الكذب

ينبغي لك أن توطن نفسك على أن كل الناس كاذب، من الأمير إلى سائق الحمير، فاتخذ لنفسك عدة تنفي بها ما قد يجلبه لك كذبهم من الشر. ولا تنس أن المرء مهما كان واسع الجاه معظمًا، أو كثير التقوى والصلاح، لا يأنف من استخدام الكذب في مآربه؛ لأن الكذب سهل المخرج، يخرج من الفم كالبصاق، ولولا ما يخشاه المرء من عاقبة الفضيحة إذا ظهر كذبه؛ لكانت حياته كلها كذبة كبيرة مستطيلة. والحياة عند كثير من الناس مثل هذه الكذبة. وبعض الناس يشوب كذبه بشيء من الصدق؛ ليكون أسير في الأفواه، وهذا أخبث الكذب وأشده إيلامًا وأوسعه ضررًا، ثم يحسب أنه صنع الخير والإحسان والبر بأن لم يكذب الكذب كله، ويعلم أن شوب الكذب بشيء من الصدق أبلغ في الكذب.

والكذب هو الطعام الذي يتغذى به الإنسان، والشراب الذي يروي به ظمأه، والهواء الذي ينشقه، والسماء التي تظله، والأرض التي تحمله، فليس له غنًى عنه في كل لحظة من حياته. فالإنسان حيوان كاذب ثرثار، والناس يزينون كلامهم بشيء من الكذب، إما بثلث أو بربع أو بثمن. والحق الذي بالباطل أَسْيَر من الحق المحض. والصدق المشوب بالكذب كالدنانير التي يشاب معدنها النفيس بمعدن خسيس؛ كي لا يبريها لمس الأيدي. وكلما كانت الأمة أقرب عهدًا بالجهل والظلم، وأوفر منهما نصيبًا، كانت أوفر نصيبًا من الكذب، فالجاهل كثير الكذب؛ لأنه لا يعرف أن مقادير الكلام تعين قيمته من صدق أو كذب، والمغلوب على أمره يكثر من الكذب؛ كي يتجنب بوادر المستبد.

يكذب الناس أحيانًا وهم يعرفون أنهم كاذبون، وأحيانًا يكذبون وهم لا يعرفون أنهم كاذبون. والمغالاة باب إلى الكذب، أعرف رجلًا يتعمد الكذب، ثم يخادع نفسه حتى يعتقد أن كذبه صدق لا شك فيه، وأكثر الناس مثل هذا الرجل، ولكنهم لا يشعرون.

إني قليل الكذب؛ لأن الكذب يوقفني مواقف تخجلني وتؤلمني، فإن ذا الشعورِ الشديدِ يكره أن يأتي الكذب خشيةَ الفضيحة؛ فيصير ضحكة إذا عرف كذبه، فتهتاج لواعجه من سخر الناس وضحكهم. ولقد كذبت مرة كذبة بَغَّضت إليَّ الكذب، حتى صرت لا أستخدمه الآن إلا بقدر اللازم منه، ولا أرى هذا اللازم كثيرًا.

أما قصة هذه الكذبة فهي أني كنت مرة أجالس جماعة من الناس، فجعلنا نتكلم في تقتير بعض الأغنياء، فقال صديق: إني رأيت فلان باشا مرارًا قاعدًا في عربة الدرجة الثالثة من الترام. ثم مضت أيام وجلسنا مجلسًا آخر نتذاكر بخل الأغنياء، فقلت: إني رأيت فلان باشا مرارًا قاعدًا في عربة الدرجة الثالثة من الترام! ومن الغريب أني وجهت كلامي إلى الصديق الذي قال هذه الكلمة في مجلسنا السابق؛ فتبسم، وخجلت خجلًا شديدًا. وأكره الغش أيضًا وأبغض إتيانه؛ لأن انكشافه مؤلم. أذكر أني مرة حاولت الغش في امتحان مدرستي فوضعت المذكرة في ثيابي، ثم أردت أن أخرجها وقت الامتحان، ولكن خجلت حينما وضعت يدي في ثوبي لإخراجها، واحمر وجهي حتى صار كالجمرة، وخفت أن يرى المراقب خجلي فيعرف سببه؛ فتركت المذكرة في ثيابي ولم أستخدمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤