الحياء والوحشة

إن الحياء من أكبر أسباب الفشل في الحياة، وهذا الحياء يعتادني إذا جالسني أو حادثني من لا أعرفه. وإذا كنت في رفقة كلهم لي صديق، غير واحد؛ صاروا كأنهم كلهم أجانب لا أعرفهم. ومن أجل ذلك صرت أستر هذا الحياء بالكبر والاحتجاز والتصلب واعتزال الناس؛ كي لا يُزري بي ويُخفِّض من شأني، فإن الحياء يُنزل الرجل منزلة الصبيان الصغار، ويغطي على فضله وأدبه وعلمه. ولو شئت سردت لك من نوادر الحياء ما يوضح ذلك. ولكن ليس فريضة على صاحب الاعتراف أن يذكر كل نقائصه، هل فعل ذلك روسو أو جيتي أو شاتوبريان؟ كلا، إن النفس لا تسخو بذلك ولا تطيب، فإنها لا تقدر أن تنزع عنها غطاءها كلَّ النزع. ومهما عظم نصيب صاحب الاعتراف من الصراحة، فلا بد أن يكون عنده من الجبن والحزم واحترام النفس ما يغريه بإخفاء كثير من نقائصه ومعانيه.

لعلك أيها القارئ قد رأيت أو سمعت بغلام صغير إذا نظرت إليه خجل، وإذا كلمته خجل، وإذا دعوته خجل! إني ما رأيت غلامًا كهذا إلا أشفقت عليه مما يستقبل من حياته؛ لأن هذا الخجل الشديد هو رأس المصائب، فلا ينتفع المرء معه بحياته. وإنه لفرض على الآباء والمعلمين محو هذا الخجل، وأن يعوِّدوا الغلام الجرأة؛ فإن الوقاحة أقل شرًّا من الحياء. ولا يعرف قدر المصائب التي يأتي بها هذا الخجل إلا من عالجه وعاناه، وهو أكبر عيوب التربية المنزلية عندنا.

لقد كنت في صغري كثير الحياء، وكنت أنظر إلى جرأة أترابي من الغلمان، وحُسن لهجتهم، وأعجب بها وأتمنى أن أكون مثلهم. ولكني لم أعوَّد ما عُوِّدوه من الاعتماد على أنفسهم. أذكر أن أبي زار بي صديقًا له من الفرنسيين، وكنت صغير السن، وكان لصاحب البيت ابن في عمري، فجاء الغلام وصافحنا وحيانا بفصاحة وطلاقة ورشاقة أُعجب بها الحاضرون، وصاروا ينظرون إليَّ ويضحكون من خجلي. ثم جاء الغلام ومدَّ ذراعه إليَّ كي نذهب فنلعب، ولكني انزويت وراء أبي، فلم أخرج إليه إلا بعد القيل والقال. وهذه قصة توضح الفرق العظيم بين تربيتنا وتربيتهم. وكنت أخجل في صغري من الزائرين والزائرات، وأستحي من النظر إليهم أو إليهن، وبقيت مُتصفًا بهذا الحياء حتى بعد أن عاشرت الكثير من الناس. وليس سببه الهيبة والاحترام أو الخوف، فإني لم أجد عند الناس من كِبر العقل ورجاحة النفس ما يسوِّغ أن أخجل منهم. وليس إعجاب المرء بنفسه ولا إحساسه أنه يفضل الناس ذكاء وعلمًا بمانعه من الخجل منهم، إذا صارت هذه الصفة طبيعة فيه.

ومن أجل هذا الحياء صرت لا أأنس بالناس، وأحس قلقًا شديدًا عند رؤيتهم، فيه شيء من المقت والاحتقار، فلا أحضر مجالس الناس، ولا أتخذ صاحبًا جديدًا إلا في القليل النادر. ومن أجل ذلك صرت أعوذ بنفسي أن أجالس أهل الجاه والثراء، والذين لا يبالون عواطف جلسائهم. وصرت أحب الوحدة فأتجول منفردًا في الأماكن الخالية، وصرت لا أحب الأماكن التي يزدحم فيها الناس، بل أبغضها كل البغض. ولا تحسب أني أجد لذة في الوحدة، بل إني أحس فيها وحشة وغربة، فأحس كأن قلبي صحراء مقفرة، ليس بها أنيس ولا رفيق. ولا تحسب أني أستميحك الشفقة بوصف هذه الوحشة والغربة، فإن رحمة الناس تقلل من احترام المرء نفسه ومن احترامهم إياه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤