الحذر

الحذر أساس الحزم، والحزم من لوازم الحياة الهادئة المطمئنة، ولكنه إذا عظم أتلف طعم الحياة.

إن الحذر مقرون بسوء الظن، وبقدر إساءة ظني يكون حذري، إني ما ركبت عربة ولا دخلت دكانًا لأشتري منه شيئًا، ولا جلست في حانة، إلا وضعت يدي على صرة الدراهم؛ مخافة أن تكون قد سرقت مني فلا أجدها عند الحاجة.

إن شدة الحذر قد بَغَّضَت إليَّ القدْر اللازم منه؛ لأن من كان شديد الحذر كثر خوفه وجبنه، فكأنما قلبه جناح طائر من كثرة الخفقان. ومن أجل ذلك أطفر الطفرة أحيانًا؛ هربًا من الحذر، فأقع في ضده في التعرض للخطر. كما أني أمَلُّ الحياء الشديد وأبغضه، فأجتهد أن أتخلص منه؛ فأقع في ضده في الوقاحة. ومن أجل ذلك صار بعض من يراني في تلك الحالات النادرة، يحسب أني كثير التعرض للخطر قليل الحياء، وهذا خلاف الصواب.

وهذا الحذر الشديد الذي أعانيه جعلني أحس اندفاعًا إلى الأخطار، كما أن من يطل على الحضيض الأوهد من المكان العالي يحس اندفاعًا إلى الحضيض. وأحيانًا أنظر إلى الأخطار كما ينظر الجُرَذُ الكثير الخوف إلى عين القط؛ فيبلده الخوف فلا يتحرك، ثم يجمد دمه ويسكن خفقان قلبه فيموت.

على أن للخوف مزية، فإنه يثير القوى الكامنة في نفس المرء، حتى كأنه يخلق له رُوحًا جديدة. أذكر أني خرجت مرة من المدرسة وأنا تلميذ صغير مع رفقة من التلاميذ، فمررنا برجل من أهل الصعيد ضخم طويل، مفتول الذراع، عليه مظاهر القوة، فرأيناه قاعدًا لحاجة، فأخذ أحدنا حجرًا ورماه به؛ فأصابه في أسفل ظهره، فقام الرجل يعوي، وأخذ عصاه الغليظة وصار يعدو وراءنا ونحن نعدو أمامه هربًا. وكان أصحابي كلهم خفاف الأجسام، معروفين بالحركة والعدو، ولم يكن خوفهم إلى عليَّ؛ لأني كنت معروفًا ببطء الحركة. ولكني صرت أعدو لا أتلفت إلى أحد، حتى قطعت نصف المدينة عدوًا. ثم نظرت إلى ما ورائي فعلمت أني سبقت إخواني كلهم، ورأيتهم ورائي في تعب وهم يعدون والصعيدي وراءهم يعدو رافعًا عصاه، فوالله ما استرحت من العدْو حتى بلغت منزلي! ومن ذلك اليوم صرت معروفًا عند التلاميذ بسرعة العدو، حتى إن الواحد منهم كان يخشى أن يجاريني فأسبقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤