الفصل الرابع والعشرون

وصف لبنان المسمى الجبل الدرزي – تقسيمه إلى مقاطعات – ارتقاء بيت شهاب كرسي الحكم – الميثاق.

***

من مقدمة كتابي هذا يعرف القارئ طريقة السياحة في سوريا. فليتصور إذن مؤلف هذه المشاهدات حاملًا عدة السفر وعتاده، متسلقًا الجبال، هابطًا الأودية، باحثًا عن كل مكان خرب ذي أهمية أثرية … قمت بعدة رحلات في لبنان، وفي جهات جد مختلفة، ولو شئت أن أصف جميع ما رأيت وشاهدت لأهلكت نفسي بتكليفها ما لا تستطيع؛ فها أنا ذا أعفيها ولا أُحمِّلها فوق طاقتها من قص حوادث ذهابي وإيابي، وأكلي ونومي، وما اعترضني من شئون وشجون؛ إذ يستحيل الطواف في هذه البلاد دون مقاساة آلام الأخطار التي تواجهنا كل يوم تقريبًا، فلا يُستغرب إذنْ تهافت عدد كبير من الزائرين على كل قادم من سفرٍ ليهنئوه بالعودة منه سالمًا معافًى.

تعرضتُ لأخطار لا تُحصى عندما اقتدتُ بين اللجج وسرت في معابر المعزى لأبلغ خرائب زعموا لي أنها موجودة، أو أدرك آثارًا أصبحت عافية، وكم من مرة عدت أتعثر بأذيال خيبة مُرَّة! ألزمت نفسي معرفة ما في الجبل اللبناني من آثار هامة، وكنت مضطرًّا — قبل أن أغادر المكان الذي أكون فيه — أن أطرح عدة أسئلة على نفسي وعلى السكان لأتيقن من أني لم أُخلف شيئًا ورائي فيه بعض الفائدة. إنه يمكنني أن أطنب في مديح نفسي لأني لم أدَّخر خطوة في سبيل السعي ركضًا وراء الآثار، وإذا كنتُ قد وُفقت إلى بعض الاكتشافات فيحق لي القول إني قد دفعت ثمنها كثيرًا من التعب والمشقة.

إني أرجع إلى ما قاله من تقدموني عن طبيعة هذه الجبال الخشنة الغليظة، القلقة المجاز، الصعبة المرتقى، ذات الطرقات الرديئة، هذا إذا كان يمكننا أن نطلق اسم الطرقات على المعابر والمضايق القليلة أو الكثيرة الاتساع، والتي كثيرًا ما تكون معوجة صخرية، غير ممهدة، يمشي عليها الناس بقوة العادة والاستمرار، بل الاضطرار لأن لا طرق غيرها. شغل وصف هذه الطرقات ومتاعبها من تقدموني؛ فكتبوا كثيرًا من الملاحظات. أما أنا فسوف أدعها ولا أهتم إلا بوصف سيماء هذا الجبل الأخلاقية. عرفت هذا الجبل في مختلِف وجوهه ونواحيه أثناء إقامتي فيه خمس عشرة سنة.

ولكي أُحسن درسه على أتمِّ وجه — كما وعدت في مطلع هذه المشاهدات — أراني مضطرًّا لحصر موضوع كتابي في نطاقٍ محدود. سوف لا أتناول بالوصف إلا الناحية الواقعة بين نهر المعاملتين من جهة الشمال، ونهر الدامور لجهة الجنوب. أما في الجهة الشرقية فسأقف عند الحدود الطبيعية؛ أي بكليك ولاية دمشق وولاية صيدا، تلك التخوم التي تخترق سهل البقاع طولًا. إن نهر الليطاني الذي يُسمونه أيضًا نهر القاسمية هو الذي يرسم تلك الحدود.

يُقسَّم هذا الجزء من البلاد إلى ثماني مقاطعات، تمتد سلطة الأمير على ٢٤ إقطاعة منها؛ فحدود إمارته تبتدئ من جبَّة بشري فوق طرابلس وتنتهي في جزين قُرب صيدا بطول ١٤ ميريامتر (الميريامتر عشرة كيلومترات) وعرض ستة في المكان الأكثر اتساعًا.

إننا لا ندري كم كان عدد سكان لبنان قبل عهدنا الحاضر، فلا شك في أن ذلك العدد كان ضئيلًا. ولسنا نعرف شيئًا صحيحًا عن هذا؛ لأن التاريخ العربي ينبئنا فقط أن اثنتي عشرة عائلة نزحت من معرَّة النعمان عندما كانت حكومة دمشق خاضعة لإمبراطورية الروم — أي قبل ظهور الإسلام — واستقرت في الجبل وشَيَّدت فيه القرى. أما زعيم هؤلاء النازحين فهو الأمير تنوخ ابن الملك النعمان؛ ملك الحيرة.

وأول مكان استقرَّ به كان يُدعى تيروخ Tirouch في مقاطعة المتن. ثم انتقل إلى الجهة الغربية، فاضطره ازدياد عدد عائلته لبناء قرية عبيه التي عرفت آنذاك باسم دار تنوخ. وقد فصَّل المؤرخون تاريخ هذه الأسرة العريقة تفصيلًا مسهبًا حتى اعتناقها الإسلام.

حكمت هذه الأسرة الجهة الغربية والجرد الأعلى من نهر الكلب حتى الدامور، من انبساط الموج إلى مرمى الثلج. أما آل بيت معن فهم أكراد الأصل ومن سلالة صلاح الدين الأيوبي. قَدِم جدهم الأعلى إلى لبنان واستقرَّ في مقاطعة الشوف. وظل هذا البيت ينعم بالسلطة حتى ارتقاء فخر الدين كرسي الحكم.

إن عدد سكان الجبل هو حوالي ٣٠٠٠٠٠ نفس؛ ثلثا سكانه مسيحيون، والبقية من الدروز والمسلمين والمتاولة.

زعموا — ولا أدري على أي حساب استندوا — أن لبنان يمكنه إعداد ١٠٠٠٠٠ مقاتل إذا ما جُنِّد أهلوه ابتداءً من عمر ١٥ إلى عمر ٧٠، أما المعقول فهو أن نُنزل عدد محاربيه إلى ستين ألفًا؛ وبِناءً على هذا التقدير يكون عددهم هكذا: ٣٥٠٠٠ ماروني، ١٥٠٠٠ درزي ومسلم ومتوالي، ٦٠٠٠ روم، و٣٥٠٠ كاثوليكي.

ظهر — بِناءً على إحصاءٍ قاموا به عام ١٨٤٣ — أن الرجال الذين يمكنهم أن يحملوا السلاح في ست عشرة مقاطعة، ابتداءً من الشوف حتى جبيل، كانوا ٤٥٠٥٠، منهم ٣٤٠٠٠ مسيحي، و١٠٠٥٠ درزيًّا.

أما الإحصاء الذي وقع في يدي فلا يزيد فيه عدد سكان لبنان عن ١٩٣٨٣٥ شخصًا موزعة على مقاطعات لبنان الأربع والعشرين كما يلي: ٢٩٠ يهوديًّا، ٥٣٩٥ متواليًّا، ٨٧٧٥ مسلمًا، ٢٦٤٤٥ درزيًّا، ١٥٣٠٥٠ مسيحيًّا.

إنه يستحيل — وتلك هي الحالة في جميع أنحاء تركيا — أن نحصل على معلومات صادقة تمكِّننا من معرفة عدد السكان معرفة صحيحة. وليس ما يُذكر في هذا الباب إلا تخمين مبني على تحرِّيات وحسابات قائمة على افتراضات غامضة. أما إحصائي الذي قدَّمته عن سوريا فهو نتيجة عدَّة معلومات مستقاة من مصادر صحيحة مُحِّصت طويلًا.

أخذ عدد السكان يزداد زيادة مطَّردة في الجبل على أثر تطبيق عملية التلقيح؛ فالطاعون الذي كانت تظهر دلائله في الأماكن البعيدة كان يوقَف كل مرة بسرعة فائقة؛ لأن الأمير كان يطبق في بلاده الأنظمة الصحية بكل دقة، وذلك قبل أن يفكر نائب ملك مصر والسلطان في إنشاء المحاجر الصحية.

عُرفت هذه البلاد باسم الجبل الدرزي لأن مشايخ آل تلحوق الدروز حكموها قبل عائلتَي معن وشهاب في مقابل جزية ضئيلة كانوا يدفعونها للباشوات؛ فالمسيحيون — على الرغم من أنهم أبناء هذه البلاد — لم يجرءوا على الظهور، وكانوا يفضِّلون الخضوع لهؤلاء النزلاء الذين أتَوْا من مصر، وتمكَّنوا بوصفهم مسلمين — ولو ظاهرًا — أن يطمحوا إلى الحكم.

تمتد المنطقة الدرزية من نهر الكلب حتى جزين حيث تنتهي الحدود الجنوبية لحكومة الأمير بشير. لسنا نجد دروزًا قرب نهر الكلب، ولكنني جعلت هذا النهر تخمًا للمنطقة الدرزية؛ لأنه يقع ضمن نطاق المتن، ولئلا يُظن أن هذه المنطقة تمتد إلى أبعد من هنالك؛ فمن أعالي هذا الجبل الذي يشرف على طرابلس ممتدًّا حتى ولاية عكار، لا نجد درزيًّا واحدًا؛ فجلُّ سكان هذه الناحية هم تقريبًا من الموارنة والروم، والأكثرية الساحقة من الروم في لبنان تقيم في مقاطعات الكوره والبترون.

إن هذا الطوائف كانت في منازعات دائمة مع المتاولة؛ حكام هذه المقاطعة القدماء ومالكيها. وما استطاع الموارنة أن يُجلوهم عن كسروان إلا بعدما شجعهم الأمير يوسف ومشايخ بشري وعائلتا حبيش والخازن الذين كانوا يقطنون آنذاك ضواحيَ بيروت؛ عند ذاك اندحر المتاولة وانكفَئُوا متراجعين عن هذه الناحية بعد أن تناقص عددهم إلى الألف عائلة، فأقاموا جميعًا في أعالي قرى جرود جبيل والبترون.

كان أمير الجبل في ذلك الزمان يتلقى من باشا طرابلس أمر توليته على البلاد التي تبتدئ في الزاوية، وتمتد إلى مقاطعة جبيل لتنتهي عند نهر المعاملتين. وكان باشا صيدا هو الذي يولي من يشاء على بقية أنحاء الجبل التي تمتد حتى جزين.

حدث في وقتٍ من الأوقات أن كان على رأس كلٍّ من المقاطعتين أمير. ولما ارتقى الأمير بشير إلى كرسي الحكم انتقى الناحية التي كانت عاصمتها دير القمر، ومنح أخاه الأمير حسنًا المقاطعة التي كانت عاصمتها جبيل؛ فاتَّخذ الأمير حسن بلدة غزير — مسقط رأسه — عاصمة لحكومته بحجة أنها بلد طيب. أما الواقع فهو أن وجوده في جبيل — مركز هذه المقاطعة — كان يجعله أكثر تعرُّضًا لوطأة السلطة التركية؛ فلا عجب إذنْ أن فعل ذلك أمير كان يرتقي كرسي الحكم بحذر واحتراس بالغَي الحد؛ لأن آلاف المخاطر تتهدده.

كانت مقاطعة كسروان أوفر جميع إقطاعات الجبل ثروة وأكثرها عدد سكان.

وهاكم بيانًا عن تنظيم حكومة لبنان قبل الحوادث الأخيرة:
المقاطعات الحكام
جبة بشري الشيخ جرجس بونار(؟) إن هذه المقاطعات الخمس المسماة بلاد جبيل تخضع لباشا طرابلس. وأخيرًا وُلِّي عليها الأمير بشير من قِبل عبد الله باشا وشريف باشا، كما وُلِّي في الوقت نفسه على الناحية المنوط أمرها بعكا.
الزاوية بيت الضاهر
الكوره ابن الأمير الكبير البكر
البترون الأمير أمين
جبيل الأمير الكبير
كسروان الأمير عبد الله شهاب إن مشايخ هذه المقاطعة هم من آل حبيش الذين يمثلون مع مشايخ آل الخازن أكبر إقطاعيي الجبل والقوى المسلحة فيه.
المتن أمراء بللمع ومراد أحفاد قايد بيه
العرقوب الأمير قاسم وبيت عماد الدرزي إن أهاليَ هذه المقاطعة هم من أتباع الشيخ الدرزي.
الجرد الشيخ عبد الملك إن الأهاليَ هم أتباع هذين الشيخين.
الغرب الفوقاني الشيخ تلحوق
الغرب التحتاني أسرة شهاب وبيت أرسلان الدرزي إن هذه المقاطعة تُقسَّم إلى عدة نواحٍ، وأهاليها أتباع مشايخ الدروز.
الشوف الأمير خليل وبيت جنبلاط الدرزي
إقليم البلان إن هذه المقاطعات كانت تخص المتاولة، إلا أن الأمراء استولَوْا عليها بتشجيع من الجزَّار الذي ضايقه موقف المتاولة التهديدي لهذه الناحية من البلاد التي كانوا يعيثون بها فسادًا كلما نشب خلاف بينه وبين الطائفة.
إقليم الخروب
إقليم التفاح
جبل الريحان
إقليم الشحار

وهنالك بعض المقاطعات المقسومة قسمين، كما هي الحالة في مقاطعتَي البترون، وجبيل التي سُميت جرود جبالها بلاد المتاولة والفتوح. ولما كان نهر الكلب يخترق بلاد كسروان أطلقوا على الجهة الجنوبية منها اسم القاطع. أما الناحية التابعة للجبل من البقاع فتُدعى الهرمل.

والشوف قسمان يؤلف أحدهما دير القمر وحدها، كما تؤلف ضواحي بيروت مقاطعة صغيرة تُدعى الساحل، وأمْر هذه المقاطعة منوط بالأمير الكبير.

أما سهل البقاع — الذي يؤلف اليوم جزءًا من حكومة الجبل — فهو جزء من الأملاك السلطانية (البكليك أو الجفتلك). كان يستأجر هذه الأرض الشديدة الخصب باشوات دمشق وأغواتها، ويستثمرونها لحسابهم الخاص. ولما كان تموين أهالي لبنان لا يُستطاع بدونها، فقد أخذ أمراء الجبل الطامحون في إلحاقها بإمارتهم يثيرون فيها الخلافات والفتن، منذ أربعين سنة، بين مزارعي القرى المجاورة لها، وشركاء إقطاعيي دمشق. وكثيرًا ما كان هؤلاء الأمراء ينجدون أهاليَ القرى ويساعدونهم مساعدة فعالة. أما عاقبة هذه الاعتداءات فكانت دائمًا حرق الأغلال؛ وهكذا كانت تبقى الأرض التي أُحرقت غلالها بورًا مدة سنتين أو ثلاث سنوات دون أن تُزرع. إن هذه الاعتداءات المتوالية لم تكن تمنع الأتراك من أن يؤجروها ثانية، ثم يُطرد مستأجروها بعد أن يمنوا بالقليل أو الكثير من الخسائر١ حتى إذا ما سئموا أخيرًا هذه الغزوات والهجمات المتتابعة ولم يظفروا بطائلٍ رجعوا عن استئجارها. لم يعد في استطاعة قوى الباشوات أن تَثبت في وجه قوات أمير الجبل، هذه القوى التي كانوا يشعرون بثقل وطأتها في جميع أنحاء سوريا؛ ولهذه الأسباب استطاع الأمرار الدروز وعدة مشايخ آخرين أن يضمنوا البقاع ويستأجروه لقاءَ بدل ضئيل، ثم أخذ هذا البدل يزداد عامًا بعد عام حتى بلغت قيمته مائتي كيس.

وهذه الملكية التي طالما اشتهاها أمير الجبل كان يحافظ على دوامها له بدهاء ومكر؛ كان يدلع النيران في البقاع بواسطة التركمان والمتاولة، ثم يُظهر أنه يتعقبهم إلى ما وراء بعلبك. ولكن هذه الطريقة المؤسفة التي زادتها الحوادث الدامية هولًا لم تعد تخيف الشركاء القدماء الذين كانوا يشعرون بأنهم جدُّ سعداء إذا ما ظفروا بدخْل معين؛ فهو — مهما يكن ضئيلًا — خير من انتظار ريع أكبر محفوف بالكثير من المخاطر.

وما أدرك إبراهيم باشا سر هذا النظام العقاري المخصص ريعه لنفقات زعماء القصور (التيمار)٢ حتى استولى على تلك الأراضي واستثمرها. فلو كان غرس الأشجار في ذلك السهل لكانت تستطيع وحدها أن تجعل من هذا الوادي — العاري اليوم تمامًا — جنة فسيحة تعطي أضعاف أضعاف منتوجاتها. ولكن … إنها لامبالاة السوريين المفرطة، فهم يدرجون على ما درج عليه آباؤهم من قبل، ولا يعملون إلا مثلما عملوا، وإذا ظلت هذه القاعدة مقود هذا الشعب الميكانيكي فلا يمكننا أن نترجَّى لسوريا إلا حياة تعسة ومحدودة جدًّا، وأراني مجبرًا على القول إن الثقة مفقودة تمامًا؛ وهذا هو أهم أسباب تعاسة الولايات الخاضعة للحكم العثماني وضعفها؛ ففقدان الثقة بالمصير جمَّد رءوس المال وشلَّ حركة الأخذ والعطاء.
«إن تزعزع الثقة وارتياب كل شخص في مستقبل مصيره كان يحمل جميع الناس على اختلاف طبقاتهم — من الباشا إلى الفلاح — على إخفاء قسم من الغلال ومواراتها عن أنظار الجشعة».٣

بعد انقراض آل معن دُعي آل شهاب (وكانوا آنذاك في حوران) إلى تَولِّي الحكم في الجبل، وفقًا لرغبة الأهلين، وطبقًا لعهد وميثاق، مدفوعين بما يقوم بين آل معن أسياد الجبل وبين آل شهاب من أواصر قربى.

إن الأسرة الشهابية حصلت على عدة امتيازات يوم تولت الحكم؛ فأيدتها هذه الامتيازات ودعمت سلطتها التي تداولها أحفادها. تعهدت هذه الأسرة المالكة — لقاء ما منحها الشعب من امتيازات — ألا تزيد أبدًا ضريبة الأملاك والضرائب الأخرى إلا بالمقدار المعين، كما أنها تعهدت بعدم تملُّك أراضيَ لا تستدعي حاجتها الضرورية الخاصة ملكيتها.

ولهذه الغاية خُصص لآل شهاب دخْل سبع قرى في ضواحي دير القمر — عاصمة الجبل — حيث يقيم الأمير الكبير الذي صار مقره بعد حين ملكًا خاصًّا به.

إن عائلة شهاب التي لا تملك — لأنها غريبة الدار — أملاكًا وإقطاعات، لم يكن في مستطاعها تملُّك إقطاعات جديدة أو الانفاق من مالها على تجهيز قوة مسلحة غير محدودة تصلح للخدمة العامة والخاصة بكل أمير. وهي لا تستطيع تجنيد الأهلين لأن هذا التجنيد لا يمكن فرضه إلا إذا رضي به أو أمر — مباشرة — أمراء الولايات ومشايخها، والإقطاعيون ومدبرو إقطاعاتهم الخاصة.

إن هؤلاء الزعماء (المناصب) كانوا يجبون بأنفسهم مال الأعناق في إقطاعاتهم، ويوزعون الضرائب ويقبضونها ليحوزوا على صفو خاطر الأمير الكبير بما يقدمونه له منها. وكان هو يعيد إليهم قسمًا من هذه الضرائب إذا كان راضيًا. أما إذا كان غاضبًا فلا يمنحهم أقل مهلة، بل يرهقهم بجميع الأساليب حتى يدفعوا المال المفروض عليهم كاملًا.

لم تكن هذه الطريقة هي الوحيدة التي ابتدعها الأمير ليوطد نفوذه، بل نسي رويدًا رويدًا جميع ما يفرضه عليه الميثاق الصريح الذي سبقت الإشارة إليه، والذي لم أعلم بوجوده إلا من ألسنة الناس.

خُرقت بنود هذا الميثاق الأساسية، والضرائب والمكوس لم تحافظ على أساسها القديم — وهو ألفا كيس — إلا ظاهرًا، ثم ضوعفت، وحُصِّل فيما بعدُ أضعاف أضعاف أضعافها، ثم ظل هذا الازدياد في اطِّراد تبعًا للظروف. وكانت هنالك ضرائب تُجبى ست عشرة مرة تحت ستار أسماء مختلفة: بزرية، وطرح، وشاشية … إلخ.

وهكذا أنمى الأمير أملاكه الثابتة ومداخيله؛ أنمى عقاره إذ أقام نفسه وارثًا للعائلات المنقرضة، وأنمى المداخيل بطريقة التخليات الطوعية والاكتسابات الشرعية، وأخيرًا بما كان يغتصبه بلباقة من جيرانه الذين أَثقلت كواهلَهم الديون، أو أذلتهم أسرة شهاب بسلطانها. فأملاك الشهابيين وفلاحوهم معفَوْن من الضرائب فلا يؤدُّون منها شيئًا؛ وهكذا أصبحت هذه الأسرة الحاكمة أكثر بيوت الجبل ثروةً وغنًى، وأشدها قوةً وبأسًا.

سوف أحاول — فيما بعد — أن أصف بمقدار تصرفات الأمير بشير بإلقائي نظرة عابرة على حياته، ابتداءً من ارتقائه كرسي الحكم حتى سقوطه. وإني أرى أن عودة هذا الأمير، أو عودة أحد أفراد أسرته، حاجة ماسة لا يُستغنى عنها لإعادة النظام وتوطيد دعامته في الجبل، فالأمراء الآخرون — الذين أعترف لهم بمقدرة تسلم زمام الحكم — أثبتوا بتصرفاتهم الكلمة المأثورة عندنا: «إن ما يسطع في الصف الثاني هو الذي ينكسف أولًا.»

ولكي أتحاشى كل حُكم متهور والاتهام بالمحاباة، ها أنا ذا أصرِّح — في أول هذه اللمحة المقتضبة — أني لم أكن قط شخصيًّا ممن يطريهم الأمير بشير ويتودد إليهم، وأني رغم العلاقات العديدة التي تربطني به وبعائلته كنت أبعد الناس عن الحصول على إنعاماته.

كان ينكر عليَّ دائمًا حقوق مواطني، حتى إني لم أتمكَّن من الوصول إلى حق — في الجبل — إلا بجهودٍ لا تعرف الكلل، وبالمثابرة أو الالتجاء إلى توسط السلطات التي كان يخضع لها الأمير.

عرفت دائمًا في هذا الأمير شعورًا مسيطرًا يمتلك جميع عواطفه وعقله، ألا وهو حب المحافظة على سلطانه. وقد حمله هذا الشعور على التضحية بكل شيء؛ ولهذه الغاية ظن أنه بخَلقه العراقيل وإقامة المصاعب في وجهي يُرضي باشوات عكا ومصر.

إنهم كانوا يعزون هذه العراقيل إلى نصائح وزيره المخطئة؛ ذلك الرجل الذي ثبت أنه كان يجاهر ببغض شديد للأوروبيين. ومع أني لا أريد أن أتهم هذا الرجل، أو أعزوَ إليه شيئًا، فقد كفاه عقابًا ما آلت إليه حاله بسبب سياسته الحمقاء، فلا يسعني إلا الاعتقاد بأن عودة المعلم بطرس كرامة إلى لبنان تكون في غير أوانها، إلا إذا كان شقاء سيده — الذي هو شقاؤه أيضًا — قد علَّمه درسًا مفيدًا.

هوامش

(١) وما كاد الباشا يغيب حتى ظهر شرٌّ آخر هو نتيجة الاضطهاد والظلم.
هبت القرى المجتاحة وهاجم بعضها البعض الآخر تطالب بثأر وراثي؛ وهكذا قُطعت جميع المواصلات.
تلاشت أعمال الزراعة، فكان الفلاح ينسلُّ تحت جُنح الظلام ليُتلف الكرمة ويقطع زيتون خصمه. ولما عاد الباشا في السنة التالية فرض الجزية والضرائب نفسها في بلاد قلَّ عدد سكانها. وقد اضطُر لمضاعفة ضغطه وإفناء شعوب كاملة، إن الأماكن أصبحت خاوية شيئًا فشيئًا؛ فلم يكن يُرى في القرى سوى بقايا بيوت مهدَّمة، وفي مدخلها قبور تزداد يومًا بعد يوم؛ ففي كل سنة كانت تشهد انقراض كوخ وعائلة. ثم كان أن بقيت المقبرة وحدها تشير إلى المكان الذي كانت تقوم فيه القرية، (شاتوبريان، قصة رحلة، الجزء الثالث، ص٤٦).
(٢) إن الزيم والتيمار يؤلفون قوة ترقى إلى ما قبل السلطنة نفسها. إن السلاطين منحوهم — منذ الغزوات الأولى — حق ولاية قسم كبير من القرى والأراضي لكي يتمكَّنوا باستيفائهم العشر وضرائب أخرى من حمل السلاح وحماية ولاياتهم إذا ما هوجمت (ديجون، آراء تاريخية في السلطنة العثمانية، ص٧٣).
(٣) ساي، بحث في علم الاقتصاد العام، الجزء الأول، ص١١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤