الفصل الخامس عشر

صناعة أهالي بيروت – غباوتهم – عدم تشجيعهم تربية التوت للحرير.

***

إن حالة الصناعة في بيروت تتلاءم وعقلية أهليها وحكامها. ويمكنني القول إن الفنون فيها في غاية السذاجة؛ فالأنوال والدواليب والأدوات الأخرى تُصنع جميعها في البلاد وبأسمج شكل يمكن تصوره. ولمَّا كان العرب يجهلون فن تقسية الحديد (سقايته) فإنهم يُضطرون إلى الاستعانة بالمبارد الأوروبية عندما يريدون الحصول على آلات حادة قاطعة.

إنهم بوجهٍ عام غير لبقين، وإذا استخدموا المقاييس والزوايا والزئبق فإنما يكون ذلك الاستعمال سطحيًّا، ولكي يُظهروا للملأ أنهم يحسنون استعمالها. تدلنا على ذلك أعمالهم غير الدقيقة لأنهم لم يتوصلوا — حتى الآن — إلى عمل زوايا مستقيمة، وخطوط عمودية، وسطوح متساوية، واتساعات متعادلة دقيقة الصنع، فقلما تجد في بيروت بابًا أو نافذة يقومان قيامًا مستقيمًا على قاعدتهما.

وعندما يُلام العرب على تقصيرهم في أصول فنونهم يجيبون: «وما تأثير ذلك؟ إنا لسنا مثلكم عبيد هذه الاعتبارات، ولا نعلق أيَّ أهمية على هذا التناسب الهندسي. أفلا تكون النتيجة هي إياها؟ سواءٌ أكان الشيء يميل إلى الشمال أكثر منه إلى اليمين، أو أنه أكثر علوًّا أو أقل وطوًّا؟»

إنَّ حفا الأرجل ينفع العمال كثيرًا، ويساعدهم جدًّا، فبالإبهام يوقفون خيوط الفتيلة (الشلة) التي يبرمونها، وبها يستعينون على حل الحرير، ويلتقطون ما يسقط من أيديهم على الأرض دون أن ينحنوا. وطاولات النجارين ومقاعدهم هي أقدامهم وليس غيرها.

وهنا بوجهٍ خاص يصح قول مثلنا: يصير الرجل حدادًا بممارسة الحدادة؛ لأن الحِرَف تُتعلَّم هنا بالتقليد والممارسة؛ فكل عامل منهم لا يعرف أصولًا لعمله، ولكنه تعلمها بصورة تقليدية، وهو يُعلِّمها سواه بالصورة نفسها. فأصحاب المهن الذين نجدهم في هذه البلاد قد خُصوا بمواهب ممتازة لفتت أنظار الإفرنسيين ففضلوهم على غيرهم واستخدموهم.

إننا نجد في المشرق عددًا من العمال الذين برزوا إلى هذا العالم حائزين على أهلية فريدة، لا بل على عبقرية غريبة، فبرزوا في فنٍّ من الفنون كما يبرز ويتفوق رجال السياسة العظام في أوروبا،١ إلا أنهم لا يُخلِّفون أثرًا بعدهم، أو يبنون شيئًا؛ وهكذا يطويهم الموت ويطوي معهم التقدُّم الذي أحدثوه في مِهنهم. إن ظهور هؤلاء العمال الموهوبين لهو أشبه بوميض البرق، ووجودهم في الأساكل يُعدُّ حدثًا خطيرًا، فيشعر الناس عند موتهم أن فراغًا حدث، وهيهات أن يسدَّ غيرهم ما سدُّوا!

والبَوْن الذي يُرى بين الرجال الذين وُهبوا بعض النبوغ، وبين زملائهم الآخرين في الفنون نفسها، هو في الواقع شاسع جدًّا. إلا أن العلوم هنا نادرة الوجود، وهي لا تُعضد ولا تُشجع؛ فالسلطات الأوروبية التي تشجع الاكتشافات وتحمي المخترعين لا تحرك ساكنًا في هذه البلدان، مع أن عمالًا أذكياء يُبدعون أشياء جديرة بالانتباه. إنهم يكتفون باستخدامهم، وفي أكثر الأحيان يسخرونهم ولا يدفعون لهم أجرًا. والعامل الماهر المتفوق في سوريا نكرة فقير لا يترك شيئًا بعده.

نجد في بيروت عددًا وافرًا من حاكة الزنانير الحريرية التي تُلف حول الخصر أو يُعصب بها الرأس (يريد الكوفية)، وعددًا آخر لا يقل عنه من صانعي الصناديق. إن صناديق هذه المدينة ذات اللون الأحمر والأخضر قد حازت شهرة واسعة في جميع أنحاء سوريا ومصر حتى استوردت منها كميات ضخمة؛ إذ لا بد لكل عروس في هذه الديار من أن تتزود بصندوق مرصَّع بمسامير مذهبة الرأس.

وهنالك صنف آخر ثمين تُخرجه مصانع بيروت يسمى «الكلفا» kalva، وهذا أيضًا يُعد من الجهاز الذي تصطحبه العروس، وهو عبارة عن عجين يُصنع من عصارة مسحوق جذور الكلفا (؟) والخروب الممزوج بالسيرج.

أنشئ في بيروت — يوم كنتُ فيها — فرع لمصانع مناديل حلب التي اشتُهرت بجودتها وجمالها في جميع أنحاء سوريا؛ فكل ما كانت تُخرجه هذه المعامل لم يكن يوازي الكمية المستهلكة. والفضل في هذا الاختراع المشهور يعود إلى أحد أولئك العباقرة الذين يظهرون في الأمة العربية من وقت إلى آخر. لقد عرف الشرق قديمًا هذا الضرب من الصناعة. إلا أنه جدد فيه بعد أن أدخل عليه تحسينات ذات شأن، فهذه المناديل كانت تُصنع فيما مضى بإنكلترا وحدها، وكانت من شاش غليظ جدًّا، أما علامتها الفارقة اليوم فطابع مستدير، أحمر اللون، يمثل كفَّ أسد، وهذا الرمز وحده يثير خيال العرب السريع الانفعال؛ ولهذا أقبل الناس على هذه المناديل رجالًا ونساءً، تُصنع هذه الدمغة من الشمع، وبالطريقة نفسها تُحوَّل إلى لون أزرق دون أن يفسد اللون الأصلي؛ ومن ثَمَّ يأتي الكشكش الغليظ — وهو أحمر أيضًا — فيحيط بهذه القطعة المربعة الحجم. في هذا وحده ينحصر فن هذه المناديل (الحطَّة) التي يفضلها عرب الصحراء وأبناء الجبل على كل المنتوجات من بنات جنسها. إنهم يريدون جميعًا التلثم بكف الأسد، فكأنهم يتفاءلون بأنها تُولِّد فيهم بعض صفات الأسد الذي هو أكثر الحيوانات عتوًّا وشجاعة وقوة.

ومدينة بيروت مشهورة أيضًا بأباريقها. أما المنزلة الأولى في عمل الأباريق فهي لبغداد، ثم لمصر. ولكن لأباريق بيروت المصنوعة من الفخار خاصة تبريد المياه لأنها كثيرة المسام التي ينفذ منها الهواء.

إن أهم عمل يتعاطاه أهالي بيروت ولبنان هو زراعة شجر التوت الأبيض الذي يُربَّى على ورقه دود الحرير. إن تربية دود الحرير هي العمل الذي يتعاطاه جميع الأهالي؛ لأنها تهم بوقتٍ واحدٍ الرأسماليين وأصحاب الصناعة؛ فالذين لا يستعينون بغيرهم على حراثة التوت وتربية دودة القز يتعهدونهما هم بأنفسهم، ولا تقتضيانهم الانقطاع عن أعمالهم ومِهَنهم إلا شهرين ثلاثة.

يظهر أن تربة بيروت الرملية توافق شجر التوت، وهذا لا يعني أن هذه الأرض الأقل جفافًا تلائم هذه الأشجار لأننا نجدها أكبر حجمًا وأنضر ورقًا في الأماكن التي تُسقى فيها.

إن العرب لم يستطيعوا حتى اليوم — نظرًا لافتقارهم إلى الأدوات — أن يخترعوا دواليب (فرَّاش) تستطيع سحب المياه إلى علو مترين أو خمسة أمتار؛ ولذلك نراهم مضطرين دائمًا إلى غرس هذه الأشجار في أماكن منحدرة كي يحفظوا لها بعض المناعة؛ لأن المنحدرات تكون دائمًا أكثر طراوة ورطوبة. إن أغضان هذه الأشجار تُجمُّ في نهاية كل ربيع لتنبت من جديد، والدفعة الثانية من أوراق التوت تُنتزع في فصل الخريف فتكون علفًا للبقر والمِعْزَى، ولا سيما الخروف صاحب الألية الضخمة (المور) الذي تَعلف كلُّ عائلة رأسًا منه ليكون مئونتها في أثناء الشتاء، فيُذوَّب الشحم ثم يُقلى به اللحم؛ وهكذا يُحفظ عدة شهور.

وشجرة التوت تعيش أكثر من مائة عام إذا حُرثت وسُمِّدت. وإذا لم يُعتنَ بها فإن عمرها لا يتحاوز خمسة وعشرين عامًا. إن دودة بيضاء يبلغ طولها الستة أو السبعة سنتيمترات مسلحة بثنيتين تفتك بأشجار التوت وتنخر جذوعها. إن الشجرة تهلك إذا لم تُساعَد على الإفلات من عدوها. وبعد القضاء على هذه الدودة يجب أن تغطَّى جذور الشجر ببعر المِعْزَى.

إن خشب التوت الذي تنتشر فيه عروق عريضة حلوة الاصفرار مرغوب فيه من النجارين، وكثيرًا ما يلتمسونه ليجعلوا منه مصنوعاتهم كأقفال الأبواب والمسارج وقضبان النوافذ وغيرها. وطمعًا بريع هذه الشجرة الكثير يقتلع الفلاح جميع الأشجار حتى المثمرة التي تنبت على مقربة منها؛ إذ يخشى أن تقاسمها عصارة التربة المغذية، فهو يريد أن تكون لها وحدها.

إن أوقية البزر — وهي عبارة عن ثلاثة عشر درهمًا — تغلُّ عادة أربع أو خمس ربطات حرير يراوح وزنها بين عشرة كيلوغرامات واثني عشر كيلوغرامًا. واستغلال مثل هذه الكمية يتطلب عمل شخصين واعتناءهما. وقد أنتجت خمس أوقيات بزر — عام ١٨٢٨ — ثلاثًا وثلاثين ربطة؛ أي اثنين وثمانين كيلوغرامًا من الحرير. وهذا إقبال نادر.

إن أجمل الحرير الأبيض هو حرير الضواحي التي تبعد فرسخين عن المدينة، ويُسمَّى بالحرير البلدي. وهذا يُصدَّر كله إلى الخارج.

أما الحرير الأصفر الذي يُعتبر من أحسن الأجناس، فهو حرير كسروان والدامور. وهذه الأخيرة تقع في منتصف الطريق بين بيروت وصيدا. يُستعمل هذا الحرير في مصانع أنسجة مدن سوريا التي توليه الأسبقية نظرًا لجمال لونه. إنه يُكسب النسيج لمعانًا وتموُّجات حين ينعكس عليه النور؛ وهذا ما يقدره ويرغب فيه ذوو الذوق السليم.

وهنالك اختلاف بعيد بين الطريقة السورية والطريقة الأوروبية في استخراج الحرير، وهذا ما يحرم السوريين من المنفعة التي كانوا يستطيعون اجتناءها.

إن الفيالج (الشرانق) تلقى بلا نظام في مرجل (خلقين)؛ أي إنها لا تُنقَّى قبل ذلك. والخيوط التي توضع بدون تمييز على دواليب الحلالة، تسحب بعد أن يقطعها، على التوالي؛ دولابٌ تقارب دائرة إطاره ثلاثة أمتار، وبعد أن يلقيَ الناظر قضيبه ثانية في الخلقين — على أثر تحريكه الشرانق — ينتزعه، فإذا به قد علق عليه مقدار كبير من القش جمعتْه يد القدر؛ وهذا ما يجعل الخيوط ضخمة وغير متساوية الطول.

أُتيحت لأرباب هذه الصناعة عدة ظروف أدركوا فيها أنه يمكنهم أن يحسِّنوا عملهم؛ رأَوْا بأعينهم — بادئ ذي بَدء — نماذج من شرانقهم المحلولة في فرنسا، ثم أُجريت هذه التجارب وأُكملت على مرأًى منهم في مصنعين فرنسيين أُسِّسا في بيروت والضواحي. إلا أن تأثير العادة كان مستحكمًا في نفوس هذه الشعوب، حتى إنها كانت تفضل مساوئ ما اعتادته على اتباع طريقة مضمون نجاحها. أما أسباب ذلك فتعود إلى عدم مبالاتهم، وقلة تفكيرهم، وكرههم للتجديد.

هوامش

(١) أعتقد أنني أخذت فكرتي هذه عن آراء لامرتين الصائبة حين قال: إننا نخطئ عندما نجعل المقارنة بين الشرق والغرب أساسًا لتفكيرنا. فعندما يظهر رجل خطير في الغرب، يكون دائمًا — وإلى حدٍّ ما — عنوان الأمة التي يحكمها؛ فهناك رابطة تقوم بينه وبين عصره، فبقدر ما يقوى ينشئ، وبقدر ما يخلق يوطد، وبكلمة وجيزة أنه يعمل شيئًا يبقى بعده. أما في الشرق حيث لا ثقافات ولا علوم ولا أنظمة سياسية، بل هنالك سيد وعبيد؛ فالرجل الخطير ليس إلا كائنًا كبيرًا، أو حادثًا أو شهابًا يلمع هنيهة في ظلمات بربرية مستقرة، يأتي أعمالًا كبيرة في هذه الآلاف من الأذرع التي يتصرف بها، ولكنه لا يرفع أبدًا مستوى أمته لتصل إليه، ولا يبني شيئًا: لا دولة قوية، ولا ثقافة، ولا تشريعًا، حتى إنه يمكننا القول — إذا لم نخشَ هنا استعمال تعبير شعري — إن عبقريته تُطوى بعده كما تُطوى خيمته، تاركًا المكان خاليًا خاويًا مقفرًا كما كان قبله. هذا هو فعلًا الدليل الذي ينبئكم كيف أن الأساليب العربية في الحياة ليست سوى خرافة براقة تخدع جميع مُشايعيها (من خطبة أُلقيت على منبر مجلس النواب).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤