الفصل الحادي والعشرون

تجارة دمشق – الحجج المؤيدة للمؤسسات التي تنشأ في هذه البلاد.

***

«إني أقيم في دمشق منذ اثنتي عشرة سنة، هذا ما كتبه السيد شابوسو.١ إن هذه المدينة تقع في وسط سوريا، وهي كما نعلم عاصمتها. وبوصفي طبيبًا ونظرًا للعلاقات التجارية التي ربطتني بالإفرنسيين ومواطني في هذه النواحي على اختلافها؛ توصلتُ إلى معرفة هذا البلد معرفة جيدة؛ عرفت منتوجاته وأعمال تجارته وشعبه وأخلاق أهليه، وأخيرًا المنافع التي يمكن فرنسا أن تجنيَها؛ فدمشق تستورد الأقمشة والطرابيش والقرمز والنيل والسكر والبهار والورق والحديد وما أشبه، وكلها تُباع بأسعار مرتفعة، ويمكنها أن تورد المواد التي لا يُستغنى عنها كالحبوب والزيت والحرير والقطن التي يزخر بها هذا البلد الخصب.

نستطيع القول إن كل شيء في هذه المنطقة — حتى صحراؤها — يكاد يكون مادة تصلح للتجارة. فمن تلك البقعة المترامية الأطراف نحصل على أصواف من نوع ممتاز، وفيها نجد الكثير من الأملاح والعروق الحمراء، وكل هذه يُحتاج إليها في عمل الصابون والصباغ. وهناك اكتشافات هامة يستطيع أن يقوم بها تاجر دقيق الملاحظة. إن تجارة الشرق — بوجهٍ عام — لا تُدرُّ كسبًا إلا مما تستورده من بضائع. أما أعمال التصدير فإنها — أينما كانت — تكلف الشيء الكثير. إن سوريا وحدها يمكنها أن توفِّق دائمًا — على الأقل — بين هاتين المنفعتين.

إن الفائدة التي يمكن تجارتنا أن تجنيَها في سوريا مسلَّم بها بصورة لا تقبل الجدل. فما عليَّ إلا أن أتكلم عن الوسائل الآيلة لتحسينها. فإذا ما سمحت الظروف للفرنسيين بأن يُنشئوا في دمشق مؤسسات تجارية، فبوسعي التأكيد أنها ستكون الأكثر مغنمًا في الشرق. إن هذه المدينة هي — بلا منازع، إذا استثنينا إستانبول والقاهرة — أهم مدن هذه السلطنة الشاسعة. إن مركزها الموافق، وعدد سكانها الضخم، وذكاء أهليها المتجه بكليته إلى التجارة، وتهافُت الأجانب عليها في جميع الأوقات، وعلى الأخص على أثر عودة القوافل الكبيرة من بغداد ومكة، ووفرة بضائعها المشتملة على جميع الأصناف؛ إن كل ذلك يبشِّر بازدهار تام.

لست أنكر أن هذا المشروع تعترضه لأول وهلة صعوبات جمة. بَيْدَ أني أجرؤ على التأكيد أنه ليس مستحيلًا. لاحظت أن الباب العاليَ يرفض بكراهية متناهية منح الأجانب حق إنشاء مؤسسات تجارية جديدة. إني أعلم أن كل تجديد يستلزم نفقات باهظة، كما أني عرفت أكثر من سواي أخلاق أهالي دمشق؛ فهم بوجهٍ عام مداجون، جسورون، متعصبون، إلا أنهم في حقيقة أمرهم مرنون هلعون، وهم يتمدنون يومًا بعد يوم، أما فيما يتعلق بالصعوبات التي تنتج عن الباب العالي فعلى فرنسا — إذا شاءت — أن تقوم بتذليلها.

ولولا أني لم أشاهد بنفسي — خلال سنوات — تلاقيَ الحجاج الذي يجتمعون هنا للذهاب إلى مكة، لأن دمشق هي ملتقى جميع مسلمي أوروبا وآسيا، ما عدا مسلمي أفريقيا الذين يذهبون إلى القاهرة؛ لكنت شعرتُ بصعوبة كبيرة في تصديق ذلك. وقد قفز عددهم في بعض السنوات إلى ما يقارب الأربعين ألفًا.

إن أسواق دمشق في أثناء إقامة الحجاج فيها — وهذه الإقامة تكون عادةً حوالي شهر واحد في ذهابهم وعند إيابهم — تشبه أسواق ليبسيك، وفرانكفورت وبوكير إلخ … إلخ. إننا نجد فيها جميع المواد والأدوات التي يمكن أن تقدمها تجارة واسعة جدًّا. إن الجميع يعرفون غاية المسلم من هذه الرحلة الدينية؛ إنها عبادة وتجارة، فقلما نجد حاجًّا واحدًا لا يتعاطى هذه الأعمال، كلٌّ يعمل جهده. وإننا نفهم — دون أن نقيم الأدلة على ذلك هنا — أن هذه الفرص المؤاتية فريدة في نوعها للتاجر الغني برأس ماله.

إن الحاج الذي يذهب إلى مكة لا يُحجم عن التزوُّد بالحاجيات الهامة التي يمكنه بيعها ليسد بها نفقات رحلته. ولدى ذهاب القافلة نجد ما لا يقل عن ألفَي جمل تحمل بضائع لتُباع أو ليُقايَض بها. وإذا ما عادت القافلة فإنها تأتينا بالبن العدني، والسنا، والصموغ، والأبازير، والأنسجة، والأواني الصينية، وعيدان الند، والعنبر، وكل منتوجات البحر الجنوبي التي تُعرض آنذاك بكثرةٍ في مكة واردةً إليها عن طريق البحر الأحمر. كنا نستقبل كل عام من بغداد قافلتين أو ثلاث قوافل كبيرة يراوح عدد الصغيرة منها بين ألف وألف ومائتي جمل. كانت تنقل من الجزيرة البارود الأبيض، والغدد النباتية، وجلد المِعْزَى، والقطن المغزول المصبوغ جيدًا بالقرمز، وأقمشة بغداد وضواحيها.

وتأتينا هذه القوافل أيضًا من بلاد العجم بجلود الخرفان والسجاجيد على اختلاف أنواعها، والكوفيات وبكل المنتوجات الجميلة التي تُنتجها بكثرة هذه المملكة الشاسعة الأطراف.

وهذه القوافل نفسها تحمل إلينا أيضًا منتوجات البنغال وشواطئ كورماندل ومالايار منقولة إلى البصرة وبغداد عن طريق خليج فارس. إن أهم المنتوجات التي تأتينا من هذه البلدان الغنية هي: الحرائر الجميلة، والقطن المغزول الناعم، والشاش على اختلاف أصنافه، والكرمسوت الزاهي، والكوفيات الفاخرة، والأواني الصينية المدهشة التي تفد من الصين واليابان، والجواهر، والحجارة الكريمة، وأخيرًا كل مادة تتجر بها الهند.

وبعد هذا العرض الذي لا مُشاحَّة في صحته نرى بدون أي مشقة أن دمشق يجب أن تُعتبَر كأنها مخزن عام للتجارة (عنبر)، لا بل أكثر مخازن العالم غِنًى. فإذا كانت لنا مؤسسات مبنية على أساسٍ متين تستطيع أن تجنيَ أرباحًا ضخمة.

وإحدى المنافع التي لا ننتبه إليها عادة هي أن التاجر المقيم في هذا البلد لا تسري إليه عدوى الترف والقيام بنفقات باهظة كانت سبب انهيار عدة محلات في إستانبول وأزمير وحلب وعدة أماكن أخرى. فكل شيء في دمشق بسيط غير مركَّب، والفخفخة لم تدخل إليها بعد. إن أهليها غرباء عن البذل الطائش، ولا يعرفون لذةً غير لذة العمل والتنزُّه والاجتماعات الشريفة؛ فالقمار والملاهي والرقص والمآدب الفخمة والسهرات متَّهَمة جميعها عندهم بأنها منافية للحشمة؛ هذا إن لم ينظروا إليها كأعمال أثيمة.

إن أهم المصاعب التي تُلاقيها بعض المؤسسات الفرنسية تنتج عن منافسة خمسة أو ستة بيوت تجارية لها. ولما كانت جميع الوسائل متوافرة لديها بمقدار كبير فلم تكن تتأخر عن استعمالها. ومن المحتمل أنها كانت تجد لمناهضتنا مبررًا دينيًّا، وأي إنسان لا تسيره عصبيته وأنانيته نحو الغاية التي يرمي إليها؟! فهنالك طريقتان للحد من هذه المنافسة المؤذية: خط شريف (فرمان) يردُّ هذا الكيد، أو حاكم حازم ينتصر لمؤسساتنا ويحميها.

إننا لا نضام إلا في هذه المضاربة التجارية، أما فيما عدا ذلك فقلما نجد بلدًا من بلدان تركيا يستطيع الفرنسي أن يتمتع فيه بحرية حقيقية كما في دمشق. إنني أعني الحرية في مختلِف وجوهها؛ فبقطع النظر عن ممارسة الديانة بصورة علنية، والتي يُقام برتبتها في كنائسنا كما يُحتفل بها جهارًا في القسطنطينية، نرى آباء الأرض المقدسة والكبوشيين الذين يحافظون — كما حافظوا أينما كانوا — على لباس جمعياتهم، يتنقلون كل يوم في مختلِف الأحياء دون أن يزعجهم شخصٌ ما.

إنهم يتنزهون ويذهبون إلى الحدائق آخذين معهم زادهم، حتى إن كل عائلة، لا بل كل شخص يمكنه أن يعمل مثلهم دون أن يرى عيبًا في ذلك. ولست أذكر أن إفرنسيًّا ما، سواءٌ أكان عابر سبيل أو مقيمًا، وُجهت إليه إهانة مهما تكن ضئيلة. إن الشبيبة في تركيا هي — كما نعلم — على جانب كبير من القحة. أما في دمشق فأؤكد أنها ذات أخلاق دمثة، توحي ارتياحًا تامًّا. إننا نجد هنا أصولًا للياقة، ويعتبر مغفلًا أو عديم الفطنة كل من لا يتقيد بها.

إننا مدينون — ولا شك — بقسم كبير من هذه الراحة إلى اهتمام قوى الأمن الواعية؛ فالحالة ليست كذلك في جميع أنحاء الشرق. إن الجزَّار هو نسيج وحده في هذا المضمار، ولو لم يكن حكمه أكثر الأحكام ظلمًا وقساوة وبربرية، لكان بوسعنا أن يهنئ بعضنا البعض الآخر لإقامتنا في أسعد نقطة من أراضي المملكة العثمانية الواسعة.»

لن أدل القارئ على ما في هذه الرسالة من مبالغة، ولكنني أَلفت نظره إلى أن موقع دمشق التجاري فَقَدَ كثيرًا من أهميته حينما ترددت التجارة بين اتِّباع طريق رأس الرجاء الصالح وطريق تريبزوند.

هوامش

(١) إن هذه الرسالة مقتطَفة من بيان وجَّهه السيد شابوسو إلى سفارة فرنسا في القسطنطينية، وقد بعث إلى والدي — القنصل في طرابلس عام ١٨٠٤ — نسخة عنه. كادت العلاقات التجارية أن تستأنف مع تركيا، وكلٌّ — كما يقال — يبشر بكنيسته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤