساحتي في ليلة القبض عليَّ هو أنني نلتُ نصيبي من مصير صديقي المسكين.»

«لا يا سيد ميردوك. لقد كنتُ أسير بالفعل في المسار الصحيح، ولو كنتُ خرجتُ من البيت مبكرًا كما نويتُ فلربما كنتُ أنقذتُك من هذه التجربة المُروِّعة.»

«لكن كيف عرفت يا سيد هولمز؟»

«إنني قارئ نَهِمٌ ذو ذاكرة قادرة على الاحتفاظ بالتفاصيل الدقيقة بصورة مذهلة. لقد ظلَّتْ عبارة «لبدة الأسد» تتردَّد على ذهني. وأدركتُ أني كنتُ قد رأيتُها في مكان ما في سياق غير متوقَّع. ولقد رأيتم أنها تصف ذلك المخلوق بالفعل. وليس لديَّ شك في أنه كان يسبح في الماء عندما رآه مكفارسن، وأن هذه العبارة كانت هي العبارة الوحيدة التي استطاع أن يبلغنا بها تحذيرًا من ذلك المخلوق الذي تسبَّب في موته.»

فقال ميردوك، وهو ينهض ببطءٍ على قدميه: «أنا بريءٌ إذن على الأقل. لكنْ ثمة توضيح صغير عليَّ أن أُقدِّمه، لأنني أعرف الوجهةَ التي كان يسير فيها تحقيقك. صحيحٌ أنني أحببتُ هذه الفتاة، ولكن منذ أن اختارتْ صديقي مكفارسن أصبحتْ رغبتي الوحيدة هي أن آخذ بيدها إلى السعادة. لقد رضيتُ تمامًا بالانسحاب وبلعب دور الوسيط بينهما. وكثيرًا ما كنتُ أحمل رسائلهما، وحيث إنني كنتُ موضع ثقتهما وكانت هي عزيزة عليَّ جدًّا فقد سارعتُ بإخبارها بوفاة صديقي، وذلك خشيةَ أن يسبقني شخصٌ ما إلى قول هذا بطريقةٍ أقلَّ رفقًا وشفقة. وهي لمْ تشأ أن تخبرك بعلاقاتنا يا سيدي خوفًا من أنْ تستنكرها أنتَ وأنْ أُعاني أنا. لكنك عندما ترحل، عليَّ أن أُحاول العودة إلى مؤسسة ذا جيبلز، فسيسرني النوم على فراشي للغاية.»

مدَّ ستاكهيرست يده، وقال: «لقد كانت أعصابنا جميعًا متوترةً للغاية. فلتعفُ عما مضى يا ميردوك. وسيتفهَّم بعضنا بعضًا بصورة أفضل في مقبل الأيام.» وخرجا معًا وذراعاهما متشابكتان بطريقة ودودة. أما الضابط فبقي، وظل محدِّقًا بي في صمت بعينَيه الشبيهتَين بعينَي الثور.

ثم صاح في النهاية قائلًا: «حسنًا، لقد فعلتَها! لقد قرأتُ عنك، لكنني لم أكن أصدق ما قرأته قط. إن هذا لأمر مذهل!»

اضطررتُ لهز رأسي. لقد كان القبول بمثل هذا الثناء انخفاضًا بمبادئ المرء الأخلاقية.

«لقد كنتُ مُتبلِّد العقل في البداية؛ مُتبلِّد العقل بطريقة تستوجب اللوم. ولو كان عُثِر على الجثة في المياه لكان من الصعب ألا أُدرك الأمر. إن المنشفة هي التي ضلَّلتني، فالمسكينُ لم يُفكِّر قط في تجفيف جسمه، لذا فقد أدى بي هذا بدوره إلى الاعتقاد بأنه لم ينزل قط إلى المياه. فكيف كان سيخطر ببالي إذن أن يكون قد وقع هجوم من أي كائن بحري؟ هذه هي النقطة التي ضللتُ الطريق عندها. حسنٌ حسنٌ أيها الضابط، فكثيرًا ما تجرَّأتُ على السخرية منكم أيها السادة من رجال الشرطة، ولكنَّ «سايانِّيا كابيلاتا» اقتربتْ جدًّا من الانتقام لجهاز الشرطة البريطانية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤