سلطان القضاء

لا يعرف سلطان القضاء ولا يفهم سطوته، ولا يحس قيوده، إلا من خذله القضاء وعالج شدته. أما السعيد، فإنه يحسب أن القضاء خادم بيته وصنيعة أبيه وعبد من عبيده. فإن السعادة هي الغفلة، وأكثر الناس يعيشون غافلين، وبقدر غفلتهم يكون نصيبهم من السعادة. ولكن الرجل الذي تعوَّد التفكير، يبحث في نفسه فيرى أنه يعجز عن أشياء كثيرة يريد كل الإرادة أن يأتيها، ولكن تقصر إرادته وقوته عنها، ويسكن إلى أشياء يود كل الودادة أن ينأى عنها، فلا يقدر على تركها. ألم ترَ رجلًا يريد إتيان الفضل والخير فيعجز، واجتناب الرذيلة والشر فيعجز، فيحس قيود القدر تحز في نفسه، ويعرف عند ذاك حقارة الإنسان وضآلته، فينسل عنه غروره الذي هو رداء كل نفس، ويرى نفسه عريانة من ثوب النفاق والغرور الذي كان يزينها، فيرى فيها العجز والضعف؟!

وإذا نظرت في حجج المفكرين الذين يقولون: إن المرء مُخيَّر، وجدتها مغالطات. فإن حججهم المشهورة أن الله خلق للإنسان عقلًا يهتدي به، وخلق له روحًا، وأودع فيه عوامل الخير والشر، فإذا اختار الشر كان جانيًا على نفسه باختيار الشر. انظر إلى هذه المغالطة السخيفة، وكيف أن قائلها لا يثبت شيئًا؛ لأنه فرض الشيء الذي يريد إثباته. ولو أنه قال: فإذا اختار الشر كان الله قد أودع في نفسه من ذلك الشر أكثر مما أودع فيه من نقيضه لصح قوله، فإن المرء لم يخلق عوامل الخير والشر التي في نفسه، حتى تزعم أنه جعل الشر في نفسه غالبًا للخير، أو أنه خلق ميولها إلى الشر. ولو كان الإنسان هو الذي خلق نفسه لصح أن يقال: إنه خلق فسادها الناشئ من تغليب قوى الشر فيها على قوى الخير. ولكن الأغبياء ينسبون إلى المرء خلق الفساد، كأن خلق الشر أسهل من خلق الخير، والصواب أن المرء يعجز عن الخلق، سواء كان ذلك خلقًا للشر أو للخير.

وإذا تأمل المفكر وجد أن المرء لا يكون مختارًا إلا إذا كان مستقلًّا في أموره عن الله والكون، وإلا إذا كان هو الذي خلق نفسه. أليس كل شيء في الوجود يتبع سننًا وأحكامًا لا يقدر أن يخرقها؟ والإنسان تحكمه عوامل الوراثة والتربية والبيئة، فهو لا يقدر أن يتعدى حكمها.

إن الإنسان محكوم حتى بطعامه وشرابه وملبسه، وحرارة الهواء أو برودته، وبالضياء والهواء والمطر، وبغير ذلك من أعضاء الوجود، وقواه في آرائه وعواطفه وأخلاقه وعاداته. ومن أجل ذلك قد يرى المرء ما فيه ضره، فلا يقدر أن يتجنبه، ويرى ما فيه خيره، فلا يقدر أن يأتيه على أنه ليس بينه وبين ما فيه خيره حاجز يمنعه عنه، غير تلك العوامل النفسية التي لم يخلقها ولم يردها، بل هو يبغضها ويريد أن يصدع عنه قيودها، ولو كان مخيرًا لما اختارها. وفي مثل هذا المعنى يقول بشار بن برد:

طبعت على ما فيَّ غير مخير
هواي ولو خُيِّرت كنتُ المهذبا
أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد
وقصر علمي أن أنال المغيبا
فأصرف عن قصدي وعلمي مقصر
وأمسي وما أعقبت إلا التعجبا

حدثني رجل من الجهلاء المعممين قال: أنت مخير؛ لأنك إذا أردت أن ترفع يدك لم يمنعك مانع. قلت: لقد كنت تكون مخيرًا لو أصابك الله بشلل في يدك، فأنكرت أن يصيبك شيء لم ترده، ورفعت يدك بالرغم من شللها الذي أنكرته؛ لأنك لم تخلقه ولم ترده. فإذا كنت لم تخلق الشلل في يدك، ولا الخبل في عقلك، ولا الجِنَّة في نفسك، فكيف تنسب إليها فسادها وميلها إلى الشر، وهذه أشياء سواسية؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤