الفصل الثاني والعشرون

آثار بيروت وضواحيها – منبع نهر بيروت – أطلال بعل مرقد (دير القلعة).

***

قلت في الفصل الأول إن اسم بيروت مأخوذ من اسم بروتس المشتق من بروا التي قامت بتشييدها عندما اختار أوجيكاس — زوجها الملكي — هذا المكان من شاطئ سوريا ليرتاح فيه بعد غزواته العديدة؛ وبِناءً على ذلك تكون هذه المدينة — بلا ريب — أُولى مدن العالم، ويعود تاريخ تخطيطها إلى أقدم القرون. ومهما يكن من أمر فلا يمكن أن يعود تاريخها الأول إلى ما قبل عام ١٧٤٨.

قال أريستيب دي سيران في تاريخه عن ليبيا: إن أوجيكاس بعد أن استراح في هذه البلاد الجميلة من متاعب كثيرة سُمي «نوى» Noas التي تعني في لغة البحار الغفوة والراحة.١
وهذا المعنى الذي يتوافق أيضًا واللغة العربية حدا بي إلى التفتيش عن مشابهات أخرى بين هاتين اللغتين. ولقد وجدت — في القليل مما تمكنت من مراجعته — الكلمات التالية:
الفينيقية العربية
قدموس قديم، قديمون
تيابا طيب، طيبة
غديروس غديري
هورام حَرَم
داب دابَّة
لاهام لحم
ديران درى، يدري
لابان لُبَان

وينبئنا الكُتَّاب الأقدمون أن الفينيقيين قد أتَوْا إلى شواطئ سوريا من خليج فارس وبحر القلزم. فإذا كان هذا الشعب هو الذي اخترع الحروف الأبجدية وعلَّمها الإغريق، فمن الطبيعي أن نعتقد أنه علَّمها، أولًا، أهالي سوريا الذين استقر عندهم.

إن قدموس، كما رأى بلين،٢ هو الذي حمل الأبجدية الفينيقية إلى اليونان. كانت ستة عشر حرفًا، فأضاف إليها «بالاميد» أربعة تؤلف الألفباء اليونانية الحالية.

وهكذا، فإذا حذفتُ الحروف التي تتشابه في اللفظ مثل: ت، ط، ض، ظ، س، ص، ز، ذ، والتي تجعل عدد الحروف العربية ٢٨ حرفًا، أكون قد أعدتها إلى العدد نفسه الذي هي عليه ألفباء اليونان. وإذا شئنا أن نعيدها إلى الفينيقية فيجب حذف العين والغين والهاء والكاف والشين؛ هذه الحروف التي دعت الضرورة إلى اختراعها، واختراع الثمانية الأخرى المذكورة سابقًا لتكسب اللغة العربية طلاوة.

يقول السيد كور دي كابلين:٣ «إن التلفظ بالكلمات كان نتيجة طبيعية لتركيب الجهاز الصوتي، وإنه منذ البدء تلفظ الناس بكل الكلمات الأولى التي تُصوِّر بطبيعتها الأشياء، وتُعبِّر عن إحساسات وتفكيرات.»

لقد فتشت في جميع أنحاء سوريا عن مكان يطابق اسمه التقليدي «أرجو» — اسم البارجة التي ركبها أوجيكاس — فلم أجد سوى عرجس قرب طرابلس.

ويُحدِّثنا التاريخ «أنها حُفظت في هيكل شُيد خصوصًا لهذه الغاية في جبل لبنان تذكارًا لقدوم أوجيكاس، وأن هذا الهيكل سُمِّي أرجو.»

إننا نُدهش إذ لا نشاهد في بيروت أثرًا خليقًا بعظمة هذه المدينة؛ فما يجده الرحَّالة اليوم تافه جدًّا بالنظر لما كان ينتظر أن يراه فيها. فبقليل من الخيال والاستعانة بالأعمدة الباقية، نجد — إذا ما اتجهنا صوب الشرق، ابتداءً من الأعمدة التي ما تزال منتصبة في المسجد المحمدي الصغير المُسمى ﺑ «الرجال الأربعين» — آثار هيكل قد تكون هذه الصفوف من الأعمدة تؤلف أروقته. وإذا حكمنا — بالقياس — على صف الأعمدة القائمة وحدها، وعلى الكثير المرتمي على مقربة منها، نستنتج — ولا ريب — أن هذا الهيكل كان فسيحًا جدًّا. وإني أقول — وهذا رأيي الخاص — إن الأعمدة الباقية هي أعمدة الجهة الشمالية؛ إذ لا نزال نجد عدة أعمدة من الصوان، من الحجم نفسه، في ناحية تحمل على الافتراض أن الرواق الجنوبي كان يبتدئ بها. إن الأعمدة الموجودة على طريق باب الدركة وبرج الكشاف تتخللها مساحات صحيحة القياس تحملنا على الاعتقاد بأنها لا تزال في المكان نفسه الذي احتلته في هذه البنية.

إن باب الدركة يعلوه حجر ضخم مُزيَّن بالرسوم وقد حُفرت عليه مخطوطة العمود. وهو — فيما عدا ذلك — يصلح مقياسًا لمساحة الهيكل. أما المخطوطة فقد أخذت صورة عنها، إلا أنها غير واضحة.

وعلى مقربة من المكان الذي يسمونه المرفأ الصغير نجد بِناءً في شكل نصف دائرة لم يبقَ منه سوى أساساته، ويُظن أنه كان ملهًى يرتادونه في النهار.

ونرى هنا وهنالك نواويس صُنعت من مواد مختلفة وصخورًا اقتُلعت من ضواحي بيروت وحفرت — كما قلت — لتُستعمل مدافن.

أما بقايا البناية القديمة التي تقع على مقربة من المكان الذي يزعمون أنه المكان الذي صرع فيه مار جرجس التنين، فهي تحوي أيضًا مدافن صغيرة: اثنان منها للجهة الشمالية في الأسفل، والثالث محفور تحتهما ويقطعهما طولًا. وهذه البناية ذات شكل غريب، يُظن لأول وهلة أنها مُهيَّأة لعمل مائي؛ فأنابيب الفخار التي وُضعت فيها تدل على أنها كانت مُعدَّة لجر المياه. إلا أنه يُفهم — عند رؤية المجاري عن كثب — أنها لم توضع هنالك إلا للزينة؛ لأن عمقها يراوح بين ١٨ و٢٠ سنتيمترًا، وهي مسدودة من الداخل. وهناك قسم باقٍ من حائط سور بيروت بُني بحجارة يدل شكلها ولونها على قدمها.

إن بلاطة جميلة من الفسيفساء اكتُشفت هنالك عام ١٨٣٦، ثم عُثر على بلاطات بلغت من الفن غايته، ولكن التنقيب حطم قسمًا منها. أما أنا فكان نصيبي رأس رجل مُسنٍّ، وقور الملامح، وظلت الفسيفساء التي لم يُتمكن من نزعها عالقة بكمية من الطين، فاضطُرِرت إلى ترك اللوحة في حديقتي، ثم كان زلزال أول كانون الثاني سنة ١٨٣٧، ففرَّق بين هذين المركبين وحوَّل الفسيفساء إلى ألف قطعة وقطعة.

عثر الباحثون على نواويس عديدة في بيروت، أهمها اثنان ينفردان بشكلهما وبالنقوش التي عليهما. غير أنه لا يحق لنا أن نحكم عليها تبعًا لإلمامنا الفني وذوقنا الحاضر؛ فأحدها نُقشت عليه هذه الحروف IVLIA MAMMEA، وهذه الآثار اشتراها أميركيو الولايات المتحدة ونقلوها إلى بلادهم.

ووجدت في ضواحي بيروت نقودًا كان يتداولها محاربونا الصليبيون، وقطعًا نقدية أخرى بقيمة فرنك، باسم لويس التاسع. وهذه النقود نُقشت على وجهها السلاسل؛ فإن الملك لويس — كما يرى السيد ده لاسيناجري — قطع عهدًا لسجَّانه بأن ينقش على النقود التي تُضرب باسمه رسم سلاسل العبيد علامة القبض عليه!

«ولما كان الملك لم ينسَ تعاسته، بل كان يذكر بها دائمًا، يقول السيد ميشو: فقد أمر لدى رجوعه بتبديل العملة، ووفَّى بوعده. وقد جاء في أحد التواريخ أنهم ضربوا نقودًا صغيرة من الفضة (باريسيس Parisis)، ونقودًا كبيرة تحمل رسم السلاسل والأصفاد لتُذكِّر بأسره.»٤

وأول طرفة نجدها حين نبتعد قليلًا عن المدينة هي القناة القديمة التي تمد بيروت بالمياه، يُذهب إليها في طريق ظريفة جدًّا، وفي السهل نجد آثار المجرى الذي كان ينقل هذه المياه. كان بالإمكان — لو كنا في ظل دولة أخرى — أن نرممها ونجر بها الماء إلى المدينة التي هي بحاجة ماسة إليه. إن مجرى المياه هذا قائم على سطح الأرض، فهو بيِّن تارة، وحينًا يختفي تحت التراب ليظل محافظًا على معدل استوائه الذي يقتضي كثيرًا أو قليلًا من العمق. ويمكننا الحكم نظرًا لطريقة بناء القناة بأن الزلازل — وحدها — لا تستطيع أن تهدمها؛ فهي — والحق يقال — صنع الرومان، وربما كان هؤلاء قد قاموا ببنائها على طريقة الإغريق؛ فالمجرى الذي كان ينقل مياه النبع باقٍ حتى اليوم في سفح الجبل، لجهة الشمال. ولما كان لا يفوت الأقدمين شيء لبُعد نظرهم المتناهي، فقد غطَّوْه ببلاط جميل متراصٍّ على أكمل وجه. إن هذا المجرى يُستخدم اليوم لجر المياه إلى طاحونة، وهذه هي المنفعة كلها التي جناها العرب منه، وهم يحسبون أنها كافية.

وقبل وصولنا إلى النبع بربع ساعة نجد إلى الشمال مغارة سمَّاها العرب الكنيسة، ومغارة أخرى تُسمى مغارة القصير، كان يقيم فيها المكلف حراسة المجرى وصيانته، هذا إن لم تكن صومعة ناسكٍ ما. إنها غرفة صغيرة مربعة الحجم، عُلُوُّها يزيد قليلًا على المترين ونصف المتر، أما عرضها فثلاثة أمتار و١٥ سنتيمترًا، أما فسحة الباب فهي متر وثمانية سنتيمترات طولًا، ومتر وخمسة وثلاثون سنتيمترًا عرضًا، وفي هذه الغرفة، عند السقف لجهة اليسار، ست طاقات مربعة، وللجهة اليمنى خمس.

وإحدى هذه الطاقات تتصل بالخارج بطاقة ضيقة طويلة، وعلى مسافة عشرين قدمًا إلى اليمين تقوم النوافذ. وفي هذا الوادي تقوم قرية تُسمَّى زيرة معن، وقد كانت موطن فخر الدين الشهير.

اتفق أن اقتربتُ من الساقية لأتنشق قليلًا من الهواء الرطب، فإذا بي أمام عدة أشخاص يعدُّون نوعًا من العجين. ولما سألتهم عن الوجه الذي يستخدمونه فيه أجابوني: لصيد السمك … لقد جهَّزوا لهذه الغاية محقنًا كبيرًا، أو شبه ملجأ، تاركين فيه منفذًا واحدًا تعبر منه المياه.

يتألف ذلك المعجون الذي يعدُّونه من غدد النبتة المسماة «آذان الأرنب»، ومن ثمرة شجرة اللبنى، ومن الرماد. تُمزج جميعًا وتُدق، ثم توضع في سلال وتُغمس عدة مرات في المياه حتى يذوب هذا الخليط بكامله. إن ثمر اللبنى اسمه «جوز» في لغة العوام.

إن هنالك فريقًا من الأوروبيين الذين يستخدمون جوز القيء لصيد الأسماك، وعلى الأخص عند مجاري الأنهار، فعندما يبلغ هذا الدواء القاتل خياشيم السمكة تصعد إلى وجه المياه فاقدة الوعي، فيطلق عليها الصياد اليقظ النار (تروبيل)؛ إذ لا يمكنه تصيُّدها بغير ذلك؛ لأنها لا تلبث أن تغوص فورًا.

وفوق ينبوع نهر بيروت يقوم دير القلعة، وقد سُمي كذلك لأنه شُيد والكنيسة على أطلال هيكل قديم. والعرب يطلقون اسم القلعة أو الحصن على جميع أنقاض العصور القديمة الضخمة.

وهذا الدير الماروني الواقع على قمة جبل تبعد مسافة ثلاث ساعات من بيروت، والذي يتسع لما يقارب العشرين راهبًا، يتمتع بأنقى هواء. لا شيء يَحُول دون رؤيته؛ فهو يُرى من مكان بعيد جدًّا. والكنيسة شُيِّدت منذ خمسٍ وسبعين سنة في فسحة تقارب ثلثي الفسحة التي قام عليها الهيكل القديم المكرَّس، حسبما أنبأتنا المخطوطات العديدة، لجوبيتر بعل مرقد.

وفي الجهة الشمالية لهذا الهيكل قامت قديمًا مدينة صغيرة أُطلق عليها هذا الاسم، والقرية التي تقابل هذا الدير تُسمَّى بيت مري، إن منازلها مشيدة بأنقاض المدينة لأننا نجد في بعضها حجارة ضخمة وحطام المنحوتات والنقوش. إن أساسات هيكل جوبيتر القديمة شُيدت على قطعة من صخور منحدرة ومقطوعة بإتقان، يبلغ طولها اثنين وثلاثين مترًا وستة عشر سنتيمترًا، أما عرضها فثلاثة عشر مترًا وثلاثة وسبعون سنتيمترًا. كان الرواق يتألف من ثمانية أعمدة ضخمة من الصوان الأبيض تقوم على صفين. لا تزال أربعة منها قائمة، ويبلغ إطار الواحد منها نحو ستة أمتار. وإذا حكمنا وفقًا لما تدل عليه قواعدها فيمكننا القول إن تاريخها يرقى إلى العصر الذهبي. وهنالك بعض أعمدة صغيرة مبعثرة استُخدمت وتيجانها لبناء الدير وملحقاته، وهي كتلك عتقًا.

ليست الأنقاض نادرة في هذا المكان؛ فعلى مسافة مائة قدم من الدير نجد — في الجهة الشمالية — أطلالًا عديدة تدل على آثار هيكلين يرجعان إلى عهد قديم جدًّا، يدلان على أنهما اندثرا قبل عهد جوبيتر. إن أحدهما مربع الحجم ويرتفع عن الأرض مترًا واحدًا، ويُصعد إليه في دَرَج يبلغ عرضه ستة أمتار، وفي وسطه صخرة قامت، ولا شك، قاعدة عليها، وهو مكرَّس على اسم جينون، يبلغ ارتفاع الباب ثلاثة أمتار و٢٢ سنتيمترًا، أما الجدران فمبنية بحجارةٍ حجمُ الواحد منها متر مربع، ومع ذلك نجد بينها حجارة طولها ثلاثة أمتار وثلاثين سنتيمترًا، وعرضها أربعة أمتار. إن الأعمدة التي نجدها بين هذه الأنقاض يبلغ حجمها ثلاثة أمتار وأربعة وسبعين سنتيمترًا، وقطرها ٤٧ سنتيمترًا.

ونجد أيضًا قاعدة يزينها في وسطها إكليل من الأوراق في نصفه وردة، وبين هذه الأنقاض نرى أرحاءً للطحن يبلغ قطرها مترًا وخمسة وستين سنتيمترًا، ونجد هنا وهنالك حجارة وأجَّانات تُستخدم اليوم أجرانًا.

وبين هذه الأطلال وُفِّقتُ إلى اكتشاف بعض الرسوم التي حُفرت لتجميل بناء الهيكل. وعلى يمين هذه الأنقاض ويسارها، نجد عددًا لا يُستهان به من النواويس المنحولة في الصخور، وهي ذات اتساعات مختلفة.

وفي منحنى الجبل للجهة الغربية، ابتداءً من القمة حتى قعر الوادي، كتلٌ ضخمة من الصخور مختلفة الأشكال. وأغلب الظن أن المقلع الذي اقتُطعت منه الأعمدة وحجارة الهيكل وأبنية بعل مرقد الجميلة كان هناك.

إن مياه هذه المدينة والهيكل كانت تأتي من ينبوع يبعد عنها مسافة ثلاث ساعات بواسطة مجرًى حجري، لا نزال نرى آثاره ممتدة على طول الطريق في حالة زرية، وسيبقى هكذا إلى الأبد بفضل تغافل القَرويين.

وبين المخطوطات التي عثرتُ عليها بين الأنقاض اثنتان منها باللغة الإغريقية تمتان بصلةٍ إلى تاريخ إنشاء هذه القناة. لقد شاء مؤسسها أن يخلد ذكر حسن صنيعه؛ هذا الصنيع الذي هو بحقٍّ قيِّم جليل لأن وزراء الإله جوبيتر الكبير — الذين كانوا ينعمون بمناظر جميلة، وهواء ممتاز — لم يكونوا يرغبون إلا بالماء العذب. إنه الشيء الوحيد الذي كان ينقصهم.

وبين بيروت ونهر الكلب يقوم دير مار إلياس الصغير الذي خلف — ولا شك — أحد الهياكل. إن العرف القديم المتبع وعادة الذهاب إلى هذا الدير لحلف اليمين، عندما يطلبها القاضي من فريقٍ ما، أو يتوقف عليها حل خلافٍ في إحدى المنازعات، ذكرانًا بهذا النوع من الاختصاص الديني القديم. إن المسلمين والدروز يؤمنون أيضًا ببطش مار إلياس وفتكه، وقد أكَّدوا لي أنه لا يوجد في البلد واحد يجرؤ أن يحلف به زورًا. ودون أن أناقش صحة هذا الزعم، أستطيع أن أؤكِّد أن ذلك البلد يزخر بالكذَّابين؛ لأن الكذب هو عند الشرقيين طريقة مجدية، أو خدعة بريئة، أو نوع من المهارة.

هوامش

(١) خطبة ألقاها السيد فورتيا دروبان في الجمعية الآسيوية بتاريخ ٤ شباط سنة ١٨٢٨.
(٢) التاريخ الطبيعي، الكتاب السابع، الفصل ٥٦.
(٣) فكرة عن العالم الأوَّلي، الجزء الأول، ص١٠.
(٤) تاريخ الحروب الصليبية، الجزء الرابع، ص٤٤٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤