مقدمة

لقد عزمتُ أن أدوِّن ملاحظاتٍ يعود أولها إلى بَدء إقامتي في بيروت. وإني لأشعر بتأخري قليلًا؛ لأن بيروت ولبنان لم يعودا يسترعيان الانتباه العام الذي كانا يسترعيانه في أثناء الحوادث الهامة التي جرت فيهما، بَيْدَ أنه لما كانت مشاهداتي هذه تصويرية وتاريخية وإحصائية وأخلاقية أكثر منها سياسية، فقد ظننتُ أنها تلائم القارئين في كل زمان، وهي — فيما عدا ذلك — متنوعة بالمواضيع المطروقة التي إخال أني خصصتها بجميع فئات القراء، حتى الفئة التي تلتمس في كتاب جديد سبيلًا للتلهي بدلًا من موضوع يهذب ويفيد. وعلى كل حال، فقد كان غرضي الأساسي تنوير أذهان مَن يدفعهم حب الرحلة إلى سوريا؛ فإلى رحَّالة المستقبل أُسدي هنا بعض النصائح.

إن المسافر الذي يرغب أن يزور سوريا بلهفة وشوق — وإذا تحرينا الصدق قلنا: بأقل ما يستطيع من كراهية — يجب عليه أن يتزوَّد بكل ما هو ضروري، وأن لا يعتمد في شيء على ما يمكن أن تقدمه له هذه البلاد من أسباب الراحة.

ليس في تلك الربوع سوى مطايا تحمل عليها الأشخاص من مكان إلى مكان، وغالبًا ما تكون هذه المطايا هزيلة غير نشيطة. ولما كانت البراذع التركية غير صالحة البتة، فعلى المسافر أن يأخذ سرجًا إفرنجيًّا، ويتزوَّد بثفر وحزام وقرابيس شكت فيها الغدارات القوية.

إن الأسلحة لا تُستعمل إلا نادرًا، غير أنها هي التي تضمن لك السلام والأمان.

إن حقائب الثياب والقبعات والمظلات والأخراج وجميع حوائج المسافر يجب أن تكون مغلفة بمشمَّع، أو مطلاة بمادة دسمة تمنع الخدوش التي يُحدثها العوسج والصخور ذات الشناخيب حين تعلق بها الحمولة لدى اجتياز المعابر الضيقة، كما أنها تَحُول دون البلل في الوقت نفسه.

ولا بد للرحَّالة من سرير نقَّال كي لا يُضطر إلى النوم على التراب، وليتلافى الغبار والرطوبة والقمل والحشرات الأخرى التي يوجد بينها ما يؤذي، لا بل ما هو خطر ومخيف، والأخيرة من هذه الحشرات موجودة في الخرائب والقلاع القديمة، إن ناموسيَّةً مُحكمةً على السرير ليست بالشيء الكافي بالنظر لكثرة البرغش الذي يُرى في بعض الأمكنة.

إن الرداء ذا القلنسوة، والطماقات المصنوعة من نسيج لا تخرقه المياه والوحول؛ هي ضرورية.

وكذلك بعض معدات المطبخ، وأدوات سفرة كاملة، وإبريق صالح لطبخ القهوة على الكحول (السبيرتو) وشمعدان، وعدد لا يحصى من الحاجيات التي تُصطحب حسب ذوق الأشخاص.

أما أنا، فلم أجد وسيلة للسفر خيرًا من أن يصطحب السائح كل ما هو ضروري من الخيمة فنازلًا؛ وعند ذاك لا يُضطر إلى التعريج على القرى، بل يحل بأحسن مكان، وذلك يكون عادةً في حديقةٍ قُرب نبع أو جدول؛ فهناك لا نتعرض لأمراض المساكن القذرة، ونستريح بعض الشيء من تطلعات الفضوليين المتعِبة، كما أننا لا ندفع لأحد شيئًا من المال، ولا نتقيد بأي موجبات، وهكذا يمكننا أن نعيش على هوانا؛ لأن الخادم لا يقوم إلا بما يؤمر به.

ليس في لبنان مطاعم ولا منازل معدة للسياح ولا فنادق، أما الحوانيت التي يُسمِّيها أصحابها مقاهيَ، وهي تحتوي كل شيء — كما يزعم من يديرها — فلا يمكن أن يجد فيها المسافر إلا الزيتون والخبز، والجبن الأبيض أحيانًا. أما المشروبات فيقدم منها العرق، وقلما نجد النبيذ.

وليس لطريقة السياحة في هذه البلدان سعة الطريقة الأوروبية وأساليبها السهلة، مع أنها ضرورية. غير أن الرحلات هنا يقام بها بأكثر لذة، وعلى الأخص خلال ثمانية أشهر في السنة أو تسعة. إنها تُذكِّرنا بالأزمنة البدائية يوم كانت تكثر سعادة البشر وتزداد بقدر ما هم قريبون من الطبيعة؛ فالسعادة أمست تُطلب اليوم من رفيق أنيس، فالرفيق هو أُولى العُدَد التي يحتاج إليها السائح في الشرق ولا يمكنه الاستغناء عنها.

إنني أذكر هذه الأبيات من الشعر لِدي ليل:١
… إن الأشجار تتحدث قليلًا، هذا ما قاله لافونتين
فأود لو أجد واحدًا إلى جانبي لأنقل له ما يوحيه إليَّ الغاب.

إن الفصل الحاديَ والثلاثين (من هذا الكتاب) ينير طريقنا؛ إذ يصف لنا البيوت العربية والرفاهية التي يمكننا أن نعتمد عليها فيها.

وإني أنصح دائمًا المسافر الذي لا يملك خيمة (شادر)، أو ليس في عبِّه كتاب توصية، أن يتوجَّه إلى كاهن المحلة؛ لأن منزله أكثر نظافة من غيره، بل أقل قذارة إذا أردنا الصدق. أما المنفعة من هذا الانتقاء، فهي تَوخِّي دفع المصارفات دائمًا؛ لأن الكاهن لا يمكنه أن يرفض ما يقدَّم له (كحسنة قداس). أما إذا كان غير هذا فالمضايقة واقعة لا محالة.

نصبتُ خيمتي على سطح منزل الكاهن، وهو قائم في الضواحي التي لا يتمتع فيها بأمان كبير.

يجب أن يحذر المسافر آراء أبناء هذا البلد وبعض الفرنجة؛ فهم يحشون — إذا ما استُشيروا — مخيلة السائحين بالمبالغات التي يروونها عن الآثار التي أدهشتهم، وذلك يعود إلى غباوتهم لأنهم لا يُشبِّهون القلاع التي يخلب ألبابَهم منظرُها الرائع إلا بما نراه اليوم من بَنِيَّات، وهي أكثر سماجة من التي نسميها نحن بربرية. إن العرب تدهشهم — بوجه عام — رؤية الأنقاض، وكل قلعة مبنية بحجارة ضخمة تعد بمجرد هذه الضخامة أعجوبة في نظرهم. إنهم يؤكدون أن الناس يعجزون عن إشادة مثلها، ويعزون ذلك العمل إلى الجن.

ويجب عليَّ أن أحيط القارئ علمًا بأني أمتنع عن التدليل على الأخطاء العديدة المنتشرة هنا وهناك في مؤلفات السيَّاح. إن مهمة الناقد لا تغريني البتة، فضلًا عن أني إن فعلت فقد أعرِّض نفسي إلى أن أكون متعِبًا ومملًّا دون أن يكون لي أقل نصيب في أن ألذَّ قارئي؛ فالكثيرون من الذين سبقوني قد نظروا إلى الأشياء التي وصفوها نظرة عَجْلى، أو إنهم وثقوا ثقة عمياء بالأشخاص الذي استقَوْا منهم معلوماتهم؛ وهذان السببان يخلقان لهم عذرًا. ولما كنت أعتبر — ولا شك — أنهم تحدثوا صادقين عن نقاط أخرى، فقد كنت جدَّ مسرور بذكر ما أذاعوا، وقد اهتممت بنقل أقوالهم كما وردت في كتبهم، بدلًا من إيرادها بتعابير أخرى؛ وفي ذلك فخر لي أني تركتها لهم، وضحيت بأنانيتي لأؤيِّد بالشواهد آرائي التي تضمَّنها كتابي هذا. إن هذه الآراء وإن بدت ضعيفة، فهي لا تقل قيمةً عن آرائي أنا الذي عرف البلاد ولابس أهلها. إني أعدها نوعًا من التأكيد الذي يضاف إلى المزاعم المنقولة، ودعامة للفكرة التي سبقني إليها غيري.

وأرى لزامًا عليَّ أن أنبِّه القارئ إلى أن ما يلمسه من فرق بين قِيم النقد ينتج عن تقلبات الأسعار في مختلِف الأوقات، وهذه التقلبات يُحدثها التقلب المتواصل في العملة التركية فتؤدي إلى ارتفاع أسواق النقد الأوروبي؛ ومن ثَمَّ إلى قيمة الأوراق النقدية التي تُدفع بهذه العملة.

كان بوسعي أن أقدِّم للقراء رسومًا ومخطوطات اهتممت بجمعها لأنه توفر لديَّ مستندات جديدة وكاملة، وهي كافية للقيام بتنظيم خريطة لبنان، فعسى أن يُتاح لي فيما بعدُ أن أُبرز إلى الوجود هذه التتمات المختلفة المكملة لمشاهداتي.

هوامش

(١) رجل الحقول، النشيد الثالث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤