الفصل الثامن والعشرون

تابع الآثار القديمة في لبنان، وادي البقاع، دير مار سمعان، عنجر، النبي زور، النبي نوح، زحلة.

***

عندما تركت بعلبك أحببت أن أسير في لحف الجبال المناوحة للبنان كي لا أدع شيئًا ورائي له بعض الأهمية،؛ فشاهدت رصيفًا قديمًا تتكوَّن منه طريق بعلبك التي تؤدي إلى صور وصيدا. وهذا الرصيف رُفع عاليًا ليُستطاع المرور عليه — أثناء فصول الشتاء الممطرة — حين تكون أراضي البقاع مغمورة بالمياه.

إن أنقاض دير مار سمعان ليست بذات طابع خاص، وهي تدل على مكان مؤسسة دينية مسيحية حلت على الأرجح محل هياكل كُرِّست لعبادات أخرى، وذلك شأن الشعوب المتعاقبة؛ فإن تقواها تدفعها إلى هذا العمل فيحل المعبود المقبل محل المدبر.

تنبئ تقاليد البلاد عن وجود عدة قرًى من أصل فرنسي، تقع عند أقدام الجبال المناوحة للبنان. والقرية التي زرتها لأنها تسمى «عنجر الفرنسية»، يحيط بها سور محصَّن ببرج. بنى هذه البلدة المحاربون الصليبيون عندما طُردوا من الأرض المقدسة.١ ومع أني لم أتوصل إلى اكتشاف أي أثر يُثبت صحة الرواية التقليدية، كنت مقتنعًا كل الاقتناع بصحتها. إن طراز بناء قرية عنجر لا يمكن أن يكون إغريقيًّا ولا رومانيًّا أو عربيًّا؛ ولهذا لا يصح لأن تُنسب إلا إلى الأوروبيين. أما القناة التي تجر مياه أحد الينابيع إلى القرية والقصر فجديرة حقًّا بالاهتمام.

إن مياه هذا الينبوع ذات مدٍّ وجزر؛ ولهذا ظنها أبناء البلاد مسحورة.

إن المطحنة المائية المشيَّدة هنالك يرتادها أكثر أبناء قرى الضاحية الغربية المجاورة للجبال المناوحة للبنان؛ نظرًا لندرة المياه في جميع أنحاء تلك البقعة.

وجدتُ بين أنقاض قرية عنجر قطع أعمدة من صوَّان جميل أسود اللون وأبيضه وأحمره.

وغير بعيد من هنالك يقوم مقام النبي زور، وهو جامع مشيَّد على آثار هيكل قديم.

إن احترام ذلك المكان وإجلاله ونوع الحجارة التي استُخدمت في البناء الجديد ينبئان أن هذا المحل كان مزارًا مقدسًا قبل مجيء الأتراك. وفيما عدا ذلك نرى هنالك حفرة مطمورة طافحة بالمياه، ويبدو للنظر أنها كانت فسيحة. وهناك نواويس وصهريج يُنزَل إليه بدرج، وحول هذا الصهريج أنقاض كثيرة على جانب كبير من الضخامة.

والنبي نوح الذي يبعد قليلًا عن المعلقة — وهي قرية قرب زحلة — مقام ذو آثار ترقى إلى عصرين مختلفين؛ فجامعه الكبير المدعو باسم هذا النبي زاره عدد كبير من الخلفاء والسلاطين، وقد خلدت زياراتهم تلك المخطوطات المنقوشة على جدرانه.

بُني هذا الجامع الكبير بحجارة الهيكل القديم. أما ضريح هذا النبي القديم فمشيد في غرفة طويلة تتناسب مع حجم اللحد الذي لا يزيد طوله على الواحد والثلاثين مترًا، أما عرضه فمتر وخمسة وستون سنتيمترًا. إن الذين خطُّوا الضريح لم يشاءوا أن يجعلوه أكبر مما هو عليه خوفًا من الابتعاد عن الواقع؛ لأن بنية نوح الجبارة — لا بل أكثر من جبارة — يجب أن يزاد قبرها خمسة أو ستة أمتار عما هو عليه. بيد أنهم — دون أن يبالوا باحترام هذا الجسد المقدس — جعلوا ساقَي الدفين منتصبتين عموديًّا؛ وهكذا اختصروا القبر فجعلوا نهايته عند أول الركبتين.

تعد قصبة زحلة حوالي ثلاثة آلاف من النفوس، وهي واقعة في وادٍ على منحدر رابية، وتحت هذه الرابية تجري ساقية صغيرة فتروي بضع مئات من أشجار الحور يتفيَّأ ظلالها أكثر السكان حين يدفعهم قيظ الصيف من مساكنهم الضيقة القليلة الارتفاع.

إن بيوت زحلة مبنية بالتراب والقش، تدَّخر حرارة شمس النهار وتحفظها طول الليل؛ وهذا ما يحمل أبناء زحلة على أن يناموا فوق سطوح منازلهم في العراء. وهذه البيوت نظيفة الداخل، وأكثرها كبير واسع يدخله الهواء وتتوافر فيه جميع أسباب الراحة كما في بيوت المدن. ويخيل للذي يرى هذه البيوت أنه في إحدى قرى جزيرة قبرص المشيدة بالمواد نفسها.

يرتدي سكان زحلة بوجهٍ عام ملابس نظيفة جيدة، والنساء يلتحفن بمئزر من النسيج الأحمر، ويعصبن رأسهن ببساطة كلية، فالطربوش المعصوب بمنديل يغطي الرأس يُذكِّر السائحين بملابس أهل قبرص. وفي زحلة أمر تجدر ملاحظته؛ وهو كيف يدفنون موتاهم. إنهم يدفنونهم على وجه الأرض تقريبًا، وعلى مسافة بضع خطوات من منازلهم؛ يضجعونهم في أضرحة تشبه النواويس يبنونها من كلس ورمل فيبدون كالموميات لمن يراهم حين يوسدون الثرى.

أكثر سكان زحلة من الروم الكاثوليك. وهم شجعان أشداء، حمل تكاتفهم جيرانهم المتاولة على احترامهم، وخمسمائة من الزحليين يحمون بلدتهم من كل عدوان خارجي. وعندما أعلن الدروز ثورتهم على الموارنة انضم أهالي زحلة إلى هؤلاء وصمدوا في وجه الدروز، لا بل غلبوهم على أمرهم وكبَّدوهم خسائر فادحة.

تتجر هذه البلدة بالمأكولات والأنسجة والأصواف والزبدة.

تصدر الأحكام القضائية في زحلة باسم الأمير الكبير، والإدارة المحلية منوطة بأحد ضباطه، يعاونه مطران الأبرشية في تدبير الشئون المختصة به.

إن جميع سطوح منازل قرى البقاع وجدرانها الخارجية مغطاة بكوم من زبل البقر المخلوط بالتبن الخشن الذي عافت أكله تلك الحيوانات. والأهالي يجففون هذا الزبل ليجعلوه وقودًا.

وإذا ما استثنينا بضع أشجار من الحور فقلما نجد في سهل البقاع شجرة واحدة. إن الذين يرَوْنه الآن لا يمكنهم أن يهتفوا: إن رجلًا نافعًا مرَّ ها هنا!

لقد أمر إبراهيم باشا بتشجير هذه الناحية؛ فجيء بعدد كبير من الأشجار لتُزرع في البقاع، ولكن إذا سمحتُ لنفسي أن أحكم على الأعمال لا على الأقوال، أقول: إن هذه البقعة لا تزال قفراء كما رأيتها في رحلتيَّ الأُوليين، وقد عملوا فيها كما فعلوا في حلب تحت بصر هذا القائد.

إن زحلة تُفرح وتسرُّ في الربيع، وخصوصًا من يتيسر له أن يسكن الضاحية المرتفعة منها. والسيد بودين — الذي أنزلني في داره مدة من الزمن، شيَّد فيها لنفسه بيتًا على جانبٍ كبير من الجمال، في أجمل موقع يمكن أن يتخيله إنسان.

وعندما اضطرنا مدفع «نافاران» إلى مغادرة مراكزنا أصبح لبنان ملجأ جميع فرنسيي سوريا. والسيد بودين القائم بأعمالنا في دمشق انكفأ إلى زحلة، بينما كنت أنا أنزل حينًا بعد حين في مختلِف الأديرة؛ فرجال الأكليروس الذين سمحت لي الفرص أن أخدمهم في عدة مناسبات أظهروا لي اهتمامًا بالغًا ليبرهنوا عن عرفان جميلهم.

إن السيد بودين هو صديق لي منذ مدة طويلة (وهو صديق جميع الذين يعرفونه). ولما كنت أغتنم ساعات فراغي للتلهِّي، فقد شاء هو أيضًا أن يحصل على نصيبه مني، فزرته يرافقني صديق آخر، هو أحد أولئك الفرنسيين المحبوبين الذين عرفتهم سوريا: السيد فورتونه أومان.

وفي تلك الرحلات التي قمنا بها معًا شد ما تلذذنا بالتحدث عن وطننا الذي جعله ابتعادنا عنه جميلًا في أعيننا أكثر مما هو عليه ألف مرة. إننا نأسف عندما نفقد شيئًا، وعند ذاك يمكننا أن نقدِّر قيمته؛ وهكذا يجب أن نحرم امتلاك شيء لندرك أهميته وحاجتنا إليه.

كانت امرأة السيد بودين ترافقه، وهي سيدة تتجسد فيها الدعة واللطافة. ففي هذه الرفقة الممتعة قضيتُ خمسة عشر يومًا في رحلاتي أصور وأعشب، وإن لم أجنِ من عملي هذا غير تعب ومشقات، وأخيرًا كنت أتنعم بمجالس ضيوفي المجتمعين حلقات حلقات، وبهم حَلَتْ في عيني تلك الأمكنة. ما أحلى زحلة والبقاع أثناء فصل الربيع، وعلى الأخص لشخص يحب الحليب! إن الزبدة وألبان الجواميس لذيذة الطعم فيها.

هوامش

(١) قال السيد بوجولا: تركنا على مسافة ساعة تقريبًا من جسر غزيل بقية مدينة يسميها أبناء بلاد عنجر، ويعدونها من أصل فرنسي؛ فالأنقاض التي فيها يرجح أنها أنقاض أحد القصور الفرنسية في زمن الصليبيين، أوَلا يكون اسم عنجر تحوير اسم أنجو؟ أوَلا يكون فولك دانجو — الذي حل محل بودوان الثاني على عرش القدس عام ١١٣١ — هو الذي بنى هذا الحصن؟ إن هذا التقدير يبدو لي محتملًا؛ لأن فولك دانجو هو الذي كان أكثر أبناء الشعب اللاتيني تشييدًا للقصور. رسائل شرقية، ج٢، ص٤٤٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤