الفصل السابع عشر

تفريق بين القناصل ونواب القناصل والوكلاء – المساوئ التي نتجت في سوريا من جراء تعيين – بعض «الرؤساء» في هذه المراكز.

***

اعتاد الناس ألا يميزوا بين الدرجات القنصلية؛ فيطلقون اسم القنصل على نائبه وعلى وكيله. فالملاك القنصلي الفرنسي مؤلف من درجتين؛ أولى وثانية، ومن نواب قناصل ووكلاء. وهؤلاء كلهم يعيَّنون من المواطنين، ولا يكونون من «الرؤساء» الأجانب إلا عند الافتقار إلى فرنسيين، ولدواعٍ هامة. والملك هو الذي ينتقي جميع قناصلنا ويصرف لهم رواتبهم. أما النواب والوكلاء فقد تُرك حق اختيارهم للقناصل ليستطيعوا توجيههم في الطريق الأمثل والأجدى نفعًا، ويكسبوا احترامهم. ولمَّا كان هؤلاء القناصل يعرفون ما عليهم وما لهم نحو رعايا الدولة التي يخدمونها والبلاد التي يقيمون فيها، فإنه يسهل عليهم أن يُسدُوا إلى نوابهم ووكلائهم النصائح الملائمة عندما يتجاوزون حدود النظام، أو يخالفون التقاليد المتبعة في البلاد.

ليس بين الدول الأجنبية دولة تعيِّن حكومتها القناصل سوى إنكلترا وسردينيا، أما الدول الأخرى فتكل هذه المهمة إلى السفراء الذين قلَّما يجدون بين رعاياهم أكْفاءً لهذه المناصب.

إن أنظمتنا تحظر على الإفرنسيين قبول أية مهمة قنصلية من حاكم أجنبي أو من ممثليه. وهذا المنع هو في منتهى الحكمة، وبه يسود الامتثال التام بين مواطنينا، ولكن هذا المنع لا يتعارض مع حماية رعايا الدول التي لا قنصل لها عند الضرورة. إن نظامنا يوصي بهذه الحماية التي اشتُهرت بها فرنسا، وكان لها دائمًا فضل حماية الأشخاص الذين التَجئوا إلى موظفيها أينما وُجدوا. قد تكلف هذه الحماية كثيرًا من يقوم بها، وهي دائمًا بلا عوض بالنظر للمحميِّ، ولكنها مجد وطني لا يقدِّر شرفه إلا من يذهب إلى الشرق ويقف بنفسه تجاه الشدائد وجهًا لوجه. ولو كانت الثقة متبادَلة بين الدول لألغت عددًا ضخمًا من المراكز القنصلية التي تحط من كرامة دولة أنشأتها لتعزيز مركزها، وتضر بها أكثر مما تنفعها. إن ذلك يكون متى أيدت جميع الدول طريقتنا الحازمة في تنظيم مهامها القنصلية.

وعندئذٍ لا نبقي في جميع الأساكل إلا قناصل مواطنين. وحيث لا يمكن إيفاد أحد منهم، فالذين يقيمون هناك يحصلون على مساعدة التجار والربابنة والسائحين الأجانب؛ وهكذا تصبح الخدمات متبادَلة. فهنا — مثلًا — يوكل أمر الحماية إلى قناصل فرنسا والنمسا، وهناك تتعهده قناصل إنكلترا وروسيا وسردينيا وبروسيا … إلخ.

إن محمد علي — بعد أن أجاز إسناد هذه المهمة إلى «الرؤساء» — لم يعد يُرى شيء في الأساكل أكثر ابتذالًا من مراكز الوكلاء. إنه لم تبقَ إسكلة معروفة بعض الشيء، لا تزينها على الأقل نصف دزينة من الصواري المرفوعة عليها الأعلام؛ وهكذا كثر عدد الذين لا يصلحون لهذه الوظيفة؛ فأصبح بعض القناصل ينظرون إلى ما تدرُّ لهم الإجازات الممنوحة من أرباح، أكثر مما ينظرون إلى أهلية ملتمسيها وأخلاقهم.

إن أجمل أحلام العربي هو أن يكون قنصلًا؛ فليس غريبًا أن نراه يحشد جميع ما يملك من قوًى ووسائلَ للحصول على هذا المركز؛ ولذلك يُعذر المصريون على جعْلهم «الرؤساء» قناصل. والسلطنة العثمانية التي أبت دائمًا أن تعترف برعاياها المتخذين صفة أجنبية، أخذت تميل إلى التغاضي عن هذه البدعة لتثبت أنها أصبحت تعطف على «الرؤساء».

لا مُشاحَّة في أن هنالك أناسًا من العرب الألباء لم ينشدوا في مراكز وكلاء القناصل إلا ملجأً منيعًا يحتمون به من تعسفات السلطات المحلية. إلا أن كثيرًا منهم — ويا للأسف! — يَعدون إجازتهم هذه براءة تقيهم العقوبة؛ فلا يخشون شيئًا بعدما يحصلون عليها. والقناصل الذين منحوهم هذه الوظيفة مرتشون يحمون ظهورهم حين يسيئون العمل. إن أمثال هؤلاء يبصقون في حوض الجهاز القنصلي كلما لاحت لهم منفعة حقيقية أو وهمية يجنونها عن طريق الوساطة أو الرشوة. ومثل هذا الاتجار يؤدي إلى أسوأ العواقب التي تحط من كرامتنا ومصالحنا العامة.

ويجدر بنا أن نقرر هنا بأنه لا يليق ﺑ «الرئيس» مطلقًا أن يقف من السلطة التركية موقفَ أوروبيٍّ بسيط، فإذا كان أمثال هؤلاء الموظفين المفتقرين إلى مواهب لا يُغني عنها النفوذ الشخصي، لا يستطيعون إثبات وجودهم؛ لأنه ليس بإمكانهم المحافظة على الكرامة أو القيام بالتكاليف الثقيلة التي تتطلبها صفات القنصل الممنوحة لهم منحًا، فكيف يمكنهم التوفيق بينها وبين انغماسهم في تجارتهم أو تعاطيهم مهنة ليعيشوا منها؟

ولسنا نزعم فيما قلنا أنهم لم يأبهوا للصفة القنصلية التي اكتسبوها؛ فالحق يقال، إنهم أفرطوا في تقدير قيمتها حتى تجاوزوا حدود الخُيَلاء والعظمة، وأحبوا كثيرًا الفخفخة التي لا قيمة لها.

فالأنانية المفرطة التي يتصف بها هؤلاء القناصل الذين عيَّنهم قناصل آخرون استمد الأكثرون منهم سلطتهم من سفراء القسطنطينية؛ تذكِّرني — ولا شك — بالفكرة التي ختمتُ بها فصلي السابق. فبينما يجعل هؤلاء الموظفون أكبر أهمية لأنفسهم نرى أنفسنا — نحن الذين نمثل حكومتنا لا سفراءها — خفراء دُفع بهم إلى مكان قصيٍّ خطر، ثم لا نستغرب هذا الضرب من النسيان الذي تُقابلنا به دولتنا.

فهل يُظن أني أحقر مهمتي ولا أتعمد إلا المبالغات؟ إني لم أكتب سطرًا واحدًا في هذا الكتاب إلا بعدما أشبعت موضوعه درسًا ليكون صحيحًا كل الصحة.

لا أنكر أن بين قناصلنا في تركيا رجالًا أكفاءً يَملَئُون كراسيهم وينعمون باحترام فائق. وقد يكون مقام هؤلاء هو الذي جعل السائحين الجدد منا يتخيلون قنصليات المشرق أَسرَّة حرير أو مناصب كهنوتية.

فأنا الذي يقلقني مصير أبناء وطني أرى لزامًا عليَّ أن أقول للذين يُفتشون عن مركز يشغلونه في تركيا، على أمل أن ينعموا بالمسرَّات التي وعدهم بها المؤلفون الذين قرءوهم، أن لا يتسنموا مراكزهم إلا إذا كان لهم حامٍ يستطيع دعمهم إذا ما تزعزع منصبهم الصعب وظهر إخفاقهم.

إن الإكثار — دون اتباع قاعدة أو اجتناء نفع ملموس — من القناصل والموظفين الذين يلتمسون هذه المناصب طمعًا بالمنفعة الخاصة؛ كان السببَ في وقوع مشاكل متواصلة، ودعاوى مريبة، سبَّبها الحسد وغَيرة بعضهم من بعض، وشد ما تضايق قناصل فرنسا من هذه الحالة؛ لأن مفوضيهم انغمسوا بعض الأحيان في هذه المشاكل، فاضطروهم إلى اتخاذ أقسى التدابير كي لا تسوء سمعتهم؛ إذ يصعب التوصل إلى نَيل حقٍّ من محاكم القناصل الأجنبية.

وإذا كان لقب قنصل أسمى ما يطمح إليه الشرقيون في الشهرة، فكثيرون من الأوروبيين يَنشدونه أملًا بالاستفادة والمنفعة الخاصة؛ إلا أن هذه الوظيفة ليست عند الجميع ستارًا للدسائس الدنيئة والاتِّجار البشع. وقد عرفتُ عددًا كبيرًا من القناصل ووكلاء القناصل الإفرنسيين جد شرفاء، سواءٌ أكان ذلك بالنظر إلى صفاتهم الشخصية أم بالنظر إلى ممارستهم عملهم الرسمي.

وهنالك أيضًا فئة من الناس لم يطمحوا إلى هذا المنصب إلا تهرُّبًا من متاعب قنصلهم، وأول فائدة يجنونها تكون في وضع الوكيل تحت تصرفهم المطلق، ومنحه صلاحية تسهيل أعمالهم وقضاء حاجاتهم مع السلطات المحلية.

طُلب منِّي — في أثناء قيامي الطويل بالمهمة الموكولة إليَّ في الشرق — قضاء حاجات من هذا النوع لقاء قبضي مبلغًا كبيرًا من المال، بحجة أن وكالة إحدى الدول الأكثر نفوذًا في هذا البلد، هي تقبض بدورها أيضًا. ولمَّا كان التلميح من خصائصنا، فقد أحببت أنْ أجيب أنَّ قوانيننا تحظر علينا تعيين «الرؤساء» وتحرِّم على الإفرنسيين قبول مناصب أجنبية.

إلا أن بعض الإجراءات المخالفة للأنظمة شجَّع فريقًا من المواطنين على تجديد محاولاتهم. ولما أحببت أن أعرف لأي سبب يحاولون اكتساب صفة تمنعها قوانيننا، كما أن الدولة التي يراد تمثيلها ليس لديها في الإسكلة المذكورة بيوت تجارية ولا ملاحة، أجبت إذ ذاك بأنها مفخرة فقط، فاكتفيت بالقول: «إن الصفة الإفرنسية هي مشرِّفة في نظري أكثر من جميع الألقاب الأجنبية التي يمكن منحها، وإني لَأحمرُّ خجلًا إذا فكرت في نقيض ذلك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤